الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرض لأحداث القضية مع الحكم فيها:
الوقائع:
تتلخَّص وقائع هذه الدعوى بادّعاء المدعي بأَنَّه باع على المدعى عليه مزرعة وصفها وحدَّدها بثمن قدره واحد وستون مليونًا وسبعمائة وستة عشر ألف ريـ 61.716.000 ـال، وأَنَّه أفرغ هذا البيع لدى الدائرة المختصة- أي: وَثَّقَه له- ولم يسلم له الثمن، ويطلب إلزام المدعى عليه بتسليم الثمن المذكور.
وقد أجاب المدعى عليه بأَنَّه لم يشتر المزرعة المذكورة من المدَّعي، وطلب رد الدعوى، وأضاف في دفوعه بأَنَّ المزرعة رهن له في دين على والد المدعي، وأَنَّها أُفْرِغَتْ بيعًا صوريًّا توثيقًا لتلك الديون.
الحكم وأسبابه:
لقد فَصَلَ القاضي في هذه الواقعة بحُكْمٍ مُبَيَّن الأسباب.
جاء فيه: إنَّه بدراسة القضية وتأملها، وبما أَنَّ الطرفين قد تصادقا على إفراغ المزرعة الموصوفة في الدعوى من المدعي إلى المدعى عليه، وهذا يوافق ما في الصَّكّ الصادر من كتابة عدل
…
برقم
…
وتاريخ
…
وقد جاء في صَكّ الإفراغ آنف الذكر: أَنَّ الثمن واحد وستون مليونًا وسبعمائة وستة عشر ألفَ ريالٍ سُلِّمَتْ عدًّا ونقدًا، وأَنَّ المبيع سُلِّمَ بحدوده لوكيل المشتري، وقد تصادق الطرفان على أَنَّ المزرعة لم تُسَلَّم لموكل المدعى عليه حتى الآن، وأَنَّ الثمن لم يقبض، وبما أَنَّ المدعى عليه قد دفع بصوريَّة العقد، وأَنّه لم يقع بيع ولا شراء حقيقةً، وأَنَّ ما حصل من إفراغ إنَّما هو رهن للمزرعة، وبما أَنَّ دفع المدعى عليه هذا يؤيده تصادق الطرفين على عدم قبض الثمن المذكور مع كثرته، وهذا أَمْر تُبْعِده العادة؛ إذ يَبْعُد عادةً أن يُقِرَّ شخص باستلام مبلغ كثير جدًّا وهو واحد وستون مليونًا وسبعمائة وستة عشر ألفَ ريالٍ عدًّا ونقدًا وهو لم يستلمه ويكون العقد حقيقة، وما أحالته العادة أَوْ أبعدته فهو مردود؛ يقول ابن عبد السلام في قواعده [2/ 125]:"القاعدة في الأخبار والدعاوى والشهادات والأقارير وغيرها: أَنَّ ما كذبه العقل أَوْ جوَّزه، وأحالته العادة فهو مردود، وأَمَّا ما أبعدته العادة من غير إحالة فله رُتَبٌ في البعد والقرب قد يختلف فيها، فما كان أبعد وقوعًا فهو أولى بالرَّدِّ، وما كان أقرب وقوعًا فهو أولى بالقبول، وبينهما رتب متفاوتة".
ينضاف إلى ذلك: أَنَّ المزرعة لا زالت في يد المدعي منذ
الإفراغ بتاريخ 13/ 11/ 1414 هـ وحتى الآن في 2/ 2/ 1418 هـ حسب إقرارهما، وأَنَّ للتعامل الذي دفع به المدعى عليه أصلًا، وذلك حسب ما قَدَّم من الورقتين؛ إحداهما: معنونة باسم "محضر
اتفاق تسوية حسابات الأسهم"، والثانية: الخطاب الموجه من والد المدعي إلى المدعى عليه، وقد تضمن الخطاب ذِكْرَ رَهْنِ المزرعة موضع الدعوى للمدعى عليه، فكل ذلك قرائن مؤيدة لما دفع به المدعى عليه من أَنَّ حقيقة التعاقد رَهْنٌ لا بَيْعٌ، وتلجئة العقود يثبت بالقرينة كما ذكره فقهاؤنا [الكشاف 3/ 150]، ولا يعارض هذا إفادةُ الغرفة التجارية، والتي قَدَّمَها المدعي متضمنة: أَنّه قد يحدث أحيانًا أن يُفْرَغ العقار ويُقَرّ باستلام الثمن وهو لم يُسْتَلم؛ لأَنَّ ما يحدث أحيانًا لا يُعتدّ به، ولا يُخِلُّ بالقاعدة - كما سبق بيانه من كلام العزّ ابن عبد السلام-، كما لا يعارض ما قررته من أَنَّ صَكّ المزرعة باسم المدعي والديون المرهونة بها مستحقة على والده، ذلك بأَنَّ للإنسان أَنْ يرهن ماله في دين على غيره كما ذكره فقهاؤنا [الاختيارات 133]، والمدعي قد فعل ذلك، فقد أفرغ المزرعة لدى كاتب العدل حسب الإفراغ آنف الذكر، وكان ذلك برضاه واختياره، فهو رهن منه لهذه المزرعة برضاه واختياره، لما أسلفت من قرينة، كما لا يعارض ما قررته من أَنَّ المدعى عليه قد أقر بواسطة وكيله قبوله لهذا الإفراغ لدى كاتب العدل -كما في صَكّ الإفراغ -؛ لأنَّ الإقرار إذا شهدت قرينة قوية بِرَدّه لم يعمل به، برهان ذلك: ما أخرجه البخاري ومسلم- واللفظ له- في صَحِيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه
لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنكِ أنتِ، وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنكِ أنتِ، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان بن داود- عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أَشُقُّه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل- يرحمك الله- هو ابنها، فقضى به للصغرى" (1)، قال ابن القَيِّمِ في الطرق الحكمية [ص 6]- بعد أن ساق الخبر-: "فأيُّ شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة، فاستدَلَّ برضا الكبرى بذلك، وأَنَّها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فَقْدِ ولدها، وبشفقة الصغرى عليه وامتناعها من الرضا بذلك- على أَنَّها هي أُمّه، وأَنَّ الحامل لها على الامتناع ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأُمّ، وقويت هذه القرينة عنده حتى قَدَّمها على إقرارها، فإنَّه حكم به لها مع قولها:"هو ابنها"، وهذا هو الحق؛ فإنَّ الإقرار إذا كان لعلة اطّلَع عليها الحاكم لم يلتفت إليه، ولذلك ألغينا إقرار المريض مرض الموت بمال لوارثه؛ لانعقاد سبب التهمة، واعتمادًا على قرينة الحال في قصده تخصيصه".
وممن خرَّج الحديث السابق -أيضًا- الإمامُ النسائي، وقد ترجم عليه عدة تراجم، منها قوله:"الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أَنَّ الحق في غير ما اعترف به"(2)، قال
(1) سبق تخريجه.
(2)
السنن الكبرى 3/ 473.