المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الترهيب من مساوىء الأخلاق - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٧

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب الترهيب من مساوىء الأخلاق

‌باب الترهيب من مساوىء الأخلاق

مقدمة

قال في المصباح: رَهِبَ رَهَبًا -من باب تعب-: خاف.

وقال في تاج العروس: رهبَ كعلم، يرهب رهبةً، بالضم والفتح، وَرَهَبًا، بالتحريك، أي: أنَّ فيه ثلاث لغات، أي: خاف مع تحرُّز.

وهناك مبدأ عند أصحاب السَّيْر والسلوك إلى الله تعالى، وهو التخلِّي عن مساوىء الأخلاق، ثم التحلِّي بفضائلها ومحامدها.

وهكذا المؤلِّف رحمه الله صنع في ترتيبه أحاديث هذا الباب؛ فإنَّه بدأ هنا بالأحاديث التي تنهى عن القبائح والفضائح: من الحسد، والظلم، والشرك، والنِّفاق، والسباب، والفسوق، والغضب، والفتنة، والبخل، وسوء الخلق، وغير ذلك من المساوىء، والعيوب.

ثمَّ ثنى بذكر "باب الترغيب في مكارم الأخلاق" ممَّا سيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى؛ فهذا صنع جيد، وترتيب حسن، جزاه الله خيرًا، ورحمه.

***

ص: 388

1290 -

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكمْ وَالْحَسَدَ؛ فَإِنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ الحَسَنَاتِ، كمَا تَأْكُلُ النَّارُ الحَطَبَ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ (1)، وَلاِبْنِ مَاجَةَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ نَحْوُهُ (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

أخرجه أبو داود، وسكت عنه، وقال المنذري: جد إبراهيم لم يُسمَّ، وذكر البخاري إبراهيم هذا في التاريخ الكبير، وذكر له هذا الحديث، وقال: لا يصح، وضعَّفه السيوطي في الجامع الصغير، وقال بعض المحدثين: في سنده عيسى بن أبي عيسى الحناط، قال في التقريب: متروك، والله أعلم.

* مفردات الحديث:

- الحسد: تمنِّي الإنسان أنْ يحوِّل الله إليه نعمة الآخر، أو فضيلته، ويسلبها منه، هذا هو المذموم، وأمَّا أنْ يتمنَّى النعمة لنفسه من غير أنْ تزول عن صاحبها، فتسمَّى الغبطة، فإذا كانت في أمور الدنيا: فمباح، وإنْ كَانت في أمور الآخرة: فمحمودة؛ لأنَّها منافسةٌ على الخير.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه تحذيرٌ من الحسد، ووجوب مجاهدته، وأنَّ وجوده يذهب الحسنات، ويبطل ثوابها؛ كما تأكل النَّار الحطب، فتجعله رمادًا.

2 -

الحسد الَّذي نهى عنه هو أن يرى الإنسان نعمة الله عند آخر، فيتمنَّى زوالها

(1) أبو داود (4903).

(2)

ابن ماجة (4210).

ص: 389

منه، فهذا هو الحسد المذموم.

3 -

الحسد قد جاء ذمُّه في الكتاب والسنَّة؛ فقال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54]؛ فهذا إنكارٌ من الله تعالى لمن يحسد النَّاس على ما أنعم الله عليهم.

وجاء في مسند أحمد (1415) وسنن الترمذي (2510) من حديث الزبير ابن العوام، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"دبَّ إليكم داء الأُمم قبلكم: الحسد، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدِّين".

وفي الحسد آثارٌ كثيرة، وقد قيل: إنَّ أوَّل ذنبٍ عُصِيَ الله به الحسد، حينما أمر الله إبليس بالسجود لآدم، فحسده، وامتنع من السجود، فطرده الله من الجنَّة.

4 -

قال ابن رجب: الحسد مركوز في طباع البشر، وهو أنَّ الإنسان يكره أنْ يفوقه أحدٌ من جنسه في شيءٍ من الفضائل.

والنَّاسُ ينقسمون فيه مراتب:

- منهم: من يسعى في زوال نعمة المحسود بالبغي عليه بالقول والفعل.

- ومنهم: من يسعى في نقل ذلك إلى نفسه.

- ومنهم: من يسعى في إزالة المحسود فقط، من غير نقل ذلك إلى نفسه، وهذا كله حسدٌ مذموم، وهو المنهي عنه.

- وقسمٌ آخر من النَّاس: إذا حسد غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبْغِ على المحسود بقولٍ ولا بفعل، وقد رُوِيَ عن الحسن أنَّه لا يأثم بذلك.

- وقسمٌ آخر: إذا وجد في نفسه الحسد، سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإبداء الإحسان إليه، والدعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وجد في نفسه من الحسد حتَّى يبدَّل بمحبته.

وهذا من أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمن الكامل الَّذي يحب

ص: 390

لأخيه ما يحب لنفسه.

5 -

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الحسد نوعان:

نوعٌ محرَّمٌ مذموم: وهو أَنْ يتمنَّى زوال نعمة الله عن العبد، سواءٌ أحب ذلك محبَّة استقرَّت في قلبه، ولم يجاهد نفسه عنها، أو سعى مع ذلك في إزالتها وإخفائها، وهذا أقبح؛ لأنَّه ظلمٌ متكرِّر.

وهذا النوع هو الذي يأكل الحسنات، كما تأكل النَّار الحطب.

النوع الثاني: أنْ لا يتمنَّى زوال نعمة الله عن العبد، ولكن يتمنَّى حصول مثلها له، أو فوقها، أو دونها.

وهذا نوعان: محمودٌ، وغير محمود:

فالمحمود: أنْ يرى نعمة الله الدينية على عبده، فيتمنَّى أنْ يكون له مثله، فهذا من باب تمنِّي الخير، فإن قارن ذلك سعي وعمل لتحصيل ذلك، فهو نورٌ على نور.

وأمَّا الغبطة التي لم تحمد: فيتمنِّي حصول مطالب الدنيا؛ لأَجل اللذات، وتناول الشهوات؛ كقصَّة قوم قارون.

6 -

قال ابن القيم عند قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} [الفلق]: تأمَّل تقييده سبحانه وتعالى شرَّ الحاسد بقوله: {إِذَا حَسَدَ} ؛ لأنَّ الرَّجل قد يكون عنده الحسد، ولكن يخفيه، ولا يظهر عليه بوجهه، ولا بقلبه، ولا بلسانه، ولا بيده، بل لا يجد في قلبه شيئًا من ذلك، ولا يعامل أخاه إلَاّ بما يحب الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحدٌ إلَاّ من عصم الله.

وللحسد ثلاث مراتب:

إحداها: هي المتقدمة.

الثانية: تمنِّي استصحاب عدم النعمة، فهو يكره أنْ يحدث الله بعبده نعمة، بل يحب أنْ يبقى على حاله، من جهله، أو فقره، أو ضعفه، أو

ص: 391

شتات قلبه عن الله، أو قلَّة دينه؛ فهو يتمنَّى ما هو فيه من نقص وضعف.

فهذا حسد على شيءٍ مقدَّر، والأوَّل حسدٌ على شيءٍ محقَّق؛ وكلاهما حاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، وممقوت عند الله تعالى وعند النَّاس.

الثالثة: حسد الغبطة، وهو تمنِّي أنْ يكون له مثل حال المحسود، من غير أنْ تزول النعمة عنه، فهذا لا بأس به، ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريبٌ من المنافسة؛ قال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين].

وفي الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "لا حسد إلَاّ في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا وسلَّطه على هَلَكَتِهِ في الحقِّ، ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها، ويعلِّمها النَّاس".

فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه كِبَرُ نفسه، وحب خصال الخير، والتشبه بأهلها، والدخول في جملتهم، وأنْ يكون من سابقيهم، وعليه فتحدث له من هذه الهمَّة المنافسة والمسابقة والمسارعة، مع محبته لمن يغبطه، وتمنِّي دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجهٍ ما.

7 -

قال الغزالي: الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا دواء لأمراض القلوب إلَاّ بالعلم والعمل:

والعلم النَّافع لمرض الحسد: هو أنْ تعرف أنَّ الحسد ضرره عليك في الدِّين والدنيا، والمحسود لا ضرر عليه في الدنيا، ولا في الدِّين، بل ينتفع بحسدك في الدِّين؛ لأنَّه مظلومٌ من جهتك، لاسيما إذا أخرجت الحسد إلى القول والفعل، وأمَّا منفعته في الدنيا: فهو أنَّه من أهم أغراض الخلق غم الأعداء، ولا غَمَّ أعظم ممَّا فيه الحاسد.

وأمَّا العمل النَّافع فيه: فهو أنْ يتكلَّف نقيض ما يأمره به الحسد، وهو بعْثه على الحقد، والقدح في المحسود؛ فيكلف نفسه المدح له، والثناء عليه، وإنْ حمله على الكبر، ألزم نفسه بالتواضع له، وإنْ بعثه على كفِّ

ص: 392

الإنعام عنه، ألزم نفسه زيادة في الإنعام.

فهذه أدويةٌ نافعةٌ للحسد إلَاّ أنَّها مُرَّة، ويسهِّل شربها الاستعانة بالله تعالى، ولا حول ولاقوَّة إلَاّ بالله العلي العظيم.

***

ص: 393

1291 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الشديد: المراد بالشدَّة هنا القوَّة المعنوية، وهي مجاهدة النَّفس وإمساكها عن الشرِّ.

- الصُّرَعة: بضم الصاد المهملة، وفتح الرَّاء، هو القوي الَّذي يصرع النَّاس كثيرًا؛ لقوته وشدَّته.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على أنَّ القوَّة الحقيقية ليست هي قوَّة العضلات، والقوَّة البدنية، وإنَّما القوَّة الحقيقية هي القوَّة المعنوية؛ فليس الشديد القوي هو الَّذي يصرع دائمًا غيره من الأشداء.

وإنَّمَا الشديد هو الَّذي جاهد نفسه، وقهرها حينمَا يشتد به الغضب؛ فيملك زمامها، فلا يقدِّم على فعل محرَّم، من اعتداء، ويمسك لسانه، فلا يتفوه بكلامٍ محرَّمٍ، من شتمٍ، أو لعنٍ، أو قذْفٍ، أو غير ذلك.

2 -

الغضب غريزةٌ في الإنسان، فإذا جاء ما يبعثها، تحرَّكت نفسه من داخلها إلى خارج الجسد؛ لإرادة الانتقام؛ فالقوي الشديد هو الَّذي يجاهد هذه الحركة، ويقوى عليها، فيصدها عمَّا تريده من الانتقام.

3 -

أمَّا ما جاء من الحديث الَّذي رواه البخاري (6116) من حديث أبي هريرة:

(1) البخاري (6114)، مسلم (2609).

ص: 394

"أنَّ رجلًا قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال: لا تغضب" فالمراد أمران:

الأوَّل: يوصيه بأنْ يعمل الأسباب التي توجب له حسن الخلق، من الحلم، والأناة، والحياء، والاحتمال، وكف الأذى، والصفح، والعفو، وكظم الغيظ، ونحو ذلك؛ فإنَّ النَّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه.

الثاني: أنَّه يوصيه أنْ: لا تعملْ بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمرك به، فإنَّ الغضب إذا ملك من بني آدم، كان هو الآمر النَّاهي له؛ ولهذا قال تعالى:{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [الأعراف: 154].

4 -

فضيلة الحلم: قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران: 134].

وقال: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)} [الشورى].

وأخرج أبو داود (4777) والترمذي (2021) وحسَّنه، من حديث معاذ بن أنس الجهني، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من كظم غيظًا هو قادر على أنْ ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق، ويخيره من أي الحور شاء".

والآثار والحِكَم المنقولة عن العلماء والحكماء في هذا الباب كثيرةٌ جدًّا.

***

ص: 395

1292 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قالَ رُسْوُل اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الظُّلمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القيامة" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث من أدلَّة تحريم الظلم، وهو يشمل جميع الظلم، وأعظمه الشرك بالله تعالى، قال تعالى:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان].

وقال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا".

والآيات، والأحاديث، والآثار، في تحريم الظلم، وبيان قبحه كثيرةٌ جدًّا.

2 -

قال ابن رجب: الظلم نوعان:

أحدهما: ظلم النفس، وأعظمه الشرك؛ فإنَّ المشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق؛ وبهذا فقد وضع الأشياء في غير مواضعها، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.

الثاني: ظلم العبد غيره، سواء كان في النفس، أو في المال، أو في العِرض؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجَّة الوداع:"إنَّ دماءَكمْ، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"[رواه البخاري (67) ومسلم (1679)].

وجاء في صحيح البخاري (6534) عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مظلمةٌ لأخيه، فليتحلَّل منها قبل أنْ تُؤْخَذ حسناته، فإنْ لم يكن له حسنات، أُخِذَ مِنْ سَيئات أخيه، فطُرِحَتْ عَلَيْهِ".

(1) البخاري (2447)، مسلم (2579).

ص: 396

1293 -

وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّح؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الشُّح: بضم الشِّين، وتشديد الحاء، هو البخل بما عنده، والحرص على ما ليس عنده، ويشمل غير المال.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه التحذير من الظلم، والأمر باجتنابه، والبعد عنه؛ فإنَّه خطر العاقبة، ذلك أنَّه ظلماتٌ يوم القيامة، فالمؤمنون مستضيئون بنور إيمانهم، ويقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، وأمَّا الظَّالمون لربِّهم بالشِّرك، أو لأنفسهم بالمعاصي، أو لغيرهم في الدماء، أو الأموال، أو الأعراض، فهؤلاء يمشون في دياجير الظلم؛ فلا يهتدون سبيلاً.

2 -

ويدل الحديث على التحذير من الشح والبخل؛ فإنَّه صارَ سبب هلاك الأمم السَّابقة، حملهم الحرص على المال على الاعتداء على أموال غيرهم، فصارت الحروب والفتن التي صارت سبب هلاكهم، واستحلال محارمهم، وهذا هلاك في الدنيا.

3 -

كما أنَّه سببٌ للهلاك الأخروي؛ فإنَّ الاعتداء على مال الغير، والاعتداء على محارمه، وسفك دمه: من أكبر الظلم، وأشد الإثم، وهذه المعاصي هي سببُ الهلاك في الآخرة، وعذاب النَّار.

(1) مسلم (2578).

ص: 397

4 -

جاءت النصوص الكثيرة في ذمِّ البخل والشح؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر].

وقال: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية. [آل عمران: 180].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد: 38].

وجاء في مسند أحمد (14) والترمذي (1963) من حديث أبي بكرٍ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَدخل الجنةَّ بخيل".

وأخرج الترمذي (2567) والنسائي في الكبرى (2/ 44) من حديث أبي ذَرٍّ؛ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللهَ يبغض ثلاثة: الشيخ الزَّاني، والبخيل المنَّان، والمسبل المختال".

- قال في مختصر الإحياء: البخيل: هو الَّذي يمنع ما ينبغي منه، إمَّا بحكم الشرع، أو لازم المروءة، ومن قام بواجب الشرع، ولازم المروءة، تبرأ من البخل.

5 -

البخل داء، وسبب البخل أمران:

أحدهما: حب الشهوات التي لا يتوصل إلَاّ إليها بالمال.

الثاني: حب المال الَّذي تنال به الشهوات، ثمَّ تنسى الشهوات والحاجات، ويكون نفس المال هو المحبوب.

وعلاج الشهوات: القناعة باليسير، والصبر، والمعرفة يقينًا بأنَّ اللهَ تعالى هو الرَّزاق، ثمَّ ينظر في عواقب البخل في الدني؛، فإنَّه لَابُدَّ لجامع المال من آفات تلم به رغم أنفه.

6 -

هنا ثلاثة أصناف: إسراف، وتقتير، واقتصاد:

فالصنفان الأولان مذمومان، والصنف الثالث محمود:

فالإسراف: هُو مجاوزة الحد في النفقات المباحة، أو النفقات

ص: 398

المحرمة؛ فهذا كله إسراف ممقوت.

الثاني: التقتير: وهذا هو البخل؛ وهو التقصير بالنَّفقات الواجبة، أو النفقات المستحبة التي تقتضيها المروءة.

أمَّا الصنف الثالت المحمود: فهو الاقتصاد والتدبير؛ وذلك هو القيام بالنَّفقات الواجبات من حقوق الله، وحقوق خلقه؛ من النفقات، والديون الواجبات، كما هو القيام بالنفقات المستحبة المرغوبة ممَّا تقتضيه المروءة؛ قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان]؛ فهذه من صفات عباد الرحمن، والله الموفِّق.

***

ص: 399

1294 -

وَعَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الأَصْغَرُ: الرِّيَاءُ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث إسناده جيد.

قال زين الدِّين العراقي في تخريج أحاديث "الإحياء": أخرجه أحمد، والبيهقي في الشعب، من حديث محمود بن لبيد، ورجاله ثقات.

ورواه الطبراني في رواية محمود بن لبيد، عن رافع بن خديج.

قال الشوكاني في تفسيره: أخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وابن جرير في تهذيبه، والحاكم، وصحَّحه، والبيهقي، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدَّجال: الشرك الخفي، أنْ يقوم الرَّجل يصلي لمكان الرَّجل"، ونحوه من حديث شدَّاد بن أوس أخرجه أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصحَّحه.

قال المنذري: إسناده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرِّياء، وأنَّه الشرك الأصغر، وقد استوفاها صاحب الدر المنثور، في آخر تفسير سورة الكهف.

* مفردات الحديث:

- الشرك الأصغر: الشرك نوعان: أكبر يخرج من الملَّة الإسلامية، وأصغر، وضابطه: أنَّه أحد الوسائل المفضية إلى الشرك الأكبر، والأصغر لا يخرج من

(1) أحمد (5/ 428).

ص: 400

الملَّة إلَاّ أنَّه خطر.

- الرياء: بكسر الرَّاء، وتخفيف الياء، ممدود، من الرؤية، وحَدُّهُ: هو إظهار العبادة؛ لقصد رؤية النَّاس لها؛ فيحمدوا صاحبها.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الرِّيَاء: مشتقٌّ من الرؤية يرائي النَّاس بما يطلب به الحظوة عندهم، وهو أقسام: منها: ما يكون بالبدن؛ كإظهار النحول والاصفرار، من طول القيام، وكثرة الصيام.

ومنها: الزِّي والهيئة؛ كإظهار أثر السجود على الجبهة، وغلظ الثياب، ومنها: القول؛ كإظهار الغضب عند المنكرات، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر النَّاس.

2 -

النَّبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، فهو حريص على جلب كل خيرٍ لأُمَّته، ودفع كل أذى وضرر عنها، فيخاف عليها أنْ تقعَ في المهالك التي تذهب بالحسنات، وتجلب السيئات.

وإنَّ من أخطر تلك المعاصي الرِّياء الَّذي هو من أنواع الشرك بالله تعالى، ووجه الخوف يأتي من أمرين:

الأوَّل: أنَّه خفيُّ المداخل، لطيف المسالك، يقع فيه المسلم المتعبِّد وهو لم يشعر به، إذا كان من الرياء الخفي، الَّذي هو -غالبًا- يقع في المسلمين المتعبِّدين.

الثاني: أنَّه من الشرك، والشرك أعظم الذنوب.

ووجه كونه من الشرك: أنَّ المرائي إذا عَبَدَ اللهَ، فهو بمراءاته النَّاس أشرك بتلك العبادة من يرائيهم من النَّاس؛ وبهذا فقد أشرك بالله تعالى، إلَاّ أنَّه من الشرك الأصغر؛ والله تعالى يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48].

ص: 401

3 -

قال شيخ الإسلام: إنَّ المرائي في العبادة لا يكتفي ببطلان عبادته، فيرجع منها لا له ولا عليه، وإنَّما عليه -مع بطلان العبادة- إثم الرِّياء، وهو من الشرك الأصغر.

4 -

قال ابن رجب في شرح الأربعين: العمل لغير الله أقسام:

تارةً يكون: رياءً محضًا؛ بحيث لا يُراد به سوى مراءاة المخلوقين؛ لغرضٍ دنيوي؛ كحال المنافقين في صلاتهم.

وهذا الرِّياء لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصَّلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، والحج، وغيرهما من الأعمال الظاهرة التي يتعدَّى نفعها؛ فإنَّ الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا شك أنَّه حابط، وأنَّ صاحبه يستحق المقت من الله تعالى، والعقوبة.

وتارةً: يكون العمل لله، ويشاركه الرِّياء:

فإنَّ شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه أيضًا وحبوطه.

ففي صحيح مسلم (2985) عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري، تركته وشركه".

وممَّن يروى عنه هذا المعنى -أنَّ العمل إذا خالطه شيءٌ من الرِّياء، كان باطلاً- طائفة من السلف؛ منهم عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، والحسن، وسعيد بن المسيب، وغيرهم.

ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا، وإنْ كانَ فيه خلافٌ عن بعض المتأخرين.

وقد روي عن مجاهد؛ أنَّه قال في حجِّ الجمَّال، وحج التاجر: هو تامٌّ لا ينقص من أجورهم شيء، وهذا محمولٌ على أنَّ قصدهم الأصلي، كان هو الحج دون التكسب.

ص: 402

وأمَّا إذا كان أصل العمل لله، ثمَّ طرأتْ عليه نية الرِّياء: فإنْ دفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإنْ استرسل معه، فهل يحبط عمله، أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته؟:

في ذلك خلافٌ بين العلماء من السلف، وأرجو أنَّ عمله لا يبطل بذلك، وأنَّه يجازى على نيته الأولى.

ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله (ص 242) عن عطاء الخراساني؛ أنَّ رجلاً قال: "يارسول الله، إنَّ بني سلمة كلهم يقاتلون في سبيل الله، منهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله، فأيهم الشهيد؟ قال: كلهم إذا كان أصل أمره أنْ تكون كلمة الله هي العليا".

وذكر ابن جرير أنَّ هذا الاختلاف إنَّما هو في عملٍ يرتبط آخره بأوله؛ كالصَّلاة، والصيام، والحج، فأمَّا الَّذي لا ارتباط فيه؛ كالقراءة، والذكر، وإنفاق المال، ونشر العلم، فإنَّه ينقطع بنية الرِّياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية.

وأمَّا إذا عمل العمل خالصًا، ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين: فذلك فضل الله ورحمته، فإذا استبشر بذلك، لم يضره ذلك، وفي هذا المعنى حديث أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه سئل عن الرَّجل يعمل لله عمل الخير، ويحمده النَّاس عليه؟ فقال:"تلك عاجل بشرى المؤمن"[رواه مسلم (2642)].

* فوائد:

الأولى: الرياء جلي وخفي:

فالجلي: هو الَّذي يبعث على العمل، ويحمل عليه، ولو قصد العبد الثواب.

ص: 403

وأمَّا الخفي: فهو لا يحمل على العمل؛ ولكنَّه بحضور النَّاس يخففه عليه، وقد يخفى؛ فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق، ولكن بالشمائل والهيئات.

الثانية: علمنا ممَّا سبق أنَّ الرِّياءَ محبطٌ للأعمال، وسببٌ لمقتِ الله تعالى، وأنَّه من المهلكات، وَمَنْ هذا حاله، فجديرٌ بالتشمير عن ساق الجد في إزالته ومعالجته؛ وذلك بقلع جذوره وأصوله من القلب إنْ كان موجودًا، ومدافعة ما يخطر منه في الحال.

الثالثة: لم يزل المخلصونَ خائفين من الرِّياء الخفي، يجتهدون في مخادعة النَّاس عن أعمالهم الصَّالحة، ويحرصون على إخفائها أعظم ممَّا يحرص النَّاس على إخفاء فواحشهم.

كل ذلك رجاء أنْ يخلص عملهم؛ ليجازيهم الله تعالى يوم القيامة بإخلاصهم.

الرَّابعة: أنَّ في إسرار الأعمال فائدة الإخلاص، والنَّجاة من الرِّياء.

قال الحسن: قد علم المسلمون أنَّ السِّرَّ فيه إحراز العمل، ولكنْ في الإظهار -أيضًا- فائدة القدوة الحسنة؛ ولذلك أثنى الله تعالى على السر والعلانية؛ فقال تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271].

الخامسة: قد ينشط الإنسان على الطاعة إذا وجد من يتعبَّدون، فيظن أنَّ هذا من الرِّياء، وليس كذلك على الإطلاق؛ لأَنَّ المؤمن يكون له رغبةٌ في العبادة، ولكنْ قد تُعوِّقه وتمنعه الأشغال، وغلبة الشهوات، وتستولى عليه الغفلة؛ فمبشاهدة الغير تزول الغفلة، أو تندفع العوائق والأشغال في بعض المواضع؛ فيبعث له النشاط.

وينبغي للمؤمن أنْ يُوقن قلبه بعلم الله لجميع طاعاته.

***

ص: 404

1295 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: "وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"(2).

ــ

* مفردات الحديث:

- آية: آية أصلها: أَيَيَة، فقلبت الياء الأولى ألفًا؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، والآية هي العلامة، وسمِّيت آية القرآن آية؛ لأَنَّهَا علامة انقطاع كلامٍ عن كلام.

- المنافق: مشتقٌّ من نافقاء اليربوع، فإنَّ أحد بابي جحره يُقال له: النافقاء، وهو موضعٌ يرقِّقه بحيث إذا ضربه رأسه انفتح، وهو يكتمها، ويظهر غيرها.

والمنافق في التعريف الشرعي: هو الَّذي يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، فإنْ كان في اعتقاد الإيمان، فهو نفاق كفر، وإلَاّ فهو نفاق عملٍ، ويدخل فيه الفعل والترك، وتتفاوت مراتبه.

- إذا حدث كذب: الكذب نقيض الصدق؛ فهو الإخبار بالشيءِ على خلاف الواقع.

- وإذا وَعَدَ: وعد الأمر عِدَة ووعدًا ومَوعِدةً، وموعودًا، وهذا من المصادر التي جاءت على مفعول.

وفي الاصطلاح: الوعد: الإخبار بإيصال الخير في المستقبل؛ ولذا قالوا:

(1) البخاري (33)، مسلم (59).

(2)

البخاري (34)، مسلم (58).

ص: 405

في الخير: وَعَدْتُهُ، وفي الشرِّ: أوعدته.

- أَخْلَف: الإخلاف جعل الوعد خلافًا؛ فهو عدم الوفاء به.

- اؤتمن: على صيغة المجهول، من الائتمان، وهو جعل الشخص أمينًا.

- خَانَ: يُقال: خانه خونًا وخيانة، ورجلٌ خائن وخائنة، والجمع: خانة وخَوَنة، والخيانة: هي التصرف في الأمانة على خلاف الوجه المشروع.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قال ابن رجب: النفاق في اللغة: هو جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه، وهو في الشرع ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: النفاق الأكبر، وهو أنْ يظهر الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الَّذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذمِّ أهله وتكفيرهم، وأخبر أنَّ أهله في الدرك الأسفل من النَّار.

الثاني: النفاق الأصغر، وهو نفاق العمل، وهو أنْ يظهر الإنسان علانيةً صالحة، ويبطن ما يخالف ذلك.

وأصول هذا النفاق يرجع إلى الخصال المذكورة في هذه الأحاديث (الأحاديث -ذكرها رحمه الله في شرح الأربعين النووية ونحن نوردها لتمام الفائدة).

2 -

قال رحمه الله:

أحدها: "أنْ يُحدِّث بما يُصَدَّق به وهو كاذب"؛ ففي المسند (17183) عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "كبرت خيانة أنْ تُحدِّث أخاك حديثًا هو لك مصدِّق وأنت له كاذب".

الثاني: "إذا وعد أخلف"؛ وهو على نوعين:

أحدهما: أنْ يَعِدَ وفي نيته أنْ لا يوفي بوعده، وهذا أشر الخلق.

ص: 406

الثاني: أنْ يعد وفي نفسه أنْ يفي، ثم يبدو له فيخلف من غير عذرٍ له في الخلف، وقد أخرج أبو داود (4995) والترمذي (2633) من حديث زيد بن أرقم، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا وعد الرجل، ونوى أنْ يفي به فلم يفِ به، فلا جناح عليه".

"إذا خاصمَ فجر"؛ ومعنى الفجور: أنْ يخرج عن الحقِّ عمدًا حتَّى يصير الحق باطلاً، والباطل حقَّا، وهذا ممَّا يدعو إلى الكذب؛ كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إيَّاكم والكذب؛ فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النَّار".

وفي البخاري (2457) ومسلم (2668) عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبغض الرِّجال إلى الله الألد الخصم".

وفي سنن أبي داود (3597) عن ابن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من خاصمَ في باطل، وهو يعلمه، لم يزل في سخطٍ من الله حتَّى ينزع".

وفي روايةٍ له: "من أعانَ على خصومةٍ بظلمٍ، فقد جاء بغضبٍ من الله".

الرَّابع: "إذا عاهد غدر" ولم يوف بعهده، وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد؛ فقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)} [الإسراء]، وقال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91].

وفي البخاري (6966) ومسلم (1736) عن ابن عمر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة يُعْرَف به، فيُقال: هذه غدرة فلان".

والغدر حرامٌ في كلِّ عهدٍ بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهَد كافرًا؛ ولهذا جاء في البخاري (6914) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل نفسًا معاهدة بغير حقٍّ، لم يَرَح رائحة الجنَّة، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًّا".

ص: 407

وأمَّا عهود المسلمين فيما بينهم، فالوفاء بها أشد، ونقضها أعظم إثمًا، ومن أعظمها نقض عهد الإمام على من تابعه ورضيَ به.

ففي البخاري (6786) ومسلم (108) من حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم

"، وذكر منهم: "رجلٌ بايع إمامًا لا يبايعه إلَاّ للدنيا، فإنْ أعطاه ما يريد وفَّى له، وإلَاّ لم يفِ له".

ويدخل في العهود التي يجب الوفاء بها، ويحرم الغدر في جميع عقود المسلمين فيما بينهم إذا تراضوا عليها من المبايعات، والمناكحات، وغيرها من العقود الَّلازمة، التي يجب الوفاء بها، وكذلك ما يجب الوفاء به لله عز وجل ممَّا يعاهد العبد ربَّهُ عليه من نذر التبرر ونحوه.

الخامس: "إذا اؤتمن خان"؛ فإنَّه إذا أُؤتمن الرَّجل أمانةً، فالواجب عليه أنْ يردَّها، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

وقد أخرج الترمذي (1264)، وأبو داود (3534) من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" فالخيانة في الأمانة من خصال النفاق؛ قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ}

[التوبة: 75] إلى قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)} [التوبة]

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

} الآية [البقرة: 72].

وحاصل الأمر: أنَّ النِّفاق الأصغر كله يرجع إلى اختلاف السريرة والعلانية؛ كما قال الحسن البصري، رحمه الله تعالى.

وقال طائفة من السلف: خشوع النفاق أنْ ترى الجسد خاشعًا، والقلب

ص: 408

ليس بخاشع.

قال عمر رضي الله عنه: "إنَّ أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم، قالوا: كيف يكون المنافق عليمًا؟ قال: يتكلَّم بالحكمة، ويعمل بالجور، أو المنكر".

3 -

النِّفاق الأصغر، وسيلة: إلى النِّفاق الأكبر؛ كما أنَّ المعاصي بريد الكفر.

4 -

ومن أعظم خصال النِّفاق العملي: أنْ يعمل الإنسان عملًا يظهر أنَّه قصد به الخير، وإنَّما عمله ليتوصَّل به إلى غرض له سيء؛ فيتوصل بهذه الخديعة إلى غرضه، ويفرح بمكره وخداعه، وَحَمْدِ النَّاس له على ما أظهره، وتوصل به إلى غرضه السيِّء الَّذي أبطنه.

5 -

لمَّا تقرَّر عند الصحابة أنَّ النِّفاق اختلاف السِّر والعلانية، خَشِيَ بعضهم على نفسه أنْ يكون إذا تغيَّر عليه حضور قلبه، ورقته، وخشوعه عند سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا، والاشتغال بالأهل، والأولاد، والأموال، أنْ يكون نفاقًا؛ حتَّى قال لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم:"ليس ذاكم من النِّفاق"[رواه أبو يعلى (6/ 105)].

* خلاف العلماء:

اختلف العلماء في حكم الوفاء بالوعد على ثلاثة أقوال:

فذهب جمهور العلماء على أنَّ الوفاء به مستحب، وليس بواجب، لا ديانة، ولا قضاء، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، والشَّافعي، وأحمد.

قال الحافظ: ونَقْل الإجماع في ذلك مردود؛ فإنَّ الخلاف فيه مشهور، لكن القائل به قليل، واستدلوا على ذلك بأدلَّة:

منها: ما أخرجه أبو داود (4995)، والترمذي (2633) وحسنه؛ أنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا واعد أحدكم أخاه، ومن نيته أنْ يفي له فلم يف، فلا شيءَ عليه".

ومنها: أنَّ الرَّجل إذا وعد وحلف واستثنى بقوله: "إنْ شاء الله"، سقط

ص: 409

عنه الحنث بالنص والإجماع؛ فهذا دليلٌ على سقوط الوعد منه.

وذهب ابن شبرمة: إلى لزوم الوفاء بالوعد ديانة وقضاء؛ وهو مذهب بعض السلف، منهم عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وإسحاق بن راهويه، والظاهرية.

واستدل أصحاب هذا الرَّأي بنصوصِ من الكتاب والسنَّة؛ منها:

- {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

- وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [البقرة]، وغيرهما من الآيات.

- جاء في البخاري (33)، ومسلم (59)، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"آية المنافق ثلاث" وذكر منها: "إذا وعد أخلف"؛ وبهذا يكون إخلاف الوعد من صفات المنافقين، ويكون محرَّمًا.

- ما أخرجه الترمذي (1995)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمار أخاكَ، ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه".

وذهب المالكية: إلى التفصيل فقالوا: يجب الوفاء به إذا كان الوعد على سبب، كأن يأمر بأنْ يدخل لشراء سلعةٍ، أو القيام بمشروع، فإذا تورَّط الموعود، رجع الواعد بوعده؛ فهذا يجب عليه الوفاء ديانةً وقضاء.

وأمَّا إنْ لم يحصل ضررٌ على الموعود من الرجوع بالوعد، فلا يلزم الوعد.

وحجَّة هؤلاء في تفصيلهم هذا: أنَّ النصوص الشرعية في هذه المسألة تعارضت، وهذا أحسن جمع بينها.

قال الشنقيطي في تفسيره: اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد:

فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقًا.

وقال بعضهم: لا يلزم مطلقًا.

وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطةٍ لزم الوفاء به، وإلَاّ فلا.

ص: 410

وقال أبو حنيفة، وأصحابه، والأوزاعي، والشَّافعي، وسائر الفقهاء: إنَّ العِدَة لا يلزم منها شيء؛ لانَّها منافع لم يقبضها كالعارية؛ لأنَّها طارئة.

والَّذي يظهر لي: أنَّ إخلاف الوعد لا يجوز؛ لكونه من علامات المنافقين، ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به، ولا يلزم به جبرًا، بل يؤمر به، ولا يجبر عليه.

وممَّن اختار القول بلزوم الوعد من علماء العصر: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وعبد الرحمن بن قاسم، ومصطفى الزرقاء، ويوسف القرضاوي، وغيرهم.

قال الشيخ القرضاوي: الَّذي ينبغي ألَاّ يقبل الخلاف فيه هو الوعد في شؤون المعاوضات، والمعاملات التي يترتَّب عليها التزامات وتصرفات مالية واقتصادية.

ويترتَّب على جواز الإخلاف فيها إضرارٌ بمصالح النَّاس وتغريرهم؛ فالوفاء بالوعد هنا كالوفاء بالعهد؛ ولذا وصفت الأحاديث: "إذا عاهدَ غدر" مكان "إنْ وعَد أخلف".

وقرَّر مجمَّع الفقه الإسلامي بجدَّة بقراره رقم (40) في الدورة الخامسة المنعقدة في الكويت فيما بين 1 - 6/ 5/ 1409 هـ ما يلي:

الوعد بالوفاء يكون ملزمًا للواعد ديانة إلَاّ لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلَّقًا على سبب، ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدَّد أثر الالتزام في هذه الحالة إمَّا بتنفيذ الوعد، وإمَّا بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا، بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.

***

ص: 411

1296 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- سِبَاب: مصدر سبَّ يسب سبًّا، وسبَابًا، بكسر السين، وتخفيف الباء، وهو الشتم، وهو التكلُّم في عرض الإنسان بما يعيبه.

قال إبراهيم الحربي: السباب أشد من السب، وهو أنْ يقول في الرَّجل ما فيه، وما ليس فيه.

- فُسوق: يُقال: فسق يفسق فسقًا وفسوقًا، مصدر، أي: فجور وخروج عن الحق، وهو خبر، والمبتدأ "سباب".

- قتاله: أي مقاتلته، وهو مبتدأ، خبره "كفر".

- كفر: لم يُرد حقيقة الكفر الَّذي هو خروجٌ عن الملَّة، بل إنَّما أُطلق عليه الكفر زجرًا؛ للتحذير، فالإجماع منعقدٌ من أهل السنَّة على أنَّ المؤمن لا يكفر بالقتال، ولا بفعل معصيةٍ أخرى.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الفسوق هو الخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته، وأنَّ سباب المسلم من معاصيه التي نهى عنها وحرَّمها.

2 -

مفهوم الحديث: أنَّ سباب الكافر جائز، ولكن إنْ كان كافرًا معاهدًا فهو أذيةٌ له، وقد نُهيَ عن أذيته؛ فلا يعمل بمفهوم الحديث في حقِّه من أدلَّة واعتبارات أَخر.

(1) البخاري (6044)، مسلم (64).

ص: 412

3 -

المراد هنا تحريم سباب المسلم المستور الَّذي ظاهره العدالة والاستقامة، أمَّا الَّذي خلع جلباب الحياء، وجاهر بالمعاصي، فهذا لا غيبة له، ولا لسبابه حرمة؛ فقد أخرج مسلم أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"كل أمَّتي معافى إلَاّ المجاهرين"[رواه البخاري (6569) ومسلم (2995)]، وهم الَّذي جاهروا بمعاصيهم، فهتكوا ما ستر الله عليهم.

4 -

وقوله: "وقتاله كفر" فمعناه: أنَّه إن استحل قتال المسلم، فهو كافر كفرًا يخرج من الملَّة؛ ذلك لأَنَّه مكذِّبٌ للنصوص الصحيحة الصريحة، وأمَّا إذا لم يستحل قتاله، فالمراد بالكفر هنا كفر النعمة، والإحسان، والأخوَّة الإسلامية، فإنكار هذه المعاني الإسلامية الكريمة جحودٌ لها، فهو كفر نعمة لا يخرج من الإسلام، والله أعلم.

***

ص: 413

1297 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- إيَّاكم والظن: إيَّاكم في محل نصب، مفعول به لفعلٍ محذوف، تقديره: احذروا الظن، و"الكاف" للخطاب، والظن معطوف على إيَّاكم، أو مفعول به لفعلٍ محذوف تقديره -أيضًا-:"احذروا"، وتقدير الكلام من جهة المعنى: حذِّروا أنفسكم من الظن، واحذروا الظَّن، والمراد: لا تظنوا بالمسلم شرًّا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الظن: هو ما يخطر بالنفس من تجويز الأمور المحتملة للصحة والبطلان؛ فيحكم بهذا الظن الَّذي لم يبن على قرائن قويَّة، وأمارات صحيحة، ويعتمد عليه، ويُجري عليه أحكام الحقائق الواقعة، وهذا هو الَّذي حذَّر منه هذا الحديث الشريف:"إياكم والظن".

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، قال المفسرون: هو أنْ يظن بأهل الخير سوءًا.

فالظن القبيح عمَّن ظاهره الخير لا يجوز، وهو المراد بقوله:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12].

2 -

أمَّا أهل السوء والفسوق، فلنا أنْ نظنَّ بهم مثل الَّذي ظهر لنا منهم؛ فلا يضر الظن السيِّء لمن بدت منه مخايله، وظهرت منه أماراته؛ فقد أخرج الطبراني في الأوسط (1/ 189) والبيهقي (10/ 129) من حديث أنس؛ أنَّ

(1) البخاري (5143)، مسلم (2563).

ص: 414

النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "احترسوا من النَّاس بسوء الظن".

3 -

قال النووي: المراد: التحذير من تحقيق التهمة، والإصرار عليها، وتقررها في النَّفس دون ما يعرض ولا يستقر؛ فإنَّ هذا لا يكلف به؛ فقد ثبت عن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عمَّا حدَّثت به أنفسها مالم يتكلَّموا، أو يعملوا به"[رواه البخاري (5269) ومسلم (127)].

4 -

الزمخشري قسَّم الظنَّ إلى أربعة أقسامٍ، وهو تقسيمٌ حسن، فقال:

- محرَّم: هو سوء الظن بالله تعالى، وسوء الظن بكلِّ مَنْ ظاهره العدالة من المسلمين، فمن عرفت منه الأمانة في الظاهر، فظنُّ الفساد والخيانة به محرَّم، بخلاف من اشتهر بتعاطي الريب.

- واجب: حُسْن الظن بالله تعالى.

- مندوب: حُسْن الظن بمن ظاهره العدالة من المسلمين.

- مباح: من ظهرت أمارات فسقه، ودخل في مداخل السوء.

5 -

إنَّما كان الظن أكذب الحديث؛ لأنَّ الكذب: مخالفة الواقع من غير استنادٍ إلى أمارة.

***

ص: 415

1298 -

وَعَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إلَاّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- ما: حرف نفي.

- مِنْ: بكسر الميم وسكون النون، حرف جر زائد جاء للتأكيد.

- يسترعيه: رعى الماشية يرعاها رعيًا، فهى راعية: إذا سرحت بنفسها، والفاعل راعٍ، والجمع رعاة.

ويُقال: رعى الأمير رعيته رعاية: ولي أمرها وساسها؛ فالأمير الرَّاعي، والأمة راعية.

- رعية: الرعية: عامَّةُ النَّاس الَّذين عليهم راعٍ، والجمع رعايا.

- غاش: غشَّهُ يغشُّهُ غشًّا: لم يمحضه النصح؛ والغاش اسم فاعل، جمعه غُشَّاش.

وجملة: "وهو غاش لرعيته" محلها النصب على الحال.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث يتضمن وعيدًا شديدًا للولاة الَّذين لا يهتمون بأمور رعيتهم، ولا ينظرون إلَاّ لما يعود على مصالحهم الخاصَّة، والسياسة التي تخدم مصالحهم وأغراضهم، حتَّى ولو كانت هذه السياسة فيما يضر بمصالح الرعية في دينها ودنياها.

(1) البخاري (7150) مسلم (142).

ص: 416

2 -

الوعيد الأكيد، والعذاب الشديد مُنْصَبٌّ على هؤلاء الرعاة الغاشِّين، بأنَّهم إذا ماتوا على هذه الحالة، فإنَّ الله قد حرَّم عليهم الجنَّة التي هي السعادة الأبدية؛ لأنَّهم لم يغشوا رعاياهم إلَاّ لأجل سعادتهم في الدنيا باستعبادهم، وجعلهم يشقون لحساب سعادتهم في حياتهم؛ فكان جزاؤهم أنَّ اللهَ حرمهم من السعادة الحقيقية الخالدة الدَّائمة.

3 -

من الغش: ظلمُهُمْ بأخذ أموالهم بالضرائب والمكوس، واستيلائهم على حقوقهم الخاصَّة بأدنى الحيل من اختلاق ضرائب غير مباشرة، ومن غشِّهم: الاحتجابُ عن مصالحهم وحاجاتهم، ومن غشهم: تركُ المفسدين يعيثون فيهم بالفساد، بالنَّهب، والسطو، بدون إقامة الحدود وردع المجرمين، ومن غشِّهم: توليةُ الأمراء، والقضاء، والرؤساء، ممَّن لا كفاءة لهم، ولا أمانة، وإنَّما ولوا من أجل القرابات والصِّلات.

4 -

الأحاديث كثيرة تدل على أنَّ الغش من الولاة من الكبائر، وأنَّه من المعاصي المتعدِّي ضررها وشرها.

قال ابن بطال: هذا وعيدٌ شديدٌ على أئمة الجور؛ فمن ضيَّع من استرعاه الله عليهم، أو خانهم، فقد توجَّه إليه الطلب بمصالح العباد يوم القيامة؛ فكيف يقدر على التحلل من الظلم من أمَّةٍ عظيمة؟

5 -

قال شيخ الإسلام في السياسة الشرعية: وقد دلَّت السنَّة على أنَّ الولاية أمانة، يجب أداؤها؛ فقد جاء في البخاري (59) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا ضيعت الأمانة فانتظر السَّاعة، قيل: وما إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله، فانتظر السَّاعة".

6 -

ثمَّ قال رحمه الله: الولاة نواب الله تعالى على عباده، وهم وكلاء العباد على أنفسهم، والمقصود بالولاية: إصلاح دين الخلق الَّذي متى فاتهم، خسروا خسرانًا بينًا، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدِّين إلَاّ

ص: 417

به من أمر دنياهم.

وهو نوعان:

- قَسْم المال بين مستحقيه.

- وعقوبات المعتدين.

فإذا اجتهد الرَّاعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان، فإنَّه أفضل أهل زمانه، وكان من المجاهدين في سبيل الله.

فقد رويَ: "يومٌ من إمامٍ عادلٍ أفضل من عبادة ستِّين سنة"[رواه الطبراني (11/ 337)].

وفي مسند الإمام أحمد (10790) عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الخلق إلى الله إمامٌ عادل، وأبغضهم إليه إمامٌ جائر".

7 -

ومن الولاية: النظارة على الوقف، والقيام على الوصية، والولاية على الصغير والقاصر، والوكالة عن الحي، والرَّجل في أسرته، والمرأة في بيت زوجها وغيرهم؛ فكل هؤلاء ولاة فيما تحت أيديهم، وهم مشمولون بدلالة عموم الحديث:"كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته"[رواه البخاري (893) ومسلم (1829)].

***

ص: 418

1299 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهُمْ، فَاشْقُقْ عَلَيْهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- اللهم: هي بمعنى "يا الله" حذفت ياء النِّداء، وعوِّض عنها الميم.

- شق: شق عليهم يشق شقَّا ومشقَّة: صعَّب عليهم الأمر؛ فأوقعهم في المشقَّة.

- فاشقق عليه: جملة دعائية من جنس عمل الشاق.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه وعيدٌ شديدٌ على الولاة، والأمراء، والعمَّال، والموظفين الَّذين يشقون على أصحاب الحاجات، والمراجعين في قضاياهم، وأعمالهم ومعاملاتهم؛ فالنَّبي صلى الله عليه وسلم دعا على هؤلاء وأمثالهم، فمن جعل الله حاجاتِ النَّاس وأعمالُ الخلق عندهم، فشقوا عليهم، فقد دعا عليهم بأن يشُقَّ الله تعالى يشق عليهم، كما شَقُّوا على النَّاس، وعلى المراجعين، وذوي الحاجات.

2 -

يوجد -والعياذ بالله- كثير من الموظفين ذوي القلوب الميتة، والنفوس المريضة، ممَّن يرتاحون لأذية الخلق بالمشقَّة عليهم، فتجدهم يضيعون الوقت بالقيل والقال، ولا يهمهم أعمال النَّاس، طالت مدَّة مراجعتهم فيها أم قصَّرت، ويصرفون النَّاس عنهم بالوعود الكاذبة.

3 -

ومن المشقَّة على النَّاس: فرض ما يسمَّى "روتين العمل ونظامه"؛ ممَّا يعقد

(1) مسلم (1828).

ص: 419

المسائل، ويطيل المراجعات، ويضيع الحقوق؛ فالواجب تخفيفه ما أمكنَ الحال، وتسهيل مهمَّة سير الأعمال.

4 -

ومن المشقَّة على الخلق تولية من ليس فيه كفاءة على العمل، ولا قدرة له عليه، ولا معرفة له فيه.

5 -

قال شيخ الإسلام: فيجب على الوالي أنْ يستعمل الأصلح الموجود، ويختار الأمثل، فالأمثل في كل منصب بحسبه.

والقوَّة في كلِّ ولاية بحسبها، فالقوَّة في إمارة الحرب ترجع إلى الشجاعة، وإلى الخبرة في الحروب، والقوَّةُ في الحكم بين النَّاس: ترجع إلى العلم والعدل، وإلى القدرة على تنفيد الأحكام.

وإذا كانت في الولاية أشد، قُدِّم الأمين، مثل حفظ الأموال ونحوها، ويقدم في ولاية القضاء الأعلم، والأشد ورعًا.

وأهم ما في هذا الباب: معرفة الأصلح، وذلك إنَّما يتم بمعرفة مقصود الولاية.

6 -

بهذه الطريقة في التعيين على الأعمال تحصل السهولة في أعمال النَّاس، ويبعد عنهم العسر والمشقَّة.

***

ص: 420

1300 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ، فَلْيَجْتَنِبِ الْوَجْهَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

المشاجرات مع النَّاس، والخصومات، محرَّمة؛ لما يتولَّد منها من الإضرار، ولما تحدث من القطيعة والبغضاء، وإذا حصلت أو حصل تأديب لمن يستحق التَّأديب من خادمٍ، أو ولدٍ، أو زوجة، أو وجب حدّ لله تعالى، فإنَّ الضارب عليه أنْ يجتنب الوجه فهو أشرف الأعضاء، وهو الَّذي تحصل به المواجهة، وضربه عليه إمَّا أن يتلف منه عضوًا، وإمَّا أنْ يُحْدِثَ فيه شَيْئًا؛ فالواجب اجتنابه، ويحرم الضرب معه، سواء أكان الضرب بحقً، أو عن طريق الاعتداء.

2 -

ومثل الوجه المواطن الَّتي يحدث ضربها موتًا؛ فيجب اجتنابها.

3 -

قال في شرح الإقناع: ويجتنب الضَّارب الرَّأس، والوجه، والفرج، والبطن، من الرجل والمرأة، ومواضع القتل فيجب اجتنابها؛ لأنَّ ضربها يؤدِّي إلى القتل، وهو غير مأمور به.

4 -

قال شيخ الإسلام: على مقيم الحدود أنْ يقصد بإقامتها النفع والإحسان، كما يقصد الوالد بعقوبة ابنه، والطبيب بداوء المريض، فلم يأمر الشرع إلَاّ بما هوَ أنفع للعباد، وعلى المؤمن أنْ يقصد ذلك.

(1) البخاري (2559) مسلم (2612).

ص: 421

1301 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ: "يَارَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: لَا تَغْضَبُ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- لا تغضب: الغضب: استجابة لانفعال يتميز بالميل إلى الاعتداء، والمعنى: تجنَّب أسباب الغضب، وإذا غضبت، فلا تنفذ غضبك.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الغضب جماع الشر، وجاءت النصوص الكثيرة في البعد عنه؛ ففي المسند (6597) من حديث ابن عمرو؛ أنَّه سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم:"ماذا يباعدني من غضب الله عز وجل؛ قال: لا تغضب"، قال الصحابي: ففكَّرت فإذا الغضب يجمع الشر كله.

2 -

قال في الإحياء: حقيقة الغضب: هو غليان الدم لطلب الانتقام، والنَّاس في قوَّة الغضب على درجات، فمن قويت نار الغضب في وجهه، أعمته، وأصمَّته عن كلِّ موعظةٍ وإرشاد.

3 -

وهذا الرَّجل جاء إلى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: "علِّمني شيئًا ولا تكثر عليَّ، فقال: لا تغضب"؛ ردد عليه ذلك مرارًا كل ذلك يقول: "لا تغضب".

4 -

قال ابن رجب: قوله: "لا تغضب" يحتمل أمرين:

أحدهما: أنْ يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الحلم، والحياء، والأناة، والاحتمال، وكف الأذى، والصفح، والعفو،

(1) البخاري (6116).

ص: 422

وكظم الغيظ، والطَّلاقة، والبشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنَّ النَّفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق وصارت لها عادةً، أوجبَ لها ذلك دفع الغضب عند وصول أسبابه.

الثاني: أنَّ المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به الله؛ فإنَّ الغضب إذا ملك ابن آدم، كان الآمر النَّاهي له.

5 -

قال في مختصر الإحياء: علاج الغضب يكون بحسم مادته التي تهيجه، وأسبابه التي تثيره، وأمَّا إذا هاج فيعالج بأمورٍ منها: أنْ يفكِّر بأمورٍ منها: أنْ يفكِّر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ، والحلم، والاحتمال.

وقد جاء في الحديث: "ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الَّذي يملك نفسه عند الغضب"[رواه البخاري (6114) ومسلم (2609)]، وفي البخاري (6115) ومسلم (2610) من حديث سليمان بن صرد قال:"استبَّ رجلان عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، ونحن عنده، وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: إنِّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرَّجيم".

***

ص: 423

1302 -

وَعَنْ خَوْلَةَ الأَنْصَارِيَّةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- يتخوضون في مال الله: قال في النهاية: أصل الخوض: المشي في الماء، ثمَّ استعمل في التلبس بالأمر، والتصرف فيه، والمعنى: رُبَّ متصرِّفٍ في مالِ الله تعالى بما لا يرضاه الله.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

المال جعله الله تعالى قوامًا ومتاعًا في هذه الحياة الدنيا؛ فقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)} [الفرقان]؛ فالمال ذو فائدةٍ كبيرةٍ في الدِّين والدنيا.

2 -

وإنفاقه في غير سبيل الخير، والطرق النَّافعة المفيدة سفهٌ، وإسرافٌ، وتبذير؛ وقد قال تعالى:{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27].

3 -

المال بيد المسلمين، وبيد ولاتهم هو مال الله تعالى، استخلفهم عليه؛ لينفقوه في طرقه المشروعة النَّافعة، والمفيدة في أمور الدنيا والآخرة؛ قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، أي: جعلكم خلفاء في التصرف فيه؛ فالمال مال الله، والعباد خلفاء الله في أمواله، فعليهم أنْ يصرفوها فيما يرضيه.

(1) البخاري (3118).

ص: 424

4 -

أمَّا التخوُّض فيه والتصرف بالباطل، وفى غير الطرق المشروعة، فهذا حرام، وأكلٌ لمال الله تعالى بالباطل.

5 -

وهذا يشمل أموال النَّاس التي بأيديهم وتخصهم، فلا يجوز لهم أنْ يتصرفوا فيها إلَاّ بما يحبه الله تعالى؛ لتكون عونًا لمرضاته فيما يقيم دينه، وفيما ينفع عباده في دنياهم.

6 -

كما يشمل الولاة فَعَلَيْهِمْ أنْ يصرفوا مال الله تعالى فيما يعزِّز دينه، ويعلي كلمته، وعلى ما ينفع الرعية والبلاد، من المشاريع النافعة، والزراعة، والصناعة، والتعليم، والمرافق العامة التي تنفع عموم الرعية، وفيما ينفع عباده في دنياهم.

7 -

الحديث يشمل من أخذ من مال لا يستحق أخذه منه بأنْ يكون للمال مصرف ليس هو من أهله، ولكنَّه يعمل الحيل، والطرق التي تمكنه من الأخذ منه؛ فهذا أخذٌ بالباطل.

***

ص: 425

1303 -

وَعَنْ أَبي ذَرٍّ رضي الله عنه عَن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ -قَالَ: "يَاعِبَادِي! إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث قطعةٌ من حديثٍ عظيمٍ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأخرجه غيره.

قال الإمام أحمد: هو أشرف حديثٍ لأَهل الشَّامِ، وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جثا على ركبتيه.

2 -

قوله: "ياعبادي! إنِّي حرَّمت الظلمَ على نفسي"، يعني: أنَّه منعه تعالى عن نفسه فلا يظلم عباده؛ قال تعالى: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)} [ق]، وقال تعالى:{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)} [آل عمران] وقال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} [فصلت]، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.

قال النووي: تقدس وتنزَّه عن الظلم، فالظلم وضع الشيءِ في غير موضعه، وله الحكمة التَّامَّة من أنْ لا يجري الأمور إلَاّ في مجاريها، ووفق مصالحها.

3 -

قوله: "جعلته بينكم محرَّمًا؛ فلا تظالموا":

قال ابن رجب: حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أنْ يتظالموا فيما بينهم؛ فحرامٌ على كلِّ عبدٍ أنْ يظلم غيره.

4 -

والظلم نوعان:

(1) مسلم (2577).

ص: 426

أحدهما: ظلم النَّفس، وأعظمه الشرك؛ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [القمان]؛ فالمشرك جعل المخلوق في منزلة الخالق، وبهذا فقد وضع الأشياء في غير مواضعها، وأكثر ما ورد في القرآن وعيدًا للظَّالمين إنَّما أريد به المشركون، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائر وصغائر.

الثاني: ظلم العبد غيره، وهو المذكور في الحديث؛ وقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع:"إنَّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا"[رواه البخاري (67) ومسلم (6791)].

5 -

الحديث صريحٌ بتحريم الظلم بين النَّاسِ في كلِّ حقٍّ من حقوقهم حتَّى القليل منها؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "وإنْ كان عودًا من أراك"[رواه مسلم (137)]؛ فالواجب البراءة من حقوق الخلق، ففي البخاري (6534) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من كانت عنده مظلمة لأَخيه، فليتحلَّل منها قبل أنْ تؤخذ من حسناته، فإنْ لم يكن له من حسناتٌ، أُخِذَ مِن سيئات أخيه، فَطُرِحَت عليه".

***

ص: 427

1304 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ؟ قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ. قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أتدرون: الهمزة للاستفهام، وهي الأصل فيه، وجاءت -هنا- بمعنى التقرير؛ لانَّها جاءت -هنا- ممَّن يعلم لمن يعلم.

- الغيبة: غاب عنه يغيب غَيبة -بفتح الغين- والغِيبة -بكسر الغين-: ذكر الغائب بما يكرهه.

- ذكرك: ذكر يذكر ذكرًا، فالذكر -بكسر الذَّال- خاصٌّ باللسان، ومعناه -هنا- قال عنه ما يكره.

- أفرأيت: الهمزة -هنا- للاستفهام حقيقة، والتاء مفتوحة للمخاطب، وقد وردت لطلب التصور، بمعنى: أخبرني.

- بهته: بهته يبهته بهتًا وبُهتانًا، قال عنه مالم يفعل، والاسم البهتان، واسم الفاعل باهِت، والجمع بُهْت.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الغِيبة: بيَّنها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأنَّها ذكرك أخاك المسلم بما يكره، سواءٌ أكانَ في خَلْقه أو خُلُقه، فأي كلمة تقولها فيه ممَّا يكره أنْ تقال فيه، فهذه غيبة، سواءٌ أكانت كبيرةً أو صغيرةً، ولكن يتفاوت الإثم بقدر ما قيل في الشخص، حتَّى

(1) مسلم (2589).

ص: 428

ولو كانت فيه تلك الصفة.

2 -

أمَّا إذا لم تكن الصفة -التي ذكرت- فيه، فقد جمعت بين أمرين: الغيبة، والبهتان والكذب على الإنسان بما ليس فيه.

3 -

قال النووي: الغيبة: ذكر المرء ما يكره سواءٌ أكان في بدن الشخص، أو دينه، أو دنياه، أو نفسه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو زوجته، أو خادمه، أو حركته، أو طلاقته، أو عبوسه، أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به ذكر سوء، وذكر ذلك باللفظ، أو بالرمز، أو بالإشارة.

وقال أيضًا: ومن ذلك التعريضُ في كلام المصنِّفين؛ كقولهم من يدعي العلم، أو بعض من ينسب إلى الصَّلاح، أو نحو ذلك، ومنه قولهم عند ذكره:"الله يعافينا"، "الله يتوب علينا"، "نسأل الله السَّلامة"، ونحو ذلك، فكل ذلك من الغيبة.

4 -

قوله: "ذكرك أخاك"، قال ابن المنذر: في الحديث دليلٌ على عدم غيبة اليهودي، والنصراني، وسائر أهل الملل، ومَنْ قد أخرجته بدعته عن الإسلام لا غيبة له.

5 -

قال القرطبي: أجمع العلماء على أنَّ الغيبة من كبائر الذنوب، واستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ دماءَكُمْ، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام".

6 -

استثنى العلماء من الغيبة ستَّة أمور جائزة؛ لأَنَّها لم يقصد بها الغيبة، وإنَّما قصد بها أمر آخر لا يتحقَّق إلَاّ بها:

الأوَّل: التظلُّم.

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر.

الثالث: الاستفتاء.

الرَّابع: تحذير المسلمين من الاغترار بشخص.

الخامس: المجاهر بالفسق والبدعة.

السَّادس: التعريف بالشخص؛ كالأعمى والأعرج.

ص: 429

1305 -

وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بعْضُكُمْ عَلَى بيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو المسلم: لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- بِحَسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمِ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، ومَالُهُ، وعِرْضُهُ" أخرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

هذه المنهيات الأربعة جاءت على صيغة التفاعل، الَّذي تقع المشاركة فيه بين اثنين فأكثر؛ فالنَّهي، والتوجيه، والإرشاد منصب على كلِّ مسلمٍ عن هذه الأفعال.

- لا تحاسدوا: يعني: لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد مرضٌ قلبيٌّ مركوزٌ في طباع البشر، والمذموم منه تمنِّي، أو السعي في ذلك، زوال نعمة المحسود، وتقدَّم الكلام عن أسبابه وعلاجه.

- ولا تناجشوا: النَّجْش -بفتح فسكون- لغة: بعث الصيد، وإثارته من مكانه، وشرعًا: هو الزيادة في السلعة بدون قصد شرائها، إمَّا لنفع البائع، أو لمضرَّة المشتري، أو العبث.

- ولا تباغضوا: أي: لا تفعلوا الأمور التي توجب البغضاء بينكم.

(1) مسلم (2564).

ص: 430

- ولا تدابروا: قال أبو عبيد: التدابر: هو الإعراض والهجر، مأخوذٌ من أنْ يولِّي الرجل صاحبه دبره، ويعرض عنه بوجهه؛ فهو التقاطع.

- ولا يبع بعضكم على بيع بعض: معناه: أنْ يكون قد باع شيئًا، فيأتي آخر، ويبذل للمشتري سلعته؛ ليشتريها، ويفسخ بيع الأوَّل.

- لا يظلمه: الظلم: هو التعدي على الحقِّ، والميل إلى الباطل، وأنواعه كثيرةٌ وصوره لا تحصر، وسيأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى.

- ولا يَخذُله: هو ترك نصرته، وذلك بأنْ يهان المسلم، أو يذلَّ، أو ينقص من حقه، ثمَّ يتأخَّر أخوه المسلم فلا ينصره، وهو يقدر على ذلك؛ فهذا خذلانه.

- ولا يحقره: يُقال: حقر الرجلَ يحقره حقرًا: أذلَّه، والمراد: أنْ يتكبَّر عليه، ويترفَّع عنه، ويعظم نفسه بجانبه.

- التقوى: فتقوى الله تعالى: هي فعل أوامره؛ رجاء ما عنده، واجتناب نواهيه؛ خوفًا من عقابه، وأصل التقوى في القلب، وأثرها يظهر في الأعمال.

- بحسب امرىءٍ من الشرِّ: يعني: حسبه وكافيه من خلال الشرور، ورذائل الأخلاق

احتقار أخيه، فقوله:"بحسب امرىءٍ" مبتدأ، والباء فيه زائدة، وقوله: "أنْ يحقر أخاه

إلخ" هو الخبر.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا حديثٌ عظيمٌ فيه جملةٌ من آداب الإسلام الكريمة، التي من شأنها أنْ يتحبَّب المسلم لأخيه المسلم، حتَّى تُوَحَّد كلمة المسلمين، وتُجمع صفوفهم، ويُلمَّ شملهم، ويكونوا أمَّةً واحدةً، وإخوةً مسلمين.

أولها: "لا تحاسدوا": يعني: لا يحسد بعضكم بعضًا، والحسد مركوز في طباع البشر؛ فالإنسان يكره أنْ يفوقه أحد من جنسه في شيءٍ من الفضائل، والمنهي عنه هنا منه: هو أنْ يتمنَّى زوال نعمة العبد عنه، سواءٌ تمنَّاها أنْ تنتقل إليه، أو تمنَّى مجرَّد زوالها عن المحسود.

ص: 431

وهذا خلقٌ ذميم نهى عنه الشَّارع الحكيم، بما يسببه من الشرور في الدنيا، ولأَنَّه يأكل الحسنات، كما تأكل النَّار الحطب.

ثانيها: "لا تناجشوا": والنجش معناه: أنْ يزيد الإنسان في السلعة، لا لقصد شرائها، وانَّما لقصد الإضرار بالمشتري برفع ثمنها عليه، أو لنفع البائع بزيادة الثمن له، وهو حرام، وإذا تحقَّق، خيِّر المشتري بين الإمساك ورد البيع؛ لما ناله من الخديعة، والمكر، وزيادة الثمن.

ثالثها: "لا تباغضوا": نهى عن التباغض بين المسلمين؛ فإنَّ المسلمين جعلهم الله إخوة؛ قال عليه الصلاة والسلام: "والَّذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابوا، أفلا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلام بينكم"[أخرجه مسلم (54)].

ولهذا المعنى حرَّم الله تعالى المشي بالنميمة؛ لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورخَّص في الكذب في الإصلاح بين النَّاس.

أمَّا البغض في الله تعالى، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلاً في النَّهي.

وعن ابن عباس: "من أحبَّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنَّما تُنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان -وإنْ كثرت صلاته وصومه- حتَّى يكون كذلك، وقد صارت عامَّة مؤاخاة النَّاس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي أهله شيئًا" رواه ابن جرير.

رابعها: "لا تدابروا": مأخوذٌ من أنْ يوليَ الرَّجل صاحبه دبره، ويعرض عنه بوجهه، فقد جاء في صحيح البخاري (6237)، وصحيح مسلم (2560) من حديث أبي أيوبٍ الأنصاري؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لمسلمٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاث، وخيرهما الَّذي يبدأ بالسَّلام".

فالهجر فوق ثلاث محرَّم لا يجوز، ويحصل إنهاء الهجر بالسَّلام، وأمَّا

ص: 432

الهجر لأجل دين، فتجوز الزيادة من غير تحديد، حتَّى يزول المانع من الهجر؛ واستُدل على ذلك بقصَّة الثلاثة الَّذين خُلِّفوا، ويباح على أهل البدع المغلَّظة والدعاة إلى الأهواء والمبادىء الهدَّامة، وأصحاب المذاهب المضللة.

خامسها: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض": قال الفقهاء: معناه أنْ يكون قد باع عليه شيئًا، فينزل للمشتري سلعته بأرخص ليشتريها، ويفسخ بيع الأوَّل، وهذا إذا كان في خيار المجلس، أو خيار الشرط، وكذلك على الصحيح يشمل فيما إذا تمَّ البيع بينهما، ولم يبق خيار؛ وذلك لئلا يحتال المشتري، أو البائع على فسخ العقد، ويكون في نفسه عداوة وبغض للعاقد معه.

قوله: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض": قد تكاثر النَّهي عن ذلك، ففي البخاري (2140) ومسلم (413) عن أبي هريرة، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا يبع المؤمن على بيع أخيه المؤمن" وفي روايةٍ لمسلم: "لا يسم على سوم أخيه".

وفي البخاري (2139) ومسلم (2032) من حديث ابن عمر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع الرجل على بيع أخيه"، هذا دليلٌ على اختصاص ذلك بالمسلم دون الكافر، وهو مذهب أحمد والأوزاعي.

وذهب كثيرٌ من الفقهاء: إلى أن النَّهْيَ عامٌّ في حقِّ المسلم والكافر.

وأصح القولين أنَّ النَّهي للتحريم.

2 -

"وكونوا عبادًا إخوانًا": ذكره النَّبي صلى الله عليه وسلم كالتعليل لما تقدَّم؛ فإنَّ في هذه الجملة اللطيفة إشارةً إلى أنَّهم إذا تركوا التحاسد، والتناجش، والتباغض، والتدابر، ولم يبع بعضهم على بيع بعض، صاروا إخوةً متحابين متآلفين.

3 -

فيه الأمر باكتساب الأشياء التي تجلب المحبَّة، والمودة، والألفة: من ردِّ السَّلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، ونحو ذلك من الحقوق التي سنَّها الإسلام بين المسلمين؛ لتمكِّن المودَّة، والألفة

ص: 433

بينهم، وتوحد كلمتهم.

4 -

قوله: "المسلم أخو المسلم":

قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، فالأخوَّة الإسلامية هي أوثق رابطةٍ وأقوى صلة بين المسلم وأخيه المسلم، وهي تقتضي حقوقًا بينهما، إنْ قاما بها نمت وزكت، وإلَاّ ضعفت وذوت حتى تموت؛ فعلى المسلمين مراعاتها، وإحياؤها بالقيام بالحقوق والصلات.

5 -

قوله: "لا يظلمه": هذا أقل ما يجب للمسلم على أخيه، والظلم يكون في النفس، والعِرض، والمال؛ فعلى المسلم: تجنب غلط أخيه، فالمسلم على المسلم حرامٌ: دمه، وماله، وعرضه.

6 -

قوله: "ولا يخذله":

الخذلان هو أنْ يُظْلَمَ المسلم وتقدر على نصره فلا تفعل، بل تتخلَّى عنه؛ فإنَّ المؤمنَ مأمورٌ بنصر أخيه المسلم، سواء أكان ظالمًا فتنصره على نفسه، وتمنعه من الظلم، أو مظلومًا فتمنع الظلم عنه، فقد أخرج أبو داود (4884) من حديث أبي طلحة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما من امرىءٍ مسلم يخذل امرأ مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه، إلَاّ خذله الله في موضعٍ يحب فيه نصرته، وما من امرىءٍ ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته، إلَاّ نصره الله في موضعٍ يحب فيه نصرته".

7 -

قوله: "ولا يحقره": احتقار المسلم لأخيه ناشيءٌ عن الكِبْر؛ فقد أخرج مسلم (91) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الكِبْر بَطَر الحقَّ، وغَمْط النَّاس" فالمتكبِّر ينظر إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النقص؛ فيحتقرهم، ويزدريهم، ولا يراهم أهلاً لأن يقوم بحقوقهم، ولا أنْ يقبل من أحدهم الحق إذا ردوه عليه.

8 -

قوله: "التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاثًا":

ص: 434

فيه إشارةٌ إلى أنَّ أكرم الخلق عند اللهِ من اتصف بالتقوى لا بالجاه والرئاسة والمال؛ فرُبَّ من يحقره النَّاس -لضعفه، وقلَّة حظه من الدنيا- هو أعظم قدرًا ممَّن له قدرة في الدنيا؛ قال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [لحجر ات: 13].

والتقوى أصلها في القلب، فلا يطلع على حقيقتها إلَاّ الله تعالى؛ وحينئذٍ فقد يكون ممَّن له صورة حسنة، أو جاه، أو رئاسة في الدنيا، قلبه خالٍ من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك، قلبه مملوءٌ من تقوى الله؛ فيكون أكرم عند الله تعالى.

قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"[رواه مسلم (2564)].

9 -

قوله: "بحسب امرىءٍ من الشرِّ أنْ يحقر أخاه المسلم":

يعني: أنَّ احتقار المسلم أخاه المسلم هو كفايته من الشرِّ؛ فإنَّه إنَّما يحقره لتكبره عليه، والكبر أعظم خصال الشر؛ ففي صحيح مسلم (91) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنَّة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبر".

10 -

قوله: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه".

النصوص في تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم كثيرة صحيحة صريحة؛ فهو ممَّا عُلِمَ من الدِّين بالضرورة.

إنَّما المتعيِّن على المسلم أنْ يحترز عن حقوق المسلمين، فلا يعتدى عليها، وإذا حصل بيده منها شيءٌ فليردها إنْ قدر على ذلك، وإلَاّ استحل أهلها منها قبل أنْ يأتي يومٌ لا يستطيع أداءها إلا من أعماله الصَّالحة، فإذا نفذت أعماله، وضع عليه من سيئات أصحاب الحقوق، ونسأل الله العافية والمعافاة.

***

ص: 435

1306 -

وَعَنْ قُطْبَةَ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكرَاتِ الأَخْلَاقِ، وَالأَعْمَالِ، وَالأَهْوَاءِ، وَالأَدْوَاءِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَاللَّفْظُ لَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

صحَّحه ابن حبان، والحاكم، وأخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير.

واعتمد الشيخ الألباني تصحيحه في صحيح الجامع الصغير، وقال: أخرجه الترمذي، والطبراني، والحاكم.

* مفردات الحديث:

- جنبِّني: دعاء من التجنب، أي: باعدني.

- منكرات الأخلاق: هي الأوصاف المذمومة؛ كالبخل، والكبر، والحسد، والحقد، ونحوها مما ينكر شرعًا وعادةً.

- منكرات الأهواء: هي ما تشتهيه النفس، وتميل إليه من غير نظر إلى مقصد يحمد عليه شرعًا.

- منكرات الأدواء: هو الأسقام البدنية المنفرة من المرض، أو الأمراض المزمنة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه دعوات كريمات يقولها صاحب الخلق العظيم -صلوات الله وسلامه عليه- يزود بها نفسه الشريفة؛ فإنَّ الله تعالى وصفه بقوله: {وَإِنَّكَ

(1) الترمذي (3591)، الحاكم (1/ 532).

ص: 436

لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم].

وكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن.

2 -

"اللهمَّ جنبني منكرات الأخلاق":

فالتجنب المباعدة، ومنكرات الأخلاق هي الأخلاق الذميمة المستقبحة؛ كالحسد، والحقد، والغش، وقسوة القلب، والبخل، والجُبن، والهلع، ونحو ذلك من الأخلاق المكروهة، شرعًا وعقلاً، وإذا تخلى المسلم عن هذه الأخلاق القبيحة، وتحلى بعدها بالأخلاق المحمودة، شرعًا وعقلاً؛ من الحلم، والعفو، والجود، والصبر، والرحمة، والشفقة، وتحمل الأذى، وقضاء الحوائج، والبر، والإحسان، ونحوها، فقد كمل خلقه.

ومنكرات الأخلاق تنشأ عن مرض القلب؛ كما أنَّ كرائم الأخلاق تنشأ عن صحته.

3 -

أما منكرات الأعمال: فهي كبائر الذنوب، والإصرار على صغائرها؛ فالمسلم يتخلى عنها، ويستعين بالله تعالى على ذلك، ويتحلى بفضائل الأعمال من أداء الواجبات، والحرص على المستحبات، والتزود من الباقيات الصالحات، فإذا فعل ذلك، كمل إيمانه.

4 -

أما الأهواء: فهي الشهوات المهلكات، من ارتكاب المعاصي، والإقدام على الآثام، التي تهواها النفوس، ولكن في هذا الهوى والمشتهى هلاكها.

فعلى المسلم مقاومة نفسه الأمارة بالسوء، لتكون له مطيعة، مطمئنة، يسهل قيادها؛ لتكون رغبتها في طاعة الله تعالى، من الإيمان الكامل، والإسلام الشامل، والإحسان المقرب.

5 -

أما الأدواء: فهي الأسقام، وتكون للأبدان، كالأمراض الشنيعة؛ من الجذام، والسرطان، وذات الجنب، وتكون أسقام القلوب بالشَّهوات، كالمعاصي، وبالشبهات، كالبدع، نسأل الله السلامة.

ص: 437

1307 -

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تُمَارِ أَخَاكَ، وَلَا تُمَازِحْهُ، وَلَا تَعِدْهُ مَوْعِدًا فَتُخْلِفَهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

سنده ضعيف.

قال المصنف: أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف، لكن في معناه أحاديث، فقد روى الطبراني أنَّ جماعة من الصحابة قالوا: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى، فذكر حديثًا طويلاً، وقال تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، وتتأيد صحة معناه بما أخرج الشيخان مرفوعًا:"أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم".

* مفردات الحديث:

- لا تمار أخاك: بضم التاء، المماراة: هي المجادلة بغير حق، أو أن تطعن في كلامه تحقيرًا له وإظهارًا لخلله وقصوره.

- ولا تمازحه: الممازحة: هي المداعبة لأجل المباسطة، والتلطف؛ ولذا فإنَّ المراد بها هنا هو الممازحة التي تجلب البغض، والنفرة، وتكدر النفس.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الإسلام بتوجيهاته الرشيدة، وتعاليمه الحكيمة، يحث على الألفة والأخوَّة الإيمانية، التي تجمع القلوب، وتؤلف النفوس، وتشرع الأسباب الجالبة للأخوَّة. والمحبة والمودة في الله، هو أساس الاجتماع، والتعاون على

(1) الترمذي (1995).

ص: 438

البر والإحسان، ونهى عما يسيء إلى الأخوَّة والألفة.

2 -

المماراة: هي الجدال والخصومة، التي قد يفعلها الإنسان مع جليسه؛ ليظهر الخلل في كلامه، أو العيب في فكرته؛ فهذا خلق ذميم، ويسبب التنافر والتباغض بين الأصحاب والإخوان، والواجب بين الإخوان والحضور: هو احترام كل واحد منهم صاحبه، وإذا كان هناك نقاش وبحث مسألة؛ فيكون بالتفاهم فيها، وبحثها بأدب واحترام، فإن وجد فكرةَ صاحبه جيدة، حبذها وقبلها وأيَّدها، وإن كانت خاطئة، أو فيها أخطاء، عدَّلهاَ تعديلاً بسياسة كلام، ولطف مدخل، لا يشعر فيه بالعيب والتخطئة.

أما إذا كان المجلس عامًّا، وفيه الملَحُ والفكاهات، وأخطأ أحد في حكاية، أو سوق فكاهة، أو طرفة، فالأولى تركها؛ إذ لا يترتب عليها شيء.

3 -

أما المزاح: فليكن مزاحًا خفيفًا لطيفًا بأدب واحترام، وأن لا يطول، ولا يثقل حتى يتعدى، ويسبب الغضب، والعداوة، والبغضاء.

4 -

أما الوعد: فإنَّك لا تعِد أخاك عِدَةً تمنِّيه في قضائها، وترجيه في إنهائها، ثم لا تفي له بذلك؛ فإنَّ هذا يضره من ناحية، ويثير حقده عليك أيضًا، فإما أن لاتعِده، وإلَاّ فإذا وعدته فأوف بوعدك.

5 -

تقدم الخلاف بين العلماء في حكم الوفاء بالوعد، وأنَّ أصح الأقوال وجوبه إذا أوقع الموعود في ورطة أو ضرر، فإما أن يفي له بالوعد، وإما أن يضمن له خسارته التي كانت بسبب وعده؛ وهذا ما قرَّره مجمع الفقه الإسلامي.

***

ص: 439

1308 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: البُخْلُ، وَسُوءُ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن بغيره.

قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد، وقال: غريب، قلت: وفي الباب أحاديث يعضد بعضها بعضًا، منها:

1 -

ما رواه البيهقي مرفوعًا بلفظ: أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصبر والسماحة وحسن الخلق" قال العراقي: إسناده صحيح، وصححه السيوطي في الجامع الصغير.

2 -

ما أخرجه الديلمي من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "خلقان يحبهما الله، وخلقان يبغضهما الله، فأما اللذان يحبهما الله: فحسن الخلق والسخاء".

* مفردات الحديث:

- خصلتان: تثنية خصلة، والخصلة: خلق في الإنسان يكون فضيلة، أو رذيلة.

- البخل: البخل في الشرع: منع الواجب.

- سوء الخلق: الخلق بضمَّتين: عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأخلاق بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإذا كانت الأفعال الصادرة، سيئة قيل لصاحبها سيِّءُ الخلق.

(1) الترمذي (1962).

ص: 440

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث الشريف يدل على أنَّ المؤمن لا يجمع هاتين الخصلتين الذميمتين، وهما: البخل، وسوء الخلق، ومفهوم الحديث: أنَّهما قد يجتمعان فيمن حُرِمَ نعمة الإيمان، فإنَّه قد يكون فيه البخل وسوء الخلق معًا؛ لأنَّه فقد الإيمان الذي ينها صاحبه عن سيِّء الأخلاق، كما يأمره بالجود والكرم.

2 -

البخل: أحسن ما يعرَّف به: بأنَّه التقصير بالنفقات الواجبات، والنفقات المستحبات، وعدم التوسعة على الأهل والأولاد، والتقصير في بر الجار، والقريب، والضعيف، ونحو ذلك.

3 -

جاء ذم البخيل والبخل في كثير من نصوص الكتاب والسنة؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 37] وقال تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)} [الحاقة]، وقال تعالى عن أهل النار:{وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر]، وقال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)} [الليل]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر]، وقد جاء في صحيح مسلم (2578)، من حديث جابر؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"اتَّقوا الشح، فإنَّ الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم".

4 -

البخل مذموم شرعًا، وعقلاً، وعرفًا؛ فهو إمساك عن الواجبات، فيحصِّل صاحبه الإثم، والإمساك عن الفضائل والمرواءت، فيحصِّل صاحبه المذمة والعار، وضد ذلك: القيام بالنفقات الواجبة، والنفقات التي تجلب حمدًا وأجرًا.

5 -

أما سوء الخلق فضله حسن الخلق؛ من حسن العشرة، ولين الجانب، والحلم، والعفو، والسماح، والصبر، والرحمة، والشفقة، والإحسان، والبر.

ص: 441

6 -

والآيات والأحاديث في ذم سوء الخلق، ومدح حسن الخلق كثيرة جدًّا؛ ويكفي منها قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف]، وقوله:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34].

وجاء في الترمذي (2002) عن أبي الدرداء؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله يبغض الفاحش البْذِيءَ" وجاء في أبي داود (4798) عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".

***

ص: 442

1309 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعلَى البَادِىءِ، مَا لَمْ يَعْتَدِ المَظْلُومُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- المُسْتبَّان: بتشديد الباء الموحدة، اسم فاعل، من باب الافتعال، يقال: سابَّه مسابَّةً وسبابًا: شتمه، والمراد: المتشاتمان اللذان تبادلا الشتائم بينهما.

- فعلى الباديء: أي: فعلى الذي بدأ بالشتم الإثم، دون المجيب المنتصر.

- ما لم يعتد: أي: يتجاوز حد ما شتمه الباديء.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

السباب: فسوق لما يصدر فيه من الكلام الفاحش، واللفظ البذيء، وقد يجر الفسوق إلى ما هو أعظم منه؛ من سفك الدماء، وإثارة الفتن، وأقل ما فيه إشعال العداوة والبغضاء بين المسلمين؛ ولذا كان محرَّمًا؛ فإنَّ الله يكره الفاحش البذيء.

2 -

ومن اعتدي عليه بالسباب، فله مجازاة الساب بمثل سبه من غير ذلك زيادة على ذلك؛ قال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126].

ولكن أفضل من المجازاة: الحلم، والصبر، والعفو:{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل]، وقال تعالى:{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)} [الحجر]، وقال:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]،

(1) مسلم (2587).

ص: 443

وقال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} [آل عمران].

3 -

دلَّ الحديث على أنَّ إثم السباب يقع على الذي بدأ بالسباب: إما مباشرة، أو تسبب له بأفعاله، أو أحواله.

ولا يقع على المجازي إلَاّ إذا زاد على حقه، فيصير ظالمًا.

4 -

السباب ليس من خلق ذوي الهيئات والمرواءات، وإنما هو خلق السفهاء، ومن ليس لديهم حياء يردهم عن هُجْرِ الكلام، وفاحشه، والبذاءة؛ لذا فإنه يُجمل بالمسلم أن يبتعد عن هذه الأخلاق، وأن ينأى عمن ليس عنده خلق حسن؛ فليتأدب معه بآداب القرآن من الإعراض عن الجاهلين، والصفح الجميل، والصبر، والعفو، والمغفرة؛ لينال درجة المتخلقين بالقرآن، والله الموفق.

***

ص: 444

1310 -

وَعَنْ أَبِي صِرْمَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا ضَارَّهُ اللهُ، وَمَنْ شَاقَّ مُسْلِمًا شَقَّ اللهُ عَلَيْهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

فقد حسَّنه الترمذي.

قال المناوي في شرح الجامع الصغير: رمز لحسنه المؤلف، أي السيوطي.

ورواه أبو داود، وسكت عنه هو والمنذري، وعزاه لابن ماجه والنسائي، فهو حديث مقبول، والله أعلم.

وهناك شواهد كثيرة للحديث؛ منها ما في صحيح مسلم: "اللَّهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه" وغيره.

* مفردات الحديث:

- من ضارَّ مسلمًا: أي: من أدخل على مسلم مضرة في ماله، أو نفسه، أو عِرضه بغير حق، أدخل الله عليه المضرة؛ مجازاة له من جنس فعله.

- من شاقَّ مسلمًا: يقال: شاقه مشاقة وشقاقًا: خالفه، وعاداه، وحقيقته: أن يأتي كل واحد منهما بما يشق على صاحبه، فيكون كل واحد منهم في شق صاحبه، والمعنى هنا: من نازع مسلمًا ظلمًا، أنزل الله عليه المشقة.

(1) أبو داود (3635)، الترمذي (1940).

ص: 445

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

أذية المسلم وغيره بغير حق حرام، سواء أكانت الأذية في بدنه، أو عرضه، أو ماله، أو ولده، أو أهله، أو أي شيء يلحقه الضرر به؛ فمن أدخل الضرر على مسلم، أو ذمي، أو معاهد، جازاه الله تعالى من جنس عمله، بأن يدخل عليه المضرة والمشقة.

2 -

جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد (22272)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"؛ وهذا الحديث جعله علماء الأصول قاعدة شرعية عامة كبرى، استقوا منها عددًا كبيرًا من المسائل الفرعية.

ومعناه: نفي الضرر من الرجل لأخيه ابتداءً وجزاءً.

فالحديث: "لا ضرر ولا ضرار" وأخوه "حديث الباب": نص في تحريم الضرر بأنواعه كلها؛ لأنَّ النفي بـ"لا" للاستغراق، فيفيد تحريم جميع أنول الضرر؛ لأنَّه الظلم الذي حرَّمه الله تعالى على نفسه، وجعله بين عباده محرَّمًا.

3 -

الضرر قد يكون بحق؛ كإقامة الحدود، والعقوبات، والإكراه على استخلاص الحقوق المستحقة الواجبة.

4 -

المضارة المحرَّمة هي المضارة المقصودة، أما غير المقصودة فلا تحرم، قالط شيخ الإسلام: المضارة معناها القصد والإرادة، أو على فعل فيه ضرر، فمتى قصد الإضرار، أو الفعل بالإضرار من غير حاجة، فهو مضار.

وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة لا لقصد الضرر، فليس بمضار؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة التي تضر صاحب الحديقة لما طلب صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل، قال:"إنما أنت مضار"[أبو داود: 3636]، ثم أمر بقلعها؛ فدل على أنَّ الضرر محرَّم لا يجوز تمكين صاحبه منه.

ص: 446

1311 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ يَبْغَضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ" أَخْرَجَهُ التِّرمِذِيُّ وصَحَّحَهُ (1).

وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَةَ: "لَيْسَ المُؤْمنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الفَاحِش، وَلَا البَذِيءِ" وَحَسَّنَهُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقْفَهُ (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

لكن اختلف في رفعه ووقفه، ورُجِّح وقفه.

قال المؤلف: أخرجه الترمذي وصحَّحه، وله شاهد من حديث ابن مسعود يرفعه:"ليس المؤمن بالطعَّان، ولا اللعَّان، ولا الفاحش، ولا البذيء"، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ولكن رجح الدارقطني وقفه.

قال الشيخ شعيب الأرناؤط في تعليقه على رياض الصالحين: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وإسناده صحيح، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذَّهبي.

وقال العراقي: أخرجه الترمذي بإسناد صحيح، من حديث ابن مسعود، وروي موقوفًا، قال الدارقطني: والموقوف أصح.

وهو -وإن كان موقوفًا- لكن له حكم الرفع، حيث هو إخبار عن الله تعالى، وهذا لا مدخل للرأي فيه.

(1) الترمذي (2002).

(2)

الترمذي (1977)، الحاكم (1/ 12).

ص: 447

* مفردات الحديث:

- الفاحش: الفحش: هو القبح الشنيع من قول أو فعل؛ فالفاحش هو الذي يأتي الفاحشة، من قول، أو فعل.

البذيء: البذيء على وزن فعيل، قال: بذأ الرجل يبذأ بذاء وبذاءة: فحش، فهو بذيء وهي بذيئة، والبذاء هو الكلام القبيح.

- الطعَّان: يقال: طعن فيه طعنًا: قدحه وعابه؛ فالطعن هو السب، والطعَّان صيغة مبالغة معناه: كثير السب للناس.

- اللعان: يقال: لعنه يلعنه لعنًا: طرده وأبعده من الخير؛ فهو لعَّان، صيغة مبالغة من اللعن، معناه؛ كثير اللعن للناس، قال في التعريفات: اللعن من الله هو إبعاد العبد بسُخطه، ومن الإنسان الدعاء بسُخطه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه النهي الأكيد عن هذه الخصال القبيحة، وأنَّها ليست من صفات المؤمن الكامل الذي يمنعه إيمانه من المنكرات، وفاحش القول، وبذيء الكلام، وإنما هذه صفات وأخلاق ضعفاء الإيمان وسَيِّيء الأخلاق، ممن لم يذوقوا حلاوة الإيمان، ولم تخالط بشاشته قلوبهم.

2 -

أنَّ الله يبغض الفاحش في قوله، ممن فاه بفاحش القول: من السب، والشتم، واللعن، والقذف، والكذب، وجميع الألفاظ النابية المحرَّمة.

3 -

البذيء: صاحب منطق السوء، وقبيح اللفظ ممن يؤذي بهجره، وسفاهة منطقه، فلا يخاطب الناس إلَاّ باللفظ المستكره، ولا يناديهم إلَاّ بالألقاب المستقبحة، ولا يشافههم إلا بخشن الكلام؛ فهذا مكروه يبغضه الله تعالى؛ كما يبغضه خلقه في السموات والأرض.

4 -

أما الطَّعَّان: فهو الذي يطعن الناس في أعراضهم، وأنسابهم، ويعيبهم في أقوالهم، وأفعالهم، ويوجِّه إليهم انتقاده المُرَّ الذي لم يقصد به التوجيه،

ص: 448

وإنما يقصد به إظهار العيب والفضيحة.

5 -

وأما اللَّعَّان: فهو كثير اللعن والشتم، بسبب، وبدون سبب، وإنما اللعن والشتم سجية قبيحة، طُبعَ على أصلها، ونمت عنده، وزادت من إهماله تهذيبَ نفسه وتزكيتَهَا.

6 -

وبالجملة: فليست هذه الأخلاق من أخلاق من نوَّر الإيمانُ بالله تعالى قلوبهم، وزيَّنت التقوى سمتهم، وعدلت العبادة سلوكهم، وهذَّب الذكر ألسنتهم، وإنما هي أخلاق السفلة من الفسقة والمنافقين.

نسأل الله العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة.

***

ص: 449

1312 -

وَعَنَ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- أَفْضَوْا إلى ما قدموا: يقال: أفضى فلان إلى فلان: وصل إليه، وأفضى به إلى كذا، أي: بلغ وانتهى به إليه، ومعناه: أنَّهم صاروا إلى ما قدموا من أعمالهم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على تحريم سب الأموات، وعمومه: يفيد أنَّه سواء أكانوا مسلمين أو كفارًا.

وحكمة النَّهي جاءت من قوله صلى الله عليه وسلم في بقية الحديث: "قد أفضوا إلى ما قدَّموا" يعني: أنَّهم وصلوا إلى ما قدموه من الأعمال، سواء أكانت صالحة، أو طالحة.

2 -

الأموات لا فائدة في سبهم، والتفكه في أعراضهم، وتعداد مساويهم وأعمالهم؛ فإنَّ ذلك قد يؤذي الحي من أقاربهم.

قال ابن الأثير في أسد الغابة: لما أسلم عكرمة بن أبي جهل، صار الناس يقولون: هذا ابن عدو الله أبي جهل، فساءه ذلك، فشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تسبوا أباه؛ فإنَّ سبَّ الميت يؤذي الحي".

3 -

يستثنى من النَّهي عن سب الأموات إذا كان في ذكر معايبهم فائدة، ولم يقصد به التنقيص منهم، واغتيابهم، وإنما يقصد من ذلك بيان الحقيقة،

(1) البخاري (1393).

ص: 450

وتحذير الناس؛ وذلك مثل جرح رواة الحديث.

4 -

قال النووي: اعلم أنَّ الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي، لا يمكن الوصول إليه إلَاّ بها، ثم ذكر منها: تحذير المسلمين من الشر ونصحهم؛ وذلك من وجوه: منها: جرح المجرحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب، ومنها: التعريف إذا كان الإنسان معروفًا بلقب؛ كالأعمش، والأعرج، والأصم، ونحوهم، ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك، كان أولى.

5 -

مذهب أهل السنة والجماعة في أموات المسلمين: أننا نرجو للمحسن أن يوفيه الله أجره، ويرحمه، ولا يعذبه، ونخاف على المسيء بأن يؤخذ بذنوبه وإساءته، ولا نشهد لأحد بجنة ولا نار، إلَاّ لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.

ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهره العدالة، بخلاف من ظاهره الفسق؛ فلا حرج بسوء الظن به.

***

ص: 451

1313 -

وعَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- قتَّات: يقال: قَتَّ الأحاديثَ يقتها قتًّا: نَمَّها وبثها، فهو قتات، بالفتح والتشديد، وهو النمام الذي ينقل حديث رجل أو قوم، إلى رجل أو قوم، على طريق الوشاية؛ لإفساد ما بينهما.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

القتات: هو النمام الذي ينقل كلام الناس بعضهم إلى بعض؛ لغرض الإفساد بينهم، وإثارة العداوة والبغضاء فيما بينهم، وكلما عظم أمرها، واشتد خطرها، كانت أكبر إثمًا، وأعظم جرمًا؛ فهي بين الأقارب وذوي الرحم والأصحاب والجيران أشد منها بين الناس البعيدين.

2 -

النميمة من كبائر الذنوب؛ لما يحصل فيها من الأثر السَّيِّء، والعاقبة الوخيمة.

قال المنذري: أجمعت الأمة على أنَّ النميمة محرَّمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله.

3 -

جاء في النميمة نصوص مخيفة؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} [الأحزاب].

وجاء في البخاري (218)، ومسلم (292)، من حديث ابن عباس قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان بكبير، أما أحدهما:

(1) البخاري (6056)، مسلم (105).

ص: 452

فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر: فكان يمشي بالنميمة بين الناس".

وأخرج الإمام أحمد (17637)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "شر عباد الله المشاؤون بالنميمة".

***

ص: 453

1314 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ، كَفَّ اللهُ عَنْهُ عَذَابَهُ" أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ (1)، وَلَهُ شَاهدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عِنْدَ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (2).

ــ

* درجة الحديث:

إسناده ضعيف.

قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، وفيه الربيع بن سليمان الأزدي، وهو ضعيف.

وقال ابن كثير في التفسير (1/ 406): هذا حديث غريب، وفي إسناده نظر.

* مفردات الحديث:

- كفَّ: يقال: كفَّ يكف كفًّا، أي: منع؛ فالكفّ المنع، والمراد منع نفسه حين الغضب.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الغضب: هو غليان القلب، وثورة النفس لأجل الانتقام، وإذا جاءت الأسباب المهيجة للغضب، شق على الإنسان منع نفسه، وقهرها، وكفها.

2 -

من هذا صار للذي يجاهد نفسه ويكفها أجر عظيم من جنس عمله، وهو أن يكف الله عنه عذابه يوم القيامة، ولا شكَّ أنَّ هذا جزاءٌ كبيرٌ؛ فإنَّ من زُحْزِح عن النَّار وأُدخل الجنَّة، فقد فاز.

(1) الطبراني في الأوسط (6/ 140)، أبو يعلى (7/ 302).

(2)

الطبراني في الكبير (13646).

ص: 454

3 -

تقدمت وصية النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: علِّمني، ولا تكثر عليَّ؛ لعلي أعيه، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تغضب"، ومعنا كما تقدم أحد أمرين:

- إمَّا لا تنفذ غضبك إذا غضبت، بل حاول إطفاء الغضب.

- أو اجتنب الأسباب الذي تجلب لك الغضب.

***

ص: 455

1315 -

وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الجنَّةَ خَبٌّ، وَلَا بَخِيلٌ، وَلَا سَيِّءُ المَلَكَةِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَفَرَّقَهُ حَدِيثَيْنِ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

قال المؤلف: أخرجه الترمذي، وقال: حسن غريب، ولكن في إسناده ضعف؛ لأنَّ فيه صدقة بن موسى، قال عنه الذَّهبي: إنَّه ضعيف، لكن شواهده كثيرة؛ فقد رواه أحمد، وأبو يعلى، وغيرهما، قال الحافظ المنذري، والعراقي، والذَّهبي: وهو ضعيف.

* مفردات الحديث:

- خَبَّ: يقال خب الرجل يخب خبًّا: كان خدَّاعًا خبيثًا غشَّاشًا، فالخَبّ -بفتح الخاء، وتشديد الباء الموحدة-: هو الخدَّاع.

- الملكة: بفتح الميم واللام، يقال: ملكه يملكه ملكًا وملكةً: احتواه قادرًا على الاستبداد به، يقال: فلان حسن الملكة، أو سَىِّءُ الملكة.

قال في المحيط: الملكة عند العلماء: هي صفة راسخة في النفس، وتحقيقه: إن كانت هذه الصفة سريعة الزوال فهي حالة، فإذا تكررت رسخت تلك الكيفية، فصارت ملكة وخُلُقًا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يشتمل على ثلاث خصال قبيحة حُرِم صاحبها والمتخلِّق بها من

(1) الترمذي (1947، 1964).

ص: 456

دخول الجنة، مما يقتضي أنَّها من كبائر الذنوب؛ فإنَّ من نُفِيَ عنه دخوله الجنة، فقد أتى كبيرة، كما تقدم تعريفها.

الأولى: الخبّ مخادع المحتال على الناس، فلا يعيش إلَاّ بالخديعة، والحيلة الذميمة، فيسلب أموال الناس بطرق الخداع؛ من الكذب في المعاملة، والتغرير فيها، والتدليس، والاحتيال، أو يخادع الناس بالمصاهرة منهم؛ بإظهار الدين، والغنى، والخصال المرغبة في إجابة خطبته، أو تظهر المرأة صفات بها ترغب مكرًا منها، وخداعًا، أو غير ذلك.

فالخداع لا تعد أساليبه وطرقه، وإنما يشمله: أنَّ كل من خادع الناس لأي غرض من الأغراض، فخداعه محرَّم مسبب للحرمان من الجنة.

الثانية: البخل: تقدمت النصوص من الكتاب والسنة، وكلام العلماء، وإجماع الناس على ذمه وقبحه، وإجماع العلماء على تحريمه إذا وصل إلى منع الزكاة، والنفقات الواجبة، والتقصير في حق من يمونه، فكفى بالمرء إثمًا يمنع عمن يمونه قوته.

الثالثة: سيِّء الملكة: هو الذي فقد الشفقة والرحمة، فصار يسيء إلى مماليكه، فيكلفهم من العمل ما يشق عليهم، ولا يطيقونه، ويترك ما وجب عليه من الإنفاق عليهم، والقيام بحقوقهم.

ثم مع هذا يتجاوز الحد في تأديبهم، فيعاقبهم على أتفه الأشياء عقاب المجرمين، بلا رحمة، ولا شفقة، ولا هوادة، ومثل المماليك: البهائم التي تحت يده، يقصر عليها بالنفقة، ويكلفها من العمل والحمل ما يشق عليها.

2 -

فهؤلاء الثلاثة الموصوفون بهذه الصفات حرَّمت عليهم الجنة؛ لأنَّ الجنَّة لا تكون للمخادع، ولا للكذاب، ولا للبخيل الشحيح، ولا للقاسي الذي خلا قلبه من الرحمة.

***

ص: 457

1316 -

وعَنِ ابْنِ عَبَاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَسَمَّعَ حَدِيثَ قَوْمٍ، وَهُمْ لهُ كَارِهُونَ، صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيَامَةِ" يَعْنِي: الرَّصَاصَ. أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- من تسمَّع: فعل ماض من التفعُّل، وهو يقتضي التكلُّف، والمعنى: من اجتهد في سماع حديث قوم.

- صُبَّ: مبني للمجهول، من باب نصر، بمعنى: انسكب.

- الآنك: يقال: أنك الشيء يأنك أنكًا: عظم وغلظ، والآنك بمد الهمزة، وضم النون، آخره كاف: هو الرصاص الخالص.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث دليل على تحريم الاستماع إلى حديث من يكره سماع حديثه، ويعرف هذا بالتصريح من المتكلم، أو بقرائن الأحوال.

قال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على اثنين في حال تناجيهما.

2 -

الوعيد الذي في الحديث يدل على أنَّ استماع حديث من لا يرغب في سماع حديثه: أنَّه من كبائر الذنوب؛ ذلك أنَّ فيه وعيدًا شديدًا في الآخرة، وهو لا يكون إلَاّ على كبيرة.

3 -

من أدب المجالسة أن لا يدخل الإنسان في حديث اثنين لم يدخلاه فيه، ما لم يكن الحديث من المجالس العامة، أو يكون من مسائل العلم.

4 -

وكما يحرم استماع كلام الاثنين المتناجِيَيْن، فأشد منه حرمة: أن يطلع من

(1) البخاري (7042).

ص: 458

الأماكن المرتفعة، أو من خلال الأبواب والجدران على عورات الناس في منازلهم.

5 -

ولو أنَّ صاحب المنزل أصابه في عينه، أو في أذنه، أو في غيرهما لمعاقبته على نظره وسمعه، لم يكن ضامنًا ما تلف بذلك من أعضائه؛ فقد تقدم حديث أبي هريرة في البخاري (6902) ومسلم (2158)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"لَو أنَّ امرأَ اطَّلع عليك بغير إذن، فخذفته بحصاة، ففقأت عينيه، لم يكن عليك جناح" زاد أحمد (8771) والنسائي (8460): "فلا فدية له، ولا قصاص".

***

ص: 459

1317 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ" أَخْرَجَهُ البَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

حسَّنه الحافظ ابن حجر.

قال المناوي: رواه العسكري عن أنس، ورواه أبو نعيم من حديث الحسين بن علي، والبزار من حديث أنس، قال العراقي: وكلها ضعيفة.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (10/ 229)، فيه النضر بن محرز وغيره من الضعفاء.

وحسَّن إسناده المصنف، وذلك بمجموع طرقه، والله أعلم.

* مفردات الحديث:

- طُوبَى: بضم الطاء، آخره ألف التأنيث المقصورة، اسم شجرة في الجنة، وقيل: عيش طيب له في الآخرة، وحياة طيبة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث الشريف فيه توجيه رشيد لمن يريد السير إلى الله تعالى، فيقطع المفاوز المعوِّقة حتى يجد طعم الوصول، وذلك باتباع الآثار المحمَّدية، والتعاليم الإسلامية فمِن ذلك:

أولًا: من شغله عيبه، فصار جادًّا في التخلص من رذائل الذنوب، ومعوِّقات المعاصي، والآثام، فمثل هذا يرجى أن يتخلى منها، فيصبح

(1) أبو نعيم في الحلية (3/ 202).

ص: 460

بهذه المجاهدة نقيًّا صافيًا من أدران الذنوب.

ثانيًا: من تخلى من وضر الذنوب، فإنَّه سيتحلى بفضائل الأخلاق، التي أولها طاعة الله تعالى، وفعل ما يجمِّله، ويهذبه، ويقربه.

ثالثًا: هو بجهاد نفسه وعسفها للتخلِّي من الرذائل، والتحلي بالفضائل، قد شغل وقته بإصلاح نفسه، فَسَلِمَ من تبعة تتبع الناس.

2 -

بهذا السلوك المستقيم، والسير إلى الله تعالى بهذا الاتجاه الحميد، استحق جائزة "طوبى" التي هي:

إما شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها.

وإما درجة عالية في الجنة، والله الموفق.

***

ص: 461

1318 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَاخْتَالَ فِي مِشْيِتَهِ، لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبانٌ" أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال العراقي: أخرجه أحمد، والطبراني، والحاكم وصحَّحه، وأخرجه الحاكم في شعب الإيمان من حديث ابن عمر.

قال المؤلف: رجاله ثقات.

وقال المنذري: رواته محتج بهم في الصحيح.

وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

* مفردات الحديث:

- من: بفتح الميم، وسكون النون، اسم شرط جازم في محل رفع مبتدأ.

- تعاظم: عظُم الشيء يعظُم -من باب كرم- عِظَمًا، فهو عظيم، وتعاظم: بمعنى تصنَّع العظمة، وتكبر، وأرى نفسه الكبر؛ فالعظمة: الكبرياء.

- اختال: تخايل الرجل تخايلاً، واختال في مشيته اختيالاً: تكبر وأعجب بنفسه؛ فالخائل: المتكبر، جمعه خالة.

- مشيته: مشي يمشي مشيًا: إذا كان على رجليه، فهو ماشٍ، والجمع مشاة.

والمِشية بكسر الميم، وسكون الشين: مصدر نوعي، جاء لبيان نوع الفعل وصفته.

(1) الحاكم (1/ 60).

ص: 462

- غضبان: غضب يغضب -من باب علم- غضبًا، فهو غضبان، جمعه غضاب، سخط عليه وأراد الانتقام منه.

هذا من حيث التصريفُ اللغويُّ، أما غَضَبُ الله تعالى: فهو صفة، نثبت حقيقتها على المعنى اللائق بجلاله، ونفوِّض كيفية الصفة.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على ذم الكبر والتعاظم، ويظهر هذا التعاظم وهذا التكبر في مِشيته،؛ فيختال فيها، وفي لباسه فَيُسبِله، وفي كلامه؛ فيتشدق فيه ويتقعر، وفي نظره؛ فلا ينظر إلى الناس إلَاّ ببعض عينيه، ويصعَّر خده للناس، فيميله كبرًا؛ فمن اتَّصف بهذه الصفات الذميمة الكريهة، فهو ممقوت عند الناس، وثقيل لديهم، ومحل سخريتهم، واستهزائهم به.

2 -

أما عند الله تعالى: فإنَّه يلقى ربه يوم القيامة، وهو عليه غضبان، وغضبه مستوجب لعقابه؛ فالكِبر والتعاظم من كبائر الذنوب.

3 -

جاءت نصوص كثيرة في ذم الكبر وأهله، قال تعالى:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)} [النحل]، وقال تعالى:{إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)} [غافر]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان].

وجاء في مسَلم (91) من حديث ابن مسعود؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كِبر".

وروى مسلم (4095) أنَّ النَّبىَّ صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما، عذبته".

4 -

قال في مختصر الإحياء: الكبر والعجب داءان مهلكان، والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان، وهما عند الله ممقوتان بغيضان، وقد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه؛ فقال: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ

ص: 463

الْحَقِّ} [الأعراف: 146].

وحقيقة الكبر ينقسم إلى ظاهر وباطن: فالباطن: خلق في النفس، والظاهر: هو أعمال تصدر من الجوارح، والأعمال ثمرات لذلك الخلق، وخلق الكبرياء موجب للأعمال، فالأصل هو الخلق الذي في نفسه فوق غيره من صفات الكمال؛ فعند ذلك يكون متكبرًا.

***

ص: 464

1319 -

وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "العَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال المؤلف: أخرجه الترمذي، وحسَّنه، وقد ذكر له السخاوي في المقاصد الحسنة طرقًا كثيرة تقوِّي حسنه، والله أعلم.

وقال المنذري: رجاله رجال الصحيح.

* مفردات الحديث:

- العَجَلَة: بفتحتين: السرعة في المشي، وفي المثل:"رُبَّ عجلة تهب ريثًا" مدحًا في التأني.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الأناة والرفق أصل كبير في سياسة الأمور وعلاجها؛ ولذا جاء في صحيح مسلم (2594)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما كان الرفق في شيء إلَاّ زانه".

2 -

الأمور التي تحتاج إلى تبصر وتفكير وتروٍّ، لا ينبغي السرعة والعجلة فيها؛ بل لابد فيها من التروي والتأني، وبحث الأمور من جميع طرقها ووجوهها، حتى تظهر أمارات العاقبة، وعلامات المستقبل في الرغبة في الأمور والإقبال، أو بضد ذلك.

3 -

سلوك الحكمة في الأمور سببٌ لنجاحها، وسبب لتوقِّي مخاطرها؛ ولهذا

(1) الترمذي (2012).

ص: 465

فإن الشارع الحكيم حث على الشورى؛ فقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، وشرع الله تعالى صلاة الاستخارة ودعاءها؛ ليجمع المسلم بين استخارة الله تعالى في الأمور، وبين مشاورة الخلق، وأخذ ما لديهم من الشورى والنصيحة في ذلك.

4 -

هناك أمور واضحة المعالم بينة السبل، فلا ينبغي التأني فيها؛ لئلا يضيع الوقت عنها والمبادرة إليها فتفوت الفرصة.

ومن أهمها: طاعة الله تعالى، والمسارعة في الخير والعبادات؛ قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 33]، وقال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وقال تعالى: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون]، وجاء في البخاري (1419) ومسلم (1032) من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أي الصدقات أعظم أجرًا؟ قال: أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان"، والنصوص في هذا كثيرة.

نسأل الله تعالى أن يمن علينا بالاستعداد.

***

ص: 466

1320 -

وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّؤْمُ سُوءُ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَفِي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

إسناده ضعيف.

قال العراقي: حديث: "الشؤم سوء الخلق" أخرجه أحمد من حديث عائشة، ولأبي داود (5162)، من حديث رافع بن مَكِيث:"سوء الخلق شؤم"، وكلاهما لا يصح، أما المؤلف فقال: في إسناده ضعف.

ورافع بن مكيث: صحابي شهد الحديبية، والفتح، ومعه لواء.

* مفردات الحديث:

- الشُّؤْم: بضم الشين، وسكون الهمزة، وقد تسهَّل، هو ضد اليمن والبركة.

- سوء الخلق: الخلق: عبارة عن هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأخلاق بسهولة ويُسر، من غير حاجة إلى فكر وروية، فإذا كانت الأفعال الصادرة سيئة، قيل لصاحبها: سَيِّىء الخلق.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الخلق الحسن هو خلق المصطفين من عباد الله تعالى، الذين قال الله عنهم:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134]؛ فهو رأس الأخلاق الفاضلة، ودليل السعادة الأبدية.

فقد قال صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق"[رواه مسلم 2553].

(1) أحمد (6/ 85).

ص: 467

وقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ خياركم أحسنكم خلقًا"[البخاري (6035) ومسلم (2321)].

وقال: "إنَّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"[رواه أبو داود (4798)].

فهو سعادة، وفلاح، ونجاح في أمور الدنيا والآخرة.

2 -

أما سوء الخلق فهو عذاب على صاحبه، وعلى من حوله من أهلٍ، وأصحابٍ، وعملاء، وزملاء، فسوء خلقه شؤم عليه؛ لأنَّه ممقوت، مكروه، مستثقل، بغيض إلى كل أحد، منبوذ من مجتمعه، فمضارُّ سوء خلقه وبالٌ عليه في دنياه وأخراه.

***

ص: 468

1321 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُفَعَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على تحريم اللعن، وأنَّه لا يجوز للمسلم أن يتفوَّه به؛ لأنَّه من السباب المحرم، ومن اللفظ القبيح.

2 -

نفى النبي صلى الله عليه وسلم عن مكثر اللعن قبول شهادته؛ لأنَّ الشهادة لا تكون إلَاّ من عدل؛ كما قال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]، فمن لم نرضَهُمْ لا يكونون شهداء، ولا شفعاء، وكثيرو اللعن ليسوا بمرضيِّين عند الله، ولا عند خلقه.

3 -

الظاهر أنَّ نفي قبول شهادة كثيري اللعن عامَّة في الحياة الدنيا وفي الآخرة:

ففي الدنيا: هم ساقطو العدالة؛ فلا يصلحون شهودًا في الخصومات لإثبات الحقوق.

ولا في الآخرة أيضًا حينما تشهد الأمم أنَّ رسلهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة؛ فهؤلاء اللَّعانون ليسوا من هؤلاء الشرفاء، الذين قاموا بأداء الشهادة، والتزكية لأنبيائهم.

***

ص: 469

1322 -

وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ، لَمْ يَمُتْ حَتَى يَعْمَلَهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَسَنَدُهُ مُنْقَطِعٌ (1).

ــ

* درجة الحديث:

قال المؤلف: أخرجه الترمذي، وحسَّنه، وسنده منقطع.

قال الصنعاني: إنَّما حسَّنه الترمذي لشواهده؛ فلا يضره انقطاعه.

وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير، وذكر المناوي بعض الشواهد مع بيان انقطاع سند الترمذي، وفيه محمَّد بن الحسن بن أبي زيد، قال أبو داود وغيره: كذاب.

* مفردات الحديث:

- عيَّر أخاه: بفتح العين، وتشديد الياء، بمعنى: عابه لمجرد التعيير؛ فإنَّه الذي يسبب العقوبة في الآخرة، وحرمان الحياة الطيبة في الدنيا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه التحذير من عيب الإنسان أخاه المبتلى بذنب من الذنوب، أو عيب من العيوب؛ فإنَّه لم يعب أحدًا بعينه إلَاّ لِما يجد في نفسه من العجب بسلامته من ذلك العيب، والعُجب ناشيء من نفسه؛ لأنَّه يرى أنَّ عصمته من العيب جاءته من قوته وإرادته، لا من الله تعالى الذي صرف عنه السوء.

2 -

من عاب أخاه بعيب مثاره الإعجاب بنفسه، والشماتة بأخيه، لن يموت حتى يصاب به ويعمله؛ ذلك أنَّه لم يتكل على الله تعالى بالتوقي من الشر، وإنما

(1) الترمذي (2505).

ص: 470

اعتمد على نفسه، فخذله الله تعالى، وخانته نفسه، فعمل ما عيَّر به أخاه.

3 -

فهذا دليل على تحريم الشماتة بالناس، ووجوب الغفلة عن عيوبهم اشتغالاً بعيب نفسه؛ فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.

4 -

وقد جاءت النصوص التي تنهى عن هذا الخلق الرذيل؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19]، وقد جاء في سنن الترمذي (2506) من حديث واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُظهر الشماتة بأخيك، فيرحمه الله ويبتليك"؛ فإنَّ إظهار الشماتة ليس من خلق المسلم الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فإنَّ خلق المسلمين أن يتألم بعضهم لبعض، ويفرح بعضهم لفرح بعضهم الآخر.

والله المستعان.

***

ص: 471

1323 -

وَعَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ، فَيَكْذِبُ؛ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، ثُمَّ وَيْلٌ لَهُ! " أَخْرَجَهُ الثَّلَاثَةُ، وَإِسْنَادُهُ قَوِيٌّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال المناوي: رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم، من حديث معاوية بن حيدة، وقد حسَّنه الترمذي، وقواه المنذري.

وقال المؤلف: رواه الثلاثة، وإسناده قوي.

* مفردات الحديث:

- ويل: الويل الهلاك، وقيل: واد في جهنم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه الوعيد بالهلاك لمن يحدث الناس فيكذب عليهم؛ وذلك ليضحكهم ويفكِّههم، بأكاذيبه، وأقواله الباطلة.

2 -

جاء تحريم الكذب في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة:

من الكتاب:

قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].

وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق].

(1) أبو داود (4990)، الترمذي (2315)، النسائي في التفسير (146).

ص: 472

ومن السنة:

جاء في البخاري (234) ومسلم (58) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا"، وذكر منها:"وإذا حدَّث كذَّب".

وجاء في البخاري (6094) ومسلم (2607)، من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النار، وإنَّ الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا".

3 -

قال النووي: اعلم أنَّ الكذب، وإن كان أصله محرَّمًا، فيجوز في بعض الأحوال:

كل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه.

- وإن لم يمكن تحصيله إلَاّ بالكذب، جاز الكذب.

- ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا، كان الكذب مباحًا.

- وإن كان واجبًا، كان الكذب واجبًا.

فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله، وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه، ومثله الوديعة المخفاة عن ظالم، والأحوط التورية، ومعناها: أن يقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب.

والدليل على ذلك: ما جاء في البخاري (2692) ومسلم (2605) عن أم كلثوم؛ أنَّها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرًا، أو يقول خيرًا" ورواية مسلم عنها قالت: لم أسمعه يرخِّص في الكذب إلَاّ في ثلاث: "في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها".

قال عياض: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الأمور الثلاثة.

ص: 473

1324 -

وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كفَّارَهُّ مَنِ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ" رَوَاهُ الحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ بِإسنَادٍ ضَعِيفٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث ضعيف.

قال في فيض القدير: أخرجه ابن أبي الدنيا عن أنس، ورمز له السيوطي بالصحة، وحكم ابن الجوزي بوضعه، وتعقبه السيوطي بأنَّ البيهقي قال: إسناده ضعيف، وبأنَّ العراقي في تخريج الإحياء اقتصر على تضعيفه.

قال السخاوي في المقاصد الحسنة: ضعيف، لكن له شواهد.

* مفردات الحديث:

- الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره، وإن كان ما اغتبته فيه.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الغيبة من المحرَّمات، ومن كبائر الذنوب، ومعناها: ذكرك أخاك بما يكره، وإن كان ما قلته موجودًا فيه؛ فهو هتك لعرضه، ولا يمكن التوبة منه، ولا من أي حق من حقوق العباد إلَاّ باستحلاله منه.

وطلب الحِلِّ ممن اغتيب قد يزيد الأمر شرًّا، وقد يثير فتنًا وعدوانًا؛ فصار الواجب بحق المغتاب أن يستغفر لمن اغتابه، ويدعو له ويذكر محاسنه في المجالس التي اغتابه فيها، وعند الأشخاص الذين عابه عندهم؛ فهذا العمل مع الندم والعزم على عدم العودة يكون سببًا للتوبة النصوح،

(1) الحارث بن أبي أسامة في مسنده (2/ 974).

ص: 474

وبراءة الذمة من عِرض المسلم، والله أعلم.

2 -

قال الغزالي في الإحياء: اعلم أنَّ الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب، ويتأسف على ما فعله؛ ليخرج من حق الله تعالى، ثم يستحل المغتاب؛ ليحلله فيخرج من مظلمته.

قال الحسن البصري: يكفيه الاستغفار دون الاستحلال.

قال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تُثني عليه، وتدعو له بخير.

***

ص: 475

1325 -

وَعَن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الألد: اللدود: هو من اشتدت خصومته، وألده: غلبه في الخصومة، وهي لداء، جمعه لُدٌّ؛ قال تعالى:{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)} [مريم] أي: مجادلين بالباطل.

- الخَصِم: بفتح الخاء المعجمة، وكسر الصاد المهملة، ومعناه: الذي يحج من يخاصمه، وذلك يكون محرمًا إذا كان في باطل.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الألد: هو الخصم الشديد الخصومة، وشديد التأبي، قال تعالى:{وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)} [البقرة]، وقال:{وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)} [مريم].

فاللدود: الشديد الخصومة، يبغضه الله تعالى؛ لأنَّ مثل هذا لا يريد بلجاجه طلب الحق، والوصول إلى الصواب، وإنما يريد أن يظهر على مجادله ومخاصمه، ولو بالباطل، وقد أخرج الترمذي (1994)، من حديث ابن عباس أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"كفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا".

2 -

قال الغزالي: إنَّ الذم إنما هو لمن خاصم بباطل وبغير علم، كالذي يتوكل في الخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب؛ وكالذي لا يقتصر على قدر الحاجة؛ بل يظهر الكذب لإيذاء خصمه.

3 -

أما الذي يحاجُّ عن حق له هو مظلوم فيه بطرق الحجاج الشرعي، وأصولِ

(1) مسلم (2668).

ص: 476

المرافعات المشروعة، فلا بأس بها، ولا تدخل في باب الخصومة المذمومة.

4 -

ومثل ذلك الذي يجادل لإظهار دين الله تعالى، وإعلاء كلمته، والظهور على أعداء الإسلام بدحض حججهم، ورد شبههم، وإبطال ضلالهم؛ فهذا محمود مثاب صاحبه، وهو ممن جاهد بلسانه، ودافع ببيانه؛ وقد قال تعالى:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)} [الفرقان]، وقال تعالى:{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

والآيات والأحاديث في الباب كثيرة، والله الموفق.

***

ص: 477