المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌باب الصيد مقدمة الصيد: مصدر صاد يصيد صيدًا، فهو صائد، وقد أطلق - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٧

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌باب الصيد مقدمة الصيد: مصدر صاد يصيد صيدًا، فهو صائد، وقد أطلق

‌باب الصيد

مقدمة

الصيد: مصدر صاد يصيد صيدًا، فهو صائد، وقد أطلق المصدر على اسم المفعول، فعومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيدة كقوله تعالى:{لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} و {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 95 - 96].

وتعريفه شرعًا: الصيد: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعًا، غير مملوك، ولا مقدور عليه.

وهو مباح بالكتاب، والسنَّة، والإجماع، والقياس:

قال تعالي: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 95 - 96].

والأحاديث كثيرة، ومنها ما في البخاري (2322)، ومسلم (1575) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتخذ كلبًا -إلَاّ كلب صيدٍ، أو زرعٍ، أو ماشيةٍ- انتقص من أجره كل يوم قيراط".

وقد أجمع العلماء على حله، وإباحة أكله، ويقتضيه القياس الصحيح.

قال في شرع الإقناع: والصيد أفضل مأكول؛ لأنَّه حلال لا شبهة فيه.

وقال أيضًا: الزراعة أفضل مكتسب؛ لأنَّها أقرب إلى التوكل من غيرها، وأقرب للحل، ومنها عمل اليد، والنفع العام للآدمي، والدواب.

وقيل: التجارة أفضل المكاسب، وأفضلها التجارة في البز والعطر، وأبغضها التجارة في رقيقٍ، وصَرْفٍ؛ للشبهة.

ص: 31

ويُسن التكسب، ومعرفة أحكامه؛ قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15].

فالأخذ بالأسباب المباحة المشروعة من التوكل.

ولا يُعتَقد أنَّ الرزق من الكسب، بل هو من الله، بواسطة أسبابه التي هدانا الله تعالى إليها.

ويُشترط لحلِّ الصيد أربعة شروط:

أحدها: أهلية الصَّائد، وهو الَّذي تحل ذبيحته.

الثاني: الآلة، وهي نوعان:

إمَّا آلة حادة، أو سهم يخرق الجلد.

والنوع الثاني: الجارح المعلَّم؛ كالكلب، والصقر.

الثالث: إرسال الآلة قاصدًا للصيد؛ فلا يحل إنْ استرسل بنفسه.

الرَّابع: قول الصائد: "باسم الله" عند إرسال جارحه، أو سهمه؛ فلا يُباح ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى من عالِمٍ عامد.

***

ص: 32

1161 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا -إِلَاّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، أَوْ صَيْدٍ، أوْ زَرْعٍ- انْتُقِصَ مِنْ أَجْرِهِ كلَّ يَوْمٍ قِيراطٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ماشية: الماشية اسم يقع على الإبل، والبقر، والغنم، وأكثر ما تستعمل في الغنم، ويُجمع على مواشٍ.

- أو: من حروف العطف، ولها فيه معان كثيرة، أحدها: التنوع، وهو المراد هنا.

- قِيراط: القيراط: معيار في الوزن، اختلفت مقاديره باختلاف الأزمنة، وهو الآن وزن أربع قمحات، وفي القياس جزء من أربعة وعشرين جزءًا، ولكنه في مثل هذه النصوص أمرٌ مجهول المقدار، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من تبع جنازة مسلم، وكان معها حتَّى يفرغ من دفنها، فإنَّه يرجع بقيراطين: كل قيراط مثل جبل أُحُد".

قيراط: مرفوع على أنَّه نائب فاعل.

- الكلب: حيوانٌ أهليٌّ، من الفصيلة الكلبية، من رتبة اللواحم، جمعه كلاب وأكلب.

قال الدميري: الكلب حيوان ليس سبُعًا، ولا بهيمة، فهو من الخلق المركَّب؛ لأنَّه لو تمَّ له طباع السبعية، ما ألف النَّاس، ولو تمَّ له طباع البهيمة، ما أكل لحم الحيوان، وهو نوعان: أهلي، وسلوقي؛ نسبة إلى

(1) البخاري (2322)، مسلم (1575).

ص: 33

أسلوق وهي مدينة باليمن تنسب إليها الكلاب السلوقية، وكذا النوعين في الطبع سواء.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

جاء في البخاري (172)، ومسلم (279) من حديث أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً، إحداهنَّ بالتراب" فهذا يدل على أنَّ نجاسة الكلب نجاسة مغلَّظة لشدَّة قذارته.

2 -

حديث الباب يدل على تحريم اقتنائه، واتخاذه.

فقد روى مسلم (2113) من حديث أبي هريرة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصحب الملائكة رفقةً فيها كلبٌ أو جرس".

3 -

ويدل الحديث على نقص أجر مقتني الكلب كل يوم قيراطًا من الأجر، وهو قدرٌ عظيم قرَّبه النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى الأفهام في بعض الأحاديث بأنَّه مثل الجبل العظيم: جبل أُحُد.

4 -

اكتُشفت بالمكبرات الحديثة أنَّ في لعاب الكلب ميكروبات معدية فتاكة؛ ولذا صارت نجاسته مغلظة، فلا يطهر ما أصابته إلَاّ بغسله سبع مرَّات، إحداهن بالتراب الَّذي يحمل قوَّة الإنقاء والتطهير.

5 -

قال الأستاذ عفيف طبارة: ومن حِكَم الإِسلام وقاية الأبدان من نجاسة الكلاب، وهذه معجزة علمية للإسلام، سبق بها الطب الحديث الَّذي أثبت أنَّ الكلاب تنقل كثيرًا من الأمراض إلى الإنسان.

قال الدكتور الألماني (كوسموس): إنَّ زيادة شغف النَّاس باقتناء الكلاب في هذا العهد الأخير، يضطرنا إلى لفت الأنظار للأخطار التي تنجم عن ذلك، وخاصَّة إذا دفع اقتناؤها إلى مداعبتها وتقبيلها، والسماح لها بلمس أيدي أصحابها، وتركها تلعق فضلات الطعام من أوانيها.

ص: 34

فكل ما ذكر مع نبوّه عن الذوق السليم، فإنَّه لا يتفق ومبادىء الصحة، فإنَّ الأخطار التي تهدد صحة الإنسان وحياته بسبب هذا التسامح ممَّا لا يستهان بها؛ فإنَّ الكلاب تصاب بدودة شريطية تتعدَّاها إلى الإنسان بمرض عُضال، قد تصل إلى حد العدوان على حياته.

وقد ثبت أنَّ جميع أجناس الكلاب حتَّى أصغرها حجمًا لا تسلم من الإصابة بهذه الديدان الشريطية.

6 -

استثني من تحريم اقتناء الكلب ثلاث حالات:

إحداها: الكلب الَّذي يحرس الماشية من السباع، كالذئاب، ويحرسها من اللصوص.

الثانية: الكلب الَّذي يعد لحراسة المزارع، لاسيما مزارع الأطراف والضواحي، التي يخشى على أهلها، وعلى مواشيهم، وثمارهم، وزروعهم من اللصوص والسباع.

الثالثة: الكلب المعد للصيد، الَّذي سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

فاقتناء الكلاب واتخاذها لواحدةٍ من هذه الحالات الثلاثة مباح، ومستثنى من التحريم.

7 -

قال العلماء: حكمة التحريم في بقاء الكلب في البيت واقتنائه، هو ما يسبب من ترويع النَّاس، وامتناع دخول الملائكة في بيتٍ فيه كلب، وما فيه من النجاسة والقذارة.

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء هل اقتناؤه واتخاذه لغير حاجة، محرم، أو مكروه؟

فذهب الإمامان الشَّافعي وأحمد: إلى أنَّ اقتناءه محرَّم لما جاء من الأحاديث الصحيحة من شدَّة نجاسته، وعدم دخول الملائكة بيتًا هو فيه، ونقص الثواب والأجر باقتنائه لغير حاجة.

ص: 35

قال في المجموع: وحكى الروياني عن أبي حنيفة جوازه.

قال النووي: ويجوز اقتناء الكلب للصيد أو الزرع أو الماشية بلا خلاف.

وأمَّا اقتناؤه لحفظ الدور والدواب فوجهان مشهوران:

أحدهما: لا يجوز؛ للخبر.

الثاني: يجوز؛ لأنَّه لحفظ مال، فأشبه الزرع والماشية.

واختلف العلماء في جواز بيع الكلب:

فذهب الإمامان الشَّافعي وأحمد: إلى بطلانه، وأنَّه لا يجوز؛ لما جاء في البخاري (5346)، ومسلم (1567) من حديث أبي مسعود عقبة بن عامر قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن". وغيره من الأحاديث.

وقال بتحريم بيعه وبطلانه كل من: الحسن البصري، وربيعة، وحماد، والأوزاعي، وداود.

وذهب أبو حنيفة: إلى جواز بيع الكلاب كلها، وأخذ ثمنها، وضمانها على من أتلفها.

واختلف أصحاب مالك: فبعضهم أجاز بيع الكلب المأذون في إمساكه، وبعضهم قال: لا يجوز.

واحتج من أجاز بيعه بما أخرجه مسلم (1569) من حديث جابر قال: "زجر النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب والسنور"، ولأنَّه يُباح الانتفاع به، ويصح نقل اليد فيه، والوصية به، فصح بيعه؛ كالحمار.

وممَّن أجاز بيعه من السلف: جابر بن عبد الله، وعطاء، والنخعي.

***

ص: 36

1162 -

وعَنْ عَدِيِّ بنِ حاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا، فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ ادْرَكْتَهُ قَدْ قُتِلَ وَلَمْ يأكلْ مِنْهُ، فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ تَعَالَى، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلَاّ أثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا في المَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ (1).

1163 -

وَعَنْ عَدِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْ صَيْدِ المِعْرَاضِ فَقَالَ: "إِذَا أصَبْتَ بِحَدِّهِ، فَكُلْ، وَإِذَا أصَبْتَ بِعَرْضِهِ فَقَتَلَ، فَإِنَّهُ وَقِيذٌ؛ فَلَا تأْكُلْ" رواهُ البُخاريُّ (2).

ــ

* مفردات الحديث:

- المِعْرَاض: بكسر الميم، وسكون العين المهملة، ثمَّ ألف، بعدها ضاد معجمة، وهو عصا في طرفه حديدة يرمي بها الصائد، فما أصاب بحده، يؤكل، وما أصاب بغير طرفه الحاد فهو وقيذٌ لا يؤكل.

- حدّه: حدّ كل شيءٍ: طرفه الرقيق الدقيق الحاد.

- عَرضه: العرض بفتح العين المهملة، وسكون الراء: جانب الشيء، وناحيته.

(1) البخاري (5484)، مسلم (1929).

(2)

البخاري (5476).

ص: 37

- وقيذ: بفتح الواو، وكسر القاف المثنَّاة، وذال معجمة، بزنة عظيم، والموقوذة: هي المضروبة بمثقل من عصا، ونحوه، حتَّى يموت.

- السهم: واحد النبل، وهو نصل يُرمى به من القوس، جمعه أسهم وسهام.

***

ص: 38

1164 -

وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ، فغَابَ عَنْكَ، فَأَدْرَكتَهُ، فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ" أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ما لم يُنتن: بضم الياء، وفتحها، وكسر التاء، من أنتن الرباعي، ومعناه: ما لم تتغير رائحته، وتخبث.

* ما يؤخذ من الأحاديث الثلاثة:

1 -

إباحة صيد الكلب المعلَّم للصيد؛ قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} أي: وأحل الله لكم صيد ما علَّمتم من الجوارح، وهي الكواسب من الكلاب ونحوها.

قال القرطبي: "إنَّ الكلب إذا لم يأكل من صيده الَّذي صاده، وذُكر اسم الله عند إرساله، فإنَّ صيده مباح، يؤكل بلا خلاف.

2 -

لا يحل صيد الكلب وغيره من الجوارح إلَاّ بعد التعليم؛ قال تعالى: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} أي: مؤدبين لهذه الجوارح، ومعلمين لهنَّ ممَّا خلقه الله فيكم من العقل، الَّذي تهتدون به إلى تدريبها وتعليمها، حتَّى تصير قابلة لإمساك الصيد.

3 -

قال في نيل المآرب: الثاني من شروط حل الصيد: أنْ يكون الجارح معلَّمًا، وتعليم الكلب ونحوه من السباع يكون بثلاثة أشياء:

(أ) إذا أرسل استرسل.

(1) مسلم (1931).

ص: 39

(ب) إذا زُجر انزجر.

(ج) إذا أمسك لم يأكل.

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: قال بعض الأصحاب: التعليم ما يُعَدّ بالعرف تعليمًا، وهو أقرب لظاهر الآية، ولسهولة الأمر.

4 -

لا يحل الصيد ما لم يذكر اسم الله تعالى عند إرسال الجارح؛ قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} .

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذَا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه"[رواه مسلم (1929)].

فإنْ تَرَك التسمية عمدًا، فمذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: أنَّها لا تحل.

وذهب الشافعي: إلى أنَّها سنَّة، وليست بواجبة، وهي رواية عن أحمد.

وإنْ ترك التسمية ناسيًا، أبيح صيده، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وغيرهم.

5 -

قوله: "إذا أرسلت كلبك" مفهوم الشرط أنَّ غير المرسَل ممَّا يسترسل بنفسه لا يحل صيده، وهو قول جمهور العلماء.

ذلك أنَّه صاد لنفسه، ولم يصد لمقتنيه؛ فإنَّ حقيقة التعليم هو أنْ يكون بحيث يرسل فيقصد الصيد، ويزجر فيكف عنه.

6 -

قوله: "فأدركته حيًّا، فاذبحه" فهذا دليل على وجوب تذكية الصيد إذا وجد حيًّا، فإنَّه لا يحل إلَاّ بالتذكية، وهذا بإجماع العلماء.

قال النووي: وإنْ أدركه وفيه بقية من حياة، فإنْ كان قد قطع حلقومه أو مريئه أو جرح أمعاءه أو أخرج حشوته، فيحل بلا ذكاة إجماعًا.

7 -

قوله: "وإنْ أدركته قد قتل، فَكُلْهُ" وأصرح من هذه الرواية ما جاء في البخاري (5484) ومسلم (1929) أيضًا من حديث عدي بن حاتم قوله

ص: 40

-صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك، قلت: وإنْ قتلن؟ قال: وإنْ قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها".

قال المجد: وهو دليل على الإباحة، سواءً قتله الكلب جرحًا، أو خنقًا.

وما قاله المجد رحمه الله رواية عن الإِمام أحمد، اختارها ابن حامد، وابن الجوزي، وهي ظاهر كلام الخرقي، وهو قول للإمام الشافعي.

أمَّا المشهور من المذهب فعبارة شرح الإقناع وغيره وهي: "ولابد أنْ يجرح ذو المخلب الصيد، فإنْ قتله بصدمه أو خنقه لم يبح، لأنَّه قتله بغير جرح".

8 -

قوله: "فإنْ أمسك عليك" وجاء هذا المعنى صريحًا بما في البخاري (5484) ومسلم (1929) من حديث عدي: "فإنِّي أخاف أنْ يكون إنَّما أمسك على نفسه".

وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} .

فهذه تدل على أنَّ الجارح إذا أمسك لنفسه لا يحل ما صاد، ما لم يُدرك وبه حياة مستقرَّة، فيذكى ذكاة شرعية، ويدخل تحت قوله تعالى:{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} .

قال في شرح الإقناع: وإن استرسل الكلب أو غيره بنفسه، فقتل صيدًا لم يحل؛ لأَنَّ إرسال الجارح جعل بمنزلة الذبح، فالفصد في إرسال الجارح شرط حل الصيد.

9 -

قوله: "ولم يأكل منه فَكُلْه" وجاء في إحدى روايات البخاري (5484)، مسلم (1929):"إذا أرسلت كلابك المعلَّمة، وذكرت اسم الله فكل، إلَاّ أنْ يأكل الكلب فلا تأكل، فإنِّي أخاف أنْ يكون إنَّما أمسك على نفسه".

إنَّ إرادة الجارح الصيد لمقتنيه أمرٌ مقصود لحل صيده، ولا يعلم عن هذا إلَاّ بدلالة تصرفه، فإنْ أكل منه علمنا أنَّه لم يقصد الصيد لمرسله، وإنَّما

ص: 41

صاد لنفسه، وإنْ لم يأكل دلَّنا ذلك على أنَّه قصد بصيده مقتنيه، فهذا ما تشير إليه هذه النصوص وغيرها. وإلى عدم حل ما أكل منه ذهب العلماء.

قال الوزير: واشترط جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد ترك الأكل، ولم يشترطه مالك.

10 -

قوله: "وإنْ وجدت مع كلبك كلبًا غيره، وقد قُتل فلا تأكل، فإنَّك لا تدري أيهما قتله". الأصل في هذا أنه إذا اجتمع مبيحٌ وحاظر غُلِّب جانب الحظر؛ لأنَّ الأصل التحريم.

قال في شرح الإقناع: وإن وجد مع كلبه كلبًا آخر، ولا يعلم أي الكلبين قتله، أو علم أنَّهما قتلاه معًا، أو علم أنَّ الكلب المجهول هو القاتل للصيد وحده، لم يبحٍ الصيد؛ تغليبًا للحظر؛ لأنَّه الأصل.

11 -

قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} دليل على أنَّ جميع الجوارح من السباع والطيور كلها يباح صيدها، فالكواسب: كالكلب، والفهد، والأسد، والنمر، والطير: كالصقر، والشاهين، والبازي، والعقاب، وإنَّما جاء ذكر الكلب في الأحاديث؛ لأنَّه الغالب؛ ولأنَّه أسرع وأقبل من غيره للتعليم والتأديب.

على أنَّ لفظ الكلب لغةً يشمل جميع السباع، قال صلى الله عليه وسلم:"اللهم سلِّط عليه كلبًا من كلابك، فأكله الأسد"[رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 338)].

قال في شرح الإقناع: "الجوارح نوعان: أحدها ما يصيد بنابه: كالكلب، والفهد، والثاني من الجوارح، ذو المخلب: كالبازي، والصقر.

12 -

قوله في الحديث رقم (1163) "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المِعْراض

إلخ" فهذا يدل على أنَّ المعراض هو سهمٌ لا ريش له ولا نصلَ، إن قتل الصيد بحده فهذا قد مضى في جسمه وجرحه فهو مباح، وأمَّا إنْ قتل بعرضه فهذا قتل بصدمه وثقله، فإنَّه لا يحل، وهو الوقيذة،

ص: 42

التي قال الله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي المضروبة، فلا تحل إلَاّ إذا تركت حيَّة، وذكيت ذكاة شرعية.

فقد روى الإِمام أحمد عن عدي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! إنَّا قومٌ نرمي فما يحل لنا؟ قال: "يحل لكم ما ذكرتم اسم الله عليه، وخزقتم؛ فكلوا منه".

قال المجد في المنتقى: وهو دليلٌ على أنَّ ما قتله السهم بثقله لا يحل.

قال في شرح الإقناع: وإنْ صاد بالمعراض، أكل ما قتل بحده، دون عرضه، وكذا سهم، ورمح، وسيف، وسكين، يضرب به صفحًا فيقتل، فأكله حرام؛ لأنَّ القتل إنَّما يكون بثقله لا بحده.

13 -

تحريم صيد السهم ونحوه بعرضه، هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة.

وذهب بعض أهل الشَّام، ومنهم مكحول، والأوزاعي: إلى حله، ووجه الاختلاف اختلافهم في أصل المسألة، فالمقتولة بعرض السهم ونحوه وقيذة؛ لأنَّها قُتِلت بثقل السلاح، لا بحدِّه، والكتاب والسنَّة يحرمان الموقوذة، وهما أصلا التشريع.

أمَّا الأصل الذي بني عليه المخالفون، فهو أنَّ قتل الصيد بالسهم عقر، على أي صفة قتل عليها، والعَقْر حلال، على أي نوعٍ حصل به القتل.

والقول الأوَّل أولى وأحوط.

14 -

قوله: "وإنْ رميت بسهمك

إلخ" فإذا رمى الصيد بسهمه ثمَّ غاب عنه، ولكنَّه لم يجد فيه أثرًا قاتلاً إلَاّ سهمه، فإنَّه يحل أكله.

ومفهومه أنَّه إنْ وجد أثرًا آخر يصلح أنْ يكون مات منه، فإنَّه لا يحل؛ لأنَّه اجتمع مبيح وحاظر، فيغلَّب جانب الحظر.

ومن ذلك: لو رماه فوجده في الماء غريقًا؛ فإنه لا يعلم هل مات من

ص: 43

السهم، أو من الغرق؟ فيغلب جانب الغرق، ولا يحل. لكن لو رماه وسقط من رميته في الماء، فأخذه، فإنه حلال؛ لأنَّه سقط في الماء من رميته، ولا يوجد وقت يحتمل أنَّه غرق فيه.

15 -

قوله: "فكله ما لم ينتن" المنتن: هو ما تغير طعمه، ولا يكون إلَاّ بعد فساده، وإذا فسد، ذهب نفعه، وصار مضرًّا؛ ففيه دليل على كراهة أكل النتن.

قال في شرح الإقناع: ويكره أكل لحم منتن؛ ذكره جماعة.

وقد جاء في صحيح مسلم (1931) من حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رميت بسهمك، فغاب عنك، فأدركته، فكل ما لم يُنتن".

***

ص: 44