الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسجد، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وإنما قَصَدت أنهم خشوا أن الناس يصلون عند قبره، وكل موضع قُصِدَت الصلاة فيه فقد اتُّخِذ مسجداً، بل كل موضع يصلَّى فيه فإنه يسمى مسجداً وإن لم يكن هناك بناء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» . [البخاري335، مسلم523] وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام» [أبو داود492وصححه الألباني].
سبب كراهية الصلاة في المقبرة:
اعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة ليس إلا كونها مظنة النجاسة، لما يختلط بالتراب من صديد الموتى، وبنى على هذا الاعتقاد، الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة، وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل، أو لا يكون. ونجاسة الأرض مانع من الصلاة عليها، سواء كانت مقبرة أو لم تكن، لكن المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور ليس هو هذا. فإنه قد بين أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً، وقال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم
مساجد» يحذر ما فعلوا. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [المسند7352وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح] قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجداً» [البخاري1330، مسلم529]. وقال: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهى عن ذلك» . [مسلم532]
فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا. وقد نَبَّه هو صلى الله عليه وسلم على العلة بقوله: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» وبقوله: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فلا تتخذوها مساجد» وأولئك إنما كانوا يتخذون قبوراً لا نجاسة عندها. ولأنه قد روى مسلم في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا عليها» . [مسلم972، 528] وعن عائشة رضي الله عنهما أن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كنيسة، رأَيْنَها بأرض الحبشة، يقال لها: مارية، وذكرتا من حُسنها وتصاوير فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أولئك قوم إذا مات
فيهم العبد الصالح، أو الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل». [البخاري426، مسلم528]. فجمع بين التماثيل والقبور.
وأيضا فإن اللات كان سبب عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك، وقد ذكروا أن وداً، وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح سدد خطاكم. فروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى بن محمد بن قيس:{وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ؟ [نوح: 23] قال: «كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح سدد خطاكم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم. فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقَون المطر، فعبدوهم» ، قال قتادة وغيره:«كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح، ثم اتخذها العرب بعد ذلك» . [ابن جرير الطبري في التفسير (29/ 99) وإسناده صحيح]
وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي أوقعت كثيرا من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس
قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم للكواكب، ونحو ذلك. فإن يُشْرَك بقبر الرجل الذي يُعتقد نبوَّته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله. ولهذا نجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها، ويخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السَّحَر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال.
فهذه المفسدة ـ التي هي مفسدة الشرك، كبيره وصغيره ـ هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بَرَكة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بَرَكة المساجد الثلاثة، ونحو ذلك. كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس، واستوائها وغروبها لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها، فينهى المسلم عن الصلاة حينئذ ـ وإن لم يقصد ذلك ـ سدًا للذريعة.
فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء والصالحين، متبركاً بالصلاة في تلك البقعة، فهذا عين المحادّة لله
ورسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أن الصلاة عند القبر ـ أي قبر كان ـ لا فضل فيها لذلك، ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلاً، بل مزية شر.
واعلم أن تلك البقعة، وإن كانت قد تنزل عندها الملائكة والرحمة، ولها شرف وفضل، لكن دين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه. فإن النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم، وعبدوا تماثيلهم، واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم. والأمة الوسط، عرفوا مقاديرهم فلم يغلوا فيهم غلو النصارى، ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه:«لا تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» . [البخاري3445] فإذا قُدِّر أن الصلاة هناك توجب من الرحمة أكثر من الصلاة في غير تلك البقعة، كانت المفسدة الناشئة من الصلاة هناك تربي (1) على هذه المصلحة، حتى تغمرها أو تزيد عليها. بحيث تصير الصلاة هناك مُذهِبة لتلك الرحمة، ومُثْبِتة لما يوجب العذاب، ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد الناشئ من الصلاة عندها، فيكفيه
(1)(*) تربي: تزيد.
أن يقلد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لولا أن الصلاة عندها مما غلبت مفسدته على مصلحته لما نهى عنه كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، وعن صوم يومي العيدين. بل كما حرم الخمر، فإنه لولا أن فسادها غالب على ما فيها من المنفعة لما حرمها، وكذلك تحريم القطرة منها. ولولا غلبة الفساد فيها على الصلاح لما حرمها.
وليس على المؤمن، ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المصالح والمفاسد، وإنما عليه طاعتهم. قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ} [النساء:64] وقال: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء:80] وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم، وتوقيرهم ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والأهل والمال وإيثار طاعتهم ومتابعة سنتهم، ونحو ذلك من الحقوق التي مَن قام بها لم يَقُم بعبادتهم والإشراك بهم، كما أن عامة من يشرك بهم شركاً أكبر أو أصغر، يترك ما يجب عليه من طاعتهم، بقدر ما ابتدعه من الإشراك بهم.
وكذلك حقوق الصديقين المحبة والإجلال، ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة، وكان عليها سلف الأمة.