المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب البر والصلة - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٧

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب البر والصلة

‌باب البر والصلة

1265 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَانْ يُنْسَأَ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- مَنْ أحبَّ: "من": اسم شرط جازم، "أحب": فعل الشرط، وجوابه:"فليصل رحمه".

- أَنْ يُبْسَط له في رزقه: بالبناء للمجهول، أي: يوسع، قال النووي؛ بسطه وتوسيعه: كثرته، ورزقه، أي: مرزوقه، مصدر بمعنى المفعول.

- أنْ يُنسَأ: مبني للمجهول، فهو مضموم الياء، ثمَّ نون ساكنة، بعدها سين مهملة، ثمَّ همزة، من الإنساء وهو التَّأخير، و"أنْ" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول به.

- أثره: بفتحتين، مصدر أثر، من باب قتل، أي: أجله وبقية عمره، وسمي الأجل أثرًا؛ لأنَّه يتبع العمر.

- فليَصِلْ رَحِمَهُ: أمر بصلة الرحم، والصَّلة مصدر وصل، ضد قطع، وصلة الرحم: كناية عن الإحسان إلى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتفضل عليهم، والرفق بهم.

(1) البخاري (5985).

ص: 320

- فليَصِلْ: جواب "مَنِ" الشرطية؛ فلذا دخلته الفاء، وصلة الرحم تكون بصلة ذوي القربى، وقد يكون بالمال، وبالخدمة، وبالزيارة، ونحوها.

- رَحِمَهُ: الرحم في الأصل منبت الولد، ووعاؤه في البطن، ثمَّ سميت القرابة من جهة الولادة رحمًا.

واختلف العلماء في الرحم، فقيل: كل ذي رحمٍ مَحْرَم، وقيل: كل وارثٍ، وقيل: هو القريب، سواء كان مُحْرَمًا أو غيره.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)} [الرعد: 21].

قال القرطبي: ظاهر في صلة الأرحام، وهو قول قتادة، وأكثر المفسرين، وهو مع ذلك يتناول جميع الطاعات.

2 -

وجاء في البخاري (5989) ومسلم (2555) من حديث عائشة رضي الله عنها عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "الرحم معلَّقةٌ بالعرش تقول: مَنْ وَصلني، وصله الله".

3 -

صلة الرحم سببٌ قويٌّ جعله الله في سعة رزق الواصل، وبركة في آثاره، وطول عمره؛ لاكتساب الأعمال الصَّالحة، والتزود من دار المَمَرِّ إلى دار المَقَرِّ.

قال ابن علان في شرح رياض الصالحين: قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)} [الأعراف: 34]، والجمع بينهما على أحد الوجهين:

الأوَّل: أن تحمل الزيادة على أنَّها كنايةٌ عن البركة في العمر بسبب التوفيق إلى طاعة الله، وعمارة وقته بما ينفعه، ويقرِّبه من مولاه تعالى؛ ويقوي هذا: ما جاء من أنَّه صلى الله عليه وسلم اشتكى تقاصر أعمار أمته بالنسبة لأَعمار من

ص: 321

مضى من الأمم؛ فَأُعطيَ ليلة القدر.

الثاني: أنْ تحمل الزيادة على حقيقتها، وذلك بالنسبة للأجل المعلَّق المكتوب في اللوح المدفوع للمَلَك، مثلاً: كتب أنَّه إنْ أطاع فلان، فعمره كذا، وإلَاّ فعمره كذا، والله سبحانه وتعالى عالمٌ بالواقع منهما، والأجل المحتوم في الآية على ما في علم الله سبحانه وتعالى الَّذي لا تغير فيه، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد].

فالحديث فيه ما أشارت إليه أوَّل الآية من الأجل المعلَّق، وقوله تعالى:{وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)} [الرعد: 39] أشار به إلى العلم الإلهي الَّذي لا تغير فيه ألبتَّة، ويعبر عنه بالقضاء المحتوم، وعن الأوَّل بالقضاء المعلَّق.

والوجه الأوَّل أليق بلفظ حديث الباب، فإنَّ الأثر ما يتبع الشيء، فإذا أخَّر، حسن أنْ يحمل على الذِّكر الحسن بعد فَقْد المذكور.

وقال الطيبي: الأوَّل أظهر؛ وإليه يشير كلام صاحب الفائق.

4 -

وأرى أحسن من هذين القولين بأنَّ الله تعالى قدَّر الأسباب والمسببات، وأنَّ الله تعالى إذا قدَّر إطالة عمر الإنسان هيأ له من الأسباب الحسيَّة والمعنوية ما تكون سببًا لطول عمره، والنَّسْءِ في أجله.

5 -

وهذا ما ذهب إليه بعض المحقِّقين، ومنهم الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ حيث قال عند شرح هذا الحديث: فيه حثٌّ على صلة الرحم، وبيان أنَّها كما هي موجبةٌ لرضا الله تعالى، فإنَّها موجبةٌ أيضًا للثواب العاجل بحصول أحب الأمور إلى العبد، وأنَّها سببٌ لبسط رزقه وتوسيعه، وسببٌ لطول العمر، وذلك على حقيقته، فإنَّه تعالى هو الخالق للأسباب والمسببات، وقد جعل الله لكلِّ مطلوبٍ سببًا، وطريقًا يُنال به، وهذا جارٍ على الأصل الكبير، وأنَّه من حكمته وحمده: جعل الجزاء من جنس العمل، فكما وَصَل

ص: 322

رَحِمَه بالبرِّ والإحسان المتنوع، وأدخل على قلوبهم السرور، وَصَلَ الله عمره، ووصل رزقه، وفتح له من أبواب الرِّزق وبركاته ما لا يحصل له بدون ذلك السبب الجليل.

وكما أنَّ طيب الهواء، وجلب الغذاء، واستعمال الأشياء المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر، فكذلك صلة الرحم جعله الله سببًا ربَّانيًّا؛ فإنَّ الأسباب التي تحصل بها المحبوبات الدنيوية قسمان: أمور محسوسة، وأمور ربَّانية، قدرها من هو على كلِّ شيءٍ قدير، والَّذي جميع الأسباب منقادة لمشيئته.

6 -

وفي الحديث دليل على أنَّ قصد العامل يترتَّب على عمله من ثواب الدنيا، ولا يضره إذا كان القصد وجه الله تعالى والدَّار الآخرة؛ فإنَّ الله بحكمته رتَّب الثوابَ العاجل والآجل، ووعد بذلك العاملين؛ فالمؤمن الصَّادق يكون في فعله وتركه مخلصًا لله، مستعينًا بما في الأعمال من المرغبات المتنوعة على هذا المقصد الأعلى، والله الموفِّق.

***

ص: 323

1266 -

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ" يَعْنِي: قَاطِعَ رَحِمٍ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال تعالى: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} [البقرة].

وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)} [محمد].

وجاء في البخاري (5987) ومسبلم (2554) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "قامت الرحم، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أنْ أصلَ من وصلك، وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لكِ".

2 -

واختُلِفَ في الرحم التي يجب وصلها، ويحرم قطعها إلى ثلاثة أقوال:

أحدها: أنَّها الرحم التي يحرم النكاح بينهما؛ بحيث لو كان أحدهما ذكرًا، والآخر أُنثى، لم يصح النكاح بينهما، فعلى هذا لا يدخل أولاد الأعمام والعمَّات، ولا أولاد الأخوال والخالات.

واحتج أصحاب هذا القول: بتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها في النكاح؛ فإنَّه لم يحرم إلَاّ خشية القطيعة، وما دام أنَّه لم يحرم، فليس هناك رحم يخشى من قطيعتها.

(1) البخاري (5984)، مسلم (2556).

ص: 324

الثاني: أنَّه من كان بينهما توارث؛ واحتج هؤلاء بقوله صلى الله عليه وسلم: "ثمَّ أدناك أدناك"؛ فالحث هنا على الأدنى فالأدنى، والقرابة الموالية هى الوارثة.

الثالث: أنَّها عموم القرابة بقطع النظر عن حرمة النكاح أو الإرث.

وهذا قولٌ وجيه؛ ولكنَّها تختلف الصلة والبر بحسب القرب والبعد بينهم، وباختلاف القدرة والحاجة.

3 -

الصلة الحقيقيَّة والبر ليست لمن بينك وبينه من أقاربك تبادل بالصلة والبر والعطاء والزيارة، ونحو ذلك، فهذا يسمَّى مكافئًا.

فقد جاء في البخاري (5991) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل الَّذي إذا قطعت رحمه وصلها".

فهذا يدل على أنَّ الوصل الممدوح حقًّا هي الصلة في القريب الَّذي قطعك، فهذه هي الصلة الكاملة، والأولى حميدة أيضًا.

4 -

فالدرجات مع الأقارب ثلاث:

- واصل.

- مكافىء.

- قاطع.

5 -

جاء في صحيح مسلم (2558) من حديث أبي هريرة: "أنَّ رجلاً قال: يارسول الله! إنَّ لي قرابةً أصلهم، ويقطعونني، وأُحسن إليهم، ويسيئون إليَّ، وأحلم عنهم، ويجهلون عليَّ؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: إنْ كُنت كما قلت، فكأنَّمَا تُسِفهم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك".

6 -

قال الإمام النووي في معنى الحديث: "إنَّك بإحسانك إليهم تحزنُهم، وتحقرهم في أنفسهم؛ لكثرة إحسانك، وقبيح فعلهم، فهم من الخزي والحقارة عند أنفسهم كمن يسف الملَّ، والمل: هو الرَّماد الَّذي يحمى ليدفن فيه الخبز لينضج.

ص: 325

1267 -

وَعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللهَ حرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكثْرَةَ السُؤالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- عقوق الأمَّهات: بضم العين؛ من عَقَّه يعقُّهُ عقوقًا: إذا آذاه وعصاه، والأُمَّهات: جمع "أمَّهة" لغة في الأُم، لا تطلق إلَاّ على من يعقل، بخلاف الأم، فإنَّها تعم.

والعقوق المحرَّم إيذاءٌ لها، وهو ليس بالهيَّن عرفًا، وإنَّما خصَّ الأُمَّهات؛ لضعف النساء، وعظم حق الأم.

- ووأد البنات: بفتح الواو، ثمَّ همزة ساكنة، آخره دال، الوأد: مصدر وأد بنته يئدها وأدًا: دفنها حية، وكانت عادةً جاهليةً في بعض قبائل العرب، إمَّا لخوف العار، أو خشية الفقر.

- منْعًا: الإمساك، أي: منع ما يجب أداؤه: من المال، والقول، والفعل، والخلق.

- وهَاتِ: بكسر التاء، فعل أمرٍ مبني على الكسر، أي: نهي عن طلب واستدعاء ما ليس لكم أخذه من الحقوق، فهات، بمعنى: أعطني.

- قيل وقال: كلاهما فعلان ماضيان، الأوَّل منهما مبني للمجهول، أصله "قُوِلَ"، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب حركتها، ثمَّ قُلبت ياءً؛

(1) البخاري (5975)، مسلم (3/ 1341).

ص: 326

لسكونها وانكسار ما قبلها.

وأمَّا "قال" فإنَّ اصلها "قَوَلَ"، قُلِبتِ الواو ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها.

واستعمل هذان الفعلان استعمال الأسماء، وأبقي فتحهما؛ ليدل على أصلهما.

ويرويان بالتنوين؛ فحينئذٍ يكونان مصدرين، والمراد: كراهة كثرة نقل حكاية أقاويل النَّاس.

-كثرة السؤال: يراد به سؤال المال ممَّن لا يحل له السؤال؛ كما أنَّه يشمل السؤال عن المسائل التي لم تقع، ولم يحتج إلى بحثها، وأغلوطات المسائل، أو يسأل النَّاس من أموالهم استكثارًا منه.

- وإضاعة المال: يُقال: ضاع الشيء يضيع ضيعًا وضياعًا: فُقِد، وهَلَكَ، وتلف، وصار مهملاً، والمراد: إنفاقه في غير الأوجه المشروعة، أو تركه من غير حفظ فيضيع، أو يتركه حتَّى يفسد، أو يرميه إذا كان يسيرًا؛ كبرًا عن تناوله، فهذه أمثلة من إضاعة المال المنهي عنه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه جملةٌ من الأحكام ممَّا حرَّمه الله تعالى:

الأوَّل: "عقوق الأمهات"؛ قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} [لقمان]، وقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15].

وجاء في البخاري (5971) ومسلم (2548) من حديث أبي هريرة: "أنَّ رجلاً قال: يارسول الله! من أحق النَّاس بحسن صحابتي؟ قال: أُمك، قال: ثمَّ من؟ قال: أمك، قال: ثمَّ من؟ قال: أمك، قال: ثمَّ من؟ قال: أبوك".

وجاء في البخاري (2654) ومسلم (87) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا أنبئكَ بأكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق

ص: 327

الوالدين".

والأحاديث في الباب كثيرة.

الثاني: "وأد البنات": قال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير]. وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء]، وخصَّ البنات؛ لأنَّها عادة الجاهلية.

الثالث: "منعًا وهات": أي: يمنع الحقوق الواجبة عليه: من الزكاة، والنفقات الواجبة، ويستكثر من جمع الأموال التي لا تحل له من حقوق النَّاس، يحتال عليها بالطرق المحرمة.

قال الحافظ: الحاصل من النَّهي منع ما أُمِرَ بإعطائه، وطلب ما لا يستحق.

الرَّابع: "كره لكم قيل وقال": المراد بهذا: أنْ يكون مشيعًا للأخبار التي لم يتحققها، ولا علاقة له فيها؛ مثل هذا يكثر زلله وخطؤه، وهو مناف لخلق الإسلام الموصوف بقوله صلى الله عليه وسلم:"من حُسْنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"[رواه الترمذي (2317)].

الخامس: "كره لكم كثرة السؤال"؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].

وقد جاء في البخاري (6859) ومسلم (2358) من حديث سعد بن أبي وقَّاص؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيءٍ لم يحرم، فحرم من أجل مسألته".

قال ابن علان في شرح رياض الصالحين: الأولى حمل السؤال على ما يعم المسائل المشكلات والمعضلات من غير ضرورة، وعن اخبار النَّاس، وحوادث الزمان، وسؤال الإنسان بخصوصه عن تفصيل أحواله، فقد يكره ذلك.

وقد ثبت عن جمعٍ من السلف: كراهة تكلَّف المسائل التي يستحيل

ص: 328

وقوعها عادة، أو يندر وقوعها جدًّا، لما في ذلك من التنطع والقول بالظن الَّذي لا يخلو صاحبه من الخطأ.

السَّادس: "كره لكم إضاعة المال": المراد بذلك: إنفاقه في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواءً أكانت دينية أو دنيوية.

والمنع من إضاعته؛ لأنَّ الله تعالى جعله قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيره تفويت لتلك المصالح.

2 -

ويستثنى كثرة الإنفاق في وجوه البر؛ لتحصيل ثواب الآخرة ما لم يفوت حقًّا آخر أهم منه.

3 -

قسم العلماء الإنفاق إلى ثلاثة أنواع:

الأوَّل: محرَّم، وهو أنْ ينفق المال في الوجوه المذمومة شرعًا.

الثاني: مستحب، وهو الإنفاق في وجوه الخير والطاعة، الإعانة على نشر دين الله تعالى وإعلاء كلمته، والنفقات المستحبات.

الثالث: النفقات المباحة، وهي منقسمة إلى قسمين:

أحدهما: على وجهٍ يليق بحال المنفِق، وبقدر ماله وحاله، فهذا ليس بإضاعة ولا إسراف، فهو جائز.

الثاني: أنْ ينفق فيما لا يليق به عرفًا، فالجمهور على أنَّه إسراف.

قال ابن دقيق العيد: ظاهر القرآن أنَّه إسراف.

***

ص: 329

1268 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رِضَا اللهِ في رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسُخْطُ اللهِ في سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

رواه الترمذي عن شعبة بطريقين: أحدهما: مرفوع، والثاني: موقوف على عبد الله بن عمرو، وقال ابن عدي: وقفه أصح، فلا أعلم رفعه غير خالد بن الحارث عن شعبة، وخالد بن الحارث ثقة مأمون، وهناك ثقتان آخران محتج بهما في الصحيح أيضًا روياه مرفوعًا؛ كما بيَّن فضيلة محقِّق صحيح ابن حبان (2/ 173).

قال الترمذي: وفي الباب عن عبد الله بن مسعود.

أمَّا الحاكم فقال: صحيحٌ على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.

وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير.

* مفردات الحديث:

- رضا: رضي بالشيء رضًا، فهو راضٍ به، أي: مختار له، فالرضى بالشيء، ضد السخط، وأمَّا رضا الله: فهي صفة من صفاته التي تليق بجلاله تبارك وتعالى، نثبت حقيقتها اللائقة بجلاله، ولا نكيفها.

- سَخِطَ: لسَخِطَ سَخطًا، من باب تعب، فالسخط بالضم، اسم فيه، وهو الغضب، وأمَّا سخط الله: فهو صفة من صفاته التي وصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛

(1) الترمذي (1900)، ابن حبان (2026)، الحاكم (4/ 151).

ص: 330

فنثبت حقيقتها لله تعالى إثباتًا حقيقيًّا، ونفوِّض كيفية صفتها إلى الله تعالى.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

حق الوالدين كبير؛ فقد قرن تبارك وتعالى حقَّه بحقِّهما؛ فقال تعالى: {وَوَصَّيْأَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

2 -

وفي هذا الحديث جعل الله رضاه من رضائهما، وسخطه من سخطهما، فمن أرضاهما فقد أرضى الله، ومن أسخطهما فقد أسخط الله.

3 -

فيه وجوب إرضائهما، وتحريم إسخاطهما؛ ذلك أن إرضاءهما من الواجبات، وإسخاطهما من المحرمات.

4 -

النصوص في وجوب بر الوالدين، وتحريم عقوقهما كثيرة جدًّا، ومنها: ما رواه مسلم (2551) من حديث أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"رَغِمَ أنف، ثمَّ رغفَ أنف، ثمَّ رغم أنف، من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنَّة".

وجاء في البخاري (527) ومسلم (85) من حديث ابن مسعود قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصَّلاة لوقتها، قلت: ثمَّ أي؟ قال: بر الوالدين، قلت؛ ثمَّ أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله".

وجاء في الصحيحين، من حديث أبي بكرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"أَلَا أُنَبِّئُكم بأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ باللهِ، وَعُقُوق الوالدين".

5 -

وطاعة الوالدين إنَّما تكون بالمعروف؛ فلا طاعة لهما في معصية الله تعالى؛ فقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15].

وقال صلى الله عليه وسلم: "لَا طاعَة لمخلوقٍ في معصية الخالق".

قال صديق حسن في تفسيره: وجملة هذا الباب أنَّ طاعة الوالدين لا

ص: 331

تراعى في ركوب معصية، ولا ترك فريضة على الأعيان، وتلزم طاعتهما في المباحات.

وقال في شرح الإقناع: ولا طاعة للوالدين في ترك فريضة؛ كتعلم واجبٍ عليه، وما يقوم به دينه، من طهارةٍ، وصلاةٍ، وصيام، ونحو ذلك، وإنْ لم يحصل ذلك ببلده، فله السفر لطلبه بلا إذنهما؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق.

6 -

أمَّا بخصوص طاعة الوالدين في المباحات: فقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الَّذي ينتفع به الأبوان، ولا يتضرَّر هو بطاعتهما فيه قسمان:

قسم: يضرهما تركه؛ فهذا لا يستراب في وجوب طاعتهما فيه.

وقسم: ينتفعان به، ولا يضره؛ فتجب طاعتهما فيه.

7 -

وقال فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته، قال: لا يحل له أنْ يطلِّقها، بل عليه أنْ يبرها، وليس تطليق امرأته من برها.

قال في الآداب الكبرى: فإن أمره أبوه بطلاق امرأته، لم يجب، ذكره أكثر الأصحاب، وسأل رجلٌ الإمام أحمد، فقال: إنَّ أبي يأمرني أنْ أُطلِّق امرأتي، فقال: لا تطلِّقها.

قال الرَّجل: أليس عمر أمر ابنه عبد الله أنْ يطلِّق امرأته، قال: حتَّى يكون أبوك مثل عمر، رضي الله عنه.

***

ص: 332

1269 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

حق الجار على جاره كبير جدًّا؛ قال تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36].

وجاء في البخاري (6015) ومسلم (2625) من حديث عائشة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَا زَالَ جبريل يوصيني بالجار، حتَّى ظننت أنَّه سيورِّثه".

وجاء في مسلم (48) من حديث أبي شريح الخزاعي؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليحسن إلى جاره".

والنصوص في الباب كثيرة.

2 -

حديث الباب صريحٌ في نفي الإيمان عن العبد الَّذي لا يحب لجاره من حصول الخير وبعد الشر، ما يحب لنفسه.

3 -

أوَّل العلماء نفي الإيمان هنا بأنَّ المراد به نفي كماله الواجب؛ إذ قد علم من قواعد الشريعة: أنَّ من لم يتصف بذلك لا يخرج من الإيمان.

4 -

المحبوب المذكور لم يعين، وقد عيَّنه في رواية النسائي (5017) بلفظ:"حتَّى يحب لأَخيه من الخير ما يحب لنفسه".

قال العلماء: المراد: من الطاعات وأعمال الخير والأمور المباحة، وهذا فيه صعوبةٌ على النفوس الشحيحة، ولكنَّه سهل على ذوي القلوب السليمة.

(1) البخاري (13)، مسلم (45).

ص: 333

5 -

قال الشيخ العساف في مختصر الإحياء: وأمَّا حقوق الجار: فالجوار يقتضي حقًّا وراء كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى، والرِّفق، وابتداء الخير، فيبدؤه بالسلام، ويعوده في المرض، ويعزيه في المصيبة، ويهنئه في الفرح، ويصفح عن زلَاّته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه في صب الماء في ميزابه، ولا في طرح التراب في فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عوراته، ولا يتسمع على كلامه، ويغض طَرْفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب.

6 -

وقال في شرح البلوغ: الجار عامٌّ للمسلم، والكافر، والفاسق، والصديق، والعدو، والقريب، والأجنبي، فمن اجتمعت فيه الصفات الموجبة لمحبَّة الخير له، فهو في أعلى المراتب، ومن كان فيه أكثرها، فهو لاحق به، وهلمَّ جَرًّا إلى الخصلة الواحدة، فيعطي كلَّ ذي حقٍّ بحسب حاله.

وجاء في الطبراني من حديث جابر: "الجار الكافر له حق الجوار، والجار المسلم له مع الجوار حق الإسلام، والجار المسلم القريب له ثلاثة حقوق".

***

ص: 334

1270 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ، قَلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانَي حَلِيلَةَ جَارِكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- نِدًّا: بكسر النون، وتشديد الدَّال، هو الشبيه والمثيل والشريك.

- تزاني حليلة: الحليلة هي الزوجة، ولفظ "تزاني" يدل على رضاها، وهو خيانة كبرى للجار الَّذي يجب إحسان جواره.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث اشتمل على ثلاث من الموبقات:

إحداها: "أنْ تجعل ندًّا"؛ فهذا هو الشرك الأكبر الَّذي هو أعظم الذنوب، وأكبر المعاصي، ولا يغفر لصاحبه إلَاّ بالتوبة، وذلك بالدخول بالإسلام، وأمَّا من مات على الشرك، فهو مخلَّدٌ في النَّار.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة].

والنصوص من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة في هذه المسألة كثيرة.

الثانية: "أنْ تقتل ولدك؛ خشية أنْ يأكل معك"؛ فقتل النفس التي حرَّم

(1) البخاري (4477)، مسلم (86).

ص: 335

الله هي المرتبة الثانية الذنوب العظيمة، والموبقات المهلكة، ويزيد الإثم ويتضاعف والعقاب إذا كان المقتول ذا رحم من القاتل، ويتضاعف مرَّة أخرى حينما يكون الهدف هو قطع المقتول من رزق الله الَّذي أجري على يد القاتل؛ ففيه نهاية الشح، وغاية سوء الظن بالله تعالى؛ ولذا قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء].

الثالثة: "أنْ تزاني حليلة جارك"، الزنى هو الرتبة الثالثة بعظم الموبقات شناعتها، قال تعالى:{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} [الإسراء].

ويعظم إثم هذه الموبقة إذا كانت المزني بها حليلة الجار، الَّذي وصى الله تعالى رسوله على البر به، والإحسان إليه، وحسن صحبته وجواره؛ فكيف يكون الأمر إذا أفسد فراشه، وانتهك حرمته، وداس عرضه، وخان جواره؟!

2 -

الحديث يدل على أنَّ أعظم الذنوب هي الشرك بالله تعالى، ثمَّ قتل النفس التي حرَّم الله بغير حقٍّ، ثمَّ الزنى.

3 -

قوله صلى الله عليه وسلم: "وهو خلقك" هذا سياق تبشيع؛ فإنَّه من أبشع الأشياء، أنْ تقابل النعم عليك بالإساءة، فكيف إذا كان المنعم هو صاحب النعم العظيمة، والمنن الكبيرة، التي أولها الإيجاد من العدم؟!

***

ص: 336

1271 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ، قِيلَ: وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ" مُتَّفَقٌ علَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- من الكبائر: جمع كبيرة، وهي: الفعلة القبيحة، أو الخصلة الكبيرة من الذنوب المنهي عنها شرعًا، العظيم أمرها؛ كالقتل والزنى.

- يسب: يُقال؛ سبَّه يسبه سبًّا: شتمه، فالسب الشتم.

قال في التعريفات: الشتم: وصف الغير بما فيه نقص وازدراء.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تقدَّم بيان حقوق الوالدين، ووجوب برهما، والإحسان إليهما؛ كما تقدَّم أنَّ من أكبر الكبائر عقوقهما؛ فقد قال تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]. إذ علمنا أنَّ شتمهما من أعظم المنكرات.

2 -

لما قال النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: "من الكبائر شتم الرَّجل والديه"، استغرب الصحابة رضي الله عنه ذلك؛ فقالوا للنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: وهل يسب الرَّجل والديه؟ فأخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه إذا تسبب في شتمهما؛ فكأنه شتمهما؛ وذلك بأن يسب أبا الرجل، فيقابله ذلك الرجل بأن يسب أباه، فهو وإن لم يسب أباه مباشرة، إلَاّ أنه تسبَّب في ذلك، والقاعدة الشرعية:"إنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد".

(1) البخاري (5973)، مسلم (90).

ص: 337

3 -

الواجب على الإنسان الكف عن شتم النَّاس، وشتم آبائهم؛ لأنَّ هذا هُجْرٌ من القول محرَّم، ولأنَّه سببٌ لأَن يشتمه النَّاس، ويشتموا أباه معه بسببه.

4 -

الحديث فيه بيان حكم المتسبب من أنَّه يشارك المباشر في عمله، إنْ خيرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فشر.

5 -

قال ابن بطال: هذا الحديث أصلٌ في سدِّ الذرائع، ويؤخذ منه أنَّه إِذَا آل أمره إلى محرَّم، حرم عليه الفعل، وإنْ لم يقصد المحرَّم؛ وعليه دلَّ قوله تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي عند تفسير هذه الآية: نهى الله المؤمنين عن أمرٍ كان جائزًا بل مشروعًا في الأصل، وهو سبّ آلهة المشركين، لكن لما كان طريقًا إلى سب المشركين لربِّ العالمين، نهى الله عنه؛ فالآية دليلٌ للقاعدة الشرعية "إنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد" فوسائل المحرَّم، تكون محرَّمة ولو كانت جائزة.

6 -

أمَّا الوسائل المذكورة في الحديث، فهى وسائل محرَّمة، ومقاصدها محرَّمةٌ أيضًا.

***

ص: 338

1272 -

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أنْ يهجر أخاه: الهجر هو الترك، والمراد: أنْ يترك المؤمن كلام أخيه المؤمن إذا تلاقيا، ويعرض كل واحدٍ منهما عن صاحبه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

للمسلم على المسلم حقوق كبيرة، كثيرة، جاءت في كتاب الله تعالى وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد تتَّبعها الإِمَام الغزالي، فجاء منها في "الإحياء" بطائفة طيبة، منها: أنْ تسلِّم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قَسَمه، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب، وتحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك، وهذه الخصال الطيبة مستقاة من أحاديث صحيحة.

2 -

إذا كانت هذه بعض الحقوق التي حثَّ عليها دينك الحنيف، فكيف يجمل بك أنْ تهجره، وتقاطعه، وتُعْرِض عنه؟! لا شك أن هذا خلق مناف لآداب الإسلام كل المنافاة!!

3 -

يحرم هجر المسلم أكثر من ثلاثة أيَّام، فلا يحل أنْ يزاد عليها.

4 -

قال في شرح الإقناع: والهجر المنهي عنه يزول بالسلام؛ لأنَّه سبب التحابِّ

(1) البخاري (6077)، مسلم (2560).

ص: 339

للخير، فيقطع الهجر؛ روي مرفوعًا:"السَّلام يقطع الهجران".

ويدل على هذا ما جاء بالحديث: "يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الَّذي يبدأ بالسَّلام".

وزوال الهجر بالسَّلَام هو مذهب جمهور العلماء.

5 -

النَّفس البشرية تحب التشفي والانتقام؛ فاعطاها الشَّارع الحكيم مدَّة ثلاثة أيَّام تقضي وطرها ممَّن أغضبها، ولم يزد على ذلك.

6 -

في الحديث فضيلة الَّذي يبدأ صاحبه بالسَّلام، ويزيل ما بينهما من التهاجر والتقاطع، ذلك أنَّه استطاع أنْ يتغلَّب على نفسه الأمَّارة بالسوء، فيسامح صاحبه ويصافيه؛ قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت].

7 -

وقال في شرح منظومة الآداب: من أعلن المعاصي -سواءٌ أكانت فعلية، أو قولية، أو اعتقادية- فهجره سنَّة يثاب الإنسان على فعلها؛ حيث كان الهجر لله تعالى غضبًا لارتكاب معاصيه، أو لإهمال أوامره.

قال الإمام أحمد: إذا علم أنَّه مقيمٌ على معصيةٍ لم يأثم إنْ جفاه حتَّى يرجع، وقد جفى النَّبي صلى الله عليه وسلم كعبًا وصاحبيه، وأمر الصحابة بهجرهم خمسين يومًا.

***

ص: 340

1273 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (1).

1274 -

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (2).

ــ

* مفردات الحديث:

- بوجه: بالتنوين.

- طَلْق: بفتح الطاء، وسكون الَّلام، أي: طليق سهل منبسط باشٍّ مشرق، ويأتي طليق كأمير.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

أبواب طرق الخير كثيرة، والمستحب للمسلم أنْ يضرب في كلِّ بابٍ بسهمٍ؛ فقد قال تعالى:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)} [البقرة]، وقال تعالى:{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} [آل عمران: 115]، وقال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)} [الزلزلة].

2 -

وقد عدَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم جملةً طيبةً في بعض الأحاديث الصحيحة من أعمال الخير، وجعلها صدقة، فقال: "كُلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونَهيٌ عن

(1) البخاري (6021).

(2)

مسلم (2626).

ص: 341

المنكر صدقة، وفي بُضْعِ أَحدكم صدقة، تعدل بين اثنين صدقة، تعين الرَّجل فتحمل له على الدَّابة صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكلِّ خطوةٍ تمشيها إلى الصَّلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة، وطلاقة الوجه بوجه أخيك المسلم صدقة"؛ وهذه الجمل الكريمات من ثلاثة أحاديث.

3 -

كل معروفٍ يفعله الإنسان صدقة، والصدقة هي ما يعطيه المتصدِّق؛ فيشمل الواجبة والمندوبة، يبيِّن أنَّ له حكم الصَّدقة في الثواب.

4 -

الحديث يدل على أن الصَّدقة لا تنحصر فيما هو أصلها، وهو ما أخرجه الإنسان من ماله متطوِّعًا؛ فلا تخص بأهل اليسار، بل كل أحد قادر على أنْ يفعلها في أكثر الأحوال من غير مشقَّة؛ فإنَّ كلَّ شيءٍ يفعله الإنسان، أو يقوله من الخير: يكتب له به صدقة.

5 -

لعلَّ من حِكَم تنويع العبادات، وأنواع البر، هو امتحان العباد بالقيام بها؛ فإنَّ منهم من تسهل عليه العبادات المالية دون البدنية، ومنهم من تسهل عليه العبادات البدنية دون المالية، فأراد جلَّ وعلا اختبار عباده؛ من يقدم طاعة ربه على هوى نفسه، كما أنَّ تنويعها؛ ليقوم كل مريدٍ للخير بما يقدر عليه، وما يناسبه.

***

ص: 342

1275 -

وَعَنْ أبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- مَرَقة: المَرَق: بفتح الميم، والرَّاء، بعدها قاف، هي الماء أغلي فيه اللحم، فصار دسمًا، والجزء منه: مرقة.

- تعاهد جيرانك: تفقَّدْ جيرانك، وَصِلْهم، ولو بمرقة تهديها إليهم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

تقدَّم الحثُّ على فضل صلة الجار، وبرِّه، والإحسان إليه، وهذا الحديث يحث الرجل أنْ يتعاهد جيرانه بقدر حاله، وأنْ لا يحقر من المعروف شيئًا، حتَّى ولو لم يكن عنده إلَاّ مرقة، فليكثر ماءها، وليتعاهد جيرانه ببعث شيء منها.

2 -

العادة أنَّ الجيران قد سقطت بينهم الكلفة، وزالت فيما بينهم الهيبة، والهدية -ولو صغرت- توثق الصلة، وتقوي العلاقة، وتحكم المحبة؛ فالأفضل أنْ يتعاهدوا فيما بينهم الوسائل التي تربط بينهم علاقة الجوار؛ ففي الحديث:"تهادَوْا تحابوا".

(1) مسلم (2625).

ص: 343

1276 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، واللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- نَفَّسَ: بفتح النون، وتشديد الفاء، آخره سين، من تنفيس الخناق، أي: إرخائه حتَّى يأخذ له نفسًا، والمراد: إزالة الضيق.

- كُرْبَة: بضم الكاف، وسكون الرَّاء، ثمَّ باء موحَّدة، وآخرها تاء التأنيث، هي: ما أهم النفس، وغمَّ القلب، كأنَّها لشدَّة غمِّها عطَّلت مجال التنفس منه.

- يسَّر على معسرٍ: سهَّل عليه بإبراءٍ، أو هبةٍ، أو صدقةٍ، أو إنظارٍ إلى ميسرة، قال في الفتح: ويصح شموله لإفتاء عامي في ضائقة وقع فيها بما يخلصه منها، لأنَّه حِصن بالنسبة للعامي.

- سَتَر: أخفى عيب أو ذنب ذوي الهيئات والمروءات الَّذين لم يُعْرَفوا بالشرِّ، فالله تعالى يستره يوم القيامة بمحو ذنوبه، بحيث لا يسأله عنها ابتداءً، أو يسأله عنها بدون أنْ يطَّلِعَ عليها أحد.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال ابن دقيق العيد: هذا حديثٌ عظيم جامع لأنواعٍ من العلوم والقواعد

(1) مسلم (2699).

ص: 344

الآداب. وهذه القطعة التي معنا فيها أربع فقرات كريمات:

الأولى: "من نفَّس عن مسلمٍ كربةً

إلخ":

قال ابن رجب: الكربة هي الشدَّة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أنْ يخفف عنه منها؛ وذلك بأنْ يزيل عنه الكربة، فتفرج عنه كربته، ويزول همه وغمه، وتفريج الكربات بابه واسع؛ فإنَّه يشمل كل ما يلزمه، وينزل بالعبد من ضائقة.

قال النووي: فيه دليلٌ على استحباب الرضا، وفك الأسير، والضمان على المعسر، وليس في الحديث جزاء الحسنة حسنة في الآخرة واحدة، وإنَّما كربة الآخرة تشتمل على أحوال صعبة، ومخاوف جمَّة، وتلك الأهوال تزيد على العسرة؛ كما أنَّ الحديث وعد بأنْ يختم للمنفِّس بخير، بأنْ يموت على الإسلام، فهو وعد بثواب الآخرة، فبهذا الوعد فليثق المؤمنون.

الثانية: "من يسَّر على معسرٍ، يسَّر الله عليه فى الدنيا والآخرة":

قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} [البقرة]؛ فإنظار الغريم في الدَّين، أو إبراؤه سببٌ قويٌ، ووعدٌ من الله تعالى أنْ ييسِّر الله أموره في الدنيا والآخرة.

قال ابن رجب: التيسير على المعسر يكون بأحد أمرين:

إمَّا إنظاره، وذلك واجب.

وإمَّا بالوضع عنه، أو بإعطائه ما يزول به إعساره؛ وكلاهما فيه فضل.

وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كان تاجرٌ يداين النَّاسَ، فإذا رأى معسرًا، قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعلَّ الله أنْ يتجاوز عنَّا، فتجاوز الله عنه".

الثالثة: "من ستر على مسلم

إلخ".

ص: 345

قال النووي: في الحديث استحباب ستر المسلم إذا طَّلَعَ على أنَّه عمل فاحشة؛ فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور].

والمستحب للإنسان إذا اقترف ذنبًا أنْ يستر على نفسه.

قال ابن دقيق العيد في شرح الأربعين: المراد الستر على ذوي الهيئات، ونحوهم ممَّن ليس معروفًا بالفساد، وهذا في ستر معصية وقعت وانقضت، أمَّا إذا علم معصيته وهو ملتبس بها، فيجب المبادرة بالإنكار عليه، ومنعه منها، فإنْ عجز، لزم رفعها إلى ولي الأمر إنْ لم يترتَّب على ذلك مفسدة.

أمَّا المعروف بالفسق: فلا يستر عليه؛ لأنَّ الستر عليه يطمعه في الفساد، والإيذاء، وانتهاك المحرمات، وجسارة غيره على مثل ذلك، بل عليه أنْ يرفعه إلى الإمام إنْ لم يخف من ذلك مفسدة.

وكذلك القول في جرح الرواة، والشهود، والأمناء على الصدقات، والأوقاف، والأيتام، ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة، ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرَّمة، بل من النصيحة الواجبة.

وقال ابن رجب في شرح الأربعين: واعلم أن النَّاسَ على ضربين:

أحدهما: من كان مستورًا لا يعرف بشيءٍ من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلَّة، فإنَّه لا يجوز هتكها، ولا كشفها، ولا التحدث بها؛ لأنَّ ذلك غيبة محرَّمة، وهذا هو الَّذي ورد في النصوص؛ وفي ذلك قال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)} [النور]، والمراد بإشاعة الفاحشة على المؤمن فيما وقع منه، واتهم به ممَّا هو بريءٌ منه.

قال بعض الوزراء الصَّالحين لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أنْ تستر

ص: 346

العصاة، فإنَّ ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، ومثل هذا لو جاء تائبًا نادمًا، وأقر بحد لم يفسره، لم يطلب منه أنْ يفسره، بل يؤمر بأنْ يرجع ويستر نفسه؛ فقد جاء في الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"[أخرجه أبو داود (4375) والنسائي (4/ 310) من حديث عائشة].

الثاني: من كان مشتهرًا بالمعاصي، معلِنًا بها، ولا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، هذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة، كما نصَّ على ذلك الحسن البصري، وغيره.

ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره؛ لتقام عليه الحدود، وصرَّح بذلك أصحابنا؛ واستدلوا بقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"واغدُ يَا أُنيس إلى امرأة هذا، فإنْ اعترفت فارجمها"[رواه البخاري (6859) ومسلم (1698)].

ومثل هذا لا يشفع له إذا أخذ، ولو لم يبلغ السلطان، بل يترك حتَّى يقام عليه الحد، فيكشف ستره، ويرتدع به أمثاله.

قال مالك: من لم يعرف منه أذًى للنَّاس، وإنَّما كانت منه زلَّة، فلا بأس أنْ يشفع له ما لم يبلغ الإمام، وأمَّا من عُرِفَ بشرٍّ، أو فسادٍ، فلا أحب أنْ يشفع له أحد، ولكن يترك حتَّى يقام عليه الحد، حكاه ابن المنذر وغيره.

الرَّابعة: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه":

فمن كان في حاجة أخيه، فالله تعالى في حاجته بالتيسير والتسهيل والإعانة، وهو وعدٌ صادق من الله تعالى؛ فقد أخرج الطبراني في الأوسط (5/ 202) من حديث عمر مرفوعًا:"أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، كسوت عورته، أو أشبعت جوعته، أو قضيت حاجته".

قال مجاهد: "صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني".

ص: 347

فالحديث يدل على أنَّه تعالى يتولَّى إعانة من أعان أخاه، سواءٌ في حاجة العبد التي يسعى فيها، أو في حوائج نفسه؛ فينال من عون الله ما لم يكن يناله بغير إعانته، وإنْ كان تعالى هو المعين لعبده في كلِّ أموره، لكن إذا كان في عون أخيه، زادت إعانة الله له.

2 -

فيؤخذ منه أنَّه ينبغي للعبد أنْ يشتغل بقضاء حوائج أخيه، فيقدمها على حاجة نفسه؛ لينال من الله كمال الإعانة في حاجاته.

3 -

وهذه الجمل دلَّت على أنَّه تعالى يجازي العبد من جنس فعله.

***

ص: 348

1277 -

وَعَنِ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ، فَلَهُ مِثْلُ أجْرِ فَاعِلِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

المؤمن هو الَّذي يكون قدوةً، وأسوةً في عمل الخيرات، وفعل الطيبات، قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} [الفرقان]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73].

وجاء في مسلم (1017) من حديث جرير بن عبد الله؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ سَنَّ سنَّةً في الإِسلام حسنةً، فله أجرها، وأجر من عمل بها بعده، من غير أنْ ينقص من أجورهم من شيء".

2 -

وحديث الباب يدل على أنَّ من دلَّ على خيرٍ، سواءٌ أكان من خير الدنيا، أو خير الآخرة: أنَّ له من الأجر مثل أجر من فعل، من غير أنْ ينقص من أجر المقتدى به شيء، وإنَّما هو أجرٌ بسبب كونه قدوةً في الخير، وأسوةً في عمل الإحسان.

3 -

ومن أفضل الأَعمال الصالحة التي يتعدَّى نفعها، وتبقى ثمارها: هو العلم النَّافع، الَّذي هو شرع الله تعالى من أصوله وفروعه، وما أعان على فهمه، فمن نشر هذا العلم، فقد ضرب بسهمٍ وافرٍ من القدوة الحسنة، والدَّلالة على الصراط المستقيم، وقد أخرج النَّاس -بإذن الله تعالى- من ظلمات الجهل إلى نور العلم، والهداية، والإرشاد، ونال بهذا عظيم الأجر من الله تعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"لأن يهديَ الله بك رجلًا واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعم"[رواه البخاري (3009)، ومسلم (2406)].

(1) مسلم (1893).

ص: 349

1278 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ أَتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا لَهُ" أَخْرَجَهُ البَيْهَقِيُّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال المؤلف: أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب، والبيهقي، وأبو داود، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.

وأخرجه الترمذي: وقال حسنٌ غريب.

وقد أخرجه الطبراني (12/ 397) بسندٍ رجالُهُ رجال الصحيح إلَاّ شيخه.

* مفردات الحديث:

- استعاذكم بالله: سأل العوذَ والعصمةَ، متوسلًا إليكم بالله، ومُقْسِمًا به عليكم، قَسَمَ استعطافٍ.

- فأعيذوه: أي أجيروه منه؛ إجلالًا لمن استعاذ به.

- من سألكم بالله: شيئًا، من جليلٍ، أو حقير، متوسلاً إليكم بالله، فأعطوه ما سأل إذا قدرتم عليه.

- معروفًا: اسمٌ جامعٌ لكل ما يحسن في الشرع، وتسكن إليه النفس من الخير، والرفق والإحسان، وغيرها.

- فكافئوه: بصيغة الأمر، أي: أعطوه على إحسانه بمثل معروفه، أو أحسن منه.

(1) البيهقي (4/ 199)، أبو داود (1672)، النسائي (5/ 82)، أحمد (2/ 68).

ص: 350

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه أربع جمل هي:

الأولى: "من استعاذكم بالله، فأعيذوه" أي: من التجأ إليكم، واعتصم بكم في أمرٍ من الأمور التي حَزَبته، والعظائم التي ألجأته، فأعيذوه، وكونوا سندًا له، وعضدًا له في كربته ممَّن ظلمه، أو تعدَّى عليه، ما دام أنَّه مع حق في طلب النجاة والحماية،؛ فقد دخل عليكم هذا المدخل، فقد قال صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا".

الثانية: "من سألكم بالله، فأعطوه": من سألكم شيئًا، وعزَّز سؤاله بالله أنْ تعطوه سؤاله، فأعطوه ما طلب؛ إعظامًا للسؤال بالله تعالى.

الثالثة: "من صنع إليكم معروفًا، فكافئوه" على معروفه، ولا تجعلوا له المنَّة الدائمة عليكم؛ فإن شكر المنعم مكافأته، ومقابلته عليها، والبادىء بالمعروف له سابق الفضل، فيحسن مجازاته على إحسانه.

الرَّابعة: إنْ لم يجد ما يكافىء به صاحب المعروف، فعليه أنْ يكافئه بالدعاء، ومن أعظم الدعاء قول:"جزاك الله خيرًا".

2 -

وفيه دليلٌ على أنَّ الاستعاذة بالمخلوق بما يقدر عليه جائزة؛ كما أنَّ السؤال عند الحاجة جائز.

***

ص: 351