الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين، أشد.
3 -
أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهراً، بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين.
* هذا، إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شُعبة من شُعَب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم. فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له.
ذِكْر بعض ما دل، من الكتاب، والسنة، والإجماع، على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة
أولاً: الاستدلال بالقرآن على النهي عن التشبه بالكافرين:
1 -
قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ
رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:16 - 19]
* أخبر سبحانه، أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغياً من بعضهم على بعض. ثم جعل محمداً صلى الله عليه وسلم على شريعة شرعها له، وأمره بإتباعها، ونهاه عن إتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته.
* وأهواؤهم: هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه؛ ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويسرون به، ويودون أن لو بذلوا مالاً عظيماً ليحصل ذلك.
2 -
قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا
أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ * وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الجاثية:36، 37] فالضمير في أهوائهم، يعود ـ والله أعلم ـ إلى ما تقدم ذكره، وهم الأحزاب الذين ينكرون بعضه، فدخل في ذلك كل من أنكر شيئاً من القرآن: من يهودي، ونصراني، وغيرهما. وقد قال:{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ} ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم، اتباع لأهوائهم، بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك.
3 -
قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة:120] فانظر كيف قال في الخبر: {مِلَّتَهُمْ} وقال في النهي: {أَهْوَاءهُم} ؛ لأن القوم لا يرضون إلا بإتباع الملة مطلقاً، والزجر وقع عن إتباع أهوائهم في قليل أو كثير، ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين، نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه، أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه.
4 -
* قال غير واحد من السلف: «معناه: لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة، فيقولون: قد وافقونا في قبلتنا، فيوشك أن يوافقونا في ديننا، فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة، إذ الحجة: اسم لكل ما يحتج به من حق وباطل {إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
مِنْهُمْ} وهم قريش، فإنهم يقولون: عادوا إلى قبلتنا، فيوشك أن يعودوا إلى ديننا».
* فبًيَّن سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها، مخالفة الناس الكافرين في قبلتهم، ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل، ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة، فإن الكافر إذ اتُّبِعَ في شيء من أمره، كان له في الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة.
5 -
قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] وهم: اليهود والنصارى، الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر «أن أمته: ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة». [أبو داود 4596وقال الألباني: حسن صحيح]
6 -
قال سبحانه لموسى وهارون: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [يونس:89] وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ
الْمُفْسِدِينَ} [الاعراف:142] وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء:115] إلى غير ذلك من الآيات.
* وما هم عليه من الهدي والعمل، هو من سبيل غير المؤمنين، بل ومن سبيل المفسدين، والذين لا يعلمون.
7 -
قال سبحانه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49، 48] ومتابعتهم في هديهم، هي من إتباع ما يهوونه، أو مظنة لإتباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه.
8 -
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] قال قتادة
وغيره: «كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم» وقال أيضاً: «كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك يستهزؤن بذلك، وكانت في اليهود قبيحة» .
وروى أحمد عن عطية قال: «كان يأتي ناس من اليهود فيقولون: راعنا سمعك، حتى قالها ناس من المسلمين، فكره الله لهم ما قالت اليهود» .
وقال عطاء: «كانت لغة في الأنصار في الجاهلية» .
* فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهى المسلمون عن قولها، لأن اليهود كانوا يقولونها ـ وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة ـ لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار، وتطريقهم إلى بلوغ غرضهم. (1)
9 -
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159] ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم، وكانوا شيعا، كما قال سبحانه: {وَلَا تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن
(1)(*) تطريقهم: إفساح الطريق لهم ليبلغوا مرادهم من هذه الكلمة القبيحة.
بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4] وقال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:14] وقال عن اليهود: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة:64] وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء.
* ومن تابع غيره في بعض أموره، فهو منه في ذلك الأمر؛ لأن قول القائل: أنا من هذا، وهذا مني، أي أنا من نوعه وهو من نوعي؛ لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع، كما في قوله تعالى:{بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} [آل عمران:159]، فقول القائل: لستُ من هذا في شيء، أي لستُ مشاركاً له في شيء، بل أنا متبرئٌ من جميع أموره.
* وإذا كان الله قد برأ رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع أمورهم، فمن كان متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة كان متبرئاً كتبرئه، ومن كان موافقاً لهم كان مخالفاً للرسول بقدر موافقته لهم، فإن الشخصين المختلفَين من
كل وجه في دينهما، كلما شابهتَ أحدَهما خالفْتَ الآخر.
10 -
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال سبحانه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ} [المجادلة:22] وقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56،55] ونظائر هذا في غير موضع من القرآن: يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقاً ـ الذين هم حزبه وجنده ـ ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين، ولا يوادُّونهم.
* والموالاة والموادة: وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومبايَنَتِهم.
* ومشاركتهم في الظاهر: إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً، أو
بعيداً إلى نوع ما من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة المباينة، مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة ـ كما توجبه الطبيعة، وتدل عليه العادة ـ ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات.
* فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت لعمر رضي الله عنه: «إن لي كاتباً نصرانياً» ، قال:«مالك؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً؟» قال: قلت: «يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه» ، قال:«لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدْنِيهم إذ أقصاهم الله» . [رواه ابن أبي شيبة والبيهقي بسند حسن]
11 -
* فقوله: ولا يكونوا مثلهم، نهي مطلق عن مشابهتهم، هو خاص ـ أيضاً ـ في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم، وقسوة