الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الدعاوى والبينات
مقدمة
الدَّعَاوَى: واحدها دَعْوَى، وهي إضافةُ الإنسان إلى نفسه استحقاقُ شيءٍ فى يد غيره، أو ذمَّته.
والمدَّعِي: من يطلب غيره بحقٍّ يذْكُرُ استحقاقَهُ عليه، وإذا سكت عن الطلب، تُرِكَ.
أمَّا البينات: فواحدها بينة، من أبان الشيء، أي: أوضحه، وهى العلامة الواضحة كالشَّاهد؛ هذا مذهب أحمد في البينة.
وأمَّا ابن القيم: فلا يَقْصُرُ البينةَ على الشَّاهد، وإنَّما يرى أنَّ البينة اسمٌ لكلِّ ما يبيِّنُ الحقَّ ويُظْهِرُهُ، وَمَنْ خصَّها بالشَّاهدين، أو الأربعة، أو الشَّاهد، لم يُعْطِ مسمَّاها حقَّه، ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشَّاهدان، وإنَّما أتت مراداً بها الحجَّة، والدليل، والبرهان، مفردةً ومجموعة.
والشَّاهدان من البينة، ولا ينفيان غيرهما من أنواع البينة، ممَّا قد يكون أقوى منهما؛ لدلالة الحال على صدق المدَّعي؛ فإنَّها أقوى من دلالة أخبار الشَّاهد، والبينة، والدَّلالة، والحجَّة، والبرهان، والعلامة، والأمارة، متقاربة فى المعنى.
والشَّارعُ لم يُلْغِ القرائنَ، والأماراتِ، ودلالاتِ الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره، وموارده، وجده شاهداً لها بالاعتبار، مرتَّباً عليها الأحكام.
1223 -
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لَادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ، وأَمْوَالَهُمْ؛ وَلكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ: "الْبَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
زيادة البيهقي سندها صحيح؛ كما قال المصنِّف رحمه الله وحسَّنَهَا النووي في الأربعين، وكذلك حسَّنها ابن الصَّلاح، وقال ابن رجب: قد استدلَّ بهذا الحديث الإمام أحمد وأبو عبيد، وهما لم يستدلا به، إلَاّ أنَّه عندهما صحيح محتجٌّ به، ثمَّ قال ابن رجب: وفي معناه أحاديث كثيرة، ثمَّ سردها في شرح الأربعين.
* مفردات الحديث:
- البيِّنة: بانَ الأَمْرُ يَبينُ، فهو بَيِّن، من بان الشيء، أي: ظهر، فهي العلامة الواضحة.
وشرعاً: اسمٌ لما يبيِّن الحقَّ ويظهره.
- اليمين: تطلق لغةً على القوَّة، ومنه اليمين لليد.
وشرعاً: توكيد المحلوف عليه بذكر معظَّمٍ على وجهٍ مخصوص، وسُمِّيت يميناً؛ لأَنَّ الحالف يعطي يمينه، ويضرب بها على يمين صاحبه.
(1) البخاري (4552)، مسلم (1711)، البيهقي (10/ 252).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يبين النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنَّ من ادَّعَى على أحدٍ دعوى، فإنَّ عليه الإثبات والبينَةَ على دعواه، فإنْ لم يكن لديه بينةٌ، فعلى المدعى عليه اليمين -لنفي ما ادُّعِيَ- عليه به من حقٍّ.
2 -
ثمَّ ذكر صلى الله عليه وسلم الحكمة في كون البينة على المدعي، واليمين على من المنكِر، وهي أنَّه لو أُعْطِيَ كُلُّ من ادَّعَى دعوى ما ادعاه، لادَّعَى كلُّ من لا يراقب الله تعالى على الأبرياء دماءً وأموالاً، يبهتونهم بها؛ ولكن الحكيم العليم جعل حدًّا وحكماً؛ لتخف وطأة الشر، ويقل الظلم والفساد.
قال ابن دقيق العيد: الحديث يدل على أنَّه لا يجوز الحكم إلَاّ بالقانون الشرعي الذي رُتِّب، وإنْ غلب على الظنِّ صدق المدَّعِي.
3 -
أنَّ اليمين على المدَّعى عليه، وأنَّ البينة على المدعي، كما في رواية البيهقي؛ وذلك أنَّ اليمين تكون في الجانب القوي من المترافعين، وجانب المدعى عليه بلا بينة من المدعي هو القوي؛ لأن الأصل براءة ذمته، فاكتفي منه باليمين.
قال ابن القيم: الذي جاءت به الشريعة: أن اليمين تشرع من جهة أقوى المتداعيَيْن، فأي الخصمين ترجح جانبه، جعلت اليمين من جهته.
وهذا مذهبُ جمهورِ العلماء؛ كأهل المدينة، وفقهاء المحدِّثين؛ كأحمد، والشَّافعي، ومالك، وغيرهم.
4 -
البيِّنَة عند كثيرٍ من أهل العلم هي الشهود، والأيمان، والنكول.
وهي عند المحقِّقين: اسمٌ لكلِّ ما أبان الحقَّ وأظهره، من الشهود، وقرائن الحال، وَوَصْفِ المدَّعي في نحو اللُّقَطَة.
قال ابن رجب: كل عينٍ لم يدعها صاحب اليد، فمن جاء فوصفها بأوصافها الخفية، فهيَ له، فإنْ نازعه أحدٌ ما في يده، فهي لصاحب اليد
بيمينه، مالم يأت المدَّعي ببينةٍ أقوى من اليد.
قال ابن القيم؛ البيِّنة في كلام الله تعالى، وكلام رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة: اسمٌ لما يبيِّن الحق، فهي أعم من البيِّنة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشَّاهد أو الشَّاهد واليمين، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمَّن حجر كلام الله، وكلام رسول صلى الله عليه وسلم، فيقع في ذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلِّم منها.
5 -
حديث الباب قاعدةٌ عظمى من قواعد القضاء؛ فعليها يدور غالب الأحكام.
6 -
هذا حديثٌ عظيم القدر، فهو أصلٌ من أصول القضاء والأحكام؛ فإنَّ القضاء بين النَّاس إنَّما يكون عند التنازع، هذا يدَّعي على هذا حقًّا من الحقوق، والآخر ينكره ويتبرَّأ منه.
7 -
من ادَّعى عيناً، أو ديناً، أو حقًّا على غيره، وأنكر المدَّعَى عليه الدعوى، فالأصل مع المنكِر؛ لأنَّ الأصل براءة الذِّمة.
فإنْ أتى المدَّعي ببينةٍ تثبت ذلك الحقَّ، ثبت له به، وإنْ لم يأتِ ببينةٍ، فليس له على المدَّعَى عليه إلَاّ اليمينُ على نفي دعواه.
8 -
الحديث يدل على مذهب جمهور العلماء، ومنهم الشَّافعية، والحنابلة: على أنَّ اليمين متوجِّهةٌ على المدعى عليه، سواءٌ كان بينه وبين المدَّعي اختلاطٌ، أم لا.
أمَّا مذهب المالكية، وأهل المدينة، ومنهم الفقهاء السبعة: فإنَّ اليمين لا تتوجَّه إلَاّ على من بينه وبين المدَّعِي خلطة؛ لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل بتحليفهم.
9 -
أمَّا من كان عليه دينٌ، أو حقٌّ ثابتٌ بذمته، وطولب به، فادَّعى أنَّ ذمته برئت بوفاءٍ، أو إسقاطٍ، أو صلحٍ، أو غير ذلك، فالأصل أنَّ ما في ذمته باقٍ، فإنْ لم يأت ببينةٍ على الوفاء والبراءة، فإنَّ له على صاحب الحقِّ اليمينَ على أنَّ
حقَّه لا يزال باقياً بذمته؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان.
10 -
ومثل ذلك دعوى العيوب، ودعوى الشروط، والآجال، والوثائق، الأصلُ عدَمُهَا، وَعَدَمُ الالتزامِ بها، ومن ادَّعاها فعليه البينةُ، فإنْ لم يكنْ بينةٌ، فعلى منكرها اليمين.
11 -
فهذا الحديثُ أصلُ المرافعات، والمنهجُ الَّذي رَسَمَتْهُ هذه القاعدةُ في إنهاءِ الدَّعوى، هو سبيلُ فصلٍ في منع الدَّعاوى الباطلة، وإثباتِ الحقوق الصحيحة.
12 -
قال المحقِّقون من العلماء: إنَّ الشريعة جعلت اليمين في أقوى جانبٍ من المدَّعي، أو المدعى عليه، والله أعلم.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنَّ البينة على المدَّعِي، واليمين على من أنكر.
13 -
قال ابن رجب في شرح الأربعين: معنى قوله: "البينة على المدَّعي" يعني: أنَّه يَسْتَحق بها ما ادَّعَى؛ لأَنَّها واجبة يؤخذ بها.
ومعنى قوله: "اليمين على المدَّعى عليه" أي: يبرأ بها؛ لأَنَّها واجبةٌ عليه يؤخذ بها على كلِّ حالٍ.
14 -
وقال رحمه الله تعالى: المدعي إذا أقام شاهداً، فإنَّه قد قَوِيَ جانبه، فإذا حلف معهُ قُضِيَ له.
15 -
وقال: البينة كل ما بيَّن صحَّة دعوى المدَّعي، وشهد بصدقه، فاللوث مع أقسامه بيِّنة، والشاهد مع اليمين بينة.
16 -
وقال: قوله: "لو يعطى النَّاس بدعواهم
…
" يدل على أنَّ مدَّعي الدَّم والمال لابدَّ له من بينة تدل على ما ادَّعاه، ويدخل في عموم ذلك: أنَّ من ادَّعى عليه رجل أنَّه قتل مورِّثه، وليس معه إلَاّ قول المقتول عند موته: جرحني فلان، أنَّه لا يكتفي بذلك، ولا يكون بمجرَّده لوثاً؛ وهذا قول الجمهور.
خلافاً للمالكية، فإنَّهم جعلوه لوثاً يقسم معه الأولياء، ويُسْتَحَقُّ الدم.
17 -
وقال: قوله: "واليمين على المدَّعى عليه" يدل على أنَّ كلَّ من دُعِيَ عليه دعوى، فأنكر، فإنَّ عليه اليمين؛ وهذا قول أكثر الفقهاء.
وقال مالك: إنَّما تجب اليمين على المنكر، إذا كان بين المتداعيَيْنِ نوع مخالطة؛ خوفاً من أنْ يبتذل السفهاء على الرؤساء بطلب أيمانهم.
قال شيخ الإسلام: كنا عند نائب السلطنة وأنا إلى جانبه، فادَّعى بعض الحاضرين أنَّ له قِبَلِي وديعةً، وسأل إجلاسي معه وإحلافي، فقلت لقاضي المالكيَّة، وكان حاضراً: أتسوغ هذه الدعوى، وتسمع؟ فقال: لا، فقلت: فما مذهبُك في مثل ذلك؟ فقال: تعزير المدَّعي، قلت: فاحكم بمذهبك، فأقيمَ المدَّعِي، وأُخرج.
18 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، "البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر"؛ ياله من كلام ما أبلغه، وأجمعه لجميع الوقائع والجزئيات بين النَّاس في جميع الحقوق؛ فهو أصلٌ تنطبق عليه جميع المشكلات.
فيدخل في هذا أمور:
الأوَّل: من ادَّعى حَقًّا على غيره، وأنكر المدَّعَى عليه.
الثاني: من ثبت عليه حقٌّ، ثمَّ ادَّعى البراءةَ منه، وأنكر صاحب الحق.
الثالث: من ثبتت يده على شيءٍ، وادَّعى آخر أنَّه له، وأنكر صاحب اليد.
الرَّابع: إذا اتفقا على عقد، وادَّعى أحدهما أنَّه مختلٌّ لفقد شرط ونحوه، وأنكر الآخر، فالقول قول مدَّعِي السَّلامة.
الخامس: من ادَّعى شرطاً، أو عيباً، أو أجلاً، ونحو ذلك، وأنكر الآخر، فالقول قول المنكر.
إلى غير ذلك من الأمور التي تدخل تحت هذه القاعدة.
1224 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ اليَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ في اليَمِينِ، أَيُّهُمْ يَحْلِفُ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- عَرَضَ: يَعْرِضُ عرضاً، من باب ضرب، ومعناه هنا: أظهر لهم اليمين؛ لِيُقْدِموا على الحلف أو يَدَعُوا.
- يسهم: أسم يسهم إسهاماً، أي: أقرَعَ بينهم، والسهم: هو الحظ والنصيب، جمعه أسهُمٌ وسُهْمَان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تمام الحديث ما رواه أبو داود (3616)، والنسائي في الكبرى (3/ 487) من طريق أبي رافعٍ، عن أبي هريرة؛ أنَّ رجلين اختصما في متاعٍ ليس معهما بينة، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم:"استهما على اليمين ما كان، أحبا ذلك أو كرها".
قال الخطابي: معنى استهما هنا: الاقتراع، فيقترعان، فأيهما خرجت له القرعة، حلف، وأخذ المدَّعَى به.
2 -
قال في شرح الإقناع في باب اللقطة: فإنْ وصف اللقطة اثنان فأكثر معاً، أو وصفها الثاني بعد الأوَّل؛ لكن قبل دفعها إلى الأوَّل -أُقرع بينهما.
أو أقاما بينتين باللقطة أُقرع بينهما؛ لأنَّه لا مزية لأحدهما على الآخر، فَمَنْ قَرَعَ -أي: خرجت له القرعة- حلف أنَّ اللقطة له، لاحتمال صدق صاحبه، وَأَخذَهَا؛ لأنَّ ذلك فائدة القرعة.
(1) البخاري (2674).
3 -
أمَّا إنْ وصفها إنسانٌ بعد دفعها لمن وصفها أوَّلاً، فلا شيء للواصف الثاني؛ لأنَّ الأوَّل استحقها بوصفه إياها، مع عدم المنازع له، فوجب بقاؤها له؛ كسائر ماله.
***
1225 -
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الحَارِثِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئاً يسِيراً يَارَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ! " رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- قضيباً: الغُصْنُ من الشجرة.
- أراك: بفتح الهمزة، قال في لسان العرب: شجرٌ معروف، وهو شجر السواك، يُسْتَاكُ بفروعه.
وقال في الوسيط: الأراك واحدته أراكة، نباتٌ شُجَيْرِيّ من الفصيلة الأراكية، كثير الفروع، خوَّار العود، ينبت في البلاد الحارَّة.
…
(1) مسلم (137).
1226 -
وعَنِ الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ علَى يَمِينٍ يَقْتَطعُ بِهَا مالَ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيْهَا فَاجِرٌ -لَقِيَ اللهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فاجر: الفاجر: العاصي المصرُّ على المعاصي، غير مكترثٍ بأحد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في هذين الحديثين وعيدٌ شديدٌ لمن اقتطع مال امرىءٍ بغير حقٍّ، وإنَّمَا اقتطعه بخصومته الفاجرة، ويمينه الكاذبة الآثمة، فهذا يلقى الله وهو عليه غضبان، ومَن غَضِب الله عليه، فهو هالك.
2 -
تحريم أخذ أموال النَّاس وحقوقهم، بالدَّعاوى الفاجرة، والأيمان الكاذبة، فهو من كبار الذنوب؛ لأَنَّ ما ترتَّب عليه غضب الحليم -جلَّ وعلا- فهو كبيرة.
3 -
تقييده بالمسلم من باب التعبير بالغالب، وإلَاّ فمثله مالُ وحَقُّ المعصوم الذمي، والمعاهَد.
هذا ما لم يتحلَّل ممَّن ظلمه، فإنْ فعل، فالتوبةُ تَجُبُّ ما قبلها بالإجماع.
4 -
قوله: "هو فيها فاجر" ليخرج النَّاسي والجاهل؛ فإنَّ العقاب لا يستحقه إلَاّ العامد.
5 -
إثبات صفة الغضب لله تعالى، إثباتاً حقيقيًّا يليق بجلاله؛ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى]
(1) البخاري (2676)، مسلم (138).
6 -
أنَّ أموال النَّاس حرامٌ قليلها وكثيرها؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وإنْ كان قضيباً من أراك" يريد بذلك الشيء الحقير؛ فكيف يكون ذلك بدمائهم، وأعراضهم، وسائر حقوقهم؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع:"إنَّ دماءكم، وأعراضكم، وأموالكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت"[رواه البخاري (1741) ومسلم (1679)].
7 -
قوله: "حرم عليه الجنَّة" أجمع السلف على أنَّ فاعل الكبيرة ليس كافراً ولا خارجاً من الملَّة، وأنَّه -وإنْ عُذِّبَ على ذنوبه- فلن يخلد بالنَّار؛ ولذا فسَّروا مثل هذا الحديث بعدَّة تفاسير:
فبعضهم قال: من فعل ذلك مستحلاًّ له.
وبعضهم قال: إنَّ مثل هذه الأحاديث لا يقصد منها معناها الظَّاهر، وإنَّما قصد بها التخويف والزجر، فتبقى على المراد منها.
وبعضهم قال: هذا من النصوص التي تُمَرُّ كما جاءت بلا تفسير.
أمَّا شيخ الإسلام: فيرى أنَّ الإنسان فيه موجبات العذاب، وموجبات الغفران، فهذا يدفع الآخر، فعمله هذا سبب لدخوله النَّار، ولكن ما معه من الإيمان يمنعه من الخلود فيها.
8 -
وفي الحديث: أنَّ صفة البشرية للنَّبي صلى الله عليه وسلم لم تغيرها النبوة والرِّسالة؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110].
وقال هو عليه الصلاة والسلام: "إنَّما أنا بشر"[رواه البخاري (401)، ومسلم (572)].
وبهذا فإنَّه -كما جاء في هذا الحديث- لا يدرك من الأمور إلَاّ ظواهرها، إلَاّ أن تقتضي الحكمة اطِّلاعه على أمور من الغيب، وإلَاّ فالأصل فيه عدمه؛ قال تعالى:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188].
1227 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي دَابَّةٍ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
الحديث إسناده جيد.
أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جدِّه أبي موسى.
قال النسائي: إسناده جيد.
قال المصنف: إسناده جيد، ووثَّق المنذري إسناده.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
العين المتنازع عليها لا تخلو من أحوال:
أحدها: أنْ لا تكون العين بيد واحدٍ من المتداعِيَيْنِ، وليس لديهما بينة، ولا ظاهرة فحينئذٍ يحلف كل واحدٍ منهما أنَّها له ولا حقَّ للآخر فيها، فإذا تحالفا، قسمت بينهما نصفين، كما في حديث الباب.
الثاني: أنْ تكون العين بيد أحدهما، وليس لدى المدَّعي بينة، فهي لصاحب اليد بيمينه، فإنْ كان لدى كلِّ واحدٍ منهما بينة أنَّها له، ففي المسألة قولان لأَهل العلم:
(1) أحمد (4/ 402)، أبو داود (3613)، النسائي في الكبرى (3/ 487).
ذهب الإمام أحمد: إلى تقديم بينة المدَّعَي، ويسمونه "الخارج"، وإلغاء بينة المدَّعى عليه صاحب اليد، ويسمونه "الدَّاخل".
قال في الروض المربع وغيره: وإنْ أقام كلٌّ منهما بينةً أنَّ العين المدَّعى بها له، قُضِيَ بها للخارج ببينته، ولغت بينة الدَّاخل؛ لحديث ابن عبَّاس: "لو يُعطى النَّاس
…
ولكن اليمين على المدعى عليه" [رواه البخاري (4552) ومسلم (1711)]؛ فجعل جنس البينة في جانب المدعي، فلا يبقى في جانب المدعى عليه إلَاّ اليمين.
وهذه الرواية هي المشهورة في مذهت الإمام أحمد، وهي من المفردات.
2 -
وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة-: إلى تقديم بينة الدَّاخل، وهو الَّذي العين بيده.
قال شيخ الإسلام: وأمَّا حديث "البينة على من إدَّعى، واليمين على من أنكر"، فما قال بعمومه أحد من علماء الملَّة إلَاّ أهل الكوفة، الَّذين يرون أنَّ اليمين دائماً في جانب المنكر حتَّى القسامة، وأمَّا سائر علماء الملَّة، وفقهاء الحديث، وغيرهم: فتارةً يحلِّفون المدَّعي، وتارةً يحلِّفون المدَّعى عليه، والأصل عندهم: أنَّ اليمين مشروعة في أقوى الجانبين، والبينة عندهم اسمٌ لما يبيِّن الحق.
قال في شرح المفردات: وقال أكثر أهل العلم: تقدَّم بينة المدعى عليه بكلِّ حال؛ لأنَّ جانبه أقوى، لأنَّ معه الأصل، ويمينه تقدَّم على يمين المدَّعي.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: الَّذي يظهر لي، ويترجَّح عندي، هو تقديم بينة الدَّاخل؛ لما روى الدَّارقطني (4/ 209) عن جابر رضي الله عنه "أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم اختصم إليه رجلان في دابَّه أو بعيرٍ، فأقام كل واحد منهما
البينة أنَّه أنتجها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده"، ولأَنَّ الأصل معه، وجانبه أقوى، ويمينه تقدم على يمين المدَّعي.
فإذا تعارضت البينات، وجب إبقاء يده على ما فيها، وتقديمه؛ كما لو لم تكن بينة لواحدٍ منهما، وهذا هو المفتى به عند إمام الدَّعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو قول الأئمة الثلاثة، وأهل المدينة.
***
1228 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا بِيَمِينٍ آثِمَةٍ، تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال الحافظ في الفتح: حديث جابر أخرجه -أيضاً- مالك، وأبو داود، والنسائي، وصحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم ووافقه الذهبي.
قال الشوكاني: ورجال إسناده عند ابن ماجة كلهم ثقات.
وفي الباب عن أبي أمامة مرفوعاً عند النسائي في الكبرى (3/ 492) بإسناد رجاله ثقات، بلفظ:"من حلف عند منبري هذا، يميناً كاذبَةً يستحل بها مال امرىءٍ مسلم، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صَرْفاً، وَلَا عَدْلاً".
وللحديث شاهدٌ عن أبي هريرة: أخرجه أحمد، وابن ماجه، والحاكم وصحَّحه ووافقه الذهبي.
* مفردات الحديث:
- منبري: يُقال: نَبَرَ الشيءَ يَنْبُره نبراً، أيِّ: رفعه، والمنبر: مكان مرتفع في الجامع يقف فيه الخطيب أو الواعظ، يكلَّم منه الجمع.
سُمِّيَ بِذلك؛ لارتفاعه عمَّا حوله، وكسرت ميمه على التشبيه بالآلة، جمعه منابر.
- تبوأ: باء يبوء بوءاً، وباء في المكان: تبوأه، أي: اتخذه محلَّة، وأقام به.
(1) أحمد (3/ 344)، أبو داود (3246)، النسائي في الكبرى (7/ 487)، ابن حبان (1192).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يفيد تحريم اليمين الكاذبة، وتغليظ أمرها، وعظيم خطرها، لاسيما إذا أديت في مكانٍ فاضل، كمنبر النَّبي صلى الله عليه وسلم أو زمان فاضل.
2 -
من حلف هذه اليمين العظيمة وهو كاذب، لاسيما إذا قطع بها مال امرىءٍ معصومٍ، فقد ارتكب ذنباً من أشد الذنوب، وتجرَّأ على أمرٍ كبير من أفحش الأمور، فكان جزاؤه أنْ يتبوَّأ ويتخذ له منزلاً ومسكناً من النَّار، بدل أنْ تبوَّأ منبر النَّبي صلى الله عليه وسلم فحلف عليه كاذباً، ولم يَرْعَ حرمته وقداسته.
3 -
صفة تغليظ اليمين في اللفظ أنْ يقول: "والله الَّذي لا إله إلَاّ هو، عالمِ الغيب والشَّهادة، الرحمنِ الرحيم، الغالب الطالب، الضارِّ النَّافع، الَّذي يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور".
وتغليظها في الزمان: بعد العصر.
وتغلظها في المكان في مكَّة: بين الركن والمقام.
وفي المدينة: عند منبر النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وفي سائر البلاد: عند المنبر.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في مشروعية تغليظ اليمين:
فذهب جمهور العلماء: إلى وجوب تغليظ اليمين في الدَّعاوى التي لها خطر، إذا طلبها مَنْ توجَّهَتْ له اليمين.
وذهب الإمامان: أبو حنيفة، وأحمد، وأصحابهما: إلى عدم وجوب التلغيظ، وأنَّ أمر هذا راجعٌ للحاكم.
قال في الروض المربع وحاشيته: ولا تغلظ اليمين إلَاّ فيما له خطر، كجناية لا توجب قوداً، وعتق، ونصاب زكاة؛ فللحاكم تغليظها، وإنْ أبى الحالف التعليظ، لم يكن ناكلاً في ذلك إجماعاً.
1229 -
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالْفَلَاةِ، يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدِ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ لَهُ بِاللهِ لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذلِكَ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَاماً لَا يُبَايِعُهُ إِلَاّ لِلدُّنْيَا، فإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَى، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- ثلاثة: أي: ثلاثة أشخاص، رفعت "ثلاثة" بالضم على أنَّها مُبتدأ، وقوله:"لا يكلِّمهم الله يوم القيامة" خبره.
- لا يزكِّيهم: أي: لا يطهِّرهم من الذنوب، ولا يُثْنِي عليهم.
- رجل: مرفوع؛ لأَنَّه عطف بيان.
- على فضل ماء: متعلِّق بمحذوف، في محلِّ رفعِ صفةٍ لرجل.
- الفلاة: الأرض الواسعة المقفرة، جمعها فَلاً، وفلوات.
- ابن السبيل: السبيل: الطريق، ويراد به المسافر، وسمي ابن السبيل؛ لملازمته له.
- سِلْعة: بكسر السِّين، وسكون الَّلام: كل ما يُتَّجَرُ به من البضاعة، جمعه سلع.
(1) البخاري (7212)، مسلم (108).
- بايع إماماً: المراد به الإمامُ الأعظم.
- فإنْ أعطاه: الفاء تفسيرية، تفسِّر مبايعته للإمام من أجل الدنيا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه وعيدٌ شديدٌ، وتهديدٌ أكيد، وذلك بأنَّ الله لا يكلمُ هؤلاءِ الأصنافَ الثَّلاثةَ بما يحبُّونه ويتمنَّوْنَهُ، ولا ينظر إليهم نظر رحمة، ولا يطهِّرهم من ذنوبهم، ولا يزكِّيهم بالمغفرة.
هؤلاء الأصناف الثلاثة هم:
الأوَّل: رجلٌ نازلٌ بفلاةٍ على ماءٍ لا يوجد غير مائه في تلك الفلاة، فيمنع النَّاسَ من ذلك الماء، ليس لضرورته الخاصَّة به، وإنَّما ليحمي به كلأ تلك الأرض؛ ليختص به من دون بقية النَّاس، وقد جاء في البخاري (2227)، ومسلم (1566) من حديث أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تمنعوا فضل الماء؛ لتمنعوا به الكلأ".
الثاني: المُنْفِقُ سلعته باليمين المغلَّظة الكاذبة ممَّن يحلف بالله بعد العصر -وهو زمن التغليظ- أنَّه قد اشتراها بكذا، وهو كاذب؛ ليغر ويغش المشتري، فيشتري منه بزيادة عن قيمتها الحقيقية، فيصدِّقه المشتري، ويشتري منه بقدر ما حلف عليه، أو أكثر.
فهذا جمع بين الكذب، وبين الحلف بالله تعالى وهو كاذب، وبين الحلف في زمنٍ فاضل، وبين خدعه المشتري، وبين أكله المالَ بالباطل.
الثالث: من بَايَعَ إماماً على الولاية العامَّة، لم يبايعه لأجل مقاصد الإمامة: من إقامة شعائر الله تعالى، وإقامة حدوده، ونصرة الإسلام، والنصح للرعية، لم يبايعه لذلك، وإنَّما بايعه لطمع الدنيا؛ ليعطيه منها؛ ولذا فإنَّ هذا المبايع في مبايعته إنْ حصل له مطلوبه بالعطاء والمِنَح، رَضِيَ ووفَى ببيعته، وإنْ لم يعطه منها، لم يَفِ، ولم يراقب مقام الولاية، ووجوب السمع والطَّاعة عليه فيها،
وقد قال تعالى عن هؤلاء: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة].
2 -
الشَّاهد من هذا الحديث هو اليمين الكاذبة، لاسيَّما وقد جمعت الخداع، والتغرير لأكل أموال النَّاس بالباطل، فكان جزاء صاحبها شديداً، فهو ممَّن لا ينظر الله إليه يوم القيامة نظرةَ رحمة، ولا يكلِّمه كلامَ بر، ولا يزكِّيه ولا يطهِّره من ذنوبه بالمغفرة؛ فإنَّ له عذاباً أليماً، جزاءً وفاقاً، نسأل الله تعالى العافية والمعافاة.
3 -
وفي الحديث: إثباتُ عذابِ الآخرة، وشدَّته، وألمه.
4 -
وفيه تحريم الأوصاف الثلاثة المذكورة: من منع النَّاس من الماء؛ لمنع الكلأ، والحلف الكاذب، لترويج السلع، وغش النَّاس، ويدخل في ذلك -وإنْ لم يكن يميناً- الدَّعايات الكاذبة في وسائل الإعلام؛ لترويج السلع، وغش النَّاس بها.
5 -
كما أنَّ في الحديث تحريمَ مبايعة الولاة وموالاتِهِمْ لأجل الدنيا، وتحريم معاداتهم والكلام السيِّىء فيهم؛ لأجل حرمانه من الدنيا وعطاياها.
فإنَّ مناصحتهم، والدعاء لهم بالتوفيق والتسديد، والسكوت عن قالة السوء فيهم: هو واجب المسلمين نحوهم.
***
1230 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه "أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي نَاقَةٍ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: نُتِجَتْ هَذِهِ النَّاقَةُ عِنْدِي، وَأَقَامَا بَيِّنَةً، فَقَضَى بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِمَن هِىَ فِي يَدِهِ". رَوَاهُ الدَّاَرقُطْنُّيِ، وَفِي إِسْنَادهِ ضَعْفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال في التلخيص: رواه الدَّارقطني، والبيهقي، من حديث جابر، وإسناده ضعيف؛ لأَنَّ فيه يزيد بن نعيم، قال ابن القطان: لا تعرف حاله.
* مفردات الحديث:
- نُتِجَت: نتج الرَّاعي النَّاقة ينتجها نتجاً: وَلِيَ أمرها حتَّى وضعته، فالنَّاقة منتوجة؛ والولد نتيجة، والأصل في الفعل: أنْ يتعدَّى إلى مفعولين، وربما بني الفعل للمجهول؛ فيقال: نُتِجَت النَّاقةُ ولداً، ويجوز حذف المفعول الثَّاني، كما في هذا الحديث.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على ما سبق تحقيقه في الحديث رقم (1227) من أنَّ العين المتنازع عليها إذا كانت في يد أحدهما دون الآخر، فالَّذي هي في يده يسمَّى داخلاً، والآخر يسمَّى خارجاً.
فإنْ كان لدى الخارج بينةٌ على صحَّة دعواه، استحقها وأخذها، وإنْ لم
(1) الدَّارقنطي (4/ 209).
يكن له بينة، فإنَّه يحلف له الدَّاخل على صفة دعواه، وتكون العين للدَّاخل؛ لقوَّة يده عليها.
2 -
أمَّا إنْ أقام كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنَّها له -كما في هذا الحديث- فقد اختلف العلماء فيمن تقدَّم بينته، وتكون العين له:
فمذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الثلاثة-: أنَّها للدَّاخل، وهو صاحب اليد؛ وذلك عملاً بما يلي:
- حديث الباب.
- أنَّ الدَّاخل عنده زيادة على بينته؛ لأَنَّ يده على العين.
- جنبه أقوَى من الآخر.
3 -
أمَّا تقديم بينة الخارج، فهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو من مفرداته.
4 -
ولكن القول الأوَّل -قول الجمهور- أرجح؛ ولذا اختاره جمعٌ من علمائنا، منهم: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز ابن باز مفتيا الدِّيار السعودية سابقاً، والشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي أحد علماء الدِّيار السعودية وصاحب المؤلَّفات النَّافعة، والله أعلم.
***
1231 -
وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَدَّ اليَمِينَ عَلَى طَالِبِ الْحَقِّ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث ضعيف.
قال في التلخيص: رواه الدَّارقطني، والحاكم، والبيهقي، وفيه محمد بن مسروق لا يعرف، وفيه إسحاق بن الفرات مختَلَفٌ فيه.
قال البيهقي: والاعتماد في هذا -يعني رد اليمين- على حديث القسامة، وهو حديثٌ صحيح، ثمَّ ساق الروايات في القسامة، وفيها رد اليمين قال: فهذه الأحاديث هي المعتمدة في ردِّ اليمين على المدَّعِي إذا لم يحلف المدَّعَى عليه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
إذا ادَّعى المدَّعي شيئاً، وأنكر المدَّعَى عليه تلك الدعوى، وليس عند المدَّعِي بينةً تثبت دعواه، فإنَّ له اليمينَ على المدَّعَى عليه على نفي الدَّعوَى، فإنْ نَكَلَ عن اليمين، فهل يحكم عليه بالنكولِ وحده، أو يحكم به مع ردِّ اليمين على المدَّعِي فيحلف على صحَّة دعواه ويحكم له بما ادَّعاه؟ فيها قولان لأهل العلم:
أحدهما: أنَّه يحكم على النَّاكل بدون رد اليمين على المدَّعي؛ وهذا مذهب الإمامين: أبي حنيفة، وأحمد، وأصحابهما.
قال في شرح الإقناع: وإنْ لم يحلف المدَّعَى عليه، قال له الحاكم: إنْ
(1) الدَّارقطني (4/ 213).
حلفت، وإلَاّ قضيت عليك بالنكول، ويستحب أنْ يقول ذلك ثلاثاً؛ لمعذرته، ولا تردُّ اليمين على المدَّعي.
الثاني: وذهب الإمامان: مالك، والشَّافعي هُوَ رَدُّ اليمينِ على المدَّعِي، فإنْ حلف، قُضِيَ له؛ وهو قول علي بن أبي طالب، وشُرَيّح، وابن سيرين، والأوزاعي، والنخعي، واختاره أبو الخطَّاب، وشيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.
قال ابن القيم: واحتج بهذا القول بأنَّ الشَّارع شرع اليمين مع الشَّاهد الواحد، ونكول المدعَى عليه أضعفُ من شاهد المدَّعي، فهو أولى أنْ يقدَّم بيمين الطَّالب؛ فإنَّ النكول ليس بينة من المدَّعى عليه، ولا إقراراً، وهو حجَّةٌ ضعيفة، فلم يَقْوَ على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معها المدَّعِي، قوي جانبه، فاجتمع النكول من المدَّعَى عليه، واليمينُ من المدَّعِي، فقاما مقام الشَّاهدين، أو الشَّاهد واليمين.
2 -
وقال أيضاً: والصحيح أنَّ النكول يقوم مقام الشَّاهد والبينة، لا مقام الإقرار، ولا البذل؛ لأَنَّ النَّاكل صرَّح بالإنكار، وأنَّه لا يستحق المدَّعى به، وهو مصرٌّ على ذلك، متورِّعٌ عن اليمين، فكيف يقال: إنَّه مقرٌّ مع إصراره على الإنكار، ويجعل مكذِّباً لنفسه.
***
1232 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "دَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُوراً تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِةِ، فَقَالَ: "أَلَمْ تَرَيْ إِلَى مُجَزِّزٍ المُدْلِجِيِّ، نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَقَالَ: هَذِهِ الأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ!! " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مسروراً: فرحاً، باديةً أسارير وجهه؛ من الغبطة، والفرح، والسرور.
- تَبْرُق: بضم الرَّاءِ: تلمع، وتضيء، وتنير من الفرح.
- أسارير وجهه: جمع أسرار، والأسرار جمع سِرًّ أو سَرَرٍ، وهو الخط في باطن الكف، وأريد بها هنا الخطوطُ التي في الجبهة.
- مُجَزِّز المدلجي: بضم الميم، وفتح الجيم، وكسر الزَّاي الأولى مشتدَّة، علىِ صيغة اسم الفاعل، وبنو مدلج قبيلةٌ من قبائل كنانة من العدنانية مضرية، عُرِفَتْ بعِلْمِ القيافة، والقائف: هو من يتتبَّعُ الآثار، ويعرف بها شَبَهَ الرجل بأخيه وأبيه، والجمع قافة.
- أسامة بن زيد: بن حارثة، من كلبا بن وبرة، من شعب قضاعة، كان زيد أبيض اللون، وابنه أُسامة أسمر، وكان النَّاس يرتابون فيهما، وكان هذا يؤذي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسُرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لشهادة هذا القائف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
كان زيد بن حارثة أبيض اللون، وكان ابنه أسامة أسمر، وكان النَّاس -من
(1) البخاري (6770)، مسلم (1459).
أجل اختلاف لونيهما- يرتابون فيهما، ويتكلَّمون في صحَّة نسبة أسامة إلى أبيه، ممَّا كان يُؤْذِي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 -
مرَّ عليهما مُجَزِّز المدلجي "القائف"، وهما قد غطيا رأسيهما في قطيفة، وقد بدت أرجلهما، فقال: إنَّ هذه الأقدام بعضها من بعض، لما رأى بينهم من الشبه، وكان هذا على مسمعٍ من النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ فسُرَّ بذلك سروراً كثيراً.
3 -
دخل صلى الله عليه وسلم على عائشة، وأسارير وجهه تبرق فرحاً واستبشاراً؛ للاطمئنان إلى تأييدِ نَسَبِ أسامة إلى أبيه، ودحض كلامِ الَّذين يُطْلِقُون ألسنتهم في أعراض النَّاسِ بلا علم.
4 -
فالحديث يدل على صحَّة العمل بقول القافة، واعتبارِهِمْ في صحَّة النسب، مع عدم ما هو أقوى منها؛ كالفراش؛ وهذا قول الأئمة الثلاثة؛ استدلالاً بهذا الحديث.
وهذا هو الشَّاهد من الحديث في هذا الباب.
5 -
يكفي قائفٌ واحد، ولكن اشترط العلماء فيه أنْ يكون عدلاً مجرَّباً في الإصابة، وهذا حقٌّ؛ فإنَّه لا يقبل الخبر، ولا ينفذ الحكم، إلَاّ ممَّن اتصف بهذين الوصفَيْن.
6 -
تشوف الشَّارع الحكيم إلى صحَّة الأنساب، وإلحاقها بأصولها، وعدم إضاعتها.
7 -
الفرح والاستبشار بالأخبار السَّارَّة وإشاعتها، خصوصاً ما فيه إزالة شبهة أو قولِ سوء.
8 -
اعتبار تأثير الوراثة بين الأصول والفروع شرعاً، وعرفاً، وعلماً.
9 -
ظن الفقهاء أنَّ القائف يلحق الولد بأكثر من أب، لكن أثبت الطب الحديث أنَّ بيضة الأنثى لا يلحقها إلَاّ حيوان منويٍّ واحد، وأنَّه لا يمكن من حيوانين اثنين.
قال الدكتور محمد علي البار: ممَّا لدينا من عِلْمِ الأجنَّة نرى استحالة ذلك، لأنَّ البيضة إنَّما تلقَّح بحيوان منوي واحد، وإذا تلقَّحت، لا يمكن تلقيحها مرَّة أخرى بوطءٍ ثان؛ وهذا ما ذهب إليه من علماء الشريعة: الشَّافعي، وابن القيم، رحمهما الله تعالى.
…
انتهى كتاب القضاء