الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقوال العلماء في مقامات الأنبياء وحكم قصدها. وبيان القول الصحيح وأدلته:
أما مقامات الأنبياء والصالحين ـ وهي الأمكنة التي قاموا فيها، أو أقاموا، أو عبدوا الله سبحانه، لكنهم لم يتخذوها مساجد ـ فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين:
أحدهما: النهي عن ذلك وكراهته، وأنه لا يستحب قصْد بقعة للعبادة، إلا أن يكون قصْدها للعبادة مما جاء به الشرع، مثل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم، وكما كان يتحرى الصلاة عند الاسطوانة (1)، [البخاري502] وكما يقصد المساجد للصلاة، ويقصد الصف الأول ونحو ذلك.
والقول الثاني: أنه لا بأس باليسير من ذلك، كما نُقل عن ابن عمر رضي الله عنه: أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، [البخاري483] وإن كان النبي قد سلكها اتفاقاً لا قصداً.
قال سندي الخواتيمي: سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد، ويذهب إليها، ترى ذلك؟ قال: أما على حديث ابن أم
(1)(*) الاسطوانة: السارية، والغالب أنها تكون من بناء بخلاف العمود فإنه من حجر واحد، ويقال: إنها السارية المتوسطة من الروضة الشريفة.
مكتوم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى (1). وعلى ما كان يفعله ابن عمر، يتتبع مواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأثره ـ فليس بذلك بأس، أن يأتي الرجل المشاهد، إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جداً، وأكثروا فيه وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم: أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة، وغيرها، يذهب إليها؟ فقال: أما على حديث ابن أم مكتوم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجداً وعلى ما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه: كان يتبع مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رؤي أنه يصب في موضع ماء، فيسئل عن ذلك. فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصب ههنا ماء» [رواه ابن بطة الحنبلي في (الإبانة) (73) بإسناد صحيح]، قال: أما على هذا فلا بأس. قال: ورخص فيه، ثم قال: ولكن قد أفرط الناس جداً، وأكثروا في هذا المعنى، فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده. رواهما الخلال في كتاب الأدب.
فقد فصل أبو عبد الله رحمه الله في المشاهد ـ وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين، من غير أن تكون مساجد لهم،
(1)(*) في البخاري (425) أن عتبان بن مالك (وكان قد عمي أو ساء بصره) سأل النبي ث أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مصلى.
كمواضع بالمدينة ـ بين القليل الذي لا يتخذونه عيداً، والكثير الذي يتخذونه عيداً، كما تقدم. وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة، فإنه قد روى البخاري في صحيحه، عن موسى بن عقبة قال:«رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق، ويصلي فيها، ويحدث أن أباه كان يصلي فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة» قال موسى: «وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة» [البخاري483] فهذا كما رخص فيه أحمد رضي الله عنه.
وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في سننه عن معرور بن سويد، عن عمر رضي الله عنه قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر بـ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} في الثانية، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال: ما هذا؟ قالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم: اتخذوا آثار أنبيائهم بِيَعَاً، من عرضت له منكم فيه الصلاة فلْيُصَلِّ، ومن لم تعرض له الصلاة فليمض» [أشار ابن حجر في (فتح الباري) أن ذلك ثابت عن عمر] فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي
- صلى الله عليه وسلم عيداً، وبيَّن أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا.
وفي رواية عنه: أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً، فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها. [صحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في (التوسل والوسيلة)]
وروى محمد بن وضاح وغيره: أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم لأن الناس كانوا يذهبون تحتها. فخاف عمر الفتنة عليهم. [صحح إسناده الحافظ ابن حجر]
وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان المشاهد: فقال محمد بن وضاح: كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة، ما عدا قباء وأُحُداً. ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتبع تلك الآثار، ولا الصلاة فيها. فهؤلاء كرهوها مطلقاً، لحديث عمر رضي الله عنه هذا، ولأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعياداً، وإلى التشبه بأهل
الكتاب، ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة، فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا غيرهم، من المهاجرين والأنصار، أنه كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي صلى الله عليه وسلم.
والصواب مع جمهور الصحابة، لأن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم تكون بطاعة أمره، وتكون في فعله، بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله، فإذا قصَدَ العبادة في مكان كان قصْد العبادة فيه متابعةً له، كقصد المشاعر والمساجد. وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول، أو غير ذلك، مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان، فإذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له، فإن الأعمال بالنيات.
فأما الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصد الصلاة أو الدعاء عندها، فقصد الصلاة فيها أو الدعاء سنة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعًا له، كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته، وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب ومثل هذا: ما خرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال: «كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الاسطوانة التي عند المصحف. فقلت له: يا أبا
مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الاسطوانة: قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها» [البخاري502، مسلم509] وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع: أنه كان يتحرى الصلاة موضع المصحف، يسبح فيه، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحرى ذلك المكان، وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة. [مسلم509]
وأما قصْد الصلاة في تلك البقاع التي صلى فيها اتفاقا، فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، يذهبون من المدينة إلى مكة حُجَّاجًا وعُمارًا ومسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحباً لكانوا إليه أسبق، فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} [أبو داود 4607، ابن ماجه42، المسند17076وصححه الألباني، ولفظة {(كل بدعة ضلالة) رواها مسلم867].وتحري هذا ليس من
سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي إذا خالفه نظيره، ليس بحجة، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟
أيضاً: فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما (1) نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس، وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان، سداً للذريعة. فكيف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه، أو صلاتهم فيه، من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟ ولو ساغ هذا لاستُحِبّ قَصْدُ جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه.
ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور، فإنه يقال: إن هذا مقام نبي، أو قبر نبي، أو وَلي، بخبر لا يعرف قائله، أو بمنام لا تعرف حقيقته، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجداً، فيصير وثناً يُعبد من دون الله تعالى. شركٌ مبنيٌّ على إفك! والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب، كما يقرن بين الصدق والإخلاص. قال
(1)(**) هكذا بالأصل، ولعلها: فيما.
تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [القصص:74 - 75] وقال تعالى عن الخليل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ} [الصافات:85 - 86] وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] وقال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر:1 - 3] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152] قال أبو قلابة: «هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة» . وهو كما قال؛ فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به.
والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا: كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد، كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب: كالرافضة (1) الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء، وأعظمهم شركاً، فلا يوجد في أهل الأهواء أَكْذَب منهم، ولا أبعد عن التوحيد منهم، حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجماعات والجُمُعات، ويعمرون المشاهد التي على القبور، التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها، والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد، فقال تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114] ولم يقل مشاهد الله وقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف29] ولم يقل عند كل مشهد.
وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] ولم يقل مشاهد الله. بل المشاهِد إنما يعمرها من يخشى غير الله ويرجو غير الله لا يعمرها إلا من فيه نوع من
(1)(*) الرافضة: الشيعة.
الشرك. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} [الجن:18] ولم يقل: وأن المشاهد لله. وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها، ولم يأمر ببناء مشهد، لا على قبر نبي، ولا غير قبر نبي، ولا على مقام نبي، ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام، لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر، ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا.
ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي، لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه.
واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي، وأظنه منصوصاً عنه، وقال أبو حنيفة: بل
يستقبل القبلة ويسلم عليه، هكذا في كتب أصحابه. وقال مالك (فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط، والقاضي عياض وغيرهما): «لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو، ولكن يسلم ويمضي» . وقال أيضاً في المبسوط: «لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج، أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي عليه، ويدعو لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما» . فقيل له: فإن ناساً من أهل المدينة لا يقدُمون من سفر ولا يريدونه، يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر عند القبر، فيسلمون ويدعون ساعة، فقال:«لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، ولا يُصلِح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلحَ أولَها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك. ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده» .
وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة، ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء له والتحية: كالصلاة والسلام. ويكرهون قصده للدعاء، والوقوف عنده للدعاء. وليس في أئمة المسلمين من استحب للمرء أن يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو عنده.
وقد علم أن مالكاً من أعلم الناس بمثل هذه الأمور، فإنه مقيم بالمدينة، يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم، ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين، وهو ينهى عن الوقوف عند القبر للدعاء، ويذكر أنه لم يفعله السلف.
وقد أجدب الناس على عهد عمر رضي الله عنه فاستسقى بالعباس رضي الله عنه. ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر استسقى بالعباس، وقال:«اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» ، فيُسْقَوْن. [البخاري1010] فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم، فيدعو لهم ويدعون معه، كالإمام والمأمومين، من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق، كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق، ولما مات صلى الله عليه وسلم توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به.
ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره يستسقى عنده ولا به. والعلماء استحبوا السلام على النبي صلى الله عليه وسلم للحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من أحد
يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» [أبو داود2041وحسنه الألباني] هذا مع ما في النسائي وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن لله ملائكة سياحين في الأرض يُبَلَّغوني عن أمتي السلام» [النسائي1281وصححه الألباني] وفي سنن أبي داود وغيره عنه، أنه قال:«أكثروا علي الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي» ، فقالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ـ أي بليت ـ فقال:«إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء» . [أبو داود1047وصححه الألباني]
فالصلاة عليه ـ بأبي هو وأمي ـ والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله. وقد ثبت في الصحيح أنه قال: «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشراً» . [مسلم408]
والمشروع لنا عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين، هو من جنس المشروع عند جنائزهم، فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له، فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور، أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم
لاحقون. ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم» [مسلم947، 975] فهذا دعاء خاص للميت.
فأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت، أو الإقسام به على الله أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة، فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة، لا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، وإنما حدث ذلك بعد ذلك.
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئاً، لا أهل الصحيح ولا السنن، ولا الأئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره. كقوله:«من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة» و «من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي» و «من حج ولم يزرني فقد جفاني» ونحو هذه الأحاديث، كلها مكذوبة موضوعة لكن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في زيارة القبور مطلقاً، بعد أن كان قد نهى عنها، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال:«نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» . [مسلم977] وفي
الصحيح عنه أنه قال: «استأذنتُ ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت» . [مسلم976] فهذه زيارة لأجل تذكرة الآخرة. ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك.
وقد استفاض عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .يحذر ما فعلوا. [البخاري436، 435، مسلم531] قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجداً. [البخاري1330، مسلم529] وفي الصحيح أنه ذكر له كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال:«أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» [البخاري426،مسلم528] وعن جندب بن عبد الله قال: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول: «إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك» [مسلم532]
وعنه أنه قال: «لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» [أبو داود2042وصححه الألباني] وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [المسند7352وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] وفي المسند عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن مِن شرار الناس مَنْ تدركهم الساعة وهم أحياء، ومَنْ يتخذ القبور مساجد» [المسند4143وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح]
ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ وكذلك عن أصحابه.
فهذا الذي ينهى عنه: من اتخاذ القبور مساجد، مفارق لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى، والدعاء لهم، فالزيارة المشروعة من جنس الثاني. والزيارة المبتدعة من جنس الأول، فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها، وعن قصد الصلاة عندها، وكلاهما منهي عنه، باتفاق العلماء. فإنهم قد
نهوا عن بناء المساجد على القبور، بل صرحوا بتحريم ذلك، كما دل عليه النص.
واتفقوا أيضاً على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور، ولم يقل أحد من أئمة المسلمين أن الصلاة عنده والدعاء عنده أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور. بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تُبْنَ على القبور، أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بُنِيَت على القبور، بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم. وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك، بل وبإبطال الصلاة فيها، وإن كان في هذا نزاع.
وقد قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين، كانوا في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، وصوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم. [البخاري4920]
فإذا كان صلى الله عليه وسلم: نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده
خالصاً عند القبور لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم، فكيف إذا وجد ما هو نوع الشرك من الرغبة إليهم، سواء طلب منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله تعالى؟ بل لو أقسم على الله ببعض خلقه، من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهى عن ذلك ولو لم يكن عند قبره، كما لا يقسم بمخلوق مطلقاً، وهذا القسم منهي عنه، غير منعقد باتفاق الأئمة. وهل هو نهي تحريم أو تنزيه؟ على قولين، أصحهما: أنه نهي تحريم. والقول الذي عليه جمهور الأئمة، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم: أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق البتة، ولا يقسم بمخلوق البتة. وهذا هو الصواب.
بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك، واتفقوا على أن الله يسأل، ويقسم عليه بأسمائه وصفاته، كما يقسم على غيره بذلك، كالأدعية المعروفة في السنن «اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، أنت الله المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام» . [ابن ماجه3858وقال الألباني: حسن صحيح] وفي الحديث الآخر «اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن