الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الذبائح
مقدمة
الذبح: مصدر ذبح الحيوان، فهو ذبيح ومذبوح، والذبيحة ما يُذبح، وجمعها ذبائح، فهي ما ذُبح من الحيوان، وذلك بقطع أوردة الرقبة.
وشرعًا: ذبح حيوان مقدور عليه مباح أكله، يعيش في البر غير جراد، بقطع حلقوم ومريء، أو عَقْر ما لم يقدر عليه منه.
وحكمه ثابت، بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.
قال تعالى: {إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} وما رواه الدارقطني أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بعث ببديل ابن ورقاء يصيح في فِجَاج مني: "ألا إنَّ الذكاة في الحلق واللبة".
وما جاء في البخاري (5509)، ومسلم (1968) من حديث رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فندَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معنا خيل، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنَّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به هكذا".
قال ابن المنذر: "أجمعوا على أنَّ المرء إذا ذبح ما يجوز ذبحه، وسمَّى الله، وقطع الحلقوم والودجين، وأسَالَ الدَّمَ، فإنَّ الشاة مباح أكلها".
وقال الوزير، في الحيوان البري: أجمعوا على أنَّ ما أبيح أكله لا يباح إلَاّ بالذكاة، كما أجمعوا على أنَّ الميتة حرام.
قال الشيخ عبد الله بن حميد: أجمع العلماء على أنَّ محل الذكاة هو الحلق واللبة، ولا يجوز في غير هذين.
وصفة الذبح، والنحر، والعقر: واحدة في جميع الشرائع السماوية من
حيث وجوب إسالة الدم، ومن حيث وجوب إجراء عملية الذبح أو النحر في الموضع الَّذي حدَّده الشرع في جسم المذبوح أو المنحور.
ولولا توحد الشرائع السماوية في أصول الذكاة، لما أحل الله للمسلمين ذبائح أهل الكتاب، كما أحل ذبائح المسلمين.
ويشترط للذكاة ذبحًا أو نحرًا أربعة شروط:
أحدها: أهلية الذابح، أو النَّاحر، أو العاقر، وهو أنْ يكون عاقلاً، قاصدًا التذكية، فلا تحل ذكاة مجنون، وسكران، وطفلٍ دون التمييز؛ لأنَّه لا قصد لهم.
الثاني: الآلة: وهو أنْ يذبح بآلة محدَّدة تقطع، أو تخرق بحدها، لا بثقلها سواءٌ من حديد، أو حجر، أو خشب، أو غيرها، غير عظم وظفر؛ فلا تحل الذبيحة بهما.
الثالث: أنْ يقطع الحلقوم: وهو مجرى النفس، والمريء: وهو مجرى الطعام والشراب، ولا يشترط قطع الودجين، بل يستحب، والودجان: عرقان بجانب الرقبة.
الرَّابع: التسمية عند حركة يده بالذبح بقوله "باسم الله"، ولا يجزىء غيرها، ووجوبها إذا ذكرها، ويسقط مع السهو، وهو مذهب الجمهور.
***
1165 -
وعَنْ عائشَةَ رضي الله عنها: "أنَّ قومًا قالوا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ قومًا يَأْتُونَنَا بالَّلحْمِ، لَا نَدْرِي أَذَكرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، أمْ لا؟ فَقَالَ: سَمُّوا الله علَيْهِ أَنْتُم، وَكُلُوهُ" روَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث له روايات يظهر معناه جليًّا بإيراد بعضها:
فقد جاء في البخاري: "وكانوا حديثي عهد بالكفر" وفي رواية: "وذلك في أوَّل الإِسلام".
2 -
شروط التذكية:
(أ) أنْ يقول "باسم الله" عند إرادة التذكية، فإنْ تركها عمدًا، لم تحل التذكية عند جمهور العلماء، وإنْ تركها جهلًا أو نسيانًا، حلَّت على الرَّاجح من قولي العلماء.
(ب) أهلية المذكي بأنْ يكون مسلمًا أو كتابيًّا، ويكون عاقلاً مميزًا.
(ج) أنْ تكون التذكية على الطريقة الشرعية، وذلك من رقبة المذكى المقدور عليه، وأنْ يقطع الحلقوم والمريء.
(د) أن تكون التذكية بألة حادة، تنهر الدم، كسكين ونحوه.
3 -
قال الشيخ عبد الله بن حميد: أجمع العلماء على أنَّ مكان الذكاة هو الحلق واللبة، ولا يجوز في غير هذين الموضعين للمقدور عليه.
وعند مالك: لا تصح إلَاّ بقطع أربعة: الحلقوم، والمريء، والودجين.
وعند الشَّافعي وأحمد: تصح بقطع الحلقوم، والمريء، ولو لم يقطع
(1) البخاري (5507).
الودجان.
4 -
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: أجمع علماء الإِسلام على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان، ومنكري الأديان، ونحوهم من جميع أصناف الكفَّار، غير اليهود والنصارى.
5 -
إذا كانت هذه أحكام حل التذكية، وأنَّ ما خالفها محرم، لا يحل أكله، فالَّذين سألوا النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذه اللحوم المستوردة من قوم مسلمين، إلَاّ أنَّ عهدهم بالكفر قريب، فيغلب عليهم الجهل، فلا يعلم هل ذكروا اسم الله عليه أو لا؟ فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم السَّائلين أن يأكلوا تلك اللحوم، وأنْ يذكروا اسم الله عند أكلها.
قال المجد في المنتقى: الحديث دليل على أنَّ التصرفات تحمل على الصحة والسَّلامة إلى أنْ يقوم دليل الفساد.
6 -
هذا الحديث يذكرنا بمسألة اللحوم التي يستوردها المسلمون من بلدان غير إسلامية، وقد أكثر علماء العصر من الكلام عليها.
ونحن نورد -هنا- فقرتين من تلك الفتاوى:
(أ) قال الشيخ عبد العزيز بن باز: اللحوم التي تُباع في أسواق دول غير إسلامية، إنْ عُلم أنَّها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين، إذا لم يُعلم أنَّها ذُبِحَت على غير الوجه الشرعي، إذ الأصل حلها بالنص القرآني، فلا يعدل عن ذلك إلَاّ بأمرٍ محقَّق يقتضي تحريمها.
أمَّا إنْ كانت اللحوم من ذبائح بقيَّة الكفار، فهي حرام على المسلمين، ولا يجوز لهم أكلها بالنص والإجماع، ولا تكفي التسمية عليها عند أكلها.
(ب) وقال الشيخ عبد الله بن حميد: "وأمَّا اللحوم المستوردة فما وردت من بلاد جرت عادتهم أو أكثرهم يذبحون بالخنق، أو بالصعق الكهربائي، ونحو ذلك، فلا شكَّ في حرمته.
وأمَّا إِذا جُهِل الأمر: هل يذبحون بالطريقة الشرعية أم بغيرها؛ فلا شكَّ في حرمتها؛ تغليبًا لجانب الحظر، كما قرره أهل العلم، منهم؛ النووي، وشيخ الإِسلام، وابن القيم، وابن رجب، وابن حجر، وغيرهم.
7 -
القاعدة الشرعية: أنَّه متى وُجِدَ مبيح وحاظر، غُلِّبَ جانب الحظر؛ لحديث:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"[رواه الترمذي (2518)].
ولحديث "إذا أرسلت كلبك المعلَّم، ووجدت معه كلبًا آخر، فلا تأكل؛ فإنَّما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره"[رواه البخاري (5484)، ومسلم (1929)].
قال ابن رجب: "ما أصله الحظر كالأبضاع، ولحم الحيوان، فلا تَحِل إلَاّ بيقين حله من التذكية والعقر، فإنْ تردَّد في شيئٍ من ذلك لسببٍ آخر، رجع إلى الأصل، فبني عليه، فما أصله التحريم بقي على حرمته".
ولو فرضنا أنَّه يوجد في تلك البلدان من يذبح ذبحًا شرعيًّا، ويوجد من يذبح ذبحًا آخر كالخنق والوقذ، فلا تحل للاشتباه، كما هي القاعدة الشرعية.
***
1166 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه: "أنَّ رَسُولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الخَذْفِ وقَالَ: إِنَّهَا لَا تَصِيدُ صَيْدًا، وَلَا تَنكَأُ عَدُوًّا؛ وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ، وَتَفْقَأُ العَيْنَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، والَّلفْظُ لِمُسْلِمٍ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الخَذْفُ: قال في فتح الباري: بفتح الخاء المعجمة، فذال معجمة، ففاء، هو رمي الإنسان بحصاة أو نواة بين إصبعيه: السبابتين، أو السبابة والإبهام.
- فإنَّهَا: الضمير راجع إلى الخذف، وأنَّث الضمير نظرًا إلى المحذوف به، وهو الحصاة.
- لَا تنكأ: بفتح حرف المضارعة، وفتح الكاف، وهمزة في آخره، أي: لا تجرح عدوًّا، ولا تقتله، وروي بكسر الكاف بغير همزة، والحديث مروي بالوجهين، وكلاهما صحيح؛ لكن قال العيني: المناسب هنا كسر الكاف بغير همزة؛ لأنَّ معناه نكيت في العدو نكاية: إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل، وأمَّا الَّذي في الهمز فهو من نكأت القرحة، إذا قشرتها، ولا يناسب هنا إلَاّ الأوَّل.
- تفقأ: فقأ بفتحات، فقأ العين: شقَّها، وأخرج ما فيها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الخذف: هو رمي الإنسان بحصاة، أو نواة، أو نحوهما، يجعلهما بين إصبعيه: السبابتين، أو السبابة والإبهام.
وقد نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والنَّهي يقتضي التحريم؛ فدلَّ على أنَّ هذا الفعل محرَّم.
(1) البخاري (5479)، مسلم (1954).
2 -
ذلك أنَّه مفسدة محضة، لا مصلحة فيه؛ فإنَّه يكسر السن، ويفقأ العين، ويشج الوجه، ولا يحصل به فائدة؛ فإنَّ القتل به إذا قتل لا يحل؛ لأنَّه يقتل بثقله، لا بحدِّه وموره وجمهور العلماء لا يحلون قتل الصيد بالثقل؛ لأنَّه من الوقيذة؛ قال تعالى:{وَالْمَوْقُوذَةُ} ، وقتل الحيوان بغير حقٍّ؛ ولا انتفاع حرامٌ؛ فقد جاء في مسند الإِمام أحمد (6515) وسنن النسائي (4445) من حديث عبد الله بن عمرو أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل عصفورًا بغير حقِّه، سأله الله عنه يوم القيامة، قيل: يا رسول الله، وما حقه؟ قال: أنْ تذبحه، ولا تأخذ بعنقه فتقطعه".
3 -
يلحق بهذا "النبيلاء" التي يرمي الصبيان بها صغار الطير كالعصافير، فكم حصل فيها من أذيةٍ للنَّاس في منازلهم، حينما يرمي بها الصبيان الطير التي على أسوار البيوت، وما ينتج عن ذلك من تساقط الأحجار، وترويع الصغار.
وإِذَا قتلت الطير الصغير فإنَّه لا يحل أكله؛ لأنَّها ماتت بثقل الحجر الذي رميت به، لا بحدِّه.
فعلى ولاة أمورهم كفهم عن هذا، وعلى رجال الأمن تأديبهم عن ذلك، فهي محرَّمةٌ؛ لإلحاقها بما نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عنه في هذا الحديث.
***
1167 -
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- غَرَضًا: بفتحتين، وغينه معجمة، أي هدفًا، والمراد: لا تتخذوا الحيوان الحي غرضًا ترمون إليه، والنهي يقتضي التحريم؛ فإنه تعذيبٌ للحيوان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه النهي عن اتخاذ شيء من ذي روح هدفًا يرمى إليه، والنَّهي يقتضي التحريم؛ فهذا تعذيبٌ للحيوان.
وقد جاء في البخاري (5513) ومسلم (1956) من حديث أنس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ تُصْبرَ البهائم"، والصبر قتلها محبوسة مقهورة.
2 -
وقد جاء في بعض الأحاديث أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من فعل هذا" يعني: جعلها هدفًا يرمى إليه.
فهو تعذيبٌ للحيوان، وإتلافٌ لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذبحة"[رواه مسلم (1955)]، وهذا أساء لقتله من وجوه.
3 -
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، حول قتل الحمر الأهلية: إنَّ قتل هذه الحيوانات السائبة لا يحل شرعًا؛ لما صرح بها الفقهاء.
قال في الإقناع وشرحه: ولا يجوز قتل البهيمة، ولا ذبحها؛ للإراحة، كالآدمي المتألِّم بالأمراض الصعبة.
(1) مسلم (1957).
وقال في المنتهى: ويحرم ذبح حيوان غير مأكول لإراحته من مرضٍ ونحوه، والواجب علينا القيام عليها بما يلزم لها مؤن وعلفٍ، وغيره.
4 -
الحديث يدل على تحريم أكل المصبورة؛ لأنَّها لو كانت ذكاةً شرعية يحل بها أكل المصبورة، لما نهى عنها.
قال في الإقناع وشرحه: ولا تؤكل المصبورة، ولا المنخنقة؛ لما روى سعيد قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنخنقة، وعن أكل المصبورة"، والمنخنقة لا تكون إلَاّ في الطائر، والأرنب، وأشباهها، والمصبورة كل حيوانٍ يحبس للقتل.
***
1168 -
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه "أنَّ امْرَأةً ذَبَحَتْ شَاةً بِحَجَرٍ، فَسُئِلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ؟ فأَمَرَ بِأَكلِهَا" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تمام الحديث من رواية البخاري عن كعب بن مالك أنَّه قال: "كانت لنا غنمٌ ترعى بِسَلْعٍ، فأبصرتْ جارية لنا بشاة من غنمنا موتًا، فكسرت حجرًا، فذبحتها به، فسُئِل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فأمر بأكلها".
2 -
في الحديث جواز تذكية المرأة، وحلّ أكل ما ذكته.
وهو قول جماهير العلماء، وليس فيه إلَاّ خلافٌ شاذٌّ مخالفٌ للنصوص.
3 -
جواز التذكية بالحجر الحادّ إذا قَطَع الحلقوم والمريء، وسيأتي قريبًا:"ما أنهر الدم، فكلوا"[رواه البخاري (5503) ومسلم (1968)].
4 -
أنَّ الآلة التي يُذَكَّى بها لابُد أن تكون حادة، تقتل بحدِّها ونفوذها، لا بثقلها، وتقدَّم حديث عدي بن حاتم في البخاري (5476) ومسلم (1929):"إِذَا أصبتَ بحده فَكُل، وإذا أصبت بعَرْضه فلا تأكل".
5 -
أنَّ الَّذي أصابه سبب الموت من الحيوان المأكول إذا ذكي، حل أكله.
واختلف العلماء في ذلك: فمذهب الشَّافعي وأحمد: لا تحل ما فيها سبب الموت، إلَاّ إذا كانت فيها حياةٌ مستقرَّة، وذلك بأنْ تزيد حياتها على مدَّة حركة المذبوح.
وقال شيخ الإِسلام: وما أصابه سبب الموت فيه نزاع بين العلماء؛
(1) البخاري (5504).
والأظهر: أنَّه متى ذبح فخرج الدم الأحمر الَّذي يخرج من المذكَّى المذبوح في العادة، ليس هو دم ميتة، فإنَّه يحل، وإنْ لم يتحرَّك في أظهر قولي العلماء.
قال ابن القيم: ومتى كان العمل في مال الغير إنقاذًا له من التلف، كان جائزًا؛ كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته، ولا يضمن ما نقص بذبحه.
6 -
جواز تذكية المرأة الحائض؛ فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل، وترْكُ الاستفصال، في موضع الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال.
7 -
إباحة ما ذبحه غير مالكه بغير إذنه؛ فإنَّ الجارية لما خافت أنْ تفوت المنفعة بموت الشاة، ذبحتها، ولم تستأذن صاحبها.
***
1169 -
وَعَنْ رَافِع بْنِ خَدِيجٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، فَكُلُوا، لَيْسَ السِّنَّ والظُّفُرَ؛ أمَّا السِّنُّ: فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظُّفُرُ: فَمُدَى الحَبَشَةِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
مفردات الحديث:
- ما أنهَر الدم: "ما" شرطية، أو موصولة، و"أنهر" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمعلوم، وأنهره: أي أساله، وصبَّه بكثرة.
- فكُلُوه: جواب الشرط، أو متضمن معناه.
- ليس: فعل ماض من أخوات كان، وهي فعل شبيه بالحرف، وهنا أتت للاستثناء بمعنى إلَاّ، والمستثنى بعدها واجب النَّصب؛ لأنَّه خبرٌ لها، نحو: جاء القوم ليس خالدًا.
قال في المحيط: وقد تخرج "ليس" عن ذلك في مواضعٍ، أحدها: أنْ تكون حرفًا ناصبًا للمستثنى بمنزلة "إلَاّ" نحو: أتوني ليس زيدًا، والصحيح أنَّها النَّاسخة، وأنَّ اسمها ضميرٌ راجعٌ للبعض المفهوم ممَّا تقدَّم، واستتاره واجب، فلا يليها في اللفظ إلَاّ المنصوب.
قلت: وهي التي وردت في هذا الحديث.
- السِّن: منصوب على أنَّه خبر ليس، وهو بكسر السين، قطعة عظم تنبت في الفك، مؤنثة.
-الظفر: منصوبٌ؛ لأنَّه معطوف على خبر ليس، والظفر: مادة قرنية في أطراف الأصابع، جمعه أظافر وأظافير.
(1) البخاري (5503)، مسلم (1968).
- مُدًى: جمع مُدْيَة، بضم الميم، وسكون الدَّال، هي الشفرة الكبيرة.
- الحَبَشة: هي بلاد تقع في الشمال الشرقي من إفريقيا، وتُسمَّى الآن إثيوبيا، عاصمتها أديس أبابا، يحدها شمالاً إرتيريا، وشرقًا وجنوبًا الصومال، وغربًا السودان، وهي منبع النيل الأزرق.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنه يشترط لحل الذبيحة ذبحها أو نحرها، وإسالة الدم من مكان الذبح أو النحر، وذلك بقطع الحلقوم والمريء.
2 -
يشترط في آلة الذبح أنْ تكون محدَّدة، تقتل الذبيحة بحدها، سواء أكانت حديدًا، أو خشبًا، أو حجرًا، أو غيرها، فلا تحل آلة لقتل الذبيحة بثقلها وصدمها.
3 -
أنَّه يستثنى من الآلة المحددة، السن وجميع العظام، كما يستثنى الظفر؛ فإنَّها وإنْ كانت محددة، فإنه لا يجوز الذبح بها، ولا تحل الذبيحة بها.
4 -
أمَّا الظفر: فإنَّها مدى الحبشة الذين يذبحون بها، ولا تحل مشابهتهم، كما أنَّ فيه مشابهة للسباع التي تفرس الصيد بأظفارها، وجوارح الطير التي تفرس بمخالبها.
5 -
مثل السن سائر العظام، فلا يجوز الذبح بها، ولا تحل الذبيحة بهذا السن، فهي -والله أعلم- للبعد عن مشابهة السباع التي تفرس بأنيابها.
وأمَّا بقية العظام، فإنْ كانت من ميتة، أو حيوان نجس: فهي لنجاستها، وإنْ كانت طاهرة: فلحرمتها عن ملامسة النجاسة، وهو الدم المسفوح، فقد نهى عن الاستنجاء بها خشية تنجسها؛ لأنَّها طعام إخواننا من الجن، كما في الحديث الصحيح، ولأنَّه صلى الله عليه وسلم علَّل حرمة الذبح بالسن بأنَّه عظم.
6 -
الرقبة فيها أربعة مَجَارٍ: الحلقوم، وهو مجرى النَّفس، ومن خلفه المريء، وهو مجرى الطعام والشراب، وعن جانبي الرقبة الودجان: وهما عرقان يجري
معهما الدم، فالواجب، قطع الحلقوم والمريء، والأفضل: أن يقطع معهما الودجين، لأنَّه يحصل بقطعهما كمال النزيف، وطهارة المذبوح، وسرعة إراحته.
وللأئمَّة فيها خلاف؛ فعند الشَّافعي وأحمد: الواجب قطع الحلقوم والمريء، وعند أبي حنيفة: زيادة قطع أحد الودجين، وعند مالك: لابدَّ من قطع الأربعة.
وقول الإِمام مالك جيد جدًّا، فقد علمنا من أصحاب الخبرة أنَّ إخراج الدم ونزيفه لا يكون إلَاّ بقطع الودجين الَّلذين هما مجرى الدم.
7 -
ويدخل فيما أنهر الدم ما له نفوذٌ في البدن، كالرصاص من البندقية، فإنَّها تنهر الدم وتسيله، وتقتل الصيد بنفوذها ومرورها في البدن، لا بصدمها وثقلها، فالقتل بها حلالٌ، وقد انعقد الإجماع عليه.
8 -
ومثل الصيد: الحيوان الأهلي من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج، إذا ندَّت وتأبدت وعُجِزَ عن إدراكها، ولم يُقدَر عليها، فإنَّها تكون كالصيد، يحل قتلها بالسهام، والرصاص من البندقية، والمسدس، والرشاش، ونحو ذلك من السلاح، بجرحها في أي موضع من بدنها.
فقد جاء في البخاري (5559) ومسلم (1968) من حديث رافع بن خديج قال: كُنَّا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فندَّ بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنَّ لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا، فافعلوا به هكذا".
9 -
قال الشيخ عبد العزيز بن باز: الذبح الشرعي هو الَّذي يتضمن قطع الحلقوم والمريء وإسالة الدم، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما أنهر الدم، وذُكِرَ اسم الله عليه، فكُل، ليس السن والظفر"[رواه البخاري (5503) ومسلم (1968)].
وأمَّا ما خُنق من الحيوان والطير حتَّى مات، أو سلط عليه تيار كهربائي حتَّى مات، فلا يؤكل بالاتفاق، وإنْ ذُكِر اسم الله عليه حين خنقه أو تسليط الكهرباء عليه أوعند أكله، فهذا لا يحله.
10 -
وقال الشيخ عبد الله بن حميد: أجمع العلماء على أنَّ محل الذكاة هو الحلق واللبة، ولا يجوز في غير هذين الموضعين للمقدور عليه؛ فلا تصح الذكاة إلَاّ بقطع الحلقوم والمريء عند الشَّافعي وأحمد، وعند مالك يشترط معهما قطع الودجين.
11 -
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح أنَّ جميع العظام لا تحل الذكاة بها، كما علَّل ذلك النَّبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:"أمَّا السن فعظم"، وممَّن اختاره ابن القيم رحمه الله تعالى.
12 -
وقال الأستاذ صالح العود: لفظة الذكاة تنبىء عن الطهارة، فقد ذهب علماء وظائف الأعضاء إلى أنَّ الذبح يحدث صدمة نزيفية، فيجتذب كلَّ الدم السَّائل إلى دورة الدم، وينساب من خلال العروق المقطوعة.
أمَّا الطرق الإفرنجية الحديثة لإزهاق روح الحيوان كالصعق بالكهرباء، وضرب المخ بالمسدس، وتغطيس الطيور بالماء، وفتل أعناقها، وما إلى ذلك من الطرق، فهي -التي حرمتها الشرعية- طرق عقيمة مضرة بالصحة؛ فإنَّ الحيوان بالتدويخ والصعق يُصاب قبل إزهاق روحه بالشلل، ويسبب احتقان الدم باللحم والعروق، حيث لا يجد منفذًا، واحتقان الدم في اللحم يضر بصحة الإنسان، كما يسبب تعفن اللحم، وتغير لونه.
وقد أدرك هذا منتجو اللحوم الدنماركية، فرفعوا شكوى إلى حكومتهم مطالبين بوقف التدويخ بالكهرباء، وحظر استعمالها.
وهنا نتبيَّن عظمة الإِسلام، وأنَّه دين العقل والنظافة والصحة والرحمة.
* قرار المجمع الفقهي الإِسلامي: بشأن موضوع: الذبح بالصعق الكهربائي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا محمد صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم.
أمَّا بعد:
فإنَّ مجلس المجمَّع الفقهي الإِسلامي برابطة العالم الإِسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408 هـ، الموافق 17 أكتوبر 1987 م، إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408 هـ، الموافق 21 أكتوبر 1987 م، قد نظر في موضوع (ذبح الحيوان المأكول بواسطة الصعق الكهربائي) وبعد مناقشة الموضوع، وتداول الرَّأي فيه، قرَّر المجمَّع ما يلي:
أوَّلاً: إذا صعق الحيوان المأكول بالتيار الكهربائي، ثمَّ بعد ذلك تمَّ ذبحه أو نحوه، وفيه حياة، فقد ذكي ذكاةً شرعية، وحلَّ أكله؛ لعموم قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3].
ثانيًا: إذا زهقت روح الحيوان المصاب بالصعق الكهربائي قبل ذبحه أو نحوه، فإنَّه ميتة يحرم أكله؛ لعموم قوله تعالى:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} .
ثالثًا: صعق الحيوان بالتيار الكهربائي -عالي الضغط- هو تعذيب للحيوان قبل ذبحه أو نحوه، والإِسلام ينهى عن هذا، ويأمر بالرحمة والرَّأفة به، فقد صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:"إنَّ الله كتب الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"[رواه مسلم].
رابعًا: إذا كان التيار الكهربائي منخفض الضغط، وخفيف المس بحيث لا يعذَّب الحيوان، وكان في ذلك مصلحة، كتخفيف ألم الذبح عنه، وتهدئة عنفه ومقاومته، فلا بأس بذلك شرعًا، مراعاة للمصلحة، والله أعلم.
وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا، والحمد لله ربِّ العالمين.
1170 -
وعَنْ جَابِر بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الدواب: جمع دابَّة، وهي كل ما يدب على الأرض، ولكن غلب إطلاقه على ما يُركب من الحيوان، للذكر والأنثى.
- صَبْرًا: بفتح الصاد وسكون الباء، قال في النهاية: "نهى عن قتل الدواب صبرًا: هو أنْ يمسك شيء من ذوات الأرواح حيًّا، ثم يُرمى بشيءٍ حتَّى يموت.
* ما يؤخذ من الحديث:
تقدَّم معنى هذا الحديث في الحديث رقم (1167).
والحديث ينهى عن صبر الدواب، وكل ذي روحٍ، وذلك بأنْ يُحبس ويُقتل لغير غرض صحيح، ولا قصد فائدة من قتله.
كما ينهى عن إتلافه بقتلة غير شرعية، كأنْ يجعل هدفًا للرمي.
ففي ذلك تعذيبٌ للحيوان، وإتلافٌ لنفسه، وإضاعة لماليته، وتفويتٌ لذكاته الشرعية، ومساهمة في انقراضه من الوجود، ولو على مدى طويل.
فلهذه المفاسد، ولعدم الفائدة من قتله، نهي عن صبره، والنَّهي يقتضي التحريم.
…
(1) مسلم (1959).
1171 -
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" روَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- الإحسان: الإحسان: بمعنى إتقان العمل وإحكامه، وبمعنى التفضل والإنعام، والمعنيان صالحان هنا، فإراحة الذبيحة بإتقانِ ذبحها هو إنعامٌ عليها بذلك.
- القِتلة -الذِّبحة: القتلة بكسر القاف، والذبحة بكسر الذال، اسم هيئة، أي: هيئة القتل، وهيئة الذبح.
- يُحِد: بضم الياء، يُقالُ: أحَدَّ السكين وحدَّدها، بمعنى شحذها حتَّى صارت قاطعة.
- شَفْرَته: بفتح الشين، الشفرة: هي السكين الكبيرة العريضة.
- وليُرح: بضم الياء، مجزوم بلام الأمر، من الرَّاحة والسكون، والمعنى: ليوصل إليها الرَّاحة بإعجال إمرار الشفرة، ولا يسلخ قبل أنْ يبرد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
بيان رحمة الله تعالى الشَّاملة بخلقه كلهم: من إنسانٍ، وحيوانٍ، وكل ذي روح، فهو جلَّ وعلا المحسن إلى خلقه، المتفضل عليهم، وأمر الخلق أنْ يحسن بعضهم إلى بعض.
(1) مسلم (1955).
2 -
الإحسان نوعان: منه الواجب وهو العدل والإنصاف، وأداء الحقوق الواجبة، والقيام بالواجبات نحو الله تعالى في عباداته، وطاعاته، ونحو خلقه بإيتاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه.
ومنه الإحسان المستحب، وهو بذل المنافع، وتقديم المساعدات إلى الخلق بحسب القدرة والاستطاعة.
وهو يختلف -أيضًا- بحسب حال المحسَنِ إليهم، بحسب قرابتهم، وحسب حاجاتهم.
فالإحسان إذا وقع موقعه المناسب الَّذي يتطلبه ويقتضيه، صار له وقعٌ كبيرٌ، ونفعٌ عظيمٌ.
ومن أعظم فائدة الإحسان وأجل ثمراته: أنْ يحسن الإنسان إلى من أساء إليه بقولٍ أو فعلٍ؛ فهذه المعاملة الكريمة، وهذه المقابلة الطيبة يحصل عليها من الأجر عند الله تعالى، ومن الثناء عند الخلق، ومن جلب محبَّة المسيء، وإزالة بغضه وحقده، ومن الانتصار على النَّفس الطالبة للانتقام، يحصل مِن هذا ما لا يدرك نفعه، ويحصي أثره إلَاّ الَّذي قال:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35]. ومَن عادتُهُ الإحسان أحسن الله إليه؛ قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَاّ الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
3 -
من صور الإحسان: الإحسان في القتل والذبح، إذا دعت الحاجة إليهما.
4 -
وذلك بأنْ لا يذبح أو ينحر بآلةٍ كالّة، فيعذب الحيوان، وإنَّما يجب أنْ تكون الآلة حادة، أو يحدها عند الذبح.
ففي هذا راحةٌ للذبيحة بسرعة إزهاق روحها؛ فقد روى الإِمام أحمد
(5830)
وابن ماجة (3172) من حديث ابن عمر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذبح أحدكم، فليُجهِز".
5 -
ومن الإحسان في الذبح أنْ لا يذبح الحيوان أو الطير، وأليفه يراه، فإنَّها تحس بذلك فترتاع، فيحصل لها عذابٌ نفسي، وألمٌ قلبي.
ولذا جاء في مسند الإِمام أحمد: "أنَّ النَّبي ع صلى الله عليه وسلم أمر أنْ تُحد الشفار، وأنْ توارى عن البهائم".
قال النووي: يستحب أنْ لا يحد السكين بحضرة الذبيحة، وأنْ لا يذبح واحدةً بحضور أُخرى.
6 -
ومن الإحسان في الذبح أنْ لا يكسر عنق المذبوح، أو يسلخه، أو يقطع منه عضوًا، أو ينتف منه ريشًا، حتَّى تزهق نفسه، وتخرج الروح من جميع أجزاء بدنه؛ لما روى الدَّارقطني (4/ 283) من حديث أبي هريرة:"أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء على جمل أورق يصيح في فجاج مني: ألا إنَّ الذكاة في الحلق، ولا تعجلوا الأنفس قبل أنْ تزهق".
7 -
ومن الإحسان أنْ ينحر الإبل نحرًا، وذلك بطعنها بالسكين في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر، وأنْ يذبح غيرها من الحيوان والطير ذبحًا، فهذا أسهل لموتها، وأسرع في إزهاق روحها، وإنْ عكس جاز، ولكن هذا هو الأفضل.
قال في شرح الإقناع: والأفضل نحر الإبل، وذبح بقرٍ وغنمٍ وغيرها، ويجوز أن يذبح الإبل، وينحر البقر والغنم؛ لأنَّه لم يتجاوز محل الذكاة.
قال شيخ الإِسلام: يجوز الذبح سواء أكان القطع فوق الغلصمة، أو كان القطع تحتها، والغلصمة هو الموضع النَّاتىء من الحلقوم.
8 -
إذا عرفنا وجوب الإحسان إلى الذبيحة حال الذبح، وحرمة تعذيبها بدنيًّا ونفسيًّا، علمنا حرمة ما يفعله كثيرٌ من الجزَّارين في المسالخ الفنية، وذلك
فيما بلغنا من أنَّهم يذبحونها والأخرى تراها، وأنَّهم يسرعون إلى كسر عنقها، وسلخ جلدها، وتقطيع أوصالها قبل أنْ تزهق روحها.
وأنَّهم يدوخونها قبل الذبح، إمَّا بصعقٍ كهربائي يشل حركتها ويفقدها وعيها، أو يضربون رأسها بمثقل تصاب منه بالدوار، الَّذي يسقطها على الأرض بلا حركة.
وغير ذلك من أعمال العنف والقسوة التي يمارسونها مع البهائم، التي تتألَّم كما يتألمون، وتحس كما يحسون.
فعلى العلماء والمسلمين توعيتهم وتعليمهم حرمة ذلك، ووجوب الرفق بالحيوان.
وعلى الجهات المسؤولة من الدوائر الحكومية منعهم من ذلك، والله من وراء القصد.
***
1172 -
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدَّارقطني، والبيهقي، من طريق مجالد بن سعيد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد.
ورواه أحمد، وابن الجارود، وابن حبان، من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد.
قال الترمذي: حسنٌ صحيح.
وقال المنذري: إسناده حسن، وللحديث طرق أخر عن أبي سعيد، عند أحمد، والطبراني، والخطيب.
وصحَّحه ابن دقيق العيد بإيراده إياه في "الإلمام بأحاديث الأحكام".
وله شاهدٌ من حديث جابر: رواه أبو داود، والدرامي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وقال كلٌّ من ابن القطان، والعراقي، والحافظ: إنَّه بمجموع طرقه حجَّة.
* مفردات الحديث:
- ذكاة الجنين: مبتدأ، وخبره ما بعده.
(1) أحمد (3/ 39)، ابن حبان (1077).
- الذكاة: التذكية، ومثلها الذبح والنحر، قال ابن الجوزي: الذكاة في اللغة تمام الشيء.
- الجَنين: هو الولد ما دام في بطن أمِّه؛ سُمِّيَ بذلك لاستتاره.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على أنَّ الجنين إذا أخرج من بطنها ميتًا بعد ذكاتها أنَّه حلال، وأنَّ ذكاة أمه كافية عن ذكاته؛ ذلك أنَّ الذكاة قد أتت على جميع أجزاء الأُمِّ، وجنينها وقت الذبح جزء منها، وأجزاء المذبوح لا تفتقر إلى ذكاةٍ مستقلة، وهذا هو القياس الجلي.
وهو مذهب جمهور العلماء، منهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد.
2 -
وذهب أبو حنيفة إلى أنَّه لا يحل بذكاة أمه.
قال ابن المنذر: لم يرد عن أحدٍ من الصحابة، ولا من العلماء: أنَّ الجنين لا يحل إلَاّ باستئناف الذكاة فيه، إلَاّ ما يروى عن أبي حنيفة، وكان النَّاس على إباحته، لا نعلم أحدًا منهم خالف ما قالوه.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: "وسبب اختلافهم: اختلافهم في صحَّة الأثر المروي في ذلك، مع مخالفته للأصول؛ لأنَّ الجنين إذا كان حيًّا ثمَّ مات بموت أُمِّهِ، فإِنَّما يموت خنقًا، فهو من المنخنقة التي ورد تحريمها". اهـ.
3 -
أما إنْ خرج حيًّا حياةً مستقرة:
فقال في شرح الإقناع؛ وإنْ كان في الجنين حياةً مستقرة، لم يبح إلَاّ بذبحه أو نحره؛ لأنَّه نَفْس أخرى، وهو مستقل بحياته.
قال ابن المنذر: اتفقوا على أنَّه إنْ خرج حيًّا يعيش مثله، لم يبح إلَاّ بالذبح.
***
1173 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المُسْلِمُ يَكْفِيهِ اسْمُهُ، فَإِنْ نَسِيَ أنْ يُسَمِّيَ حِينَ يَذْبَحُ، فَلْيُسَمِّ، ثُمَّ لْيَأْكُلْ" أَخرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ، وَهُوَ صَدُوقٌ ضَعِيفُ الحِفْظِ، وأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (1).
وَلَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ في مَرَاسِيلِهِ بِلَفْظِ: "ذَبيحَةُ المُسْلِمِ حَلَالٌ، ذَكَرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا، أمْ لَمْ يَذْكُرْ" وَرِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح موقوفًا.
رجال سند الحديث موقوفًا إلى ابن عباس ثقات؛ فأخرجه عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح إلى ابن عباس موقوفًا، وأخرجه البيهقي بسنده إلى ابن عبَّاس مرفوعًا، ولكن الرَّاجح وقفه مع صحته إليه.
أمَّا المرفوع فضعيف، والله أعلم.
وهناك من صحَّحه كابن السكن، وقال ابن القطان: ليس في إسناده من تُكُلَّمَ فيه عدا محمد بن سنان، فإنَّه صدوق صالح، لكنْ فيه تفصيل.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على مشروعية تسمية الذابح عند حركة يده للذبح؛ لأنَّ تلك
(1) الدَّارقطني (4/ 296)، عبد الرزاق (4/ 481).
(2)
أبو داود في المراسيل (378).
اللحظة هي وقت إزهاق روح الحيوان.
2 -
ووجوب التسمية إذا كان ذاكرًا لها، وأمَّا إنْ تركها نسيانًا فذبيحته حلال، وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد.
أمَّا الشَّافعي فيرى أنَّ التسمية سنَّة، فإنْ أسقطها عمدًا أو نسيانًا فلا حرج عليه، وسيأتي تفصيل الخلاف إنْ شاء الله تعالى.
3 -
الحديث يدل على مشروعية التسمية عند الأكل.
فقد جاء في البخاري (5376) ومسلم (2022) من حديث عمر بن أبي سلمة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ياغلام! سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل ممَّا يليك".
قال في شرح الإقناع: وتسن التسمية على الطعام والشراب، فيقول: باسم الله.
قال الشيخ تقي الدِّين: لو زاد "الرحمن الرحيم" لكان أحسن؛ فإنَّه أكمل، بخلاف الذبح؛ فإنَّه لا يناسب، وإنْ نَسِيَ التسمية في أوَّل الأكل أو الشرب، قال إذا ذَكَر: باسم الله أوله وآخره.
4 -
الرواية المرسلة عند أبي داود على فرض صلاحيتها للاستدلال، فإنَّها تحمل على أنَّ المراد به النَّاسي؛ لأنها لا تقاوم الأحاديث التي صحَّت على وجوب التسمية، والله أعلم.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم التسمية عند الذبح على ثلاثة أقوال:
الأوَّل: أنَّها واجبةٌ مطلقًا، فلا تسقط لا عمدًا ولا سهوًا؛ وهذا مذهب الظاهرية، وسبقهم ابن عمر، والشَّعبي، وابن سيرين.
الثاني: أنَّها واجبة إذا كان ذاكرًا، وتسقط مع النسيان؛ وهذا مذهب
جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة.
الثالث: أنَّها سنَّةٌ مؤكدة؛ وهو مذهب الشَّافعي وأصحابه، وهو مروي عن ابن عباس، وأبي هريرة.
فمن ذهب إلى وجوبها مطلقًا استدل بالآية: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، والآية ناسخةٌ لحديث عائشة، وحديث ابن عباس.
وأمَّا من شرط التسمية مع ذكرها وإسقاطها عند نسيانها فصار إلى قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. وإلى قوله عليه الصلاة والسلام: "عُفِيَ عن أُمَّتي الخطأ والنسيان"[رواه ابن ماجة (2045)].
ومن ذهب إلى أنَّها سنَّة عمل بالحديثين، ولم يرَ النسخ؛ لأنَّ الحديثين بالمدينة، والآية مكية، فلا تصلح دعوى النسخ.
والقول الثاني هو الرَّاجح، والله أعلم.
***