المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الترغيب في مكارم الأخلاق - توضيح الأحكام من بلوغ المرام - جـ ٧

[عبد الله البسام]

الفصل: ‌باب الترغيب في مكارم الأخلاق

‌باب الترغيب في مكارم الأخلاق

مقدمة

الترغيب: قال في الوسيط: رغب رغبًا ورغبةً: حرص على الشيء، وطمع فيه.

قال في المصباح: رغبت في الشيء: إذا أردته، ورغبتُ عنه: إذا لم ترده.

والمؤلف -رحمه الله تعالى- أورد كثيرًا من الأحاديث الشريفة المرغِّبة والحاثَّة على المُثُل الكريمة، والأخلاق الفاضلة، والآداب النبوية الرفيعة، وهو بهذا الترتيب اللطيف أحسن صنعًا، وأجاد ترتيبًا وتبويبًا؛ لك أنَّ هناك مبدأ عند أهل السَّير والسلوك إلى الله تعالى، هذا المبدأ يسمى:"التخلي والتحلي" ومعناه: أنَّ مريد السير إلى الله يتخلى عن مساويء الأخلاق وقبائحها، ثم يتحلى بمحامدها ومكارمها؛ فإنَّه قدم الباب الذي فيه:"الترهيب عن مساويء الأخلاق"، ثم أتبعه بهذا الباب الذي فيه:"الترغيب في مكارم الأخلاق"؛ لملاحظة التخلي ثم التحلي.

وستأتي هذه الآداب النبوية، والأخلاق الإسلامية، والكلام عليها إن شاء الله تعالى.

***

ص: 478

1326 -

عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ، ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- عليكم بالصدق: أي: الزموا الصدق، وهو الإخبار على وفق ما في الواقع.

- البر: اسم جامع للعقيدة الصحيحة، والإيمان المثمر، ولكل ما هو طيب من أعمال القلوب، وأعمال الجوارح؛ فيشمل فعل جميع المأمورات، وترك جميع المنهيات.

- صِدِّيقًا: من أبنية المبالغة، والمعنى: البالغ في الصدق غايته، والتنكير فيه جاء للتعظيم والتفخيم.

- الفُجُور: بالضم، فجر فجرًا فجُورًا: انبعث في المعاصي غير مكترث بممارسة الفسق والفساد، والانبعاث في الآثام.

قال في المصباح: فجر العبد فجورًا: فسق وزنى، وفجر الحالف فجورًا: كذب.

- يكتب عند الله: هو في الموضعين بمعنى: يحكم له.

(1) البخاري (6094)، مسلم (2607).

ص: 479

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الصدق: هو مطابقة الخبر للواقع، والكذب: عدم مطابقة الخبر للواقع؛ هذه حقيقتهما عند جمهور العلماء.

2 -

الحديث فيه الأمر بالصدق؛ لأنَّه يدل ويوصل إلى البر الذي هو جمَاع الخير، والبر هو الطريق المستقيم إلى الجنة؛ {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)} [الانفطار].

3 -

إنَّ الصدق خلق كريم يحصُلُ بالاكتساب والتحصيل والمجاهدة؛ فإنَّ الرجل ما يزال يصدق في أقواله وأفعاله ويتحرى الصدق فيهما حتى يكون الصدق خلقًا له متأصلاً في نفسه، وسجية من طبعه؛ فيكون عند الله تعالى من الصِّدِّيقين والأبرار.

4 -

قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]؛ فالصدق خلق كريم يتضمن الصدق في القول، والنية، والإرادة، فمن اتَّصف الصدق في جميع ذلك فهو صِدِّيق؛ لأنَّه صيغة مبالغة من الصدق، وبقدر ما يتمكن من هذه المقامات، فهو صادق بالنسبة إليه، والله أعلم.

5 -

أما الكذب: فهو خلق ذميم يكتسبه صاحبه من طول ممارسته، وتخلقه به، وتحريه قولًا وفعلاً، حتى يصبح خلقًا وسجيَّة قبيحةً فيه، ثم يُكتب عند الله كثير الكذب، عديم الصدق.

6 -

ويدل الحديث على التحذير من الكذب؛ لأنَّ الكذب يوصل إلى الفسق والفجور، فتصير أعماله وأقواله كلها على خلاف الحقيقة، خارجة عن طاعة الله تعالى، والخروج عن طاعته هو الهاوية التي تقود صاحبها، وَتَزُجُّ به في نار جهنم.

***

ص: 480

1327 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ والظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- إيَّاكم والظن: "إيَّاكم": في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: احذروا.

- الظن: معطوف على "إيَّاكم"، أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: احذروا.

* ما يؤخذ من الحديث:

الحديث فيه التحذير من الظن، والمحذَّر منه: هو ما كان بالمسلم الذي ظاهره العدالة؛ فإنَّ هذا لا يجوز فيه ظن السوء، وإنما يحمل على ظاهره؛ فالظن فيه كذب مخالف للواقع.

أما الظن بأصحاب الرِّيَب والفِسق: فليس فيه هذا التحذير؛ فأعمالهم شهدت عليهم بسوء السلوك، وعدم الاستقامة، والحديث تقدم معناه.

والله أعلم.

(1) البخاري (5143)، مسلم (2563).

ص: 481

1328 -

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِيَّاكُمْ والجُلُوسَ عَلى الطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- إيَّاكم: محله النصب على التحذير، فهو مفعول به لفعل محذوف، تقديره: احذروا.

- الجلوس: "الجلوس": معطوف على"إياكم"، أو مفعول لفعل محذوف، تقديره: احذروا، فهو منصوب على التحذير.

- الطرقات: بضم الطاء، والراء: جمع طريق.

- ما لنا بُدٌّ: بضم الباء الموحدة، وتشديد الدال، أي: لا محيد لنا عن ذلك، ولا يعرف استعماله إلَاّ مقرونًا بالنَّفي، أي: ما لنا غِنًى عنه.

- أبَيْتُمْ: الإباء بمعنى شدة الامتناع، قال الراغب: كل إباء امتناع، وليس كل امتناع إباء.

- غض البصر: غض البصر يغضه غضًّا، وأغضَّهُ: خفضه، ولم يذكر ما يُغَضُّ البصر عنه؛ لأنَّه معلوم بالعادة.

(1) البخاري (6229)، مسلم (2121).

ص: 482

- ورد السلام: يعني على الذي يسلِّم عليه من المارِّين.

- والأمر بالمعروف: المعروف: كل أمر جامع لكل ما عرف من طاعة الله تعالى، والتقرب إليه، والإحسان إلى الناس، وكل ما ندب إليه الشرع من المحسنات، ونهى عنه من المقبحات.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث يدل على النَّهي عن الجلوس في الطرقات، وممرات الناس؛ لما في ذلك من تتبع أحوال المارين، وإلى النظر إلى النساء المارات أمام الرجال، فينبغي أن يكون في البيوت، أو في المقاهي، أو الحدائق العامة الخالية من اختلاط الرجال والنساء.

2 -

إذا لم يكن بدٌّ من الجلوس في الطرقات والشوارع، فعلى الجالسين أن يعطوا الطريق حقه من الأمر بالمعروف، وإذا رأوا منكرًا أمامهم فعليهم إنكاره، وغض البصر عن النساء اللاتي يمررن أمامهم، وأن يغفلوا عن الذين يمرون أمامهم من الرجال الذاهبين الآيبين في أغراضهم وحاجاتهم، التي ربما كرهوا أحدًا أن يراهم عليها.

3 -

كما يجب عليهم رد السلام وإجابته على من ألقاه عليهم من المارين؛ لأنَّ الابتداء بالسلام سنة من المار على القاعد، أما رده: فهو فريضة على من ألقي عليه.

4 -

قال القاضي عياض: فيه دليل على أنَّ النَّهي عن الجلوس في الطريق ليس للتحريم، وإنما هو للتنزيه، لأنَّهم لو فهموا أنَّه للتحريم، لم يراجعوه.

5 -

وأيضا كانت مراجعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لضيق منازلهم التي فيها النساء، فإذا اجتمع الرجال، تركوا البيوت لضيقها، وجلسوا في الطريق، والله أعلم، كما ذكر هذا ابن أبي جمرة.

6 -

المطلوب من الجلوس في الطريق أمور كثيرة منها:

ص: 483

- إرشاد ابن السبيل.

- إغاثة الملهوف.

- إعانة المظلوم.

- الإعانة على الحمل.

7 -

ومن الحكمة في النَّهي عن الجلوس في الطرقات خشية الفتنة، وفيه التعرض للزوم حقوق الله وحقوق المسلمين، ولو كان قاعدًا في منزله، كما تعرَّض للفتنة، ولما لزمته الحقوق التي قد لا يقوم بها.

***

ص: 484

1329 -

وَعَنْ مُعَاوَيَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا، يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- مَن: اسم شرط يجزم فعلين، فـ"يرد" فعل الشرط، و"يفقهه" جوابه، وكلاهما مجزوم.

- يُرِد: بضم الياء المثناة التحتية، من الإرادة، والإرادة: صفة مخصِّصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وأما الخير: فهو ضد الشر.

- يُفَقِّهْهُ: من فقه بالكسر فقهًا، من باب علم، وفقه بالضم: إذا صار فقيهًا، فمعنى يفقهه: يجعله فقيهًا في الدين.

والفقه لغة: الفهم.

واصطلاحًا: العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال.

- الدِّين: بكسر الدال، قال في المصباح: وإن قرنت بالإسلام دينًا يقيد به كذلك، والمراد بالفقه بالدين ما يشمل الأصول والفروع.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

هذا الحديث دليل على عظمة الفقه في الدِّين، الذي يشمل أصول الإيمان وشرائع الإسلام، وحقائق الإحسان، ومعرفة الحلال والحرام؛ فإنَّ الدِّين يشمل هذه الأمور الهامة العظام كلها؛ فإنَّ جبريل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه القواعد، وأجابه عنها، قال:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"[رواه البخاري (50) ومسلم (29)].

(1) البخاري (71)، مسلم (1037).

ص: 485

2 -

أما تسمية الفقه بأنَّه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال، فإنَّ هذا إنَّما هو اصطلاح خاصٌّ حادث لعلماء الأصول الفقهية، فيدخل في مدلوله الشرعي -على المعنى العام-: معرفة حقائق الإيمان، ومعرفة أحكام شرائع الإسلام، ومعرفة السَّير والسلوك إلى الله بمعرفة مراتب الإحسان؛ فمن أراد الله به خيرًا فقَّهه في هذه الأمور، ووفَّقه للعمل بها.

3 -

دلَّ مفهوم الحديث على أنَّ من أعرض عن الفقه في الدين، والتحلي بعلومه التي هي أشرف العلوم، أنَّ الله تعالى لم يرد به خيرًا.

وقد جاء هذا المعنى منطوقًا في رواية أبي يعلى (13/ 371): "ومن لم يُفَقِّهْهُ لم يبال الله به".

4 -

العلوم الشرعية من الأعمال النافعة المتعدي نفعها من حاملها إلى غيره، تعليمًا، أو تأليفًا، أو قضاء، أو إفتاء؛ فهي من الأعمال الباقية بعد وفاة صاحبها:"أو علم يُنْتفع به بعده"[رواه مسلم (1631)].

قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَاّ أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة].

5 -

للتفقه في الدين طرق وأسباب، من أخذ بها، نجح، وحصل له الفقه التام في دين الله، فمنها: تقوى الله تعالى، والإخلاص في الطلب، فلا يريد به إلَاّ وجه الله والدار الآخرة، ومنها سلوك الطرق المستقيمة في التحصيل، فيعنى أول طلبه بالمختصرات لتلك العلوم وأصولها، حفظًا وفهمًا، ثم يتوسع فيها شيئًا فشيئًا، ولا يزج بنفسه بالمراجع الكبار في أول الطلب، فيتشتت ذهنه، ويضيع جهده في أسفار العلم، والكتب الكبيرة؛ فيخرج بلا فائدة.

***

ص: 486

1330 -

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ شَيْءٍ فِي المِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال العراقي: أخرجه أبو داود، والترمذي، من حديث أبي الدرداء، وقال الترمذي: غريب، وقال عن بعض طرقه: حسن صحيح.

والحديث له شواهد كثيرة خرَّجها العراقي في تخريجه لأحاديث كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وحسَّنه السيوطي في الجامع الصغير.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

حسن الخلق هو الصورة الباطنة للإنسان، فالإنسان؛ في حقيقته مركب من جسد ونفس، فالجسد مدرك بالبصر، والنفس مدركة بالبصيرة، ولكل واحد منهما هيئة وصورة: إما جميلة، وإما قبيحة.

فالخلق -بضم الخاء واللام-: عبارة عن هيئة للنفس راسخة، تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، من غير حاجة إلى فكر وروية.

فإن كانت الأفعال جميلة، سميت خلقًا حسنًا، وإن كانت قبيحة، سميت خلقًا سيئًا، وليس الخلق عبارة عن الفعل؛ فرب شخص طبعه السخاء يبذله بلا رجاء نفعه.

2 -

الخلق الحسن عبارة عن الأفعال الجميلة، والتصرفات المستملحة الصادرة

(1) أبو داود (4799)، الترمذي (2002).

ص: 487

من نفس طيبة، لم يحمل على صدورها طلب المكافأة، ولم تكن بداعي الرياء والسمعة، ولا من أجل غرض من الأغراض الدنيوية، وإنَّما هي فيض من النفس الصافية، صارت أثقل شيء في ميزان صاحبها يوم القيامة.

3 -

وفي الحديث دليل على أنَّ الإنسان إذا فعل الخير بداع من خلق لم يكتسبه، وإنما فطره الله تعالى عليه: أنَّ له على ذلك أجرًا، فلو لم يعلم أنَّه من أهل هذا الخلق الكريم، وأنَّه جدير به، لما جُبِلَ عليه.

***

ص: 488

1331 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الحياء: في اللغة: تغير وانكسار يلحق الإنسان من خوف ما يعاب عليه، وفي الشرع: خُلُق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي حق.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحياء خلق كريم يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي حق؛ لئلا يعاب على فعل القبيح، أو التقصير في الواجب، والحياء -وإن كان فطرة- إلَاّ أنَّه يحتاج إلى اكتساب وتنمية ليكمل.

2 -

أما كونه من الإيمان: فإنَّ المستحيي يُقْلِع بحيائه عن المعاصي، ويقوم بالواجبات.

وهكذا تأثير الإيمان بالله تعالى إذا امتلأ به القلب، فإنَّه يمنع صاحبه عن المعاصي، ويحثه على الواجبات؛ فصار الحياء بمنزلة الإيمان ميت حيث الأثر والفائدة.

3 -

الحياء لا يمنع من التفقه في الدين، والسؤال عما يجب السؤال عنه، والحياء الذي يمنع صاحبه من إنكار المنكر، ونحو ذلك، فهذا ليس حياءً شرعيًّا، وشعبة من الإيمان، وإنما هو خَوَر وذِلَّةٌ ومهانة، لا يُحمد عليه صاحبه.

4 -

تقدم أنَّ الحياء غريزي ومكتسب؛ قال القرطبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جُمِعَ له النوعان من الحياء المكتسب والغريزي.

(1) البخاري (24)، مسلم (36).

ص: 489

1332 -

وَعَنِ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوُّةِ الأُوْلى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنعْ مَا شِئْتَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- النبوة الأولى: يعني: ما اتَّفق عليه الأنبياء ولم ينسخ؛ لأنَّه أمر طبَّقت عليه الشرائع السماوية، وقَبلَتْهُ العقول السليمة؛ فهو من مكارم الأخلاق.

- إذا لم تَسْتَحِ فَاصْنَعْ: قيل: المراد إذا كان الأمر مما لا يستحيا منه فافعله، وقيل: إذا نزع عنك الحياء، وصرت لا تبالي بعمل الأفعال القبيحة والمليحة، فافعل ما تريد؛ فما لجرحٍ بِميتٍ إيلامُ.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

قوله: "إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى":

قال ابن رجب: يشير إلى أنَّ هذا مأثور عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تدوالوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرنًا بعد قرن، وأنَّه لنفاسة هذه الحكمة، فقد اشتهرت بين الناس حتى وصلت إلى أول هذه الأمة.

2 -

قوله: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت":

قال ابن رجب: في معناه قولان:

أحدهما: أنَّه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذم والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان:

أولهما: أنَّ الأمر بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى إذا لم يكن حياء،

(1) البخاري (6120).

ص: 490

فاعمل ما شئت؛ فالله يجازيك عليه؛ كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)} [فصلت].

ثانيهما: أنَّ الأمر بمعنى الخبر، والمعنى: أنَّ من لم يستح، صنع ما شاء؛ فإنَّ المانع من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياء، انهمك في كل فحشاء ومنكر، وما يمنع من مثله من له حياء، على حد قوله:"من كَذَبَ عليَّ متعمدًا، فليتبوَّأ مقعده من النار"[رواه البخاري (110)، ومسلم (3)]؛ فإنَّ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر.

3 -

ثم قال -رحمه الله تعالى- واعلم أنَّ الحياء نوعان:

أحدهما: خلق وجبلة، وهو من الأخلاق التي يمنحها الله للعبد ويجبله عليها.

الثاني: مكتسب من معرفة الله وعظمته، ومعرفة قربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان، بل هو من أعلى درجات الإحسان، وقد يتولد الحياء من مطالعة نعمه تعالى، ورؤية تقصيره في شكرها، فإذا سلب العبد الحياء الغريزي والمكتسب، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح.

5 -

ثم قال رحمه الله: وأما الضعف والعجز الذي يوجب التقصير في شيء من حقوق الله، أو حقوق عباده، فليس هو من الحياء، وإنما هو ضعف وخور، وعجز ومهانة.

6 -

القول الثاني: -في معنى قوله: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت":- أنَّه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر أمره، وأنَّ المعنى: إذا كان الذي يريد فعله عملًا لَا يُسْتَحيا من فعله، لا من الله، ولا من الناس؛ لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق، والآداب المستحسنة -فاصنع منه حينئذٍ ما شئت؛ وهذا قول جماعة من الأئمة، منهم: الثوري، والشافعي، وحكي مثله عن الإمام أحمد.

ص: 491

1333 -

وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابكَ شَيءٌ، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا، كَانَ كذَا وَكَذَا، وَلكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- فإنَّ "لو": أي: فإنَّ كلمة "لو" بعد وقوع شيء على خلاف المراد.

- تفتح عمل الشيطان: لما تُثْنِيهِ عَنْ شِدَّةِ حرصه، وحسرته على ما فات أو وقع، وعن عدم رضائه بالقضاء، وظنه إمكان رد القدر.

- قَدَرُ الله: بفتحتين، وهو القضاء الذي يقدِّره الله على عباده.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

فيه استحباب القوة في الأعمال؛ لأنَّه يحصل فيها من الفائدة والثمرة ما لا يحصل من الضعف؛ فإنَّ الضعيف لا ينتج عنه إلَاّ ضَعْفٌ وقلَّة؛ قال الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)} [القصص]، وقال تعالى:{خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة: 63]، وقال تعالى:{يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].

2 -

قال شيخ الإسلام في السياسة الشرعية: القوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوَّة

(1) مسلم (2664).

ص: 492

في إمارة الحرب: ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والقوةُ في الحُكم بين الناس: ترجع إلى العلم بالعدل الذي دلَّ عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.

واجتماع القدرة والقوة والأمانة في الناس قليل، فإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشدَّ، قُدِّم الأمين مثل حفظ الأموال ونحوها، فأما استخراجها فلابد فيه من قوَّة وأمانة، فيولَّى عليها قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته.

ومن ذلك السَّعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لابد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها؛ فإنَّ ما لا يتم الواجب إلَاّ به فهو واجب.

3 -

أما الحديث هنا، فالمراد في أعمال الآخرة التي يحصل منها إقدامٌ على الجهاد، وصلابة في الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وصبرٌ على الأذى، وتحمُّلٌ للمشاق في أمر الله، والقيام بحقوقه من الطاعات.

4 -

أما الضَّعيف: فهو بالعكس من ذلك؛ فلا يحصل منه كمال المطلوب إلَاّ أنَّ وجود الإيمان معه لا يحرمه من الخير؛ فإنَّ الإيمان أساس الخير والبركة، ولابد له من فائدة مهما كانت.

5 -

قوله: "احرص على ما ينفعك" في أمر الدين والدنيا، وأهم المنافع والمطالب هو ما يطلب من طاعة الله تعالى التي فيها السعادة الأبدية؛ فهذه هي المنفعة الكبيرة، والمطلب العظيم، الذي لمثله فليعمل العاملون، وفي الحصول عليه فليتنافس المتنافسون؛ فهذا هو النفع العظيم، والكسب الكبير.

والعبد محتاج إلى الأمور الدنيوية؛ كما هو محتاج إلى أموره الدينية، ومأمور بأن يسلك الطرق الموصلة، والوسائل القوية التي تبلغه حاجته في

ص: 493

أمور دينه وأمور دنياه، وهو محتاج إلى معرفة الأحوال والأمور والوسائل التي تبلغه إلى مقصوده، وتوصله إلى مطلوبه، ومن أقوى الوسائل إلى ذلك وأنفع السبل: العلوم النافعة؛ فإنَّها الصراط المستقيم إلى خير الدنيا والآخرة.

6 -

قوله: "واستعن بالله":

قال ابن القيم في مدارج السالكين؛ الاستعانة: طلب العون من الله تعالى، وإذا التزم العبد بمعبودية ربه، أعانه الله تعالى عليها؛ فكان التزامه بها سببًا لنيل الإيمان، فكلما كان العبد أتم عبودية لربه، كانت الإعانة من الله له أعظم، وأنفعُ الدعاء طلب العون من الله على مرضاته، وأفضلُ المواهب إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا، وعلى دفع ما يضاده، وعلى تكميله وتيسير أسبابه.

قال شيخ الإسلام: تأمَّلْتُ أنفع الدعاء، فإذا هو سؤاِل العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ، والعبد مع استعانته بربه، فهو محتاج إلى عمل الأسباب النافعة، والطرق الموصلة.

قال بعضهم: إنَّ كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية إليه، وقد مكَّن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والعون من دفع بعض الموانع، وكسب بعض الأسباب، وحجب عنه البعض الآخر، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك، ونبذل الجهد في إتقان أعمالنا بكل ما نستطيع من حول وقوَّة.

ونفوِّض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء، ونلجأ إليه تعالى وحده، ونطلب منه المعونة المتمِّمة للعمل، والموصِّلة لثمرته منه

ص: 494

سبحانه وتعالى دون سواه؛ إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل بشر إلَاّ مسبِّب الأسباب، ورب العباد.

7 -

وقوله: "ولا تعجز" العجز يكون بأمرين:

الأول: هو ترك العمل وإهمال القيام بالأسباب الموصِّلة إلى المطلوب، والوسائل المبلغة إلى المقصود، والركون إلى الكسل والعجز.

الثاني: عدم الاستعانة بالله تعالى، والاتكال عليه بالإعانة على المهام والمقاصد، وصرف همه وحده بالاعتماد على حوله وقوَّته وسعيه؛ فإنَّ حرص العبد بغير الاستعانة بالله تعالى لا ينفعه، ولا يجديه شيئًا.

ونواميس الله تعالى الكونية لا تفضِّل أحدًا دون أحد، فمن أخذ بها، وصل إلى مقصوده، ولكنْ هناك أمورٌ وراء الأسباب والنواميس لا يقدر عليها إلَاّ هو، ولا تطلب إلَاّ منه تعالى.

8 -

ومن العجز: أن يدعو العبدُ الله تعالى ويطلب منه تعالى قضاء حاجاته، وتسهيل مهماته، فلا يرى الإجابة الظاهرة، فيكسل، ويعجز عن مواصلة الدعاء.

قال ابن القيم في الجواب الكافي: ومن الآفات التي تمنع ترتيب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطيء، ويدع الدعاء، وهو بمنزلة من بذَر بذرًا، أو غرس غرسًا، فجعل يتعاهد ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه، تركه وأهمله.

وفي صحيح البخاري (6340) ومسلم (2735) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي".

9 -

قوله: "وإن أصابك شيء

إلخ".

يبيِّن صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة: أنَّ الإنسان إذا بذل الجهد، واستفرغ طاقته ووسعه،

ص: 495

ثم جاء الأمر بخلاف مطلوبه، بأن فاته مطلوبه، أو حصل له ضرر لم يتوقعه: فعليه بالإيمان بالقضاء، وأن لا يقول: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا؛ فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان، فتُحْدِث للإنسان الأسف، والحزن على الأمور التي فاتته، وتوجب له عدم الصبر بما قدَّره الله عليه، وتجعل عنده "لو" احتمالاً أنَّه لو فعل ذلك، لم يصبه ما وقع عليه.

10 -

أما استعمال "لو" في تمنِّي الخير، أو في بيان العلم النافع، فإنَّها محمودة؛ لأنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سُقت الهَدْي، ولأحللتُ معكم"[رواه البخاري (505) ومسلم (218)].

***

ص: 496

1334 -

وَعنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله تَعَالَى أَوْحَى إِليَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا، حَتَّى لا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- تواضعوا: التواضع: التذلل والتخاشع، وهو ضد الكبر.

- البغي: بغى يبغي، فهو باغٍ، والجمع بغاة، معناه: الظلم والاعتداء.

- يفخر: يقال: فخر على غيره يفخر فخرًا: تمدَّح بالخصال، مباهِيًا بالمناقب والمكارم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

التواضع: هو التذلل والاستسلام للحق فيما بين العبد وبين ربه، وفيما بينه وبين الناس؛ وبهذا فهو أعم من الخشوع الذي لا يكون إلَاّ الله.

2 -

إذا اتصف الناس بهذا الخلق الكريم، فإنَّه لن يتكبَّر أحد على أحد؛ لأنَّ التواضع ضد الكبر، ولن يبغي أحدٌ على أحدٍ؛ لأنَّ المتواضع لا يرى لنفسه مزية على أحد، فيتكبر عليه، أو يبغي عليه، وإنما البغي والكبر ينشآن ممن يرى نفسه فوق الناس، وله ميزة عليهم تحمله على الكبر عليهم، والبغي عليهم.

3 -

جاءت نصوص كريمة في مدح التواضع وصاحبه قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء]، وقال تعالى {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)} [النجم]، وقال تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54]،

(1) مسلم (2865).

ص: 497

وفي صحيح البخاري (2262)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما بعث الله نبيًّا إلَاّ رعى الغنم، قال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة"، وقال صلى الله عليه وسلم:"من تواضع لله، رفعه"[رواه مسلم (2588)]، وفي البخاري (5178) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذراع لقبلت".

4 -

وفي الحديث التحذير من البغي على الناس، والفخر، والكبر عليهم، وقد

جاء في ذلك التحذير؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} [لقمان: 18]، وقال تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: 37]، وقال تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا} [القصص: 83].

وجاء عن ابن مسعود أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"[رواه مسلم (91)]، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

***

ص: 498

1335 -

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بالغَيْب، رَدَّ اللهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَةِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (1).

وَلأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ نَحْوُهُ (2).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

فقد حسَّنه الترمذي، وقال ابن القطان: الذي منع الحديث من الصحة: أنَّ فيه مرزوقاً التميمي، وهو مجهول الحال، لكن للحديث شواهد يتقوى بها.

قال المناوي عن حديث أسماء بنت يزيد: إنَّ السيوطي رمز له بالحسن.

قال المنذري: إسناد أحمد حسن، وقال الهيثمي: إسناده حسن.

* مفردات الحديث:

- مَنْ رَدَّ: أي: دفع عنه وحفظه.

- عِرْض أخيه: بكسر العين، وسكون الراء، هو النفس والحسب، وما يمدح به الإنسان ويذم.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

الحديث فيه فضيلة الرد عن عرض مسلم، يُنَال منه في غَيبته في المجلس، كأن يغتابه أحد الحاضرين؛ فينبري الغيور، ويسكت المغتاب الذي يتفكه بأعراض المسلمين الغافلين.

(1) الترمذي (1931).

(2)

أحمد (6/ 461).

ص: 499

2 -

الرد عن عرض مسلم: من إنكار المنكر الذي يجب القيام به حسب الاستطاعة، ولا يحل تركه؛ فإنَّ هذا من خذلانك لأخيك المسلم الذي يوقَعُ في عرضه، وأنت حاضر قادر على رده.

3 -

جاء الوعيد على السامع الساكت القادر على الرد عن العرض؛ ففي سنن أبي داود (4884) من حديث جابر، وأبي طلحة، يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يخذل امرأً مسلمًا في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص من عرضه، إلَاّ خذله الله في موطن يحب فيه نصرته"؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل، وقد جاء في الحديث أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ المستمع للغيبة أحد المغتابين"، فمن حضر مجلس الغيبة، وجب في حقه واحد من ثلاثة أمور:

- الرد عن عِرْض أخيه المسلم.

- أو القيام من مجلس الغِيبة.

- أو الإنكار بالقلب، والكراهة للقول، إن لم يستطع الرد أو القيام.

***

ص: 500

1336 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بعَفْوٍ إلَاّ عِزًّا، وَما تَواضَعَ أَحَدٌ للهِ إلَاّ رَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* ما يؤخذ من الحديث:

الحديث فيه ثلاث جمل من الأحكام الحكيمة والآداب السامية:

الأولى: "ما نقصت صدقة من مال": وهذا يشمل ثلاثة معان:

1 -

أنَّ الله تعالى ينمِّي المال بالصدقة، ويزكيه، ويبارك فيه، فتندفع عنه الآفات، وتحل فيه البركات الحسية والمعنوية.

2 -

أنَّ الثواب الحاصل من الصدقة جَبَرَ نَقْص عينها؛ فالمتصدِّق إذا نقص من جانب عوِّض عنه ما هو أكثر منه من جانب آخر.

3 -

أنَّ الله تعالى يخلفها بعوض يعوِّضه به عن نقص المال، بل ربما زادته؛ قال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39]، وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].

الثانية: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلَاّ عزًّا":

فيه الحث على العفو عن المسيء، وعدم مجازاته على إساءته، وإن كانت جائزة، لكن العفو عند المقدرة له مقام كبير عند الله وعند خلقه:

أما عند الله: فإنه سبحانه يحبه؛ لأنَّه محسن، فيضع له المحبة في الأرض.

وأما عند الناس: فإنَّ الناس إذا علموا أنَّه عفا عن مقدرة، صار له عندهم منزلة كبيرة، ومقام عظيم، ونُظِر إليه بعين الإجلال والإكبار، أما المنتقم فإنَّه لا

(1) مسلم (2588).

ص: 501

ينال هذه المنزلة، والله تعالى يقول:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} [الشورى]، وقال تعالى:{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} [النحل].

الثالثة: "وما تواضع أحدٌ لله تعالى إلَاّ رفعه الله تعالى":

فالمتواضع لله تعالى بإظهار التذلل للحق وأهله، والانكسار بين يدي الله تعالى، ولين الجانب، وإظهار الخمول، فإنَّها ما تزيد المتحلِّي إلَاّ رفعة في الدنيا، ومحبة في القلوب، ومنزلة عالية في الجنة، فقد جاء في الحلية لأبي نعيم، من حديث معاذ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله يحب من عباده الأتقياء الأخفياء الأبرياء"[رواه الطبراني في الأوسط (7/ 145)]، وجاء في الترمذي (3854) من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"رب أشعث أغبر ذي طِمْرَين، لا يُعبَأ به، لو أقسم على الله لأبرَّه".

***

ص: 502

1337 -

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ: رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا ايُّهَا النَّاسُ! أَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الأرْحَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصَلُّوا باللَّيْل وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنَّةَ بسَلَامٍ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذيُّ وَصَحَّحَهُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: أخرجه الإِمام أحمد، وابن ماجه، والدارمي، وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، والحاكم، ووافقه الذَّهبي، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم.

* مفردات الحديث:

- أفشُوا السلام: أمر من الإفشاء، وهو الإشاعة والتعميم.

- صِلُوا الأرحام: أمر من الوصل ببرهم، والإحسان إليهم بالقول، والفعل، ولين الجانب، والأرحام: كل قرابة من النسب، أو من الصهر.

- نِيَام: بكسر النون، وتخفيف الياء، جمع نائم.

- تدْخُلُوا الجنَّة بسلام: أي: بدون سابق عذاب قبل دخولها.

* ما يؤخذ من الحديث:

في الحديث مناقب حميدة وشمائل رفيعة، من اتصف بها، دخل الجنة بسلام:

1 -

إفشاء السلام بين المسلمين بقوله: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"

(1) الترمذي (2485).

ص: 503

والجواب مثله، والبداءة به سنة، ورده فرض؛ وهذان الحكمان في البدء والرد على من عَرَفْتَ، ومن لم تعرف.

2 -

صلة الرحم، وهي: القرابة من الأصول، والفروع، والحواشي القربى والبعدى، كل بحسبه؛ فقد أثنى الله تعالى على من وصلها بقوله:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21]

إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)} [الرعد]، وذم القاطعين وتوعدهم فقال:{وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة: 27]

إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} [الرعد]، والنصوص في ذلك كثيرة جدًّا.

3 -

"إطعام الطعام" من القيام بالنفقات الواجبة والمستحبة، وإطعام الفقراء، والمساكين، والمعوزين؛ قال تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} [الإنسان]، وقد جاء في الصدقة من الآيات والآثار الكثير.

4 -

صلاة الليل، وأفضل ما تكون آخره عند نزول الرب سبحانه إلى السماء الدنيا؛ لإجابة الداعين، وإعطاء السائلين، والبر بالمحرومين. قال تعالى:{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17]، وقال:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلًا (2)} [المزمل]، وقال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16].

وجاء في مسلم (1163)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل".

5 -

من قام بهذه الأعمال الصالحة، فإنَّ الله تعالى سيوفِّقه لترك المنهيات، والقيام بسائر الطاعات؛ فيدخل الجنة سالمًا من عذاب الله تعالى.

***

ص: 504

1338 -

وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الدِّينُ النَّصِيحَةُ -ثَلَاثًا- قُلنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: للهِ، وَلِكِتَابهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).

ــ

* مفردات الحديث:

- الدِّين: قال ابن فارس: الدال والياء والنون: أصل واحد، إليه ترجع فروعه كلها، وهو جنس من الانقياد والذل؛ فالدِّين الطاعة.

- النَّصيحة: قال في القاموس: نَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ نُصْحًا وَنَصَاحَةً، وَهُوَ نَاصِحٌ وَنَصِيحٌ، والاسم: النصيحة، وَنَصَحَ بمعنى أَخْلَصَ، والناصح هو العمل الصالح، والتوبة النصوح هي التوبة الصادقة.

قال ابن فارس: نَصَحْتُهُ ونصحتُ له بمعنى. والنصيحة خلاف الغش.

قال في النهاية: النصيحة: كلمة يعبَّر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له.

- الدين النصحية: هذه جملة تدل على الحصر؛ فلذا صارت هذه الجملة تدل على ما هو عماد الدين.

- ثلاثًا: كرر هذه الجملة الجامعة ثلاث مرَّات؛ للاهتمام بها، ولبالغ العناية بها.

(1) مسلم (55).

ص: 505

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

النصيحة لله، وهي الإيمان بالله تعالى، وذلك بصحة الاعتقاد به، وبأنه واجب الوجود، والإيمان بوحدانيته في ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه وصفاته، وبأنَّه الواحد الأحد في ذلك كله، فليس له شريك، ولا مثيل، ولا شبيه في شيء من ذلك كله، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)} [الشورى].

وهذا التوحيد الخالص ينافي كل إلحاد في ربوبيته، أو إلهيته، أو أسمائه، أو صفاته.

كما أنَّ من النصيحة لله تعالى: إخلاصَ النيَّة والعلم في عبادته، وبذل الطاعة والانقياد له فيما أمر به، أو نهى عنه، والاعتراف بنعمه، واستعمالها في طاعته، وإيثار محبته على من سواه من المخلوقين.

وحقيقة هذه النصيحة راجعة إلى العبد نفسه؛ فالله تعالى غني عن نصح كل ناصح؛ {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ} [الإسراء: 7].

2 -

النصيحة لكتاب الله، وهي الإيمان به، وتصديقه، وبأنَّه كلام الله تعالى، تكلَّم به حقيقة، كلامًا يليق بجلاله، وأنَّه وحيه أنزله على رسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم، بواسطة أمينه على وحيه جبريل الأمين، والإيمان بإعجازه في لفظه، وأسلوبه، ومعناه؛ فلن يستطيع أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله، أو بسورة واحدة من سوره، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا ومعينًا.

ومن الإيمان بكتاب الله: تعظيم هذا الكتاب، وتنزيهه، وامتثال أوامره، والوقوف عند نواهيه، ورد تحريف الضالين، وشُبه الملحدين، كل مسلم بحسب قدرته، وطاقته، واستطاعته من النصح لكتاب الله تعالى.

3 -

النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهي تصديقه، والإيمان به، وبرسالته إلى الثقلين عامة، وتعلُّم سنته، والعمل بها، والتمسك بها، ومحبة هذا الرسول،

ص: 506

وطاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واتباعه، والتخلق بأخلاقه، والسير على نهجه، وجعله القدوة الصالحة في العبادة والخُلُق.

ومن الإيمان به: الإيمان بشمول رسالته وعمومها، وأنَّه رسول الله إلى الإنس والجن كافة؛ فلا يحل لأي صاحب دين ونحلة إلَاّ اتباعه، وشريعته ناسخة لجميع الشرائع قبلها، وخاتمة لجميعها بعده؛ فلا نبي بعده ولا رسول؛ فهو خاتم المرسلين.

وأنَّ سنته هي أحد الوحيين، وثانيهما، فيجب العمل بها فيما أمرت به، وما نهت عنه، ويجب تصديقها فيما أخبرت به، وتحدثت عنه.

4 -

النصيحة لأئمة المسلمين، وهي معاهدتهم على السمع والطاعة، وعدم نكث عهدهم، والوفاء لهم، وامتثال أمرهم، واجتناب نهيهم، ما لم يأمروا بمعصية، أو ينهوا عن طاعة؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ومن النصح لهم: الدعاء لهم بالتوفيق والتسديد في أعمالهم، وبذل المشورة لهم، ونصحهم برفق، ولطف، ولين.

ومن النصيحة لهم: الوفاء لهم، وعدم عصيانهم، والخروج عليهم، ولو رأى مواطنوهم وشعبهم شيئًا من القصور في أعمالهم، أو في الحقوق، فإنَّ ما يترتب على الخروج عليهم من المفاسد، واختلال الأمور أعظم وأطم مما هم عليه، ما لم يصل الأمر إلى كفر بواح.

ومن النصيحة لهم: القيام معهم في وجه من يقوم ضدهم، ويشق عصا الطاعة عليهم، بالخروج عليهم، ونقض عهدهم.

5 -

النصيحة لعامة المسلمين، وتكون بمحبة الخير لهم، فيحب لهم ما يحبه لنفسه من الصلاح، والتوفيق في أمور الدنيا والآخرة، وأن يتمنى لهم الخير، وبُعْدَ الشر عنهم، ويحب اجتماعهم على ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، ويكره لهم الفرقة، والاختلاف، والتفرق.

ص: 507

وأن يبذل لهم النصح والمشورة فيما ينفعهم، ويعود عليهم بالصلاح، ويشفق عليهم برحمة صغيرهم، وفقيرهم، وعاجزهم، ويقدِّر كبيرهم ويحترمه، ويحزن لحزنهم، ويتألم لمصابهم، ويفرح لفرحهم بما يجدِّد الله لهم من النعم، وما يندفع عنهم من النقم.

وأن يبعد عنهم كل ما ينافي ذلك من الحقد، والحسد، والغش، والخداع، وغير ذلك مما يضرهم.

ومن النصح للمسلمين: القيام بحقوقهم، فهناك حقوق عامة؛ كرد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز، والدعاء للأحياء والأموات، وهناك حقوق خاصة؛ كلٌّ فيما يخصه ويناسبه، من الأقارب، والجيران، والأقران، والأصدقاء.

6 -

وهكذا: فالنصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير والبر إرادةً وفعلاً؛ فهي بمثابة القلب الطاهر السليم للمنصوح له، وهي نافعة للناصح والمنصوح:

فأما الناصح: فلما يحصِّله من الأجر والثواب، ولما يسرُّه ويفرحه من أثر نصحه وأعماله الطيبة.

وأما المنصوح له، فلما يحصُلُ له من خير الدنيا والآخرة بسبب توجيه الناصحين، وإرشاد المحبِّين، والدلالة على وجوه الخير، والصلاح، والفلاح.

فقد قال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-: "ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدركوا عندنا بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة"، والله أعلم.

***

ص: 508

1339 -

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ الجَنَّةَ: تَقْوَى اللهِ، وَحُسْنُ الخلُقِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

الحديث أخرجه الترمذي، وصححه الحاكم.

وله شواهد كثيرة جدًّا بعضها حسن، وبعضها ضعيف، وأنواع ضعفها مختلفة، وقد أوردها الغزالي في الإحياء في كتاب رياضة النفس، والإمام زين الدين العراقي بيَّن درجاتها، ومن تلك الشواهد: ما أخرجه البخاري (6035) ومسلم (2321): "خياركم أحاسنكم أخلاقًا".

(1) الترمذي (2004)، ابن ماجه (4246)، الحاكم (4/ 324).

ص: 509

1340 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَكمْ لَا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلكِنْ لِيَسَعْهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الوَجْهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ" أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

فرجاله ثقات.

قال زين الدين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه البزار، وأبو يعلى، والطبراني في مكارم الأخلاق، من حديث أبي هريرة، وبعض طرق البزار رجاله ثقات.

وحسَّنه العلائي، وكذلك السيوطي في الجامع الصغير.

* مفردات الحديث:

- بسْطُ الوَجْه: بفتح الباء، وسكون السين: البشاشة، وطلاقة الوجه، ولين الجانب.

- حُسْنُ الخلُق: الخلق -بضم الخاء واللام-: هي معاملة الناس ومعاشرتهم العشرة الطيبة، المبنية على المحبة، والإخلاص، والنصح، وقضاء حوائجهم، وأداء حقوقهم.

* ما يؤخذ من الحديثين:

1 -

هذان الحديثان الشريفان فيهما أمران عظيمان: تقوى الله، وحسن الخلق.

2 -

فأما حسن الخلق: فصفة حميدة باطنة في القلب، يظهر أثرها بالأقوال

(1) الحاكم (1/ 124)، أبو يعلى (11/ 428).

ص: 510

الطيبة، ولين الجانب، والأفعال الكريمة، وتهذيب النفس، وتقدم الكلام على حسن الخلق مكرِّرًا في عدة أحاديث.

ومن أحسنها هذا الترغيب الكريم من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "إنَّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بسْط الوجه، وحسن الخلق".

يعني: أنَّه لا يتم لكم أن تَسَعُوا الناس بإعطاء المال، لكثرة الناس وقلَّة المال؛ فهو أمر غير داخل في مقدور البشر.

ولكن عليكم أن تسعوهم ببسط الوجه، والطلاقة، والبشاشة، ولين الجانب، وخفض الجناح، ونحو ذلك مما يجلب التحاب بينكم، فإنَّه مراد الله تعالى.

3 -

أما تقوى الله تعالى: فقد فسِّرت بتفسيرين:

أحدهما: أنَّ معناها فعل الطاعات، واجتناب المنهيات.

الثاني: هي اجتناب معاصي الله عز وجل على نور من الله، خشية عقاب الله، والقيام بطاعة الله على نور من الله، رجاء ثواب الله.

4 -

وتقوى الله تعالى: هي الرقيب على تصرُّفات العبد في علانيته وسرِّه، فمن وقرت تقوى الله في قلبه، صانته، وحفظته من المهالك؛ فإنَّها حصانة تمنعه من أن يقوم على قبيح، أو يقصر في واجب.

أما إذا غابت التقوى: فإنَّ النَّفس الأمَّارة بالسوء تسيِّر بالإنسان إلى الشهوات، ولو كان فيها معصية الله تعالى.

***

ص: 511

1341 -

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ مِرآة أخِيهِ المُؤْمنِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ (1).

ــ

* درجة الحديث:

إسناده حسن.

قال الإِمام أحمد: لا بأس به، وحسَّن إسناده الحافظ ابن حجر، كما نصَّ عليه هنا، ونقل المناوي عن الزين العراقي أنَّ إسناده حسن، وله شاهد عن أنس رواه القضاعي والبزار.

* مفردات الحديث:

- مرآة: بكسر الميم، وإسكان الراء، بعدها ألف ممدودة، ثم تاء التأنيث، قال في المحيط: هي ما تراءيت فيه من بلور وغيره، وهو اسم آلة، جمعها مَرَاءٍ ومرايا.

* ما يؤخذ من الحديث:

1 -

في هذا الحديث الشريف وصفٌ نبويٌّ بديعٌ، وتشبيهٌ بليغٌ يبيِّن موقف الأخ المسلم من أخيه، ويحدد مسؤوليته تجاهه، وأنَّه منه كالمرآة الصقيلة التي تريه نفسه على حقيقتها، وعلى ما فيها.

2 -

المسلم الناصح المحب لأخيه ما يحب لنفسه، يطَّلع على عيوب أخيه المسلم، وأخطائه، وزلَاّته، فينبِّهه إليها، ويدلُّه على إصلاحها، ويرشده إلى تقويمها، وينصحه بالتخلي عنها، حتى يزينه عند مولاه الذي ينظر من عباده إلى قلوبهم وأعمالهم؛ كما يجمل المسلم أخاه المسلم عند الخلق

(1) أبو داود (4918).

ص: 512

بإزالة الغلطات والزلات.

وهو من نصيحة المسلم لأخيه المسلم في حديث تميم الداري السابق برقم (1338).

***

ص: 513

1342 -

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "المُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ علَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُ النَّاسَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِإسْنَادٍ حَسَنٍ، وَهُوَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، إلَاّ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث حسن.

قال المناوي: أخرجه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي بسند جيد، كلهم عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، لكن الترمذي لم يسم الصحابي، بل قال: عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الحافظ العراقي: والطريق واحد، وقد رمز له بالحسن، وهو كذلك؛ فقد قال الحافظ في الفتح: إسناده حسن، وكذلك هنا في بلوغ المرام.

* خلاف العلماء:

هناك مسلكان هما: اعتزال الناس والبعد عنهم، أو مخالطتهم، وهما قولان لأهل العلم وأهل السير والسلوك، وبعرضنا لهذين القولين يكفي شرحًا لهذا الحديث.

قال الخَطَّابي في كتابه العزلة:

اختلف الناس في العزلة والمخالطة أيهما أفضل؟ مع أنَّ كل واحدة منهما لا تنفك من فوائد وغوائل:

فأهل الزهد اختاروا العزلة، ومنهم: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم،

(1) ابن ماجه (4032)، الترمذي (2507).

ص: 514

والفضيل بن عياض، وسليمان الخوَّاص، وبِشْر الحافي، ونحوهم.

وذهب إلى تفضيل المخالطة: سعيد بن المسيب، والشَّعبي، وابن أبي ليلى، وشريح، وشريك، وعبد الله بن المبارك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.

استدل الأوَّلون على استحباب العزلة: بقول إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي} [مريم: 48]، وبقوله تعالى:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} [مريم]، وبما جاء في البخاري (6494) ومسلم (1888)، من حديث أبي سعيد الخدري، قيل: يا رسول الله، أي الناس خير؛ قال:"رجلٌ جاهد بنفسه وماله، ورجلٌ في شعب من الشعاب يعبد ربه، ويدع الناس من شره".

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "خذوا بحظِّكم من العزلة".

وقال سعد بن أبي وقاص: "لوددت أنَّ بيني وبين الناس بابًا من حديد، لا يكلمني أحد ولا أكلِّمه حتى ألقى الله سبحانه".

وفي العزلة: تفرغ للعبادة، وبُعد عن معاصي الله، وعمَّا يعرض من الفتنة، والسلامة من الغيبة، ومن آفة الرياء، وصيانة الدين عن الخوض في ذلك فيما لا يرضي الله تعالى.

ففي ذلك البعد عن شرور الناس، وأذية كثير منهم، والبعد عما يلهي القلب والعين عند النظر إلى زهرة الحياة الدنيا.

وهناك فوائد أخرى يكتسبها المعتزل، إما بتوفير الوقت لاشتغاله بالنافع، وإما بالسلامة من الشرور والآثام.

واستدل الذين فضَّلوا الاجتماع والاختلاط: بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا

} [آل عمران: 103]، وقال تعالى: {فَأَلَّفَ

ص: 515

بَيْنَ قُلُوبِكُمْ

} [آل عمران: 103].

وما جاء عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإنَّ الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بُحبوحة الجنة فليلزم الجماعة"[رواه الترمذي (2165)].

ومن فوائد الاجتماع: التعلم والتعليم، والنفع والانتفاع، والقيام بالحقوق من الاجتماع في العبادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، وعيادة المرض، وشهود الجنائز، وتأدية العادات المستحسنة فيما بين المسلمين، وحصول الائتلاف والأخوة الإيمانية من المحبة في الله، والتآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكرات، وقضاء الحاجات؛ فكل هذه الأمور مفقودة مع العزلة.

وفصل الخطاب في هذا الباب: أنَّه لكل من العزلة والاختلاط فوائده ومضاره المعروفة، فالعزلة فيها السلامة والبعد عن الشر، إلَاّ أنَّ الاجتماع يحسُنُ ويفضل في حالتين:

الأولى: أن يكون الشخص نافعًا مفيدًا في مجتمعه، نافعاً بعلمه؛ تعليمًا، وإفتاءً، وإرشادًا، وقضاءً، وغير ذلك، مثل أن يكون ذا جاه ونفوذ كلمة، فينفع في الوساطات المحمودة، والشفاعات المرغوبة؛ فهو ملجأ بعد الله تعالى للمظلوم والمهضوم حقه ونحو ذلك، أو يكون صاحب بر وإحسان، فيجد عنده المعوزون قضاء حاجتهم، وسد خلاتهم، وغير هؤلاء ممن هم أركان في المجتمعات؛ فعزلة هؤلاء وأمثالهم: ضرر عليهم بحرمانهم من الأجر المتعدي، وضرر على غيرهم -حيث يفقد ذو الحاجات- من المستفيدين، والمعلِّمين، والمظلومين، والمعوزين مَنْ يعينهم على أمورهم.

وأفضل ما يقال: إنَّ صاحب الكلمة المسموعة، والإشارة النافذة، والنفع المتعدي، من علم، أو جاه، أو فضل، الأفضل أن لا يعتزل، بل يكون

ص: 516

مع الناس؛ ينفعهم، ويصلحهم، ويرشدهم، ويعلمهم، ويرفع صوتهم بالشفاعة إلى من لا تصل إليه أصواتهم الضعيفة، وأن يجود بفضول ماله، وأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهذا هو المؤمن القوي المحبوب عند الله.

وأما الذي ليس له من وجوده فائدة إلَاّ بقدر الواجبات والحقوق السارية بين الناس، فهذا يعتزلهم لِيَسْلَم له دينه وعرضه، ويخالطهم بقدر حاجته إليهم، فهو معهم ببدنه، أما قلبه وروحه فمع خلوته، وانفراده بطاعة ربه وذِكره إيَّاه.

وهذا هو المؤمن الضعيف، وفيه خير، فالإيمان بالله، والقيام بطاعته، كل بحسبه نور. والله الموفق.

***

ص: 517

1343 -

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).

ــ

* درجة الحديث:

الحديث صحيح.

صحَّحه ابن حبان، وقال المنذري: رواته ثقات.

وقال الهيثمي بعد أن ذكر له طريقين قال: رجالهما رجال الصحيح.

* مفردات الحديث:

- حسَّنْتَ: بتشديد السين المهملة، من التحسين والتجميل، وقد جاء بصيغة الخطاب.

- خَلْقِي: بفتح، فسكون، هي صورة الإنسان الظاهرة.

- خُلُقِي: بضمتين، هي الصورة الباطنة في النفس التي تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية.

* ما يؤخذ من الحديث:

قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين]، وقال تعالى:{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار]، وقال تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3]؛ فالله جلت قدرته خلق الإنسان فأتم خلقه، وأتقن تركيبه؛ لأنَّه على صورة أبيه آدم الذي خلقه الله بيده، فجاء على تلك الصورة الكريمة المثالية.

(1) أحمد (1/ 403)، ابن حبان (959).

ص: 518

والإنسان -وإن تفاوت من حيث الجمال والدمامة وما بينهما- إلَاّ أنَّه صُوِّرَ أحسن تصوير، وركِّب أحسن تركيب؛ فعليه أن يشكر الله تعالى على ذلك.

وأن يسأل الله الذي أحسن صورته الظاهرة، وجمَّلها، وكمَّلها، أن يحسن صورته الباطنة، فَيهَبَهُ خلُقًا كريمًا سمحًا، تكمُلُ به إنسانيته، وتجمل به صورته، فيكون حسن المظهر والمخبر، كريم الظاهر والباطن، حسن الخَلْقِ والخُلُق.

وأهم الصور الباطنة: الإيمان؛ فإنَّ الأخلاق الفاضلة تتبعه، فهو رأسها وأساسها الباطني، والنصوص الشرعية تفرِّق بين الظاهر والباطن؛ ليحصل الكمالان السري والعلني، والجمال الظاهري والباطني:

فإنَّه إذا توضأ المسلم وطهر ظاهره، شرع له أن يسأل الله تعالى أن يطهر باطنه من الالتفات إلى سوى الله تعالى.

وإذا خرج من الخلاء متخفِّفًا من الفضلات المثقلة، سأل الله المغفرة؛ ليخفف عنه أدران الذنوب بعد أن خفَّ من الوساخات.

وهكذا يريد الله تعالى بنا أن نكمِّل أنفسنا، ونزكِّي نفوسنا، فلله الحمد والمنة، وله الشكر والإفضال.

***

ص: 519