الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح، وإن كان التارك له قد يكون معذوراً لاجتهاده، بل قد يكون صِدِّيقاً عظيماً، فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحاً، وعمله كله سنة، إذ كان يكون بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني: في ذم المواسم والأعياد المحدثة: ما تشتمل عليه من الفساد في الدين
.
اعلم أنه ليس كل أحد، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة، بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد. والواجب على الخلق: اتباع الكتاب والسنة، وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة، فننبه على بعض مفاسدها. فمن ذلك:
1 -
أن من أحدث عملاً في يوم، كإحداث صوم أول خميس من رجب، والصلاة في ليلة تلك الجمعة، التي يسميها الجاهلون صلاة الغائب مثلا. وما يتبع ذلك، من إحداث أطعمة وزينة، وتوسيع في النفقة، ونحو ذلك. فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب. وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله،
وأن الصوم فيه مستحب استحباباً زائداً على الخميس الذي قبله وبعده مثلاً، وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من الجُمَع، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجُمَع خصوصاً، وسائر الليالي عموماً، إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة، فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع.
ومن قال: إن الصلاة أو الصوم في هذه الليلة كغيرها، هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا أخصها، فلا بد أن يكون باعثه: إما موافقة غيره، وإما اتباع العادة، وإما خوف اللوم له، ونحو ذلك، وإلا فهو كاذب. فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك الاعتقاد الفاسد، أو باعثاً آخر غير ديني، وذلك الاعتقاد ضلال. فإنا قد علمنا يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة، لم يذكروا في فضل هذا اليوم والليلة ولا في فضل صومه بخصوصه، وفضل قيامها بخصوصها حرفاً واحداً. وأن الحديث المأثور فيها موضوع، وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة، ولا يجوز ـ والحال هذه ـ أن يكون لها فضل؛ لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا أصحابه ولا التابعون، ولا سائر الأئمة، امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله ما لم يعلَمْه النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة، والتابعون وسائر الأئمة.
وإن علموه امتنع ـ مع توفر دواعيهم على العمل الصالح، وتعليم الخلق، والنصيحة لهم ـ أن لا يُعْلِموا أحداً بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم. فإذا كان هذا الفضل المدَّعَى، مستلزماً لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله، أو لكتمانهم وتَرْكهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم أن لا يكتموه ولا يتركوه، وكل واحد من اللازمين مُنْتَفٍ: إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع ـ عُلِمَ انتفاء الملزوم، وهو الفضل المدَّعَى.
2 -
هذا العمل المبتدع مستلزم: إما لاعتقادٍٍ هو ضلالٌ في الدين، أو عملِ دين لغير الله سبحانه، والتدين بالاعتقادات الفاسدة، أو التدين لغير الله لا يجوز.
فهذه البدع ـ وأمثالها ـ مستلزمة قطعاً، أو ظاهراً لفعل ما لا يجوز. فأقل أحوال المستلزم ـ إن لم يكن محرماً ـ أن يكون مكروهاً، وهذا المعنى سارٍٍ في سائر البدع المحدثة. ثم هذا الاعتقاد يتبعه
أحوال في القلب: من التعظيم، والإجلال، وتلك الأحوال أيضاً باطلة، ليست من دين الله.
ولو فُرِض أن الرجل قد يقول: أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال، والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد، ولو أنه توَهَّمَ أو ظَنَّ أن هذا أمر ضروري، فإن النفس لو خلَتْ عن الشعور بفضل الشيء امتنع مع ذلك أن تعظمه، ولكن قد تقوم بها خواطر متقابلة: فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة، يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه. ومن حيث شعوره بما رُوِى فيه ـ أو بفعل الناس له، أو بأن فلاناً وفلاناً فعلوه، أو بما يظهر له فيه من المنفعة ـ يقوم بقلبه عظمته. فعلمتَ أن فعل هذه البدع يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاءوا به عن الله. وأنها تورث القلب نفاقاً، ولو كان نفاقاً خفيفاً.
ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل، أو عبد الله بن أبي، لرياسته وماله ونسبه، وإحسانه إليهم، وسلطانه عليهم، فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه، أو أمر بإهانته أو قتله، فمن لم يخلص إيمانه،
وإلا يبقى في قلبه منازعة بين طاعة الرسول، التابعة لاعتقاده الصحيح، واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة.
فمن تدبر هذا، علم يقيناً ما في حشو البدع من السموم المُضْعِفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر.
* وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع، من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع ـ إذا جاز أن يتوهم لها مزية ـ كالصلاة عند القبور، أو الذبح عند الأصنام، ونحو ذلك، وإن لم يكن الفاعل معتقداً للمزية، لكن نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية، فكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود، فرفع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضاً.
شبهة: إن قيل: هذا يعارضه أن هذه المواسم ـ مثلاً ـ فعلها قوم من أولي العلم والفضل، الصديقين فمن دونهم، وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه: من طهارة قلبه ورقته، وزوال آصار الذنوب عنه، وإجابة دعائه، ونحو ذلك، مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام. كقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:10، 9] وقوله صلى الله عليه وسلم: «
الصلاة نور» [مسلم223] ونحو ذلك.
الرد: 1 - لا ريب أن من فعلها متأولاً مجتهداً أو مقلداً كان له أجرٌ على حسن قصده، وعلى عمله، من حيث ما فيه من المشروع، وكان ما فيه من المبتدَع مغفوراً له، إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين، وكذلك ما ذُكِر فيها من الفوائد كلها، إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه: كالصوم والذكر، والقراءة، والركوع، والسجود، وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه. وما اشتملت عليه من المكروه، انتفى موجبه بعفو الله عنه، لاجتهاد صاحبها أو تقليده، وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة.
لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها، والاعتياض عنها بالمشروع، الذي لا بدعة فيه، كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك، بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضاً فوائد، وذلك لأنه لابد أن تشتمل عبادتهم على نوع ما، مشروع في جنسه، كما أن أقوالهم لابد أن تشتمل على صدق ما، مأثور عن الأنبياء. ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم، أو نروي
كلماتهم؛ لأن جميع المبتدعات لابد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير؛ إذ لو كان خيرها راجحاً لما أهملتها الشريعة. فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها، وذلك هو الموجب للنهي.
وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض، لاجتهاد أو غيره، كما يزول إثم النبيذ والربا المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف، ثم مع ذلك يجب بيان حالها، وأن لا يقتدي بمن استحلها، وأن لا يقصر في طلب العلم المبيِّن لحقيقتها. وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع مشتملة على مفاسد اعتقادية، أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة.
2 -
إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين فقد تركها في زمان هؤلاء، معتقداً لكراهتها، وأنكرها قومٌ ـ إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها ـ فليسوا دونهم. ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله والرسول. وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها، لا مع من رخص فيها. ثم عامة المتقدمين، الذين هم
أفضل من المتأخرين، مع هؤلاء.
3 -
ما فيها من المنفعة، يعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة.
منها: مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية:
أ- أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيراً من العامة يحافظ عليها، ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس.
ب- أن الخاصة والعامة، تنقص ـ بسببها ـ عنايتهم بالفرائض والسنن، ورغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها، ويُخْلِص ويُنيب، ويفعل فيها ما لا يفعله في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد. وإن لم يَفُتْه هذا كلُّه، فلابد أن يفوته كماله.
جـ- ما في ذلك من مصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
وجهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشار زرع الجاهلية.
د - اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل: تأخير الفطور، وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة، والمبادرة إلى تعجيلها، والسجود بعد السلام لغير سهو، وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل لها، إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته، وسلمت سريرته.
هـ- مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر، فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله:«ما ترك أحد شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه» ، ثم هذا مظنة لغيره، فينسلخ القلب عن حقيقة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه، أو يكاد، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين، النوع الذي فيه مشابهة، والنوع الذي لا مشابهة فيه.