الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إجابته السابقة، وقرر القاضي السير في الدعوى وسماع البينة باعتبار المدعى عليه ناكلًا عن الجواب بعد إنذاره وإصراره على جوابه السابق.
الحكم وأسبابه:
لقد أنهى القاضي هذه القضية بحكم مبين الأسباب، جاء فيه:
وبعد دراسة القضية وتأملها، وبما أَنَّه قد ثبت إدانة المتوفى - زوج المدعية- بمبلغ ستين ألف ريال للمدعية حسب إقراره في السند
…
والذي أكد قرارُ أهل الخبرة صِحَّتَه، وأَن المتوفى هو الكاتب لهذا السند صلبًا وتوقيعًا، وبما أنَّ ذمة المتوفى شغلت بهذا الدين، فيبقى في ذمته اسْتِصْحَابًا لأصل شغل الذمة حتَّى ثبوت العكس، ولم يثبت ذلك؛ لأَنَّ دفع المدعية بأَنَّ إقرارها لوالدة الميت بالاستلام كان دفعًا لِلَّائِمة عنها -أي نفيًا للحرج عنها -، وهي في الحقيقة لم تستلم- دفعٌ مقبول؛ لأَنَّها ذكرت أَنَّ زوجها المتوفى هو الذي طلب منها الإقرار بالاستلام لوالدته، وطمأنتها، ففعلت وهي لم تستلم؛ لأَن للوالدة إرادة غالبة يترجح أَنَّها هي التي دفعت الابن للإلحاح على زوجته بطمأنة والدته والإقرار بالاستلام وهي لم تستلم (1)، وهذه قرائن حالية تؤيد دفع المدعية المشار إليه آنفًا، ولا
(1) يقول الشَّيخ محمَّد بن إبراهيم في فتوى في الطلاق: "للأم على أبنائها إرادة غالبة". [فتاوى ورسائل 11/ 14].
يعارض هذا إقرار المدعية بالاستلام؛ لأَنَّه إذا قويت القرائن قُدِّمت على الاعتراف كما في قضيتنا هذه، وبرهان ذلك: ما أخرجه الإمامان البُخاريّ ومسلم -واللفظ له- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنتِ، وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، وقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل - يرحمك الله- هو ابنها، فقضى به للصغرى"(1)، قال ابن القَيِّمِ - كما في الطرق الحكمية [ص 6]-:"فإنَّه حكم به لها مع قولها: وهو ابنها، وهذا هو الحق؛ فإن الإقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه أبدًا".
وقد ترجم الإمام النسائي على هذا الحديث تراجم عدة، منها ما قاله بنَصِّه:"الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبيّن للحاكم أن الحق غير ما اعترف به"(2)، قال ابن القَيِّمِ في الطرق الحكمية [ص 6]- معلقًا على ذلك-:"فهكذا يكون الفهم عن الله ورسوله"، كما علق ابن القَيِّمِ على هذه الترجمة في إعلام الموقعين [4/ 371] بقوله:"وهذا هو العلم استنباطًا ودليلًا"، وجاء في
(1) سبق تخريجه.
(2)
السنن الكبرى 3/ 473.
مختصر الفتاوى المصرية [ص 608]: "ولا تقبل الدعوى بما يناقض إقراره إلَّا أَنْ يذكر شبهة تجري بها العادة"، وبما أَنَّ اختلاف أقوال المدعية في سبب الدين بين ثمن الأرض أَوْ القرض لا يوجب ردّ دعواها؛ لأَنَّها ذكرت أنها غلطت في الأولى والصَّحِيح أنه قرض (1)، وبما أَنَّ ثبوت الدين بموجب ورقة كتبت بيد المتوفى صلبًا وتوقيعًا، وليس هناك شبهة في ثبوته، وبما أَنَّ دفع المدعية- بأَنَّ الثلاثين ألف ريال التي استلمتها بشيك باسم ابنها من زوج سابق لعلاج الابن (فيصل) الذي هو ابنها من زوجها المتوفى، وصرفتها في ذلك- هو دفعٌ راجح؛ لأَنَّ الشيك باسم ابنها من زوجها السابق وليس باسمها، ولو أرادت إنكار استلامها لهذا المبلغ لما لزمها مما يرجح صدقها، كما أَنَّ الابن (فيصلًا) مريض حسب إقرار المدعى عليه، كل ذلك قرائن حالية تؤيد ما دفعت به المدعية، والأصل أَنَّها مؤتمنة، والقول قولها بيمينها في إنفاقها.
لذلك كله ولأَنَّ الناكل عن الجواب تسمع عليه البينة فقد قضيت بثبوت مبلغ ستين ألف ريال للمدعية على الميت
…
تستوفى من التركة عند قسمتها وعليها اليمين بأَنَّ المبلغ المدعى به لا زال في ذمة المتوفى لم تستلم منه شيئًا أَوْ تتنازل عنه، وأَنَّ الثلاثين ألف ريال التي استلمتها بموجب الشيك إنَّما هي لعلاج ابنها (فيصل) وليست
(1) قوله الخصم عند التناقض: "غلطت في الأولى" صَحِيح ومعتدٌّ به، وتلغو الأولى، وتَصِحُّ الثَّانية. [الكشاف 6/ 344، شرح المنتهى 3/ 483].