الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الأدب
الأدب: بفتح الهمزة والدَّال، مصدر أَدُبَ الرجلُ، بكسر الدَّال وضمها، أي: صار أديبًا في خُلُق، أو علم.
قال ابن حجر في الفتح: الأدب: استعمال ما يحمد قولًا وفعلًا، وهو الأخذ بمكارم الأخلاق، وهو الهدى الَّذي كمَّل الله به نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم حينما قال:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم]. ووصفته عائشة رضي الله عنها بقولها: "كان خلقه القرآن"[رواه مسلم (746)].
وهو النهج الَّذي يحاول أنْ يسير عليه أرباب القلوب، وعلماء السَّيْر، والسلوك إلى الله تعالى.
قال السَّفَاريني في "شرح منظومة الآداب": أدب أهل الدِّين مع العلم رياضة النفس، وتأديب الجوارح، وتهذيب الطباع، وحفظ الحدود، وترك الشهوات، وتجنب الشبهات، وحفظ القلوب، واستواء السريرة والعلانية.
قال الغزالي: الخلق الحسن: صفة سيد المرسلين، والأخلاق السيئة: هي السموم القاتلة، والمخازي الفاضحة؛ فحسن الخلق هو الصورة الباطنة في الإنسان، ولا تزكو النفس إلَاّ بالمجاهدة، ومن غلبت عليه البطالة، استثقل المجاهدة، والرياضة، والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق، وزعم أنَّ الأخلاق لا يتصور تغييرها.
ونقول له: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير، لبطلت الوصايا والمواعظ، ولما قال النَّبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل:"يا معاذ، حَسِّنْ خلقك".
والطاعات: هي صقال القلوب وشفاؤها، والمعاصي؛ هي أدرانها وأمراضها، واعتدال الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقمٌ ومرض.
1249 -
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- إذا دعاك فأجبه: أجاب الدَّاعي إجابة، مصدر، والاسم: الجابة، بمنزلة الطاعة، تقول: منه إجابة، وأجاب عن سؤاله، والاستجابة بمعنى الإجابة، وأصله: أجابه إجْوَابًا، حذفت الواو، وعوضت عنها التاء؛ لأنَّ أصلها أجوف واوي.
- وإذا عَطَسَ فحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْه: العطاس: اندافع الهواء من الأنف بعنف لعارض.
فَشَمِّته: بالشين المعجمة، ثمَّ ميم مشدَّدة، من التشميت، والتفعيل يجيء للسلب، والمراد هنا: إزالة شماتة الأعداء عنه بالدعاء له بالخير، لاسيما بلفظ: يرحمك الله، ويأتي بالسين المهملة، ولكن بالشين المعجمة أفصح.
قال في تهذيب اللغة: سمَّته بالسين والشين: إذا دعا له.
وقال أبو عبيد: بالشين المعجمة أعلى وأفشى.
- وإذا فمرض فعُدْه: عاد المريض يعوده عيادة: إذا زاره في مرضه، وسأل عن حاله، وأصل العيادة عِوَادَةٌ، قلبت الواو ياء؛ لكسر ما قبلها؛ طلبًا للخفة.
(1) مسلم (2162).
* ما يؤخذ من الحديث:
الدِّين الإسلامي دين المحبَّة، والمودة، والإخاء، يحث عليها، ويرغب فيها؛ لذا فإنَّه شرع الأسباب التي تحقق هذه الغايات الشريفة.
وإنَّ من أهمها القيامِ بالواجبات الاجتماعية بين أفراد المسلمين، من إفشاء السلام، وإجابة الدعوة، والنصح في المشورة، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة.
هذا الحديث الَّذي معنا أكَّد هذه الحقوق، ونحن نعرضها واحدًا واحدًا إنْ شاء الله تعالى:
الأوَّل: السلام؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27]، وقال تعالى:{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، وقال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86].
وجاء في صحيح مسلم (54) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنَّة حتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتَّى تحابوا، أولا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السَّلام بينكم".
فالتحية المباركة الطيبة جعلها الله رابطة مودة، وحب، وإخاء بين المسلم والمسلم، وبين القلب والقلب.
لذا يحسن أنْ تؤتى بألفاظها، ومعانيها الكاملة، وهي:"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
قال في الإقناع: "وابتداء السلام سنة، ومن الجماعة سنة كفاية، ولو سلَّم على إنسان، ثمَّ لقيه عن قُربٍ، سُن أنْ يسلِّم عليه ثانيًا، وثالثًا، وأكثر، ولا يترك السلام إذا كان على ظنِّه أنَّ المسلم لا يرد عليه".
ورد السَّلام فرض عين على المنفرد، وفرض كفاية على الجماعة.
وتزاد الواو في رد السلام وجوبًا.
ويكره أنْ يسلم على امرأةٍ أجنبية إلَاّ أنْ تكون عجوزًا، أو برزة.
ويكره على تالٍ، وذاكرٍ، وملبٍّ، ومحدِّثٍ، وخطيبٍ، وواعظٍ، ونحوهم، وعلى من يسمع لهم.
والهجر المنهي عنه يزول بالسلام.
ويسن أنْ يسلِّم عند الانصراف، وإذا دخل بيته، أو بيتًا خاليًا، أو مسجدًا خاليًا، قال: السَّلام علينا، وعلى عباد الله الصَّالحين.
ويجزىء: "السَّلام عليكم"، وفي الرد:"وعليكم السَّلام"، وكماله:"السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، والجواب مثله.
ولا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية الشَّابة.
وتسن مصافحة الرجل للرجل، والمرأة للمرأة، ولا ينزع يده من يد مصافحه حتَّى ينزعها إلَاّ لحاجة.
ولا بأس بالمعانقة، وتقبيل الرأس واليد لأهل العلم، والدِّين ونحوهم.
الثاني: "إذا دعاك فأجبه"؛ قال تعالى: {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53].
وجاء في سنن أبي داود (3741) عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن دعي فلم يجب، فقد عصى الله ورسوله"، ولمسلم:"إذا دعا أحدكم أخاه، فليُجب"، وفي لفظ:"إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس، فليجب".
قال في الإقناع: والإجابة إلى وليمة العرس واجبة إذا عيَّنه دل مسلم، يحرم هجره، ومكسبه طيب، في اليوم الأوَّل، وهو حق الدَّاعي تسقط بعفوه، وإنْ كان المدعو مريضًا، أو ممرضًا، أو مشغولًا بحفظ مال، أو كان في شدَّة حر، أو برد، أو مطر يبل الثياب، أو كان أجيرًا ولم يستأذن المستأجر -لم تجب الإجابة.
والإجابة في دعوة العرس واجبة -كما تقدَّم- وفيما عداها من الدعوات المباحة مندوبة.
الثالث: "إذا استنصحك فانصحه"؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقال عن أخلاق الأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام-:{وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف].
وجاء في البخاري (57)، ومسلم (56) من حديث جرير بن عبد الله، قال:"بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكلِّ مسلم".
وجاء في البخاري (13) ومسلم (45) عن أنس عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يُحِب لأخيه ما يحب لنفسه".
وروى مسلم في صحيحه (55) من حديث تميم الدَّاري؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "الدِّين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم".
فالنصيحة: هي عماد الدِّين وقوامه.
والنصيحة لعامَّة المسلمين: هي إرشادهم لصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وإعانتهم عليها، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفقٍ وإخلاص، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتَخَوُّلهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأنْ يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير، ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه.
والنصيحة فرض كفاية؛ إذا قام بها من يكفي، سقطت عن غيره. وهي لازمة على قدر الطَّاقة.
ومعنى الحديث: أنَّه إذا طلب منك النصيحة، فيجب عليك أنْ تنصح له،
وأمَّا بدون طلب، فلا يجب، ولكن النَّصيحة من أخلاق الإسلام الفاضلة، فالدَّال على الخير كفاعله.
الرَّابع: "إذا عطس فحَمِدَ الله فشمتْه"؛ صفة ذلك كما جاء في صحيح البخاري (6224) عن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عطس أحدكم، فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه: يرحمك الله، وليقل: يهديكم الله، ويُصْلحُ بالَكم".
قال النووي: إنَّه متَّفق على استحبابه.
قال في الإقناع: وإذا عطس، خمَّر وجهه، ولا يلتفت، ويحمد الله.
وتشميته فرض كفاية، ويكره أنْ يشمت من لم يحمد الله، لكن يعلِّم الصغير أنْ يحمد الله، وحديث عهد بالإسلام ونحوه.
ويشمِّت الرجل الرجلَ، والمرأةَ العجوز والبرزة، ولا يشمت الشَّابة، ولا تشمته.
فإنْ عطس ثانيًا، وثالثًا، شمته، ورابعًا، دعا له بالعافية.
الخامس: "إذا مرض فعُدْه"؛ فقد جاء في جامع الترمذي (969) عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلمٍ يعود مسلمًا غدوةً إلَاّ صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتَّى يمسي، وإنْ عاده عشية إلَاّ صلَّى عليه سبعون ألف ملك حتَّى يصبح، وكان له خريف في الجنة" حديث حسن.
قال الشيخ تقي الدِّين: الَّذي يقتضيه النص وجوب عيادة المريض، وجزم بها البخاري، وذهب جمهور الفقهاء: إلى أنَّها مندوبة، ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب.
ومفهوم الحديث: أنَّ حقَّ العيادة للمسلم، ولكنَّه عليه الصلاة والسلام عاد يهوديًّا، كما في البخاري، وعاد عمه أبا طالب؛ كما في الصحيحين.
قال في الإقناع: ويسأله عن حاله، وينفِّس في أجله بما يطيب نفسه، ولا يطيل الجلوس عنده، ويَغِبُّ بها".
جاء في البخاري (5743) ومسلم (2191)، عن عائشة:"أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعوِّذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهم رب النَّاس، أذهب الباس، اشْفِ أنت الشَّافي، لا شافي إلَاّ أنت، شفاءً لا يغادر سَقَمًا".
السَّادس: "إِذَا ماتَ فاتَّبعْهُ"؛ فقد جاء في البخاري (1325) ومسلم (945) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شهد الجنازة حتَّى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتَّى تدفن: فله قيراطان، قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين".
قال في الإقناع: واتباع الجنازة سنَّة، وهو حق للميت، وحق لأهله.
قال الآجري: من الخير أنْ يتبعها لقضاء حق أخيه المسلم.
ويكره رفع الصوت، والصيحة عند رفعها، ولو بقراءة، أو ذكر، ويسن أنْ يكون متخشعًا متفكِّرًا في حاله، متعظًا بالموت، وبما يصير إليه الميت، ويكره التبسم، والضحك أشد منه، والتحدث بأمر الدنيا.
***
1250 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أَجْدَر: مشتق من الجدر الَّذي هو أصل الشجرة؛ فكأنَّهُ ثابتٌ بثبوت الجدر، ومعناه: أحق وَأخلق ألَّا تحتقروا نعمة الله عليكم.
- تزدروا: يُقال: ازدراه ازدراء: احتقره واستخف به.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الطمأنينة القلبية لا تحصل إلَاّ بحسن النظر، والقناعة بما قسم الله للعبد، فإذا قنع نفسه، وألهم شعوره بنعم الله تعالى عليه، حصلت له راحة نفسية، وطمأنينة قلبية، ورضيَ بما قسم الله له؛ فلا تطمح نفسه في أمور الدنيا إلى مَنْ هم أعلى منه، ولا تمتد عيناه إلى من هم فوقه فيها.
وإذا فعل ذلك، حصل له راحةُ قلب، وطيب نفس، وهناءة عيش.
وإلَاّ فإنَّه مهْمَا حصَّل، ومهما زادت أموره الدنيوية، فإنَّه سيجد من هو أحظ منه؛ فلا يزال في شقاء قلب، وتعب ضمير، وإنهاك بدن، ولهو، وغفلة عن الاستعداد لحياته الباقية، وسعادته الدَّائمة.
2 -
النَّبي صلى الله عليه وسلم أرشد أمَّته إلى طريق القناعة، ودلَّهم على منهج الرضا؛ فأمرهم أنْ ينظروا في أمر دنياهم إلى من هو أسفل منهم، وأقل منهم حظًّا فيها؛ فإنَّ العبد مهما افتقر، فسيجد من هو أفقر منه، ومهما مرض فسيرى من هو أشد
(1) البخاري (6490)، مسلم (2963).
منه مرضًا، وإنْ كان ذا عاهة، فسيجد من هو أعظم منه عاهة، وأشد بلاءً، فإذا أمعن النظر، فسيجد أنَّ الله تعالى فضَّله على كثيرٍ ممَّن خلق تفضيلا.
وهذه النظرة الحكيمة ستريح قلبه، وتسعد نفسه، وتزيده إيمانًا بربِّه، وشكرًا له على نعمه، وصبرًا على ما ابتلاه؛ ابتغاء ما عند الله تعالى.
3 -
أمَّا النظر في الطَّاعات والقربات، فينبغي أنْ ينظر إلى من هم أعلى منه، وأنْ يعتبر نفسه من المقصِّرين، وأنْ يغبطهم على سبقهم، وَيَجِّدَّ في اللحاق بهم.
قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)} [آل عمران]، وقال تعالى:{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون]، وقال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)} [المطففين].
وقد جاء في صحيح مسلم (5664) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز".
وجاء في البخاري (6122) ومسلم (2823) عن أبي هريرة أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "حُفَّت النَّارُ بالشَّهوات، وحُفَّت الجنَّة بالمكاره".
***
1251 -
وَعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ البِرِّ وَالإِثْمِ؟ فَقَالَ: "البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- البِر: بكسر الباء، التوسع في فعل الخير؛ فهو اسمٌ جامعٌ للخيرات، من اكتساب الحسنات، واجتناب السيئات، والعمل الخالص الدَّائم المستمر.
- حُسن الخلق: قال ابن دقيق العيد: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين.
- الإثم: هو المعاصي والذنوب بحق الله، أو بحقِّ خلقه؛ قال ابن دقيق العيد: الإثم هو الشيء يورث نفرة في القلب، وهذا أصلٌ يتمسَّك به لمعرفة الإثم.
- حَاكَ: تردد، وتحرَّك به الخاطر في صدرك، وخشيت أنْ يكون ذنبًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
الحديث يشتمل على تفسير لفظين: "البر" و"الإثم"، وهذا معناهما:
البر: قال ابن رجب: البر يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والطَّاعات الظَّاهرة؛ كإنفاق الأموال فيما يحبه الله، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر على الأقدار؛ كالمرض والفقر، وعلى الطَّاعات، كالصبر على لقاء العدو.
وقد يكون جواب النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس شاملًا لهذه الخصال كلها؛
(1) مسلم (2553).
لأنَّ حسن الخلق قد يُراد به التخلق بأخلاق الشريعة، والتأدب بآداب الله، التي أدَّب بها عباده في كتابه؛ كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم].
قالت عائشة: "كان خلقه القرآن" يعني: تأدَّب بآدابه، فيعمل بأوامره، ويتجنَّب نواهيه؛ فصار العمل بالقرآن له خلقًا، كالجبلة والطبيعة، لا يفارقه.
وهذا هو أحسن الأخلاق، وأشرفها، وأجملها، وقد قيل:"إنَّ الدِّين كله خلق".
وقال ابن دقيق العيد: "البر حسن الخلق": المراد بحسن الخلق: الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والبذل والإحسان، وغير ذلك من صفات المؤمنين الَّذين وصفهم الله تعالى، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآيات [الأنفال: 2]، وقوله:{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112]. وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} الآيات [المؤمنون]، وقوله:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} الآيات [الفرقان: 63].
فمن أشكل عليه حاله، فليعرض نفسه على هذه الآيات، فوجود جميعها علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على عدم كمالها، فليشتغل بحفظ ما وجده، وتحصيل ما فقده.
ولا يظن ظانٌّ أنَّ حسن الخلق عبارة عن لين الجانب وترك الفواحش فقط، وأنَّ من فعل ذلك، فقد هذَّب خلقه، بل حسن الخلق ما ذكرناه من صفات المؤمنين، والتخلق بأخلاقهم، ومن حسن احتمال الأذى.
وقال الشيخ أحمد حجازي في شرح الأربعين:
البر: عبارة عمَّا اقتضاه الشرع وجوبًا وندبًا؛ فهو عبارة عن الإحسان، فيدخل فيه ثلاثة: طلاقة الوجه، وكف الأذى، وبذل النَّدى، وأنْ يحب للنَّاسِ
ما يحب لنفسه، ومنه الإنصاف في المعاملة، والرفق في المجادلة، والعدل في الأحكام، والإحسان في السر، والإيثار في العسر، وحسن الصحبة، ولين الجانب، واحتمال الأذى، وفعل الواجبات، واجتناب المحرمات.
الإثم: هو ما أثَّر في الصدور، وجاء ضيقًا واضطرابًا، فلم ينشرح له الصدر، مع هذا فهو عند النَّاس مستنكر، بحيث يكرهونه عند اطلاعهم عليه، وهذا هو أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنكر النَّاس فاعله، وغير فاعله.
ومن هذا قول ابن مسعود: "ما رآه المؤمنون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا، فهو عند الله قبيح".
وفي الجملة: فما ورد النص به فليس للمؤمن فيه إلَاّ طاعة الله ورسوله؛ كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36].
وينبغي أنْ يتلقَّى ذلك بانشراح الصدر والرضا؛ فإنَّ ما شرعه الله ورسوله يجب الإيمان والرضا به والتسليم له؛ كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].
وأمَّا ما ليس فيه نصٌّ من الله ورسوله، ولا عمَّن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة، فإذا وقع في نفس المؤمن -المطمئن قلبه بالإيمان، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين- منه شيءٌ، وحاك في صدره بشبهة موجودة، ولم يجد من يفتيه فيه بالرخصة، ولا من يخبره عن رأيه، وهو ممَّن لا يوثق بعلمه وبدينه، بل هو معروف باتباع الهوى: فهنا يرجع المؤمن إلى ما حاك في صدره، وإنْ أفتاه هؤلاء المفتون.
وقال الشيخ أحمد حجازي: الإثم: هو الذنب، وما حاك، أي: رسخ، وأثَّر في النفس اضطرابًا، وقلقًا، ونفورًا، وكراهية بعدم طمأنينتها، وكرهت أنْ
يطلع عليه وجوه النَّاس وأماثلهم الَّذين يسخرون منه؛ وذلك أنَّ النَّفس لها شعور من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته، وما تذم عاقبته، ولكن غلبت عليها الشهوة حتَّى أوجبت لها الإقدام على ما يضرها.
ووجه كون كراهة النَّاس على الشيء يدل على أنَّه إثم: أنَّ النَّفس بطبعها تحب الاطلاع على خيرها، وتكره ضد ذلك.
ومن ثم أهلك الرياءُ -أكثر النَّاس، فبكراهتها اطلاع النَّاس يعلم أنَّه شرٌّ وإثم.
***
1252 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً، فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذلِكَ يُحْزِنُهُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالَّلفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- فلا: الفاء هنا رابطة لجواب إذا.
- لا: ناهية، يطلب بها ترك الفعل؛ فهي جازمة.
- يتناجَ: بجيم فقط، فهي مجزومة، كما في بعض نسخ البخاري؛ ولكنَّها عند الأكثر بألف مقصورة، فهو بلفظ الخبر؛ كما أوضح ذلك في فتح الباري.
- تختلطوا: الخلط مصدر خلط يخلط، من باب ضرب، فالاختلاط هنا الاجتماع بالنَّاس.
- من: بكسر الميم، وسكون النون، لها عدَّة معانٍ؛ أحدها: أنْ تكون للتعليل، وهي المرادة هنا.
- حتَّى: حرف يأتي لعدَّة معاني، والمراد به هنا أنَّها: للغاية؛ فهي بمعنى "إلى".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الإسلام يأمر بجبر القلوب، وحسن المجالسة والمحادثة، وينهى عن كل ما يسيء إلى المسلم ويحزنه، ويوجب له الظنون؛ فمِن ذلك: أنه إذا كانوا ثلاثة، فإنه إذا تناجى اثنان وتسارَّا دون الثالث الذي معهما، فإن ذلك يسيئه ويحزنه، ويشعره بأنه لا يستحق أن يدخل معهما في حديثهما؛ كما يشعره
(1) البخاري (6290)، مسلم (2184).
بالوحدة والانفراد.
2 -
مفهوم الحديث أنهم إذا كانوا أكثر من ثلاثة من الأربعة فصاعدًا، فلا بأس من التناجي والتسارِّ.
وآداب المجالس هي الأنس والانبساط من الجميع، وتبادل الأحاديث المفيدة والنكات اللطيفة، والمزاح المعتدل إذا كان بين الأصحاب الذين ارتفعت بينهم الكلفة.
3 -
ومن التناجي المكروه: أن يتكلم بلغة لا يحسنها الثالث الذي معهما؛ فهذه لها حكم التسارِّ والتناجي الممقوت.
4 -
ظاهر الحديث: أن التناجي المذكور محرَّم؛ لأن النهي يقتضي التحريم، فإن لم يصل إلى درجة التحريم، فأقل الأحوال الكراهة الشديدة.
***
1253 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِيهِ، وَلكِنْ تَفَسَّحُوا، وَتَوَسَّعُوا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- تفسَّحوا: يقال: فسح له في المجلس يفسح فسحًا، من باب نفع: وسَّع وفرَّج له عن مكان يسعه.
- توسَّعوا: يُقال: وسع يسع سعة، من باب علم، وتوسَّع القوم في المجلس، أي: تفسحوا فيه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الحديث فيه أدبان من آداب المجالس:
الأوَّل: أنَّه لا يحل للرَّجل أنْ يقيم الرجل الآخر من مجلس سبقه إليه قبله، ثمَّ يجلس فيه، فمن سبق إلى مباح، فهو أحق به، و"من سبق إلى ما لم يُسْبَقْ إليه، فهو له" سواءٌ كان المقيم وجيهًا، أو غير وجيه؛ فإنَّ السَّابق أحق بمكانه، سواءٌ أكان في مسجد، أو مجلس، أو حفل، أو غير ذلك.
الثاني: أنَّ المتعين على الحضور أنْ يتفسَّحوا للقادم حتَّى يوجدوا له مكانًا بينهم؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11].
قال القرطبي: أمر الله المسلمين بالتعاطف والتآلف حتَّى يفسح بعضهم لبعض؛ حتَّى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر إليه.
(1) البخاري (6270)، مسلم (2177).
2 -
قال: الصحيح أنَّ الآية عامَّةٌ في كلِّ مجلس، اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء أكان مجلس حرب، أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الَّذي سبق له؛ قال صلى الله عليه وسلم:"مَن سبق إلى ما لم يُسْبَقْ إليه، فهو أحق به"[رواه أبو داود (3071)].
3 -
وقال أيضًا: قال علماؤنا: هذا يدل على صحَّة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أنْ يقوم منه؛ لأَنَّه إذا كان أولى به بعد قيامه، فقبله أولى به.
***
1254 -
وَعَن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكمْ طَعَامًا، فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا، أَوْ يُلْعِقَهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يَلْعَقها أَوْ يُلْعِقها: الأوَّل من الفعل الثلاثي "لعق"؛ فهو بفتح الياء، والثَّاني من الرباعي "ألعق"؛ فهو مضموم الياء، فالأوَّل: يلعقها بنفسه، والثَّاني: يُلْعِقها زوجته، أو ولده، أو خادمه، واللَّعْقُ: تتبُّعُ ما عليها من طعام بلسانه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
نعمة الله تعالى في الطعام والشراب لها حرمتها وكرامتها، ومن ذلك: أنَّ الآكل إذا لم يلعق ما بأصبعه، أو يده من بقايا الطعام، فإنَّه لا ينبغي أنْ يغسل يده، فيجري الطعام مع المياه الوسخة، والأقذار، والأبوال، فإنَّ هذا من كفران النعمة وإهانتها؛ ولكن عليه أنْ يلعق يده وأصابعه حتَّى لا يبقى فيها أثر من الطعام الرَّاسخ، أو يُلْعِقها من له عليه دالَّة وميانة؛ كالولد، والزوجة، والخادم، ونحوهم.
2 -
إنْ لم يحصل هذا كما هو الحال في زماننا من إهمال كثيرٍ من السنن، فأقل أحوال الآكل أنْ يمسح بقية الطعام من يده بالمناديل التي تلقى بأمكنة طاهرة نظيفة، ثمَّ يغسل يديه بعد ذلك، والأفضل اتباع السنة.
3 -
بعضهم فهم أنَّ المراد بلعق اليد بعد الطعام: أنَّ ذلك لأجل قلَّة الماء، وأنَّه جعل اللعق بدل الغسل حتَّى لا يبقى على يديه أثر الطعام، والحق: أنَّ
(1) البخاري (5456)، مسلم (2031).
المراد هو الأوَّل، والله أعلم.
4 -
جاء في البخاري (211) ومسلم (358) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا، وتمضمض، وقال:"إنَّ له دسمًا".
قال في الآداب الشرعية: لذلك ينبغي أنْ يتمضمض بعده بالماء من كل ما له دسم؛ لتعليله صلى الله عليه وسلم.
***
1255 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيُسَلِّم الصَّغِيْرُ عَلَى الكَبِيرِ، وَالمَارُّ عَلَى القَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "وَالرَّاكِبُ عَلَى المَاشِي"(1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يفيد الترتيب المندوب في حقِّ البداءة بالسلام؛ فذكر أربعة أنواع فيها:
أحدها: أنَّ حقَّ التكرمة هي من الصغار للكبار، فعلى الصغير أنْ يجل الكبير، ويبدأه بالسَّلام والتحية.
الثاني: أنَّ المارَّ الَّذي يتخطَّى أمام القاعد، هو الَّذي ينبغي له البداءة بالسَّلام؛ لأنَّه بمنزلة القادم عليه.
الثالث: أنَّ الكثير هو صاحب الحق على القليل؛ فالأفضل للقليل أنْ يكون هو البادىء بالسَّلام؛ لأنَّ القليل ينوي الجمع كله ببداءة السَّلام، فيشملهم جميعًا.
الرَّابع: أن الرَّاكب له مزية الاعتلاء، وفضل الركوب؛ فكان البدء بالسلام من أداء شكر الله تعالى على نعمته عليه؛ ليشعر الماشي بعدم الزهو والكبر؛ فإنَّ عليه أنْ يتواضع، فيبدأ بالسَّلام على الماشي.
2 -
قال في شرح الإقناع: ويسن أنْ يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والماشي على الجالس، والرَّاكب على الماشي؛ للحديث، فإنْ
(1) البخاري (6231)، مسلم (2160).
عكس؛ بأن سلم الكبير على الصغير، والكثير على القليل، والقاعد على الماشي، والماشي على الرَّاكب، حصلت السنَّة؛ للاشتراك في الأمر بإفشاء السَّلام، والأوَّل أكمل في السنة؛ لامتيازه بخصوص الأمر السَّابق.
3 -
هذا إذا تلاقوا في الطريق ونحوها، أمَّا إذا وردوا على قاعد أو قعود، فإنَّ الوارد يبدأ مطلقًا، صغيرًا كان أو كبيرًا، أو راكبًا، أو قليلاً، وضدهم.
***
1256 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِىءُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ، وَيُجْزِىءُ عَنِ الجَمَاعَةِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبَيْهَقِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن بمجموع طرقه.
وقد أخرجه أبو داود، وأحمد، والبيهقي، وأبو يعلى، والضياء في المختارة، ونقل عن النيسابوري، قال: هذا حديث حسن، وحسَّنه الحافظ في "نتائج الأفكار".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تقدَّم أنَّ الابتداء بالسَّلام سنة كفاية، إذا قام به أحد المسلمين، كفى عن الباقين، وإنْ حصل السَّلام منهم، كان أفضل.
2 -
وأنَّ الجواب فرض كفاية، إذا قام به واحدٌ منهم، كفى عن الباقين، ولكن الأفضل أنْ تكون الإجابة من الجميع.
3 -
والحديث الَّذي معنا يبين الحد الأدنى من المجزىء.
4 -
قال في شرح الإقناع: وابتداء السَّلام من جماعة سنة كفاية، والأفضل السَّلام من جمعهم؛ لحديث "أفشوا السلام"[رواه مسلم (54)].
ورده فرض عين على المنفرد، وفرض كفاية على الجماعة المسلَّم عليهم، فيسقط برد واحد منهم.
5 -
اختلف العلماء في معنى السَّلام، فقال بعضهم: هو اسم من أسماء الله؛
(1) أبو داود (5210)، البيهقي (9/ 49).
السَّلام عليك، يعني؛ أنت في حفظ الله.
تقول له: الله يصحبك، الله معك.
وقال بعضهم: إنَّه بمعنى السَّلامة، أي: السَّلامة ملازمة لك.
***
1257 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَبْدَؤُوا اليَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بالسَّلَام، وَإِذَا لَقيْتُمُوهُمْ في طَرِيقٍ، فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جاء في سنن الدَّارقطني (3/ 252) من حديث عائذ المزني، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"الإسلَام يعْلُو، وَلَا يُعْلَى".
2 -
فيه دليلٌ على أنَّ اليهود والنصارى إذا صاروا ذميين في حماية الإسلام مقابل الجزية، وساكنوا المسلمين في ديارهم: أنَّ لهم أحكامًا خاصَّة ذكرت في باب أحكام أهل الذمة.
3 -
من تلك الأحكام: أنَّ الكتابي إذا قابل المسلم في الطريق، فإنَّ المسلم يلجئه إلى أضيق الطريق، ويكون وسط الطريق وسعته للمسلم؛ إشعارًا بعزَّة الإسلام عليهم، ولعلَّ في هذه المضايقات لهم ما يدفعهم إلى الإسلام؛ لأنَّه ليس بينهم وبين هذه العزَّة إلَاّ الدخول في الإسلام، ليكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم.
4 -
هذه الأحكام الآن معطَّلة بسبب ضعف الإسلام، وتبعية المسلمين للأمم الكافرة؛ ولكنَّنا لا نيأس أنْ يعود للإسلام عزَّته، وغلبته، وسيادته؛ فقد قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)} [التوبة].
5 -
وفي الحديث النَّهي عن بداءة اليهود والنَّصارى بالسَّلام، فإنْ بدؤوا
(1) مسلم (2167).
بالسلام، فقد جاء في البخاري (6258) ومسلم (2163) من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذَا سلَّم عليكم أهل الكتاب، فقولوا: وعليكم".
وإثبات الواو في الرد عليهم: هو مذهب جمهور العلماء، وذهب بعضهم: إلى حذفها، والنص أولى بالاتباع، والله أعلم.
***
1258 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الحَمْدُ للهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَلْيَقُل لَهُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ، وَيُصْلحُ بَالَكُمْ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يصلح: يُقال: صلح الشيء يصلُح ويصلَح، من بابي نصر وفتح، ومصدره صلاحٌ وصلوحٌ، والصَّلاح ضد الفساد.
- بالكم: البال: القلب، والحال، والشَّأن؛ يُقال: رجل رضي البال، أي: واسع الحال، فالمعنى: يصلح قلبكم وحالكم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
العطاس: زفير مفاجىء قوي يخرج عن طريق قصبة الأنف دون إرادة الشخص، ينشأ عن تهيُّج الغشاء المخاطي للأنف، أو يخرج مرضًا؛ كما يحدث في الزكام، وانحباسه يحدث خمولاً في الجسم، أمَّا خروجه: فيحس العاطس بعده بخفة في بدنه.
2 -
لذا استحب للعاطس أنْ يحمد الله تعالى: أنْ سهَّل خروج الأبخرة من جسمه، فيقول سامعه: يرحمك الله، وهو دعاء مناسب لمن عوفي في بدنه، ثم يجيب العاطس، فيقول؛ يهديكم الله، ويصلح بالكم.
وجواب العاطس كإجابة المسلَّم عليه للمسلِّم، ويكون بدعاء مشابه لدعائه.
3 -
قال في الآداب الشرعية: قال ابن هبيرة: إذا عطس الإنسان، استدل بذلك
(1) البخاري (6224).
على صحة بدنه، وجودة هضمه، واستقامة قوته؛ فينبغي أنْ يحمد الله.
وفي صحيح البخاري (6223): "إنَّ الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب"؛ لأنَّ العطاس يدل على خفة بدن ونشاط، والتثاؤب يدل غالبًا على ثقل البدن، وامتلائه، واسترخائه.
وقال في شرح الأدب المفرد: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنَّ الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب"، المحبة والكراهية منصرفان إلى أسبابهما؛ وذلك أنَّ العطاس يكون من خفة البدن وانفتاح المسام، بخلاف التثاؤب؛ فإنَّه يكون من الثقل والامتلاء، فالأوَّل يجلب النشاط للعبادة، والثَّاني يجلب الكسل والفتور، فندبت الشريعة حمد الله بعد العطاس؛ لسلامة الأعضاء، ولخفة البدن بدفع الأذى والثقل من الدماغ، وزوال مواد النزلة، وهذه كلها من منن الله تعالى، فيستحب حمد الله عليها، وظاهر الأمر الوجوب، ولكن لم يقل به أحد.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فحقٌّ على كلِّ مسلمٍ سَمِعَهُ أنْ يشمته".
قال ابن القيم: قال جماعةٌ من علمائنا: إنَّ التشميت فرض عين؛ لأنَّهُ جاء بلفظ الوجوب الصريح، وبلفظ الحقِّ الدَّال عليه.
وذهب آخرون: إلى أنَّه فرض كفاية، ورجَّحه ابن رشد، وابن العربي، وقال به أبو حنيفة، وجمهور الخنابلة، قال الحافظ: وهو الرَّاجح من حيث الدليل.
4 -
وقد جاء في السنن عند أبي داود (5029) والترمذي (2745) بسندٍ حسن، من حديث أبي هريرة قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس، وضع يده أو ثوبه على فمه".
5 -
قال في الآداب الشرعية أيضًا: تشميت العاطس وجوابه فرض كفاية، وهو ظاهر مذهب مالك وغيره، وقيل: سنة، وهو مذهب الشَّافعي وغيره.
1259 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَشْرَبَنَّ أَحَدُكُمْ قَائِمًا" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه النَّهي عن الشرب، والأصل في النَّهي التحريم؛ ولذا ذهب الظاهرية إلى تحريم الشرب قائمًا.
2 -
أمَّا الجمهور: فحملوه على أنَّه خلاف الأولى؛ لمعارضته ما في صحيح مسلم (2027) من حديث ابن عباس قال: "سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمزم، فشرب وهو قائم".
وجاء في صحيح البخاري (5615)"أَنَّ عليًّا رضي الله عنه شرب قائمًا، وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت"؛ ممَّا يدل على أنَّ النَّهي ليس للتحريم.
3 -
قال في الآداب الشرعية: ويتوجَّه أنَّه عليه الصلاة والسلام شرب قائمًا ليبين الجواز، وأنَّه لا يحرم؛ فالنَّهي للكراهية، أو لترك الأولى.
قال السفَّاريني في شرح منظومة الآداب: الأخبار في الشرب قائمًا صحيحة؛ فالنَّهي محمولٌ على خلاف الأولى، وشربه صلى الله عليه وسلم قائمًا لبيان الجواز.
قال الحافظ ابن حجر:
إِذَا رُحْتَ تَشْرَبُ فَاقْعُدْ تَفُزْ
…
لِسُنَّةِ صُفَّةِ أَهْلِ الحِجَازِ
وَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبَهُ قَائمًا
…
وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْجَوَازْ
(1) مسلم (2026).
وقال ابن القيم في الهدي: من هديه صلى الله عليه وسلم الشرب قاعدًا حيث كان هديه المعتاد، وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه نهى عن الشرب قائمًا، وصحَّ عنه أنَّه شرب قائمًا:
فقالت طائفة: لا تعارض بينها أصلاً؛ فإنَّما الشرب قائمًا للحاجة.
وما قاله ابن القيم من الجمع بين النصوص بهذه الطريقة هو الأولى؛ ذلك أنَّ النَّهيَ للكراهة فقط، والكراهة تبيحها الحاجة، والمكان الَّذي عند زمزم الَّذي شرب عنده قائمًا، ليس محل جلوس، والله أعلم.
***
1260 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأ بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأ بالشِّمَالِ، وَلْتَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ، وَآخِرَهُمَا تُنْزَعُ"(1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
حديث عائشة الَّذي في البخاري (168) ومسلم (268): "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنهِ كلَّه"، فكان صلى الله عليه وسلم يبدأ باليمين، ويقدمها للأشياء الطيبة، ويؤخرها لما سوى ذلك؛ فكان إذا انتعل قدم اليمنى، وإذا لبس القميص قدم اليمنى، وإذا دخل المسجد قدم اليمنى.
ويقدِّم الشَّمال لما سوى ذلك، فيقدمها عند دخول الخلاء، وعند الخروج من المسجد، ويقدمها عند خلع النعلين، والقميص، ونحو ذلك.
2 -
وكان يخص اليمين في الأكل، والشرب، والمصافحة، وتناول الأشياء الطيبة، ويخص الشمال للأوساخ، والأشياء المستكرهة، هذه هِيَ سنته صلى الله عليه وسلم التي يستطيبها، ويعجبه فعلها.
3 -
وكان في الطهارة يقدِّم غسل اليد اليمنى، والرجل اليمنى، وفي حلق النسك يقدم الجانب الأيمن من رأسه على الأيسر؛ وهكذا شأنه صلوات الله وسلامه عليه.
4 -
أنَّ تقديم اليمنى في الأشياء المستطابة، وتخصيصها لها، وتخصيص الشمال للأشياء المستقذرة: هو الأفضل شرعًا وعقلاً وطبًّا؛ ولذا صارت القاعدة الشرعية المستمدَّة من سنته هي تقديم اليمين نفسها في كلِّ ما كان
(1) البخاري (5856)، مسلم (2097).
فعله من باب التكريم، وما كان ضدها استحب له الشِّمال.
5 -
قال ابن العربي: البداءة باليمين مشروعة في جميع الأعمال الصَّالحة؛ لفظ اليمين حسًّا في القوَّة، وشرعًا في الندب إلى تقديمها.
وقال الحليمي: إنَّما يبدأ بالشمال عند الخلع؛ لأنَّ اللباس كرامة، ولأنَّه وقاية، فلمَّا كانت اليمين أكرم من اليسرى، بُدِىءَ بها في اللبس، وأخرت في الخلع؛ لتكون الكرامة لها أدوم، وحصَّتها منها أكثر.
***
1261 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَمْشِ أَحَدُكُمْ في نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَلْيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا، أَوْ لِيَخلَعْهُمَا جَمِيعًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لينعلهما: ضبطه النووي بضم حرف المضارعة، من باب الإنعال، وضمير التثنية للرِّجلين، وإنْ لم يَجْرِ لهما ذكر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الإسلام كامل، ويدعو إلى الكمال، وجميل يحب الجمال؛ فإن مشي الإنسان في نعل واحدة، أو خفٍّ واحدة، ففيه مُثْلَةٌ وتشهير، ومخالفة للمعتاد؛ لذا نهى عن المشي في نعل واحدة، فإما أن ينعل الرجلين جميعًا، وإما أن يتركهما، ويكون حافيًا، وكان صلى الله عليه وسلم تارة ينتعل، وتارة يمشي حافيًا.
2 -
الأصل في النَّهي هو التحريم، إلَاّ أنَّ جمهور العُلماء حملوا هذا النَّهي على الكراهية؛ لما روى الترمذي (1777) عن عائشة قالت:"رُبما انقطع شسع نعل النبي صلى الله عليه وسلم، فمشى في النعل الواحدة حتَّى يصلحها".
قال في الفروع: يكره المشي في نعلٍ واحدة بلا حاجة، ونصَّ عليه الإمام أحمد، ولو يسيرًا.
3 -
قال الخطابي: الحكمة في النَّهي: أن النَّعْل شُرِعت لوقاية الرجل عمَّا يكون في الأرض من شوك أو نحوه، فإذا انفردت إحدى الرجلين احتاج الماشي أنْ يتوقى لإحدى رجليه ما لا يتوقى للأخرى، فيخرج بذلك عن سجيَّة
(1) البخاري (5855)، مسلم (2097).
مشيه، ولا يأمن مع ذلك من العثار.
وقيل: لأنَّه لم يعدل بين جوارحه، وربما نسب فاعل ذلك إلى اختلال الرَّأي، أو ضعفه.
وقال ابن العربي: قيل: العلَّة فيه أنَّها مشية الشيطان.
***
1262 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبه خُيَلَاءَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- خُيَلاء: بضم الخاء، آخره ألف ممدودة، الخيلاء: التكبُّر والعُجْبُ بالنفس، و"خيلاء": حال من فاعل "جر".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه وعيد شديد لمن جر ثوبه خيلاء، بأنَّ الله تعالى يُعْرِض عنه، ولا ينظر إليه نظرة رحمة، وعطف، ولطف.
وهذ الوعيد يدل على تحريم الإسبال، وأنَّه من كبائر الذنوب.
2 -
أجمع العلماء على تحريم إسبال الثياب تِيهًا وخيلاء، واختلفوا فيما إذا فعل ذلك من غير خيلاء:
فذهب طائفة منهم: إلى أنَّ الإسبال ونزول الثوب عن الكعبين حرام، سواء فعل ذلك من أجل الكبر والخيلاء، أو فعله وليس في قلبه من ذلك شيء، وقالوا: إنَّ النصوص كلها تدل على تحريم ذلك، لكن من جرَّه جرًّا وأرخاه حتَّى لمس الأرض، فهذا هو صاحب الوعيد، الَّذي لا ينظر الله إليه، ولا يكلمه، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليم.
وأمَّا الَّذي نزل إزاره، أو قميصه عن الكعبين فقط، فما نزل عن ذلك، فهذا الجزء الَّذي نزل إليه القميص في النَّار، وهو وعيد أخف من الأوَّل؛ لأنَّ هذا العمل أخف من العمل الأوَّل.
(1) البخاري (5783)، مسلم (2085).
وقالوا: لا يصلح حمل مطلق النصوص على مقيدها؛ لأنَّ من شرط حمل المطلق على المقيد هو اتحاد السبب واتحاد الحكم، وهنا لم يتحدا، فالسبب مختلف في الثوب؛ فإنَّ إسباله وجره غير نزوله عن الكعبين، والحكم مختلف؛ فكون الله تعالى لم ينظر إلى المسبل، ولا يكلِّمه، وله عذابٌ أليم، مغايرٌ ومخالفٌ لمن لا يمس العذاب منه إلَاّ أسفل كعبيه.
أمَّا الطائفة الأُخرى: فذهبوا في هذه النصوص إلى حمل مطلقها على مقيدها، وأنَّ الوعيد على ذلك كله واحد، وهو الإسبال مع الخيلاء والكبر، وأنَّ الإسبال ابتداؤه ما نزل من الكعبين، وقد يطول ويقصر، وهو كله محرَّم بالنصوص، بلا تفريق بين هذا وهذا.
وإنَّ القاعدة الأصولية هي حمل المطلق على المقيد، وهي قاعدة مطردة في عموم نصوص الشريعة.
والشارع الحكيم لم يقيد تحريم الإسبال "بالخيلاء" إلَاّ لحكمة أرادها، ولولا هذا، لم يقيده.
والأصل في اللباس الإباحة؛ فلا يحرم منها إلَاّ ما حرَّمه الله ورسوله، والشَّارع قصد من تحريم هذا اللبسة الخاصَّة قصد الخيلاء من الإسبال، وإلَاّ لبقيت اللبسة المذكورة على أصل الإباحة.
وإذا نظرنا إلى عموم اللباس وهيئاته وأشكاله، لم نجد منه شيئًا محرَّمًا إلَاّ وتحريمه له سبب، وإلَاّ فما معنى التحريم وما الغرض منه؟! لذا فإنَّ مفهوم الأحاديث أنَّ من أسبل، ولم يقصد بذلك الكبر والخيلاء، فإنه غير داخل في الوعيد.
ويؤكِّد هذا ما جاء في صحيح البخاري (3665) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَن جرَّ ثوبه لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يارسول الله! إنَّ إزاري يسترخي، إلَاّ أنْ أتعاهده؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إنَّك
لست ممَّن يفعله خيلاء".
فهذا نصٌّ صحيحٌ صريحٌ في المسألة في أنَّ القصد من التحريم هو الخيلاء، لا كثرة نزول الإزار، أو قلته، وإلَاّ لقيد به.
قال الإمام النووي في شرح مسلم: وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: "المسبل إزاره" فمعناه: المرخي له، الجار طرفه خيلاء؛ كما جاء مفسَّرًا بالحديث الآخر.
وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصِّص عموم من أسبل إزاره، ويدل على أنَّ المراد بالوعيد مَنْ جرَّه خيلاء، وقد رخَّص النَّبي صلى الله عليه وسلم لأَبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وقال:"لست منهم"؛ إذ كان جرَّه لغير الخيلاء.
وقال الإمام ابن جرير: وذَكَرَ الإسبال للإزار وحده؛ لأنَّه كان عامَّة لباسهم، وحكم غيره من القميص حكمه.
قال النووي: وقد جاء ذلك مبينًا منصوصًا عليه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، فمن جرَّ شيئًا خيلاء، لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة"[رواه أبو داود (4094) والنسائي (5334) وابن ماجة (3576) بإسنادٍ حسن]، والله أعلم.
والرَّاجح فقهًا: هو ما ذهب إليه حاملو مطلق نصوص المسألة على مقيدها، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
***
1263 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فلْيَأْكُلُ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بيَمِينِهِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تقدَّم لنا في حديث عائشة الصحيح: "أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنهِ كله"[رواه البخاري (168) ومسلم (268)].
ومن هذه الشؤون التي يعجبه التيمن فيها: الأكل والشرب، فكان عادته الكريمة أنْ لا يأكُل ولا يشرب إلَاّ بيمينه، وقال لعمر بن أبي سلمة:"يَاغَلَام! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بيمينك، وكل ممَّا يليك"[رواه البخاري (5376) ومسلم (2022)].
وقال لرجلٍ أكل عنده بشماله: "كل بيمينك، فَقَالَ: لا أستطيع -لم يمنعه إلَاّ الكبر- فقال: لا استطعت، فما رفعها إلى فمه".
2 -
وحديث الباب فيه الأمر بالأكل باليمين، والشرب باليمين؛ فيدل على أنَّ هذا للوجوب؛ لأنَّ مقتضى الأمر الوجوب، ويدل على أنَّ ضده -وهو الأكل والشرب بالشمال- حرام.
3 -
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أنَّ الأكل والشرب بالشمال هو عمل الشيطان، ومن تشبَّه بقومٍ فهو منهم، والتشبه بالشياطين محرَّم لا يجوز.
4 -
قال في شرح منظومة الآداب؛ اليد اليمنى يستحب مباشرتها للخيرات،
(1) مسلم (2020).
وتقديمها في القربات، فهي لما شَرُفَ، واليسرى لما خبث.
فيندب تقديم اليمنى في الوضوء، والغسل، والتيمم، ولبس الثوب، والنعل، والسروال، والخف، ودخول المسجد، والمنزل، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقص الشَّارب، وحلق الرَّأس، ونتف الإبط، والسَّلام في الصَّلاة، والأكل، والشرب، والمصافحة، والمناولة، واستلام الحجر الأسود، والركن اليماني، وما في ذلك كله.
وأمَّا ما خبث من نحو تقديم رجله اليسرى، لدخول الخلاء، والحمام، والامتخاط، والاستنجاء، وما شابه ذلك، فيندب أنْ تكون باليسرى.
والأصل في ذلك: قول عائشة رضي الله عنها: "كَانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلافه وما كان من الأذى"[رواه أبو داود (33) وغيره بإسنادٍ صحيح].
***
1264 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيهِ، عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلْ، وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ في غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَا مَخْيَلَةٍ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَأَحْمَدُ، وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
عزاه الحافظ ابن حجر في الفتح أوَّل كتاب اللباس لأبي داود الطيالسي، والحارث ابن أبي أُسامة في مسنديهما، ولابن أبي الدنيا في الشكر، وهو حسنٌ أو صحيح على قاعدة ابن حجر؛ حيث أورده في زيادات الباب، وقد صحَّحه الحاكم، وقال المنذري: رواته ثقات محتجٌّ بهم في الصحيح.
* مفردات الحديث:
- سَرَف: بفتح السين والرَّاء: قال النحاس: أحسن تفسير للسرف أنَّه الإنفاق في غير طاعة الله تعالى.
وقال العيني: السرف: صرف الشيءِ فيما ينبغي زائدًا، والتبذير: صرف الشيء فيما لا ينبغي.
- المَخْيَلة: الخيلاء والتكبر والعجب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الله تبارك وتعالى أباح لعباده الطيبات من الرِّزق: من مأكلٍ، ومشربٍ،
(1) الطيالسي (2261)، أحمد (6695)، البخاري (10/ 252/ فتح).
وملبسٍ، ومسكنٍ، ومركبٍ، وغير ذلك من طيبات الحياة الدنيا، ولم يحرم من ذلك إلَاّ ما فيه مضرَّةٌ على الدِّين، أو على البدن، أو العقل، أو العِرض، أو المال؛ وهي الضروريات الخمس.
2 -
وفي هذا الحديث الإباحة في أكل، وشرب، ولبس ما طابَ من متع الحياة الدنيا المباحة؛ فلا يحرم نوعٌ من الأنواع، ولا جنسٌ من الأجناس، ولا قدر معيَّنٌ منها، فالله تعالى قال:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
3 -
إنَّما المحرَّم من ذلك ما بلغ حدَّ الإسراف والخيلاء والاستعلاء بذلك على النَّاس، فهذا محرَّم؛ لأنَّه خروج عن حدِّ الإباحة إلى السرف؛ قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، فالآية الكريمة أباحت الأكل، ولم تحده إلَاّ بالسرف، والسرف: مجاوزة الحد المباح.
4 -
قال الشيخ عبد اللطيف البغدادي: هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النَّفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإنَّ السرف مضرٌّ بالجسد، ومضر بالمعيشة، ويؤدِّي إلى الإتلاف، فيضر بالنَّفس؛ إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال.
والمَخْيَلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من النَّاس.
***