المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الأيمان مقدمة الأيمان: بفتح الهمزة، جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة: - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٧

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌ ‌كتاب الأيمان مقدمة الأيمان: بفتح الهمزة، جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة:

‌كتاب الأيمان

مقدمة

الأيمان: بفتح الهمزة، جمع يمين، وأصل اليمين في اللغة: اليد، وأطلقت على الحَلِف؛ لأنَّهم كانوا إذا تحالفوا، أخذ كل واحدٍ يمين صاحبه.

واليمين شرعًا: هي توكيد الأمر المحلوف عليه، بذكر معظَّم على وجه مخصوص.

واليمين أنواع كالآتي:

1 -

ما يجري على لسان المتكلِّم بدون قصد؛ كـ"والله" و"بلى والله" و"تالله"، فهذا لغو.

2 -

إذا حلف على أمرٍ ماض يظن صدق نفسه، فبان بخلافه، فهو لغو.

3 -

إذا حلف على أمرٍ ماض كاذبًا عالمًا، فهذه هي اليمين الغموس، وهذه الثلاث لا كفارة فيها.

4 -

إذا حلف على أمرٍ مستقبل قاصدًا لليمين، فهذه هي اليمين التي فيها الكفَّارة بشروطها الآتية:

(أ) أنْ يكون الحالف مكلَّفًا.

(ب) كونه مختارًا للحلف.

(ج) كونه قاصدًا لليمين؛ فلا تنعقد بما يجري على لسانه.

ص: 105

(د) أنْ يكون على أمرٍ مستقبل، فلا كفَّارة على ماضٍ كاذبًا عالمًا به، وهي الغموس.

(هـ) أنْ يحنث في يمينه بفعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله.

***

ص: 106

1185 -

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّه أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّاب في رَكْبٍ، وَعُمَرُ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا، فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، أوْ لِيَصْمُتْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

وَفِي رِوَايَةٍ لأبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مَرْفُوعًا: "لَا تَحْلِفُوا بِآبائكُمْ، وَلَا بِأُمَّهَاتِكُمْ، وَلَا بِالأَنْدَادِ، وَلَا تَحْلِفُوا إلَاّ بالله، وَلَا تَحْلِفُوا بِاللهِ إِلَاّ وَأَنْتُمْ صَادِقُونَ"(2).

ــ

* درجة الحديث:

رواية أبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه ذكرها ابن حجر في الفتح في زيادات الباب؛ فهي صحيحة، أو حسنة على قاعدته التي نصَّ عليها في مقدمة الفتح.

* مفردات الحديث:

- الأنداد: جمع ند، بكسر النون، وهو مثل الشيء الَّذي يضاده في أموره، وينادّه، أي: يخالفه، ويراد به هنا الأصنام التي يتخذونها آلهةً من دون الله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

اليمين هي القسم بألفاظ مخصوصة لتأكيد الحكم المحلوف عليه بذكِر مُعَظَّمٍ على وجه مخصوص، والحالف إذا أراد تأكيد أمرٍ من الأمور نفيًا أو

(1) البخاري (6646)، مسلم (1646).

(2)

أبو داود (3248)، النسائي (7/ 5).

ص: 107

إثباتًا، أكَّده بالحلف بأعظم ما عنده من معظَّم، فما زال النَّاس منذ أقدم الأزمان يعتقدون أنَّ المحلوف به له تسلطٌ على الحالف يقدر على نفعه وضرِّه بالأسباب الطبيعية، وبما فوق الأسباب الطبيعية، فإذا أوفى الحالف بما حلف، يرضى المحلوف به، وينفعه، وإنْ لم يرض، يضره، ومن هذا صار الحلف بغير الله تعالى أو بغير صفاته شركًا بالله تعالى.

2 -

وفي الحديث وجوب الحلف بالله تعالى لمن أراد اليمين.

فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف باللهِ كاذبًا أحب إليَّ من أنْ أحلف بغيره صادقًا".

قال شيخ الإِسلام: لأنَّ حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك؛ قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48].

وقال الماوردي: لا يجوز لأحدٍ أنْ يحلف بغير الله تعالى، لا بطلاقٍ، ولا عتاق، ولا نذر.

والأحاديث واضحةٌ في الدلالة على التحريم.

ومنها ما أخرجه أبو داود (3251) والحاكم (1/ 65) من حديث ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر".

3 -

ويحرم الحلف بالبراءة من الإِسلام، أو من الدِّين، أو هو يهودي، أو نصراني، ونحوه؛ لما أخرجه أبو داود (3258) والنسائي (3772) بإسنادٍ على شرط مسلم، من حديث بريدة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف فقال: إنِّي بريء من الإِسلام، فإنْ كان كاذبًا فهو كما قال، وإنْ كان صادقًا فلن يرجع إلى الإِسلام سالمًا".

4 -

وإذا كان الحلف بالآباء منهيًّا عنه ومحرمًا، فالحلف بالأنداد، وهي الأصنام، أشد تحريمًا، وأعظم عقوبة.

ص: 108

5 -

وفي الحديث النَّهي عن الحلف بالله تعالى كاذبًا، فإنَّه اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في نار جهنَّم، فقد جاء في صحيح البخاري (6675) أنَّ أعرابيًّا قال: يا رسول الله! ما الكبائر؟ فذكر أشياء، وقال:"واليمين الغموس".

***

ص: 109

1186 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُكَ علَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ".

وَفِي رِوَايَةٍ: "اليَمِينُ عَلَى نِيَّةِ المُسْتَحْلِفِ" أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

اليمين في الدعاوى تكون على صفة دعوى المدعي، أو جواب المدعى عليه، فإذا حلَّف القاضي المدعى عليه بطلب المدعي، خلَّى سبيله بعد تحليفه إيَّاه، وانقطعت الخصومة؛ لأنَّ اليمين تقطع الخصومة، وإنْ كانت بجانب المدعي، استحق بها ما ادعاه.

2 -

الحديث يدل على أن اليمين المطلوبة من الحالف في الدعاوى يجب أنْ تكون على نية المستحلف، ولا ينفع فيها نية الحالف إذا نوى بها غير ما أظهر، وهذا بإجماع العلماء.

قال في شرح الإقناع: وتكون يمين الحالف على صفة جوابه لخصمه، فلا يصلها بما لا يفهم.

كما تحرم التورية، والتأويل فيها.

3 -

الحاصل أنَّ القاضي إذا حلَّف من توجهت عليه اليمين في الدعاوى، فإنَّ اليمين تكون على نية المستحلف، ولا تكون على نية الحالف، فيما لو حلف ونوى بها غير ما أظهر، وأنَّه لا ينفعه تأويله، وتوريته.

4 -

قال النووي: وأمَّا إِذَا حلف بغير استحلاف القاضي، وورَّى، فتنفعه التورية ولا يحنث، سواءً حلف ابتداءً من غير تحليف، أو حلَّفه غير القاضي، وغير نائبة في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف -بكسر اللام- غير القاضي.

(1) مسلم (1653).

ص: 110

1187 -

وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا حَلَفْتَ علَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَائْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ".

وَفِي رِوَايةٍ لأبِي دَاوُدَ: "فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، ثم ائْتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ" وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

رواية أبي داود إسنادها صحيح، كما قال المؤلِّف.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحلف على أمرٍ مستقبل يريد الحالف تحقيق فعله أو تركه، لا يخلو من أمور:

فإنْ حلف على فعل واجب، أو حلف على ترك محرَّم، حرم حنثه، ووجب بره بقسمه.

وأمَّا إنْ حلف على فعل محرم، أو ترك واجب، وجب حنثه، وحرم بره.

2 -

وأمَّا إنْ حلف على فعل مندوبٍ، أو ترك مكروه، فهنا يكره حنثه؛ لما يترتب على بره من الثواب الحاصل بفعل المندوب، وترك المكروه.

وأمَّا إنْ حلف على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فهذا هو ما أشار إليه حديث الباب من أنَّ المستحب أنْ يحنث، فيترك المكروه أو يفعل

(1) البخاري (6622، 6722)، مسلم (1652)، أبو داود (3278).

ص: 111

المندوب، ويكفِّر عن يمينه، وهذا هو معنى قوله:"وإذا حلفت على يمينٍ، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمينك، وائت الَّذي هو خير".

3 -

قال في الروض المربع وحاشيته:

ويشترط لوجوب الكفَّارة إذا حلف بالله ثلاثة شروط:

الأوَّل: أنْ يَقصد الحالف عقدها على أمرٍ مستقبل ممكن، فإنْ حلف على أمرٍ ماضٍ كاذبًا فهي اليمين الغموس.

وإنْ كانت ممَّا يجري على لسانه بغير قصدٍ ولو في الزمن المستقبل فلغو اليمين، ولا كفَّارة فيه؛ للآية.

الثاني: أنْ يحلف مختارًا لليمين، فإنْ حلف مكرهًا، لم تنعقد يمينه.

الثالث: أنْ يحنث في يمينه بأنْ يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، مختارًا، ذاكرًا ليمينه، حَنِثَ، وعليه الكفَّارة.

4 -

قال الوزير: أجمعوا على أنَّ اليمين المعتمدة المنعقدة هو أنْ يحلف بالله تعالى على أمرٍ في المستقبل أنْ يفعله، أو لا يفعله، وإذا حنث، وجبت عليه الكفَّارة؛ لأنَّ العقد إنَّما يكون في المستقبل دون الماضي.

قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89].

***

ص: 112

1188 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَرْبَعَةُ، وصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال المصنِّف: رواه الإِمام أحمد، والأربعة، وصحَّحه ابن حبان، ونقل المناوي عن ابن حجر، أنَّ رجاله ثقات، وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير.

قال الترمذي: لا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السختياني.

قال ابن عليه: كان أيوب يرفعه تارة، ولا يرفعه تارة.

قال البيهقي: لا يصح رفعه إلَاّ عن أيوب، مع أنَّه شكَّ فيه.

قال الحاكم: صحيح إسناده، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن دقيق العيد، ورجَّح الزيلعي والصنعاني صحَّة رفعه.

* مفردات الحديث:

- حِنْث: بكسر الحاء، وسكون النون، بعدها شاء مثلَّثة، هو عدم الوفاء باليمين. هذا معناه هنا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

يدل الحديث على أنَّ الحالف على يمين تدخلها الكفَّارة إذا استثنى بيمينه فقال: إنْ شاء الله لأفعلنَّ كذا، أو إنْ شاء الله لأتركنَّ كذا، أنَّه لا يحنث في

(1) أحمد (2/ 10)، أبو داود (3261)، الترمذي (1531)، النسائي (7/ 25)، ابن ماجة (2105)، ابن حبان (1184).

ص: 113

يمينه إنْ فعل المحلوف عليه، أو تركه.

2 -

يشترط لذلك ثلاثة شروط:

الأوَّل: أنْ يقصد تعليق المحلوف عليه على مشيئة الله تعالى وإرادته، ولم يقصد مجرَّد التبرك، أو سبق لسانه بلا قصد.

الثاني: أنْ يتصل الاستثناء بيمينه لفظًا أو حكمًا، بأنْ لا يقطعه إلَاّ نحو سعال، أو عطاس، أو تثاؤب، أو قيء، ونحو ذلك.

الثالث: أنْ يستثني لفظًا ونطقاً؛ فلا ينفعه، ولا يكفيه أنْ يستثني بقلبه.

3 -

مثل الاستثناء في اليمين يصح -أيضًا- الاستثناء في الطلاق، والظهار، والنَّذر، والإقرار؛ فإنَّ الاستثناء فيه ينفع بشروطه: من القصد، والنطق، والاتصال.

4 -

قال في شرح الإقناع: ولا يستحب تكرار الحلف، فإنْ أفرط كره، لقوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)} [القلم: 10]، وهذا ذمٌّ، ولأنَّه لا يكاد يخلو من الكذب، وعُلِمَ أنَّه لا كراهة في الحلف مع عدم الإفراط؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم حلف في غير حديث.

5 -

وقال أيضًا: وإنْ دُعِيَ إلى الحلف عند الحاكم، وهو محقٌّ، استُحِبَّ له افتداء يمينه، فإنْ حلف فلا بأس؛ لأنَّه حلف صادقًا على حقٍّ.

***

ص: 114

1189 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا، وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).

1190 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يارَسُولَ اللهِ! مَا الْكَبائِرُ؟

" فَذَكَرَ الحَدِيثَ، وَفِيهِ: "الْيَمِينُ الغَمُوسُ" وفيه: قُلْتُ: "وَمَا اليَمِينُ الغَمُوسُ؟ " قَالَ: "الَّتي يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (2).

ــ

* مفردات الحديث:

- الكبائر: جمع كبيرة، والمراد بها كبائر الذنوب، وفواحشها.

- الغَموس: بفتح الغين المعجمة، سميت غموسًا؛ لأنَّها تغمس صاحبها في النَّار.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

اليمين الغموس: هي اليمين على شيءٍ ماضٍ عالمًا كاذبًا في يمينه، سُمِّيت غموسًا؛ لأنَّها تغمس الحالف بها في الإثم، ثمَّ في النَّار.

2 -

حديث الباب من أدلَّة تحريم اليمين الغموس، وأنَّها من كبائر الذنوب، ويزيد إثمها، ويعظم خطرها، حينما يقتطع بها الحالف مال امرئٍ مسلمٍ، وهو كاذب.

(1) البخاري (6628).

(2)

البخاري (6920).

ص: 115

3 -

اليمين الغموس لا كفَّارة فيها؛ لأنَّها أعظم من أنْ تمحو ذنبها الكفَّارة، وهو مذهب جمهور العلماء، لما روى البيهقي عن ابن مسعود قال:"كُنَّا نعد اليمين التي لا كفَّارة فيها اليمين الغموس".

وهي من الكبائر؛ للخبر، ويجب المبادرة بالتوبة النصوح بأنْ لا يعود إليها.

4 -

أمَّا الحديث رقم (1189) فيدل على القسم الَّذي كان صلى الله عليه وسلم يقسم به، ويواظب عليه، وهو "لا ومقلِّب القلوب" والمراد بتقليب القلوب هو تقليب أغراضها وأحوالها، لا تقليب ذات القلب،

قال الرَّاغب الأصفهاني: تقليب الله القلوب والبصائر هو صرفها عن رأيٍ إلى رأيٍ آخر، قال تعالى:{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} [النحل: 46].

قال ابن العربي: القلب جزءٌ من البدن خلقه الله، وجعله للإنسان محل العلم والكلام.

5 -

أقسم النَّبي صلى الله عليه وسلم بعدة صيغ؛ منها: "لا، ومصرِّف القلوب"، "ورب الكعبة"، "والَّذي نفس محمد بيده"، وإذا اجتهد قال:"والَّذي نفس أبي القاسم بيده" وغيرها من الصيغ، وكلها جاءت بأحاديث صالحة، والله أعلم.

***

ص: 116

1191 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "في قولهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} قَالَتْ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَبلَى وَاللهِ" أخْرَجَهُ البُخَارِيُّ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح موقوفًا؛ كما أخرجه البخاري.

قال ابن حجر في الفتح عن رواية أبي داود المرفوعة: إنَّ أبا داود أشار إلى أنه اختلف على عطاء، وعلى إبراهيم في رفعه ووقفه. اهـ.

ورجَّح ابن القيم وقفه على عائشة رضي الله عنها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] فسَّرت عائشة رضي الله عنها لغو اليمين هنا: بأنَّه ما يتردَّد على ألسنة النَّاس أثناء المحادثة عن قولهم: لا والله، وبلى والله، ممَّا يجري على اللسان، ولا يقصده الجنان؛ وهذا التفسير هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة.

أمَّا أبو حنيفة: فجعل لغو اليمين المذكور في الآية هو حلف الإنسان على أمرٍ ماضٍ، يظنه كما قال، وهو خلاف ما ظن؛ قال ابن المنذر: وهو قول أكثر العلماء.

2 -

وذهب الإِمام أحمد في المشهور من مذهبه: إلى أنَّ لغو اليمين يراد به النوعان السَّابقان كلاهما.

قال في الروض وحاشيته: وكذا يمين عقدها يظن صدق نفسه، فبان

(1) البخاري (6663)، أبو داود (3254).

ص: 117

خلافه، فلغو غير منعقدة، ولا كفَّارة فيهاة لقوله تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي: لا يعاقبكم، ولا يلزمكم كفَّارة بما صدر منكم من الأيمان التي لا يقصدها الحالف.

وقال الشيخ تقي الدِّين: وكذا لو عقدها ظانًّا صِدْقه، فلم يكن، كمن حلف على غيره يظن أنَّه يطيعه، فلم يفعل.

***

ص: 118

1192 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وتسْعِينَ اسْمًا مَنْ احْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّة" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَسَاقَ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ الأسْمَاءَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ سَرْدَهَا إِدْرَاجٌ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث في الصحيحين، وزيادة الترمذي مدرجة.

قال ابن حبان: إنَّ زيادة الترمذي مدرجة، وبهذا قال كلٌّ من ابن حزمٍ، وأبي بكر بن العربي، وابن عطية، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، وغيرهم.

قال الصنعاني: اتفق الحفَّاظ من أئمة الحديث أنَّ سردها إدراجٌ من بعض الرواة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

ساق المؤلِّف -رحمه الله تعالى- هذا الحديث لبيان أنَّ أسماء الله الحسني التي يجوز الحلف بها، ويجوز القسم بأي واحدٍ منها، وانعقاده بها.

قال فقهاؤنا: فاليمين التي تجب بها الكفارة إذا حنث فيها هي اليمين بالله تعالى، والرحمن الرحيم، أو بصفة من صفاته تعالى؛ كوجه الله تعالى، وعظمته، وجلاله، وعزته.

قال الوزير وغيره: اتفقوا على أنَّ اليمين بالله تعالى منعقدة بأسماء الله الحسنى؛ كالرحمن، والرحيم، والحي، وغيرها.

(1) البخاري (2736)، مسلم (2677)، الترمذي (3507)، ابن حبان (808).

ص: 119

2 -

الحلف بغير الله تعالى، وصفاته محرَّمٌ، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من كان حالفًا، فليحلف بالله، أو ليصمت"[رواه البخاري (6108) ومسلم (1646)].

قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذبًا أحبُّ إليَّ من أنْ أحلف بغيره صادقًا".

قال شيخ الإِسلام: لأنَّ حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.

3 -

جاءت أسماء الله تعالى التسعة والتسعون في سنن الترمذي، وفي صحيح ابن حبان، ولكن اتفق الأئمة والحفاظ على أنَّ سردها ليس مرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وإنَّما هو مدرجٌ من بعض الرواة.

قال شيخ الإِسلام: اتفق أهل المعرفة بالحديث أنْ تعيينها ليس من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم.

قال أبو الوفاء محمد درويش: وأسماء الله تعالى كثيرةٌ، منها ما نزَّله في كتبه وعلَّمه رسله وأنبياءه، ومنها ما استأثر بعلمه؛ لأنَّ عقول البشر أعجز من أن تدرك معناه، أو تحيط بمكنون أسراره، ويدل على هذا ما رواه الإِمام أحمد (3704) عن ابن مسعود عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَسْأَلك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أو اسْتَأْثَرْتَ بهِ فِي عِلْمِ الغَيْب عِنْدَكَ".

قال النَووي: اتَّفق العُلَمَاءُ عَلَى أنَّ الحديث ليس فيه حصرٌ لأسمائه تعالى، وليس معناه أنه ليس له تعالى أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنَّما المقصود منه أنَّ هذه التسعة والتسعين اسمًا، مَنْ أَحْصاها دخل الجنَّة.

4 -

قوله: "منْ أحصاها دخل الجنَّة" المراد بإحصائها هو حفظها، والإيمان بها، وبمقتضاها، والعمل بمدلولاتها.

5 -

قال ابن بطال: طرق العمل بها: أنَّ ما كان يسوغ الاقتداء به كالرحيم

ص: 120

والكريم، فيمرِّن العبد نفسه، على أنَّه يصح له الاتصاف بالرحمة والكرم الَّلائقة به، وما كان يختص بالله جلَّ وعلا كالجبَّار والعظيم، فعلى العبد الإقرار بها، والخضوع لها، وعدم التحلي بصفةٍ منها، وما كان فيه معنى الوعد يقف فيه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه الوعيد يقف منه عند الخشية والرهبة.

ويؤكِّد هذا أنَّ حفظها لفظًا من دون عملٍ واتصاف، كحفظ القرآن من دون عمل؛ كما جاء في الحديث:"يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"[رواه البخاري (3166) ومسلم (1063)].

6 -

وهذه الأسماء لما لم يصح تعيينها، وعددها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف العلماء فيها اختلافًا كبيرًا.

وبعضهم تتبعها من الكتاب والسنَّة، ومنهم الشيخ أبو الوفاء محمد درويش في كتابه "الأسماء الحسنى".

7 -

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله تعالى-: في "توحيد الأنبياء والمرسلين": وأتباعهم يعترفون، ويتبعون كل صفة للرحمن وردت في الكتب الإلهية، وثبتت في النصوص النبوية، يعرفون معناها ويعقلونها بقلوبهم، ويتعبدون الله تعالى بعلمها واعتقادها، ويعملون بما تقتضيه، وذلك من الأحوال القلبية، والمعارف الربانية.

- فأوصاف العظمة، والكبرياء، والمجد، والجلال، تملأ قلوبهم هيبةً لله وتعظيمًا له.

- وأوصاف العز، والقدرة، والجبروت، تخضع لها القلوب، وتذل بين يدي ربها.

- وأوصاف الرحمة، والبر، والجود، والكرم، تملأ قلوبهم رغبةً وطمعًا فيه، وفي فضله، وإحسانه، وجوده.

ص: 121

- وأوصاف العلم، والإحاطة، توجب لهم المراقبة في جميع الحركات والسكنات.

ويعلم هذه المعاني الجليلة، وتحقيقها يُرجى للعبد أنْ يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ لله تسعًا وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنَّة"، فإحصاؤها: فهمها، وعقلها، والاعتراف بها، والتعبد لله تعالى بها.

* فوائد:

الأولى: أهل السنَّة أثبتوا كلَّ ما جاء به الكتاب والسنَّة من صفات الله تعالى، لا فرق عندهم بين صفات الذَّات، وصفات الأفعال المتعلقة بمشيئة الله تعالى.

فكلها قائمةٌ بالله، والله تعالى موصوفٌ بها، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل، وإنَّما أثبتوا حقيقة الصفة على الوجه الَّذي يليق بجلال الله تعالى، وأمَّا كيفية الصفة؛ ففوَّضوا علمها إلى الله تعالى، وبهذا سَلِموا من تعطيل صفات الله تعالى، وسَلِمُوا من تشبيه الله بخلقه، حيث تورط فيهما طائفتان ضالتان ممَّن أسرفوا في النَّفي، أو في الإثبات.

فإثبات صفات الله تعالى إثباتًا يليق بجلاله، وتفويض علم كيفية الصفة إلى الله تعالى: قاعدةٌ مهمَّة اعتمدها السلف الصَّالح في فهم صفات الله، فأغنتهم عن تأويل آيات الصفات وأحاديثها، كما عصمتهم من أنْ يفهموا من الكتاب والسنَّة مستحيلاً على الله تعالى من تشبيهه بخلقه؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى: 11].

الثانية: التحريف تغيير النص لفطًا، أو معنًى، فالتغيير اللفظي: يتغير معه المعنى، وأمَّا التغيير المعنوي: فهو صرف اللفظ عن ظاهره بلا دليل.

وأمَّا التعطيل فمعناه إنكار جميع صفات الله تعالى، أو إنكار بعضها.

وأمَّا التمثيل؛ فهو إثبات مثيلٍ له ممَّا يقتضي المماثلة والمساواة.

ص: 122

وأمَّا التكييف: فهو تكييف صفات الله تعالى بأنْ يحكي للصفة كيفية مطلقة.

وأمَّا التشبيه: فهو أنْ يجعل لصفة الله شبهًا مقيدًا بصفة خلقه.

الثالثة: كما يجب تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عن جميع النقائص والعيوب، فإنه -أيضًا- يجب تنزيه الله في أسمائه تعالى عنها.

الرَّابعة: أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية، فلا يصح أنْ يسمَّى الله تعالى، أو يوصف إلَاّ بما سمَّى به نفسه، أو وصف به نفسه، أو سمَّاه به أو وصفه نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ممَّا جاء في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

الخامسة: أسماء الله الحسنى يدل الاسم منها على ثلاثة أمور:

أحدها: دلالته على ذات الله تعالى.

الثاني: دلالته على صفة الله تعالى.

الثالث: دلالته على صفاتٍ أخرى بطريق الالتزام.

فإنْ دلَّ الاسم على الذَّات وحدها، أو دلَّ على الصفة وحدها، فهي دلالة تضمن؛ لأنَّ المعنى المراد بعض اللفظ، وداخل ضمنه.

وأمَّا إنْ أُريد بدلالته الذات والصفة معًا، فهي دلالة مطابقة؛ لأنَّ اللفظ طابق معناه بالكامل.

مثال ذلك: "الرحمن":

فإنه يدل على الذَّات وحدها، وعلى الرحمة وحدها؛ فدلالته على واحدٍ منهما دلالة تضمن.

أمَّا دلالته على الذَّات والرحمة معًا، فهي دلالة مطابقة؛ لأنَّ اللفظ طابق معناه.

أمَّا دلالة الالتزام: فإنَّ الذَّات المتصفة بالرحمة يلزم لها الحياة والعلم؛ فدلالته على هاتين الصفتين دلالة التزام.

ص: 123

والمتأمِّل للمعاني، وما يلزم لها يستفيد علمًا كثيرًا تحصل له من الدليل الواحد.

السَّادسة: أنَّ أسماء الله تعالى تدل على الذَّات، وعلى الصفة كما تقدَّم، والوصف الَّذي يدل عليه الاسم نوعان: متعدٍّ وغير متعدٍّ: فإنْ كان متعديًا فهو يتضمن أمرين:

أحدهما: ثبوت الصفة.

الثاني: ثبوت حكمها.

مثال ذلك "الحكيم":

فهو يدل على ثبوت الحكمة من لله تعالى.

ويدل على حكمها ومقتضاها؛ وذلك بأنَّ أفعال الله وتدابيره قائمةٌ كلها على الحكمة الرشيدة، وذلك بوضع الأمور في مواضعها المناسبة لها واللَاّئقة بها.

أمَّا صفة الاسم التي لا تتعدَّى، فإنَّها تدل على مجرَّد ثبوت الصفة لله تعالى، بدون تعدية إلى حكم ومقتضى؛ كصفة الحياة.

***

ص: 124