الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} [المائدة:73 - 77] وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق، ولهذا نهاهم عن الغلو، وهو مجاوزة الحد. واليهود مقصرون عن الحق، والنصارى غالُون فيه.
كفر اليهود أصله عدم العمل بالعلم، وكفر النصارى أصله عملهم بلا علم
وجماع ذلك: أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم، فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملاً، أو لا قولاًً ولا عملاً. وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون.
إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع سنن الأمم قبلها
* ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم، فقضاؤُه نافذٌ بما أخبر به رسوله، مما سبق في علمه، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتَتَّبِعُنَّ سننَ من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحر ضَب
لَدَخَلْتُموه»، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟» [البخاري7320، مسلم2669،المسند17070]
* وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقومُ الساعةُ حتى تأخذَ أمّتي مأخذ القرون، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع» ، فقيل: يا رسول الله، كفارس والروم؟ قال:«ومن الناس إلا أولئك؟» [البخاري7319]
فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم، وهم الأعاجم.
* وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخباراً عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه أنه:«لا تزال طائفةٌ من أمته ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة» . [البخاري3640، مسلم1920] وأخبر صلى الله عليه وسلم: «أن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة» [الترمذي 2269وصححه الألباني]، و «أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته» . [ابن ماجه 8 وحسنه الألباني].
- فعُلِم بخبره الصِّدق أنه في أمته قومٌ مستمسكون بهَدْيه، الذي هو دين الإسلام محضاً، وقوم منحرفون إلى شُعبة من شُعَب
اليهود، أو إلى شعبة من شعب النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضاً، بل قد يكون الانحراف كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ. وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان، فلذلك أُمِر العبدُ بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلاً.
بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم، التي ابتُلِيَتْ بها هذه الأمة؛ ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم، إلى صراط المغضوب عليهم، أو الضالين:
1 -
قال الله سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] فذمَّ اليهودَ على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم.
* وقد يُبْتَلَى بعضُ المنتسبين إلى العلم وغيرُهم بنوعٍ من الحسد لمن هداه الله بعلم نافع أو عمل صالح، وهو خُلُق مذموم مطلقا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.
2 -
وقال الله سبحانه: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِه ِ} [النساء36، 37] فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر، فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم: تارةً بُخْلاً به، وتارة اعتياضاً عن إظهاره بالدنيا، وتارة خوفاً أن يُحْتَجَّ عليهم بما أظهروه منه.
* وهذا قد يُبتَلَى به طوائف من المنتسبين للعلم، فإنهم تارة يكتمون العلم بُخْلاً به، وكراهة لأن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه، وتارة اعتياضاً عنه برئاسة أو مال، فيخاف من إظهاره انتقاص رئاسته أو نقص ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة، أو اعتزى إلى طائفة قد خُولِفت في مسألة، فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مُبطِل.
ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره: «أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم» .
3 -
قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا
أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة:91] بعد أن قال: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] فوصف اليهود أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به، والداعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم.
* وهذا يُبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم، أو الدين، من المتفقهة، أو المتصوفة، أو غيرهم، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين ـ غير النبي صلى الله عليه وسلم ـ فإنهم لا يقبلون من الدين رأياً ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم، ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم، مع أن دين الإسلام يوجب إتباع الحق مطلقاً ـ روايةً ورأياً ـ من غير تعيين شخص أو طائفة، غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
4 -
قال تعالى في صفة المغضوب عليهم: {مِنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء:46] والتحريف قد فُسِّر بتحريف التنزيل، وبتحريف التأويل.
* فأما تحريف التأويل فكثير جداً، وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة.
* وأما تحريف التنزيل فقد وقع في كثير من الناس، يحرفون ألفاظ الرسول، ويروون الحديث بروايات منكرة. وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك.
5 -
وقال سبحانه عن النصارى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلَاّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء:171] وقال تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17،72] إلى غير ذلك من المواضع.
* ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبِّدة والمتصوفة، حتى خالط كثيراً منهم من مذهب الحلول والإتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه.
6 -
قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم: أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال
فأتبعوهم.» [الترمذي3306وحسنه الألباني]
* وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظَّمين عنده في كل ما يأمر به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال.
7 -
وقال سبحانه عن الضالين: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللهِ} [الحديد:27]
* وقد ابتُلى طوائف من المسلمين، من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم.
8 -
قال سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً} [الكهف:21] فكان الضالون ـ بل والمغضوب عليهم ـ يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك في غير موطن حتى في وقت مفارقته الدنيا ـ بأبي هو وأمي.
* ثم إن هذا قد ابتُلِي به كثير من هذه الأمة.
9 -
إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة، والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات.
* ثم تجد قد ابتليت هذه الأمة من اتخاذ السماع المطرب، بسماع القصائد، وإصلاح القلوب والأحوال به، ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين.
10 -
وقال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113] فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما الأخرى عليه.
* وأنت تجد كثيراً من المتفقهة، إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئاً ولا يعدهم إلا جُهَّالاً ضُلَّالاً، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئاً، وترى كثيراً من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة ولا العلم شيئاً، بل يرى المتمسك بها منقطعاً عن الله وأنه ليس عند أهلها مما ينفع عند الله شيئاً.
وإنما الصواب: أن ما جاء به الكتاب والسنة، من هذا وهذا: حق، وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا: باطل.
11 -
أما مشابهة فارس والروم، فقد دخل في هذه الأمة من الآثار الرومية، قولاً وعملاً، والآثار الفارسية، قولاً وعملاً، ما لا خفاء به على مؤمن عليم بدين الإسلام، وبما حدث فيه.