الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
له كفوا أحد» [ابن ماجه3857وصححه الألباني] وفي الحديث الآخر: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» [المسند3712وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] فهذه الأدعية ونحوها مشروعة باتفاق العلماء. قالوا جميعاً: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقاً.
شبهات والرد عليها:
1 -
حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك. وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا رياءً، ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي» [ابن ماجه778وضعفه الألباني]
2 -
قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} [النساء:1] على قراءة حمزة وغيره ممن خفض الأرحام.
3 -
قد ثبت في الصحيح أن عمر قال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا
نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون. [البخاري1010]
4 -
حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره عليه، فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، يا نبي الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي فتقضى لي، اللهم فشفعه في، وشفعني فيه، فدعا الله، فرد الله عليه بصره.» [المسند17175، 17174، ابن ماجه1385، الترمذي3831وصححه الألباني]
والجواب عن هذا أن يقال:
أولاً: لا ريب أن الله جعل على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما قال تعالى:{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} [الأنعام:54] وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه: «يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه أن لا
يعذبهم» [البخاري67، مسلم30] فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق.
وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين. ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] وبقوله في الحديث الصحيح: «إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً» [مسلم2577]
وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مُبتدَع مخالفٌ لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء ومليكه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا، ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب، قال: إنه كتب على نفسه، وحرم على نفسه لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعِم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المُرْسِل إليهم الرسل، وهو المُيَسِّر لهم الإيمان، والعمل الصالح ومن توهم من القدرية،
والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره فهو جاهل في ذلك.
وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما مَنَّ به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، ليس من باب المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيره عليه، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك.
وإذا سُئِل بما جعله هو سببا للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعَد أصحابها بكرامته، وأنه يجعل لهم مخرجا، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، فيستجيب دعاءهم، ومن أدعية عباده الصالحين، وشفاعة ذوي الوجاهة عنده فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا.
وأما إذا سئل بشيء ليس سبباً للمطلوب: فإما أن يكون إقساما عليه به، فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالاً بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة، فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة، ورحمته لهم أن ينعمهم ولا يعذبهم، وهم وجهاء عنده، يقبل من شفاعتهم ودعائهم، ما
لا يقبله من دعاء غيرهم.
فإذا قال الداعي: أسألك بحق فلان، وفلان لم يَدْعُ له، وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته، بل بنفس ذاته، وما جعله له ربه من الكرامة لم يكن قد سأله بسبب يوجب المطلوب.
وحينئذ فيقال: أما التوسل والتوجه إلى الله وسؤاله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة، وبدعاء الأنبياء والصالحين (1) وشفاعتهم، فهذا مما لا نزاع فيه، بل هذا من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] وقوله سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] فإن ابتغاء الوسيلة إليه، هو طلب من يتوسل به، أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له، والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار.
(1)(*) أي أن يدعون الله ـ وهم أحياء ـ لمن طلب منهم الدعاء.
فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته، فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها، وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته.
ومن هذا الباب: استشفاع الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله، [البخاري3340، مسلم193] كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم، في الاستسقاء وغيره. وقول عمر رضي الله عنه: إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. [البخاري1010] معناه: نتوسل إليك بدعائه وشفاعته، وسؤاله، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته، ليس المراد به: إنا نقسم عليك به، أو ما يجري هذا المجرى مما يفعله بعد موته وفي مغيبه. كما يقول بعض الناس: أسألك بجاه فلان عندك، ويقولون: إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه، ويروون حديثا موضوعا:«إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عريض» ، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه، كما ذكر عمر رضي الله عنه لَفَعلوا ذلك بعد موته، ولم يعدلوا عنه
إلى العباس مع علمهم بأن السؤال به، والإقسام به أعظم من العباس، فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعله الأحياء، دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم، فإن الحي يطلب منه ذلك، والميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره.
- وكذلك حديث الأعمى، فإنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له ليرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه، وأمره أن يسأل الله قبول الشفاعة وأن قوله:«أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة» أي: بدعائه وشفاعته، كما قال عمر:«كنا نتوسل إليك بنبينا» فلفظ التوسل والتوجه في الحديثين بمعنى واحد، ثم قال:«يا محمد، يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفّعه فيّ» فطلب من الله أن يشفّع فيه نبيه، وقوله:«يا محمد يا نبي الله» هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادي في القلب، فيخاطب الشهود بالقلب: كما يقول المصلي: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا، يخاطب من يتصور في نفسه، وإن لم يكن في الخارج من يسمع
الخطاب.
ثانيًا: قوله في حديث أبي سعيد: «أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا»
هذا الحديث رواه عطية العوفي، وفيه ضعف. لكن بتقدير ثبوته، فإن حق السائلين عليه سبحانه، أن يجيبهم، وحق المطيعين له أن يثيبهم، فالسؤال له، والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به، والتوجه به، والتسبب به، ولو قُدِّر َأنه قسم لكان قسماً بما هو من صفاته؛ لأن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله. فصار هذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:«أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» . [مسلم468] والاستعاذة لا تصح بمخلوق، كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول: «أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق» [مسلم2708] قالوا: والاستعاذة لا تكون بمخلوق، واستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بعفوه ومعافاته من عقوبته، مع أنه
لا يُستَعاذ بمخلوق، كسؤال الله بإجابته وإثابته وإن كان لايُسْأَل بمخلوق، ومن قال من العلماء:«لا يُسأل إلا به» ، لا ينافي السؤال بصفاته، كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» [البخاري6646، مسلم1646] وفي لفظ للترمذي: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [الترمذي1590وصححه الألباني] ومع هذا، فالحلف بعزة الله، ولعمر الله ونحو ذلك ـ مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الحلف به ـ لم يدخل في الحلف بغير الله.
ثالثًا: قول الناس: أسألك بالله وبالرحم، وقراءة من قرأ:{وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامِ} [النساء:1] هو من باب التسبب بها، فإن الرحم توجب الصلة، وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته، فسؤال السائل بالرحم لغيره، يتوسل إليه بما يوجب صلته: من القرابة التي بينهما، ليس هو من باب الإقسام، ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب، بل هو توسل بما يقتضي المطلوب، كالتوسل بدعاء الأنبياء، وبطاعتهم، والصلاة عليهم.
ومن هذا الباب: ما يُرْوَى عن عبد الله بن جعفر أنه قال: «
كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئاً فلم يعطنيه قلت له: «بحق جعفر إلا ما أعطيتَنيه فيعطينيه» أو كما قال. فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر، أو من باب قولهم: أسألك بحق أنبيائك، ونحو ذلك. وليس كذلك، بل جعفر هو أخو علي، وعبد الله هو ابنه، وله عليه حق الصلة، فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر، كما في الحديث:«إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يُوَلِّي» [مسلم2552] ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعليّ بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما، أولى من سؤاله بحق جعفر، فكان عليٌّ رضي الله عنه إلى تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره، لكن بين المعنيين فرق. فإن السائل بالنبي، طالب به متسبب به، فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه، ولا كان مما يُقسَم به، لكان باطلاً.
وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المُقسِم للمُقسَم به، وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار القسم، وفي مثل هذا قيل:«إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرّه» [البخاري2703،مسلم1675] وقد يكون من باب تعظيم
المسؤول به. فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع. والثاني: سؤال للمسؤول بما عنده من محبة المسؤول به وتعظيمه ورعاية حقه.
فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حَسُنَ السؤال، كسؤال الإنسان بالرحم. وفي هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة، وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم.
وأما بمجرد ذوات الأنبياء والصالحين، ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم، ورعايته لحقوقهم التي أنعم الله بها، فليس فيها ما يوجب حصول مقصود السائل إلا بسبب بين الناس وبينهم، إما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك، وإما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه.
فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين: إما بطاعتهم واتباعهم، وإما بدعائهم وشفاعتهم. فمجرد دعائه بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له، فلا ينفعه وإن عظم جاه أحدهم عند الله تعالى.
والمقصود هنا: أنه إذا كان السلف والأئمة قالوا في سؤاله
بالمخلوق ما قد ذكر فكيف بسؤال المخلوق الميت؟ سواء سُئِل أن يسأل الله أو سُئِل قضاء الحاجة ونحو ذلك، مما يفعله بعض الناس، إما عند قبر الميت، وإما مع غيبته، وصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حسَم المادة وسدَّ الذريعة، بلعْنِه من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وأن لا يصلَّى عندها لله، ولا يُسأل إلا الله، وحذر أمته ذلك. فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك، وأسباب الشرك.
وقد تبين أن أحداً من السلف لم يكن يفعل ذلك، إلا ما نقل عن ابن عمر: أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في المواضع التي صلى فيها، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة. ففعل ابن عمر ذلك وهذا من ابن عمر تحرٍّ لمثل فعله. فإنه قصد أن يفعل مثل فعله، في نزوله وصلاته، وصبه للماء وغير ذلك، لم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها.
والكلام هنا في ثلاث مسائل:
إحداها: أن التأسي به في صورة الفعل الذي فعله، من غير أن يعلم قصده فيه، أو مع عدم السبب الذي فعله، فهذا فيه نزاع
مشهور، وابن عمر مع طائفة يقولون بأحد القولين، وغيرهم يخالفهم في ذلك، والغالب والمعروف عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر رضي الله عنهم وليس هذا مما نحن فيه الآن.
ومن هذا الباب أنه لو تحرى رجل في سفره أن يصلي في مكان نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى فيه، إذا جاء وقت الصلاة، فهذا من هذا القبيل.
المسألة الثانية: أن يتحرى تلك البقعة للصلاة عندها من غير أن يكون ذلك وقتاً للصلاة، بل أراد أن ينشئ الصلاة والدعاء لأجل البقعة، فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره، وإن ادعى بعض الناس أن ابن عمر فعله، فقد ثبت عن أبيه عمر أنه نهى عن ذلك، وتواتر عن المهاجرين والأنصار: أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، فيمتنع أن يكون فعل ابن عمرـ لو فعل ذلك ـ حجة على أبيه، وعلى المهاجرين والأنصار.
المسألة الثالثة: أن لا تكون تلك البقعة في طريقه، بل يَعْدِل عن طريقه إليها، أو يسافر إليها سفراً قصيراً أو طويلاً مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور الذي كلم
الله عليه موسى ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال، التي يقال فيها مقامات الأنبياء أو غيرهم، أو مشهد مَبْني على أثر نبي من الأنبياء فهذا مما يعلم كل من كان عالماً بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحال أصحابه من بعده، أنهم لم يكونوا يقصدون شيئاً من هذه الأمكنة.
فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة، كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك، وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنهما أنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، ثم يرجع فيتزود لذلك، حتى فجَأَه الوحي، وهو بغار حراء، فأتاه المَلَك، فقال له: اقرأ. فقال: «لست بقارئ» قال: «فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني» ، ثم قال: اقرأ. فقال: «لست بقارئ» قال: مرتين أو ثلاثا ـ ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] فرجع بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره» [البخاري 3] الحديث بطوله.
فتحنُّثُه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث. ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولا يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء. ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عُمَر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثاً. ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة، ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئاً من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن
عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنَمِرَة، المجاورة لعرفة. ثم بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم، من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء.
وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] وهو غار بجبل ثور، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة مسجداً، غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف مِنَى، وقد بني هناك له مسجد.
ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك، ولكان يُعَلِّم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك عُلِم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وإذا كان حكم مقام نبينا صلى الله عليه وسلم في مثل غار حراء الذي ابتُدي فيه
بالإنباء والإرسال، وأُنزل عليه فيه القرآن، مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه. وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته عليه، فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد عن أن يُشرع قصدها، والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، إذا كانت صحيحة ثابتة. فكيف إذا علم أنها كذب، أو لم يعلم صحتها.
وهذا كما أنه قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج البيت لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين، فلم يستلم الركنين الشاميين ولا غيرهما من جوانب البيت ولا مقام إبراهيم ولا غيره من المشاعر، وأما التقبيل فلم يُقَبّل إلا الحجر الأسود.
وقد اختلف في الركن اليماني: فقيل يُقَبِّله. وقيل: يستلمه ويقبل يده، وقيل: لا يقبله ولا يقبل يده. والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد وغيره.
والصواب: أنه لا يقبله ولا يقبل يده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل لا هذا ولا هذا، كما تنطق به الأحاديث الصحيحة، ثم هذه مسألة نزاع، وأما مسائل الإجماع فلا نزاع بين الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة العلم، أنه لا يقبل الركنين الشاميين، ولا شيئاً من جوانب
البيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين. وعلى هذا عامة السلف، وقد رُوى أن ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما طافا بالبيت، فاستلم معاوية الأركان الأربعة. فقال ابن عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستلم إلا الركنين اليمانيين، فقال معاوية: ليس شيءٌ من البيت مهجوراً. [البخاري1608] فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . فرجع إليه معاوية». [المسند1877وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح]
وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة، من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن وقال:{وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة:125] فإذا كان هذا بالسنة المتواترة، وباتفاق الأئمة، لا يشرع تقبيلها بالفم، ولا مسحه باليد، فغيره من مقامات الأنبياء أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم، ولا مسحها باليد.
وأيضا ـ فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائماً، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها. فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه
الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟
وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة، فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره؟ هذا إذا كان النعل صحيحاً، فكيف بما لا يُعلم صحته، أو بما يُعلم أنه مكذوب: كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم، ويزعمون عند الجُهّال أن هذا الموضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه، وقدمَي إبراهيم الخليل، الذي لا شك فيه، ونحن مع هذا قد أُمرنا أن نتخذه مصلى، فكيف بما يقال إنه موضع قدميه، كذباً وافتراءً عليه كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس، وغير ذلك من المقامات.
شبهة والرد عليها: إن قيل: قد أمر الله أن نتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فيقاس عليه غيره. قيل له: هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة، سواء أُريد به المقام الذي عند الكعبة موضع قيام إبراهيم، أو أريد به المشاعر: عرفة ومزدلفة ومنى، فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات بما لا يشركها فيه سائر
البقاع، كما خص البيت بالطواف. فما خصت به تلك البقاع لا يقاس به غيرها. وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها ونحن استدلَلْنا على أن ما لم يشرع هناك من التقبيل، والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها، ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع مثل ما شرع فيها.
ومن ذلك القبة التي عند باب عرفات، التي يقال: إنها قبة آدم، فإن هذا لا يُشرع قصدها للصلاة والدعاء، باتفاق العلماء، بل نفس رُقِيّ الجبل الذي بعرفات الذي يقال له: جبل الرحمة، ليس مشروعا باتفاقهم، وإنما السنة الوقوف بعرفات. إما عند الصخرات حيث وقف النبي صلى الله عليه وسلم، وإما بسائر عرفات.
وكذلك سائر المساجد المبنية هناك. كالمساجد المبنية عند الجمرات، وبجنب مسجد الخيف مسجد يقال له: غار المرسلات فيه نزلت سورة المرسلات، وفوق الجبل مسجد يقال له مسجد الكبش، ونحو ذلك. لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم قصد شيء من هذه البقاع لصلاة ولا دعاء ولا غير ذلك. وأما تقبيل شيء من ذلك والتمسح به فالأمر فيه أظهر، إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين