الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيت بعض أصدقائه ودعا الله، لم يكن بهذا بأس.
ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب، أو كنيسة، يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة، لكان هذا من العظائم، بل لو قصد بيتاً، أو حانوتاً في السوق، أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها، يرجو الإجابة بالدعاء عندها، لكان هذا من المنكرات المحرمة. إذ ليس للدعاء عندها فضل. فقصد القبور للدعاء عندها، من هذا الباب، بل هو أشد من بعضه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذها مساجد، واتخاذها عيداً، وعن الصلاة عندها، بخلاف كثير من هذه المواضع.
حديث الاستعانة بأهل القبور كذب
ما يرويه بعض الناس من أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور» أو نحو هذا، فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء والذي يبين ذلك أمور:
أحدها: أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تُتَّخَذ ذريعة إلى نوع من الشرك بالعكوف عليها، وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة.
ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة، فيدعو لاستجلاب خير كالاستسقاء، أو لرفع شر ـ كالاستنصار ـ حاله في افتتانه بالقبور ـ إذا رجا الإجابة عندها ـ أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية، فإن أكثر المصلين في حال العافية، لا تكاد قلوبهم تُفتَن بذلك إلا قليلاً، أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جداً. فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهي عن الصلاة متحققة في حال هؤلاء، كان نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد. وهذا واضح لمن فقه في دين الله، وتبين له ما جاءت به الحنيفية من الدين الخالص لله، وعلم كمال سنة إمام المتقين في تجريد التوحيد، ونفي الشك بكل طريق.
الثاني: أن قصد القبور للدعاء عندها، ورجاء الإجابة بالدعاء هنالك رجاءً أكثر من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن ـ أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء، ولا الصالحين المتقدمين، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات، ودهمتهم
نوائب غير ذلك، فهلا جاؤوا فاستسقوا واستغاثوا، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به (1)، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلاً، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من جهالهم. فلا يخلو: إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة، أو لا يكون. فإن كان أفضل لم يَجُز أن يخفى علم هذا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم، ويعلمه من بعدهم.
ولم يَجُز أن يعلموا ما فيه من الفضل العظيم ويزهدوا فيه، مع حرصهم على كل خير، لا سيما الدعاء، فإن المضطر يتشبث بكل سبب، وإن كان فيه نوع كراهة، فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور، ثم لا يقصدونه؟ هذا محال طبعاً وشرعاً.
(1)(*) أي استسقى بدعاء العباس كما سيُبَيّن شيخ الإسلام.
وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل، كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية، كما لو تحرى الدعاء وقصَدَه عند سائر البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها، من شطوط الأنهار، ومغارس الأشجار وحوانيت الأسواق، وجوانب الطرقات، وما لا يحصي عدده إلا الله.
وهذا الدليل قد دل عليه كتاب الله في غير موضع، مثل قوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} [الشورى:21] فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر ولا وجوبه فمن شرعه فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرَك بالله ما لم ينزل به سلطاناً، لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره. ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله ما لا يعلم.
وما أحسن قوله تعالى: {مَا لَم يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} لئلا يحتج
بالمقاييس والحكايات.
ومثل هذا قوله تعالى في حكايته عن الخليل: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:80 - 83] فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر يُخَوّفُون المخلصين بشفعائهم فيقال لهم: نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم، فإنهم خلق من خلق الله، لا يضرون إلا بعد مشيئة الله، فمن مسه بضر فلا كاشف له إلا هو، ومن أصابه برحمة فلا راد لفضله وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله، وقد أحدثتم في دينه من الشرك ما لم ينزل به وحيا من السماء، فأي الفريقين أحق بالأمن: من كان لا يخاف إلا الله، ولم يبتدع في دينه شركاء، أو من ابتدع في دينه شركاّ بغير إذنه؟ بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك
فهؤلاء من المهتدين.
وهذه الحجة المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم.
اعتقاد المبطلين استجابة الدعاء عند القبور جعَلها تُقصَد وهذا هو ما نهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم:اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله، قد أوجب أن تُنْتَاب (1) لذلك وتقصد، وربما اجتمع عندها اجتماعات كثيرة، في مواسم معينة، وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«لا تجعلوا قبري عيداً» . [أبو داود2042، وصححه الألبانى] وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [مسلم530] وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تتخذوا القبور مساجد؛ فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» [مسلم532] حتى إن بعض القبور يجتمع عندها في يوم من السنة ويسافر إليها: إما في المحرم، أو رجب، أو شعبان، أو ذي الحجة، أو غيرها. وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء، وبعضها في يوم عرفة، وبعضها في النصف من شعبان، وبعضها في وقت آخر، بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه، ويجتمع
(1)(**) انتابهم: أتاهم مرة بعد أخرى.
عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى، في أيام معلومة من السنة، أو كما يُقصَد مُصَلَّى المَصْر يوم العيدين، بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد.
ومنها ما يسافر إليه من الأمصار، في وقت معين أو في وقت غير معين، لقصد الدعاء عنده، والعبادة هناك، كما يقصد بيت الله لذلك، حتى أن بعضهم يسميه الحج ويقول: نريد الحج إلى قبر فلان وفلان.
وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه، إلا أن يكون خلافا حادثا.
ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع.
وفي الجملة: هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «لا تجعلوا قبري عيداً» فإن اعتياد قصد المكان المعين، وفي وقت معين، عائد بعود السنة أو الشهر، أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد. ثم ينهى عن دِقّ ذلك وجُلِّه. ويكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجئ بها السنة. فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين؟.
ويدخل في هذا: ما يفعل بمصر، عند قبر نفيسة وغيرها. وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنه قبر علي رضي الله عنه، وقبر الحسين، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي. وقبر موسى بن جعفر، ومحمد بن علي الجواد ببغداد. وعند قبر أحمد بن حنبل، ومعروف الكرخي. وغيرهما وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي. وكان يفعل نحو ذلك بِحرّان، عند قبر يسمى قبر الأنصاري، إلى قبور كثيرة، في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها. كما أنهم بنوا على كثير منها مساجد وبعضها مغصوب، كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم.
وهؤلاء الفضلاء من الأئمة، إنما ينبغي محبتهم واتباعهم، وإحياء ما أحيوه من الدين، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان، ونحو ذلك.
فأما اتخاذ قبورهم أعيادا، فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين، أو الاجتماع العام عندها في وقت معين، هو اتخاذها عيداً، كما تقدم. ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا. ولا يُغْتر بكثرة العادات الفاسدة، فإن هذا من