المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: الاستدلال بالسنة على النهي عن التشبه بالكافرين: - تهذيب اقتضاء الصراط المستقيم

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التهذيب

- ‌كفر اليهود أصله عدم العمل بالعلم، وكفر النصارى أصله عملهم بلا علم

- ‌إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستتبع سنن الأمم قبلها

- ‌الصراط المستقيم أمور باطنة في القلب، وأمور ظاهرة

- ‌لماذا الأمر بمخالفة اليهود والنصارى في الهدي الظاهر

- ‌أولاً: الاستدلال بالقرآن على النهي عن التشبه بالكافرين:

- ‌ثانياً: الاستدلال بالسنة على النهي عن التشبه بالكافرين:

- ‌ثالثاً: ذكر إجماع الصحابة والسلف على شرعية المخالفة للكفار

- ‌الأمر بمخالفة الشياطين:

- ‌أعمال الكفار والأعاجم ونحوهم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

- ‌ موافقتهم في أعيادهم لا تجوز

- ‌الطريق الأول: هو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا

- ‌ الطريق الثاني ـ الخاص ـ في نفس أعياد الكفار: فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار

- ‌أولاً: الكتاب:

- ‌ثانيًا: السنة

- ‌ثالثًا: تقرير الإجماع على النهي عن مشابهة الكافرين في أعيادهم وما وراء ذلك من آثار: وأما الإجماع والآثار فمن وجوه:

- ‌كراهة السلف للرطانة وهي التشبه بالأعاجم في كلامهم:

- ‌رابعًا: وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه:

- ‌مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان:

- ‌حريم العيد

- ‌هل يجب على المسلم أن يعرف أعياد الكفار

- ‌حكم إعانة المسلمين المتشبهين بالكفار في أعيادهم:

- ‌بيع المسلمين للكفار في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم:

- ‌حكم قبول الهدية من أهل الذمة يوم عيدهم، وما ورد عن السلف في ذلك:

- ‌حكم ذبيحتهم يوم عيدهم:

- ‌صوم أعياد الكفار

- ‌هل في الإسلام بدعة حسنة

- ‌الوجه الثاني: في ذم المواسم والأعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين

- ‌الأعياد الزمانية المبتدعة

- ‌اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً مضاهاة للنصارى في عيد ميلاد عيسى عليه السلام

- ‌ما أحدثه بعض الناس من البدع في شهر شعبان، خاصة ليلة النصف منه:

- ‌ما جاء في الصلاة الألفية المزعومة:

- ‌الأعياد المكانية المبتدعة

- ‌أقسام الأعياد المكانية

- ‌أسباب إجابة الدعاء عند القبور وغيرها:

- ‌حكم السفر لزيارة القبور

- ‌من المحدثات الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد والبناء عليها:

- ‌الأبنية المقامة على القبور تتعين إزالتها، لاشتمالها على أنواع من المحرمات:

- ‌سبب كراهية الصلاة في المقبرة:

- ‌حكم الصلاة في المقبرة:

- ‌حديث الاستعانة بأهل القبور كذب

- ‌سائر العبادات لا تجوز عند القبور:

- ‌حكم الذبح عند القبور:

- ‌العكوف عند القبور، والمجاورة عندها، وسدانتها، من المحرمات

- ‌أقوال العلماء في مقامات الأنبياء وحكم قصدها. وبيان القول الصحيح وأدلته:

- ‌شبهات والرد عليها:

- ‌خطأ أصحاب المناسك في ذكرهم للمزارات المبتدعة

- ‌المساجد التي تشد إليها الرحال هي المساجد الثلاثة فقط

- ‌بناء القبة عند الصخرة حدث في عهد عبد الملك بن مروان

- ‌الصلاة عند الصخرة بدعة:

- ‌أصل دين المسلم: أنه لا تخص بقعة بقصد العبادة إلا المساجد

- ‌أقوال الناس في الشفاعة:

- ‌تحقيق الشهادتين وما يتضمنه

الفصل: ‌ثانيا: الاستدلال بالسنة على النهي عن التشبه بالكافرين:

القلوب من ثمرات المعاصي.

* لما نهى الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم، وذكر أيضاً في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية، فما رعوها حق رعايتها، فعقبها بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:28 - 29]؛ فإن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم تصديقه وطاعته وإتباع شريعته، وفي ذلك مخالفة للرهبانية؛ لأنه لم يبعث بها، بل نهى عنها، وأخبر أن من اتبعه (1) كان له أجران. [البخاري 57، مسلم241]

‌ثانياً: الاستدلال بالسنة على النهي عن التشبه بالكافرين:

- جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين، التي أجمع الفقهاء عليها، بمخالفتهم وترك التشبه بهم: 1 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهودَ والنصارى لا يصبغون فخالفوهم» [البخاري3462، مسلم1103] فأمر بمخالفتهم، وذلك يقتضي أن

(1)(*) أي من أهل الكتاب.

ص: 28

يكون جنس مخالفتهم أمراً مقصوداً للشارع.

* نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنوَّر قلبه، حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون ـ من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.

* نفس ما هم عليه من الهدي، والخُلُق، قد يكون مُضِراً، أو مُنْقِصاً فيُنهى عنه، ويُؤمر بضده، لما فيه من المنفعة والكمال.

وليس شيء من أمورهم، إلا وهو: إما مضر، أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة، ونحوها، مضرة، وما بأيديهم ـ مما لم ينسخ أصله ـ فهو يقبل الزيادة والنقص.

* الكفر بمنزلة مرض القلب، وأشد، ومتى كان القلب مريضاً لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح: أن لا تُشْبِه مريض القلب في شيء من أموره وإن خفي عليك مرض ذلك العضو، لكن يكفيك أن فساد الأصل لابد أن يؤثر في الفرع.

2 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالِفوا المشركين: أحْفوا الشوارب

ص: 29

وأوْفُوا اللحَى». [مسلم 259، 260] فأمر بمخالفة المشركين مطلقاً، ثم قال:«أحْفوا الشوارب وأوْفُوا اللحَى.» وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، لكن الأمر بها أولاً بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع.

3 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جزّوا الشوارب وأرْخوا اللحى، خالفوا المجوس» . [مسلم260] فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع.

4 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم، ولا خفافهم» [أبو داود 652وصححه الألباني]

5 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكْلةُ السَّحَر» [مسلم 1096]

6 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزالُ الدينُ ظاهراً ما عجَّل الناسُ الفطرَ؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون» [أبو داود2353وحسنه الألباني] وهذا نص في أن ظهور الدين الحاصل بتعجيل الفطر لأجل مخالفة اليهود والنصارى.

* وإذا كانت مخالفتهم سبباً لظهور الدين، فإنما المقصود

ص: 30

بإرسال الرسل أن يَظهر دينُ الله على الدين كله، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة.

7 -

عن ليلى ـ امرأة بشير بن الخصاصية ـ قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة، فنهاني عنه بشير، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاني عن ذلك، وقال: يفعل ذلك النصارى، صوموا كما أمركم الله، وأتموا الصوم كما أمركم الله، وأتموا الصيام إلى الليل، فإذا كان الليل فأفطروا» [رواه أحمد في المسند 21852وإسناده صحيح] فعلل النهي عن الوصال: بأنه صوم النصارى، ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها.

8 -

عن أنس رضي الله عنه: أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا كلَّ شيءٍ إلا النكاح» ، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالَفَنا فيه، فجاء أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا

ص: 31

وكذا، أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ظننا أن قد وجد (1) عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن، إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما، فسقاهما، فعرفنا أنه لم يجِدْ عليهما. [مسلم302]

* فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود، بل: على أنه خالفهم في عامة أمورهم، حتى قالوا: ما يريد أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه.

9 -

عن عمرو بن عبسة، قال: كنت ـ وأنا في الجاهلية ـ أظن أن الناس على ضلالة، فإنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي، فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، مستخفياً، جُرَآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلَني الله، فقلت: بأي شيء أرسلك؟، قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحَّدَ الله لا يُشرَكُ به شيء، فقلت له: من معك على هذا؟ قال: حُرٌ وعبدٌ ـ قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ـ فقلت: إني متبعُك، قال: إنك لا

(1)(*) وجد: غضب.

ص: 32

تستطيعُ ذلك يومَك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعتَ بي قد ظهرت: فأْتِني، قال: فذهبت إلى أهلي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار، وأسأل الناس، حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهل يثرب ـ من أهل المدينة ـ فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟ فقالوا: الناس إليه سراع، وقد أراد قومه قتْله فلم يستطيعوا ذلك، فقدمتُ المدينة، فدخلتُ عليه، فقلت: يا رسول الله: أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الذي لقيتَني بمكة، قال: فقلت: يا نبي الله، أخبرني عما علمك الله وأجهله ـ أخبرني عن الصلاة؟ قال: صلّ صلاة الصبح، ثم أقصِر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع، فإنها تطلع ـ حين تطلع ـ بين قرنَيْ شيطان، وحينئذ يسجدُ لها الكفار، ثم صلّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظلُ بالرمح، ثم أَقْصِر عن الصلاة، فإن حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء فصلّ، فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة، حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ: يسجد لها الكفار» [مسلم 832].

ص: 33

* فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب، معللاً: بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان، وأنه حينئذ يسجد لها الكفار. ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة بكل طريق.

10 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه رأى رجلاً يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له: لا تجلسْ هكذا فإنَّ هكذا يجلس الذين يُعَذَّبُون» [أبو داود 994 وحسنه الألباني] وفي رواية: «تلك صلاة المغضوب عليهم» [أبو داود993وصححه الألباني] وفي رواية: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يجلسَ الرجلُ في الصلاةِ وهو معتمدٌ على يَدِه» [أبو داود992 وصححه الألباني] ففي هذا الحديث: النَّهْي عن هذه الجلسة معللة بأنها جلسة المعذبين، وهذه مبالغة في مجانبة هدْيِهم.

11 -

عن مسروق عن عائشة رضي الله عنهما: أنها كانت تكره أن يجعل يده في خاصرته، وتقول:«إن اليهود تفعله» [البخاري3458] ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلى الرجل مُخْتَصِراً [مسلم545] وعن زياد بن

ص: 34

صبيح قال: «صلَّيْتُ إلى جنب ابن عمر فوضعتُ يدي على خاصرتي، فما صلى قال: هذا الصَّلْب في الصلاة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه. [أبو داود903وصححه الألباني]

12 -

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياماً، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعوداً فلما سلم قال:«إن كِدْتُم آنفاً تفعلون فعل فارس والروم: يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائماً فصلوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً» [مسلم 413] ففي هذا الحديث: أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة، وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهو قعود.

ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد.

وفي هذا الحديث ـ أيضاً ـ نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم، لقوله:«فلا تفعلوا» .

ص: 35

ثم هذا الحديث ـ سواء كان محكَماً في قعود الإمام، أو منسوخاً ـ فإن الحجة منه قائمة، لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجع عليها، مثل كون القيام فرضاً في الصلاة، فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية، وهذا محل اجتهاد، والصحيح أن هذا الحديث محكم، قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع كونهم علموا صلاته في مرضه.

وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث المرض ناسخاً له، على ما هو مقرر في غير هذا الموضع: إما بجواز الأمرين، إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعداً، والصلاة التي ابتدأها الإمام قائماً، لعدم دخول هذه الصلاة في قوله:«وإذا صلى قاعداً» ولعدم المفسدة التي علل بها، ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام، ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع.

13 -

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا

ص: 36

اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حَبْر فقال: هكذا نصنع يا محمد، قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «خالفوهم» [ابن ماجة 1545وحسنه الألباني]

قلت: قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت، ومعها إذا شيعت.

14 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللحد لنا والشق لغيرنا» [أبو داود1554 وصححه الألباني]، وفي رواية لأحمد:«والشق لأهل الكتاب» . [المسند19111وصححه الألباني]

وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب، حتى في وضع الميت في أسفل القبر.

15 -

عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» متفق عليه. [البخاري1294، مسلم103]

ودعوى الجاهلية: ندب الميت، وتكون دعوى الجاهلية في العصبية.

16 -

عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ في

ص: 37

أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونَهُن: الفخرُ بالأحساب، والطعنُ في الأنساب، والاستسقاءُ بالنجوم، والنياحة» [مسلم934]

ذم في الحديث، من دعا بدعوى الجاهلية، وأخبر أن بعض أمر الجاهلية، لا يتركه الناس كلهم، ذماً لمن لم يتركه، وهذا كله يقتضي: أن ما كان من أمر الجاهلية وفِعْلهم، فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية، خرج مخرج الذم، وهذا كقوله سبحانه وتعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فإن في ذلك ذماً للتبرج، وذماً لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه لما عَيَّر رجلاً بأمه: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» [البخاري30، مسلم1661]، فإنه ذمٌ لذلك الخلُق، ولأخلاق الجاهلية التي لم يجئ بها الإسلام.

ومنه - قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:26] فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية: اقتضى ذمها،

ص: 38

فما كان من أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك.

فقد دلت هذه الأحاديث: على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه، والنهي عنه، وذلك يقتضي المنع من أمور الجاهلية مطلقاً وهو المطلوب في هذا الكتاب.

والسنة الجاهلية: كل عادة كانوا عليها، فإن السنة هي العادة، وهي الطريق التي تتكرر لنوع الناس، مما يعدونه عبادة، أو لا يعدونه عبادة، قال تعالى:{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتَتَّبِعُنَّ سننَ مَنْ كان قبلَكم» [البخاري7320، مسلم2669]- والاتباع هو الاقتفاء والاستنان، فمن عمل بشيء من سننهم، فقد اتبع سنة جاهلية، وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء من سنن الجاهلية: في أعيادهم وغير أعيادهم.

ولفظ: (الجاهلية) قد يكون:

أ- اسماً للحال ـ وهو الغالب في الكتاب والسنة ـ كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امرؤٌ فيك جاهلية» [البخاري30، مسلم1661]، وقول عمر: إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة [البخاري2042،

ص: 39

مسلم1656] وقول عائشة: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء، [البخاري5127] وقولهم: يا رسول الله كنا في جاهلية وشر [البخاري7084، مسلم1847] أي في حال جاهلية أو طريقة جاهلية، أو عادة جاهلية ونحو ذلك.

ب- قد يكون اسماً لذي الحال، فتقول: طائفة جاهلية، وشاعر جاهلي، وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم، أو عدم إتباع العلم، فإن من لم يعلم الحق، فهو جاهل جهلاً بسيطاً، فإن اعتقد خلافه: فهو جاهل جهلاً مركباً، فإن قال خلاف الحق عالماً بالحق، أو غير عالم: فهو جاهل أيضاً، كما قال تعالى:{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان:63]

فالناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل، فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جاهل، وإنما يفعله جاهل.

وكذلك كل ما يخالف ما جاءت به المرسلون: من يهودية، ونصرانية، فهي جاهلية، وتلك الجاهلية العامة، فأما بعد مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم قد تكون في مَصْر دون مَصر، كما هي في دار الكفار،

ص: 40

وقد تكون في شخص دون شخص، كالرجل قبل أن يُسْلِم، فإنه في جاهلية، وإن كان في دار الإسلام.

فأما في زمان مطلق: فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة. [البخاري 3641، 3640، مسلم1920، 1921]

والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين، وفي كثير من الأشخاص المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أربع في أمتي من أمر الجاهلية» [مسلم934] وقال لأبي ذر رضي الله عنه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» [البخاري30، مسلم1661] ونحو ذلك.

17 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحِجْر - أرض ثمود - فاستقوا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يهريقوا ما استقوا، ويعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تَرِدُها الناقة». [مسلم2981]

وفي حديث جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - لما مر بالحِجْر -: «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكِين، فإن لم تكونوا باكِين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبَكم ما أصابهم» ،

ص: 41

[البخاري3380،مسلم2980] فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء، خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم، ونهى عن الانتفاع بمياههم، حتى أمرهم

ـ مع حاجتهم في تلك الغزوة، وهي أشد غزوة كانت على المسلمين ـ أن يعلفوا النواضح، بعجين مائهم.

فإذا كانت الشريعة، قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار، في المكان الذي حلَّ بهم فيه العذاب، فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها؟

فإنه إذا قيل: هذا العمل الذي يعملونه، لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرماً، ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه، فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية، لو تجرد عن كونه أثرهم، ونحن لا نقصد التشبه بهم، بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار، فإن جميع ما يعملونه، مما ليس من أعمال المسلمين السابقين إما كفر، وإما معصية، وإما شعار كفر، أو معصية، وإما مظنة للكفر والمعصية، وإما أن يخاف أن يجر إلى معصية، وما أحسب أحداً ينازع في جميع هذا، ولئن نازع فيه، فلا

ص: 42

يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية، وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان. ألا ترى: أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، في أعمالهم، أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم؟

18 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقومٍ فهو منهم» . [أبو داود4031وقال الألباني: حسن صحيح]

وهذا الحديث أقل أحواله: أن يقتضى تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله:{وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فقد يُحمَل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم، في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفراً، أو معصية، أو شعاراً لها كان حكمه كذلك.

وبكل حال: يقتضي تحريم التشبه، بعلة كونه تشبهاً، والتشبه: يعم مَنْ فَعَل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذاً عن ذلك

ص: 43

الغير، فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضاً، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبهاً نظر، لكن قد ينهى عن هذا؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة، كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب، مع أن قوله صلى الله عليه وسلم:«غيِّروا الشَّيْب ولا تشَبَّهوا باليهود» [الترمذي1821، وصححه الألباني] دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل، بل بمجرد ترْك تغيير ما خُلِق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية، الاتفاقية. وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زيّ غير المسلمين.

19 -

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ليس مِنَّا مَنْ تشبَّه بغيرِنا، لا تَشَبَّهوا باليهودِ ولا بالنصارَى، فإنَّ تسليمَ اليهود: الإشارةُ بالأصابعِ، وتسليمَ النصارى: الإشارةُ بالأكفِّ» [الترمذي2848، وحسنه الألباني]

20 -

عن أبي غطفان المري قال: «سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان العام المقبل ـ إن شاء الله ـ صمنا اليوم التاسع» ،

ص: 44

قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم». [مسلم1133]

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا يوم عاشوراء، خالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوماً أو بعده يوماً» [المسند2154، وحسنه أحمد شاكر، وضعفه الألباني]

فتدبر: هذا يوم عاشوراء، يوم فاضل يكفر سنة ماضية، صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه ورغب فيه، ثم لما قيل له قبيل وفاته: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه، وعزم على ذلك.

21 -

عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنا أمَّة أمِّية: لا نَكتب ولا نحسب، الشهر: هكذا هكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين» . [البخاري1913، مسلم1080] فوصف هذه الأمة، بترك الكتاب والحساب، الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عباداتهم وأعيادهم، وأحالها على الرؤية، حيث قال ـ في غير حديث ـ:«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» [البخاري1909، مسلم1080]

وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون ـ إلا من شذ من بعض

ص: 45

المتأخرين المخالفين، المسبوقين بالإجماع ـ من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك: إنما تقام بالرؤية عند إمكانها، لا بالكتاب والحساب، الذي تسلكه الأعاجم: من الروم، والفرس، والقبط والهند، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقد يستدل بهذا الحديث، على خصوص النهي عن أعيادهم، فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب، والحديث فيه عموم.

أو يقال: إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله، ففي غيرها من الأعياد والمواسم أولى وأحرى، ولما في ذلك من مضارعة (1) الأمة الأمية، سائر الأمم.

وبالجملة ـ فالحديث يقتضي: اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها، وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص.

22 -

عن حمد بن عبد الرحمن بن عوف: أنه سمع معاوية رضي الله عنه، عام حج، على المنبر، وتناول قُصَّة من شعر، كانت في يد حَرَسٍيّ (2)،

(1)(*) مضارعة: مشابهة.

(2)

(**) الحَرَسِيّ: الذي يتولى الحراسة ونحوها.

ص: 46

فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول:«إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم» [البخاري5932، مسلم2127] وفي رواية سعيد بن المسيب أن معاوية قال ذات يوم: إنكم أحدثتم زِيَّ سوء، وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الزور، قال: وجاء رجل بعصى على رأسها خرقة قال معاوية: ألا وهذا الزور.

قال قتادة: يعني ما يكثر به النساء أشعارهن، من الخِرَق. [مسلم2127]

وفي رواية عن ابن المسيب، قال: قدم معاوية المدينة فخطبنا، وأخرج كبة من شعر، فقال: ما كنت أرى أن أحداً يفعله، إلا اليهود، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه، فسماه الزور. [مسلم2127]

فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وصل الشعر: أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم، يحذر أمته مثل ذلك، ولهذا: قال معاوية: ما كنت أرى أن أحداً يفعله إلا اليهود. فما كان من زي اليهود، أي لم يكن عليه المسلمون: إما أن يكون مما يعذبون عليه، أو مظنة لذلك، أو يكون تركه حسماً لمادة ما عذبوا عليه، لاسيما إذا لم يتميز

ص: 47

ما هو الذي عذبوا عليه من غيره، فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره، فيترك الجميع، كما أن ما يُخْبِرونا به لمَّا اشتبه صدقه بكذبه: تُرك الجميع.

23 -

روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أو قال: قال عمر: إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما، فإن لم يكن إلا ثوب فليتَّزِر به، ولا يشتمل اشتمال اليهود» [أبو داود635وصححه الألباني]

فإن إضافة المنهي عنه إلى اليهود، دليل على أن لهذه الإضافة تأثيراً في النهي.

24 -

ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ غداة العقبة وهو على ناقته: «القُطْ لي حصى» ، فلقطتُ له سبع حصَيات، من حصى الخَذْف، فجعل ينفضهن في كفِّه ويقول:«أمثال هؤلاء فارْمُوا، ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» . [ابن ماجه3029 وصححه الألباني] وقوله: «إياكم والغلو في الدين» عام في جميع أنواع الغلو، في الاعتقادات والأعمال. والغلو: مجاوزة الحد بأن يُزادَ الشيءُ، في حمده، أو ذمِّه ما

ص: 48

يستحق، ونحو ذلك.

والنصارى أكثر غلواً في الاعتقادات والأعمال، من سائر الطوائف وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، في قوله تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]

وسبب هذا اللفظ العام: رمي الجمار، وهو داخل فيه، فالغلو فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار، ونحو ذلك، بناء على أنه أبلغ من الحصى الصغار ثم علل ذلك: بأن ما أهلك من قبلنا إلا الغلو في الدين، كما تراه في النصارى، وذلك يقتضي: أن مجانبة هديهم مطلقاً أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا وأن المشارك لهم في بعض هديهم، يخاف أن يكون هالكاً.

25 -

أنه صلى الله عليه وسلم حذرنا من مشابهة مَن قَبلَنا، في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الأشراف والضعفاء، وأمر أن يسوي بين الناس في ذلك، وإن كان كثير من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة.

ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنهما ـ في شأن المحزومية التي سرقت، لما كلم أسامة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال: «يا أسامة أتشْفَعُ

ص: 49

في حد من حدود الله؟! إنما هلك بنوا إسرائيل أنهم كانوا: إذا سرق فيهم الشريفُ تركُوه، وإذا سرقَ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، والذي نفْسي بيدِه لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمد سرقَتْ لقطعتُ يدها». [البخاري3475، مسلم1688]

وكان بنو مخزوم من أشرف بطون قريش، واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم، فبين صلى الله عليه وسلم أن هلاك بني إسرائيل، إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات، وأخبر: أن فاطمة ابنته ـ التي هي أشرف النساء ـ لو سرقت ـ وقد أعاذها الله من ذلك ـ لَقَطَع يدها؛ لِيُبَيِّن: أن وجوب العدل والتعميم في الحدود، لا يستثنى منه بنتُ الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن بنت غيره.

26 -

عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول:«إني أبرأُ إلى الله أنْ يكونَ لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك» . [مسلم532]

ص: 50

وصف صلى الله عليه وسلم أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد، وعقب هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء، أن لا يتخذوا القبور مساجد، وقال إنه صلى الله عليه وسلم ينهانا عن ذلك. ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا، إما مظهر للنهي، وإما موجب للنهي، وذلك يقتضي: أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها، أو أنها علة مقتضية للنهي.

وعلى التقديرَيْن: يُعلَم أنَّ مخالفتَهم أمر مطلوب للشارع في الجملة، والنهي عن هذا العمل ـ بلعنة اليهود والنصارى ـ مستفيض عنه صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين، عن عائشة الله وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال ـ وهو كذلك ـ: «لعنةُ اللهِ على اليهودِ والنصارى: اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد» يحذر ما صنعوا. [البخاري435،436،مسلم 531]

وفي الصحيحين ـ أيضاً ـ عن عائشة رضي الله عنهما: أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة، رأَيْنَها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «

ص: 51

أولئك قومٌ إذا مات فيهم العبدُ الصالح، أو الرجل الصالح، بنَوْا على قبرِه مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرارُ الخلقِ عند الله عز وجل.» [البخاري 426،مسلم528] فهذا التحذير منه واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد، على قبر الرجل الصالح ـ صريح في النهي عن المشابهة في هذا ودليل على الحذر من جنس أعمالهم، حيث لا يُؤْمَن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس.

ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة، من بناء المساجد على القبور، واتخاذ القبور مساجد بلا بناء، وكلا الأمرين محرمٌ ملعون ٌفاعله بالمستفيض من السنة، وتحريم ذلك ذكره غير واحد من علماء الطوائف، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا.

27 -

عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غداً، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقَصَب (1)؟ فقال: «ما أنْهَرَ الدمَ، وذُكِر اسمُ الله عليه، فكُلْ، ليس السن والظفر،

(1)(*) القَصَب: كل نبات ساقه أنابيب وكعوب ومنه قصب السكر، والكعب: العقدة بين الأنبوبتين.

ص: 52

وسأحدثكم عن ذلك، أما السِّنّ: فعظم، وأما الظفر: فمُدَى (1) الحبشة». [البخاري2488، مسلم1968]

نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالظفر، معللاً بأنها مُدَى الحبشة، كما علل السِّن: بأنه عظم، فقوله صلى الله عليه وسلم:«وأما الظفر فمدى الحبشة» ، بعد قوله:«وسأحدثكم عن ذلك» ، يقتضي أن هذا الوصف ـ وهو كونه مُدَى الحبشة ـ له تأثير في المنع: إما أن يكون علة، أو دليلاً على العلة، أو وصفاً من أوصاف العلة، أو دليلها، والحبشة في أظفارهم طول، فيُذَكّون بها دون سائر الأمم، فيجوز أن يكون نَهى عن ذلك: لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به.

28 -

في الصحيحين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: البَحِيرة: التي يمنع دَرُّها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة: كانوا يسيِّبُونها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء وقال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيتُ عمرو بن عامر الخزاعي، يجرّ قُصْبَه في النار، كان أول من سيَّب السوائب» [البخاري3521، مسلم2856]

(1)(**) المُدَى: جمع مُدْية وهي السكين.

ص: 53

من العلم المشهور: أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول البيت، ويقال: إنه جلبها من البلقاء، من أرض الشام، متشبهاً بأهل البلقاء، وهو أول من سيَّبَ السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه:(يجر قُصْبَه في النار)، وهي الأمعاء؛ لأنها تشبه القصب، ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم، على شريعة التوحيد، والحنيفية السمحة، دين أبيهم إبراهيم، فتشبه عمرو بن لحي، وكان عظيم أهل مكة يومئذ، لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش، وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة؛ لأن فيها بيت الله، وإليها الحج، ما زالوا معظمين من زمن إبراهيم عليه السلام، فتشبه عمرو بمن رآه في الشام، واستحسن بعقله ما كانوا عليه، ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، تعظيماً لله وديناً، فكان ما فعله أصل الشرك في العرب، أهل دين إبراهيم، وأصل تحريم الحلال، وإنما فعله متشبهاً فيه بغيره من أهل الأرض، فلم يزَل الأمر يتزايد، ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشرك بالله عز وجل، وتغيير دينه إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم الله فأحيا ملة

ص: 54

إبراهيم عليه السلام وأقام التوحيد، وحلل ما كانوا يحرمونه.

29 -

عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: اهتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة، كيف يجمع الناس لها؟ فقيل له: انصُب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكروا له القنع، شبور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: هو من أمر اليهود، قال فذكروا له الناقوس، قال: هو من فعل النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربِّه، وهو مهتم لِهَمّ النبي صلى الله عليه وسلم، فأُرِيَ الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا رسول الله: إني لَبَيْنَ نائمٍ ويقظان، إذا أتاني آتٍ، فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك، فكتمه عشرين يوماً، قال: ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:«ما منعك أن تخبرنا» ؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد، فاستحييت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا بلال قُمْ فانظر ما يأمُرُك به عبد الله بن زيد فافْعَلْهُ» ، فأذن بلال. [أبو داود498وصححه الألباني]

* لما كره النبي صلى الله عليه وسلم بوق اليهود المنفوخ بالفم، وناقوس النصارى المضروب باليد، علل هذا بأنه من أمر اليهود، وعلل هذا

ص: 55

بأنه من أمر النصارى، لأن ذكر الوصف عقيب الحكم، يدل على أنه علة له، وهذا يقتضي نهيه عن ما هو من أمر اليهود والنصارى.

هذا ـ مع أن قرن اليهود يقال: أن أصله مأخوذ عن موسى عليه السلام، وأنه كان يضرب بالبوق في عهده، وأما ناقوس النصارى فمبتدَع، إذ عامة شرائع النصارى، أحدثها أحبارهم ورهبانهم. وهذا يقتضي كراهة هذا النوع من الأصوات مطلقاً في غير الصلاة أيضاً، لأنه من أمر اليهود والنصارى، فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة، غير أوقات عباداتهم. وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للإعلان بذكر الله، الذي به تفتح أبواب السماء، فتهرب الشياطين، وتنزل الرحمة.

30 -

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» [البخاري5632، مسلم2067] وعن عبد الله بن عمرو قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ثوبين معصفَريْن فقال: «إن هذه ثياب الكفار، فلا تلبسها» [مسلم 2077] علل النهي عن لبسها بأنها: من ثياب الكفار، وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار، بأنهم يستمتعون

ص: 56