الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب العِتْق
مقدمة
العتق: بكسر العين، وسكون التَّاء، يُقال: عَتَقَ العبدُ -من باب ضرب- عَتْقاً وعِتَاقاً وَعَتَاقَة، فهو عتيق.
والعتق لغة: الخلوصُ والحريَّة، والخروجُ من الملكية.
قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عَتَقَ الفرسُ: إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ: طار واستقل؛ لأنَّ العبد يتخلَّص بالعتق ويذهب حيث شاء، فصارت المادَّة تعبِّر عن الكرم، وما يتصل به، فيقال: فرس عتيق رائع، وعِتَاقُ الطير: كرائمها.
وشرعاً: تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق، وتثبيتُ الحرية لها.
والأصل فيه الكتاب، والسنَّة، والإجماع:
فأمَّا الكتاب: فمثل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].
وأمَّا السنَّة: فكثيرةٌ جدًّا؛ ومنها ما جاء في البخاري (6715) ومسلم (1509) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكلِّ عضوٍ منه عضواً منه من النَّار، حتَّى فرجه بفرجه". وأحاديث الباب الآتية.
وأجمعت الأمَّة على صحَّة العتق، وحصولِ القربة به.
وهنا مبحثان:
أحدهما: في فضله.
والثانى: في موقف الإسلام من الرِّق والعتق.
أمَّا فضله: فيكفيك فيه هذا الحديث الصحيح، وهو ما رواه الترمذي (1547) عن أبي أمامة وغيره من الصحابة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"أيما امرىءٍ مسلمٍ أعتق امْرَأً مسلماً، كان فكاكه من النَّار".
والأحاديث والآثار الحاثَّة على فضل العتق والترغيب فيه كثيرة.
وقد جعله الله تعالى أوَّل المكفِّرات؛ لما فيه من محو الذنوب، وتكفير الخطايا والآثام، والأجر العظيم، بقدر ما يترتَّب عليه من الإحسان.
وليس إحسانٌ أَعظَمَ من فكاك المسلم من غلِّ الرِّق، وقيد الملك، فبعتقه تكمل إنسانيته، بعد أنْ كان كالبهيمة فى تصريفها وتدبيرها.
فمن أعتق رقبةً، فقد فاز بثواب الله، والله عنده حسن الثواب.
المبحث الثاني: عاب بعض أعداء الدِّين الإسلامي إقرار الشريعة الإسلامية الرق الَّذي هو -في نظرهم- من الأعمال الهمجية جملة.
لذا نحب أنْ نُبيِّنَ حال الرِّقِّ في الإسلام وغيره، ونبين موقف الإسلام منه بشيءٍ من الاختصار؛ لأَنَّ المقام لم يخصَّص لمثل هذه البحوث.
فالإسلام لم يختص بالرقِّ، بل كان منتشراً في جميع أقطار الأرض.
فهو عند الفرس، والروم، والبابليين، واليونان وأقرَّه أساطينهم من أمثال أفلاطون، وأرسطو.
وللرِّقِّ -عندهم- أسبابٌ متعدِّدة في الحرب، والسبي، والخطف، واللصوصية، بل يبيع أحدهم من تحت يده من الأولاد، وبعضهم يعدُّون الفلاحين أرقاء، وكانوا ينظرون إلى الأرقاء بعين الاحتقار والازدراء؛ فكانوا يمتهنونهم في الأعمال القذرة، والأعمال الشَّاقة.
فـ"أرسطو" من الأقدمين يرى أنَّهم غير مخلَّدين، لا في عذابٍ، ولا في
نعيم، بل هم كالحيوانات.
والفراعنة استعبدوا بنى إسرائيل أشنع استعباد حتَّى قتلوا أبناءَهُمْ، واستَحْيَوْا نساءهم.
والأوربيون -بعد أنْ اكتشفوا أمريكا- عاملوا الأمريكيين أسوأ معاملة.
هذا هو الرِّق بأسبابه وآثاره وكثرته في غير الإسلام.
ولم نأتِ إلَاّ بالقليل من شنائعه عندهم.
فلننظر في الرق في الإسلام:
أولاً: إن الإسلام ضيَّق مورد الرِّق؛ إذ جعل النَّاس كلهم أحراراً، لا يطرأ عليهم الرِّق إلَاّ بسببٍ واحدٍ، وهو أنْ يؤسروا وهم كفَّار مقاتلون، مع أنَّ الواجب على القائد أنْ يختار في المقاتلة من رجالهم الأصلح من الرق، أو الفداء، أو الإطلاق بلا فداء، حسب المصلحة العامَّة.
فهذا هو السبب وحده في الرق، وهو سبب كما جاء في النقل الصحيح،؛ فإنَّه يوافق العقل الصحيح أيضاً:
فإنَّ من وقف في سبيل عقيدتي ودعوتي، وأراد الحدَّ من حريتي، وألَّب علىَّ، وحاربني، فجزاؤه أنْ أمسكه عندي ليفسح المجال أمامي وأمام دعوتي.
هذا هو سبب الرِّق في الإسلام، لا النهب، والسلب، وبيع الأحرار، واستعبادهم؛ كما هو عند الأمم الأخرى.
ثانياً: إنَّ الإسلام رفَقَ بالرقيق، وَعَطَفَ عليهم، وتوعَّد على تكليفهم وإرهاقهم؛ فقال صلى الله عليه وسلم:"الصَّلاة، وما ملكت أيمانكم"[رواه أحمد (11759)].
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: "للمملوك طَعَامُهُ وقُوتُهُ، ولا يكلَّف من العمل مالا يطيق"[رواه مسلم].
بل إنَّ الإسلام رفع من قَدْرِ الرقيق حتَّى جعلهم إخوان أسيادهم:
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "هم إخوانكم وخَوَلُكُمْ، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن
كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإنْ كلفتموهم، فأعينوهم" [رواه البخاري (30) ومسلم (1661)].
ورفع من مقامهم عند مخاطبتهم حتَّى لا يشعروا بالضَّعَة؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم "لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتايَ وفتاتي"[رواه البخاري (3552) ومسلم (2249)].
كما أنَّ المقياس في الإسلام لكرامة الإنسان في الدنيا والآخرة لا يرجع إلى الأنساب والأعراق، وإنَّما يرجع إلى الكفاءات، والقيم المعنوية. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
وقد بلغ شخصيات من الموالي -لفضلهم وقدرتهم- ما لم تبلغه ساداتهم؛ إذ قادوا الجيوش، وساسوا الأُمم، وتولَّوا الأعمال الجليلة بكفاءاتهم، التي هي أصل مجدهم.
ومع ما رفع الشَّارع من مقام المملوك، فإنَّ له تشوُّفاً، وتطلُّعاً إلى تحرير الرقاب وفكِّ أغلالهم:
فقد حثَّ على ذلك، ووَعَدَ عليه النَّجاةَ من النَّار، والفوزَ بالجنَّة، وقد تقدَّم بعضٌ من ذلك.
ثمَّ إنَّه جَعَلَ لتحريرهم عدَّة أسباب بعضها قهرية، وبعضها اختيارية:
فمن القهرية: أنَّ مَن جَرَحَ مملوكه، عَتَقَ عليه، فقد جاء في الحديث أنَّ رجلاً جدع أنف غلامه، فقال صلى الله عليه وسلم:"اذهب فأنت حر، فقال: يارسول الله! فمولى من أنا؟ قال: مولى الله ورسوله"[رواه أحمد (6671)].
ومن أعتق نصيبه من مملوك مشترك، عَتَقَ نصيب شريكه قهراً؛ كما في الحديث:"مَنْ أعتق شِرْكاً في مملوكٍ، وجب عليه أنْ يُعْتِقَهُ كله"[رواه البخاري (2503)، ومسلم (1501)] على تفصيلٍ فيما يأتي.
ومن ملك ذا رحمٍ محرم عليه، عتق عليه قهراً؛ لحديث:"من ملك ذا رحمٍ محرم، فهو حرٌّ"[رواه أبو داود (3949) والترمذي (1365)].
فهذه أسبابٌ قهرية تزيل ملك السيد عن رقيقه خاصَّة في هذا الباب؛ لما له من السراية الشرعية، والنفوذ القوي الَّذي لم يُجْعَلْ في عتقه خيارٌ ولا رجعة.
ثمَّ إن المشرِّع -مع حثِّه على الإعتاق- جعله أوَّل الكفَّارات في التخلُّص من الآثام، والتحلُّل من الأيمان:
فالعتق هو الكفَّارة الأولى في الوطء في نهار رمضان، وفي الظهار، وفي الأيمان، وفي القتل الخطأ.
* دين العزَّة والكرامة والمساواة:
فكيف بعد هذا يأتي الغربيون والمستغربون، فيعيبون على الإسلام إقراره الرق، ويتشدَّقون بالحرية، والمناداة بحقوق الإنسان، وهم الَّذين استعبدوا الشعوب، وأذلُّوا الأمم، واسترقُّوهم في عُقْرِ دارهم، وأكلوا أموالهم، واستحلُّوا ديارهم؟!.
أفيرفعون رؤوسهم، وهم الَّذين يعامِلون بعض الطبقات في بلادهم أدنى من معاملة العبيد؟!
فأيْنَ مساواة الإسلام ممَّا تفعله أمريكا بالزنوج، الَّذين لا يُباحُ لهم دخول المدارس، ولا تحل لهم الوظائف، ويجعلونهم والحيوانات سواسية؟!
وأين رفق الإسلام وإحسانه، ممَّا يفعله الغرب بأسارى الحرب الَّذين لا يزالون في المجاهل، والمتاهات، والسجون المظلمة؟!
وأين دولةُ الإسلامِ الرحيمةُ التي جعلتِ النَّاسَ على اختلاف طبقاتهم، وأديانهم، وأجناسهم أمَّةً واحدةً، في مالها وما عليها، ممَّا فعلته "فرنسا" بأحرار الجزائر في بلادهم، وبين ذويهم؟!
إنَّها دعاوَى بِاطلةٌ!!.
بعد هذا: أَلَمْ يأنِ للمصلحين ومحبِّي السلام أنْ يُبْعِدُوا عن أعينهم الغشاوة، فيراجعوا تعاليمَ الإسلام بتدبُّر وإنصافٍ؛ ليجدوا ما فيه من سعادة الإنسانية في حاضرها ومستقبلها؟.
اللهم، بَصِّرِ المصلحين بهذا الدِّين؛ ليعلموا ما فيه من العزَّةِ وَالكرامة، وما فيه من الرحمة والرأفة.
***
1233 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِماً، اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
وَلِلتِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: "وَأَيُّمَا امْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ، كَانَتَا فِكَاكَهُ مِنَ النَّارِ"(2).
ولأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ: "وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً، كَانَتْ فِكَاكَهَا مِنَ النَّارِ"(3).
ــ
* درجة الحديث:
رواية الترمذي صحيحةٌ، صحَّحَهَا الترمذي، وتبعه الشوكاني، وأمَّا رواية أبي داود، فسكت عنها أبو داود؛ فهي مقبولة محتجٌّ بها، والله أعلم.
* مفردات الحديث:
- أيما: "أي" شرطية، مبتدأ دخلت عليها "ما" الزَّائدة، "امرىءٍ" يصلح فيها الجر على الإضافة، ويجوز فيها الرفع على البدلية.
- امرىء: المرء مثَّلث الميم، هو الرجل، فإنْ لم تأت بالألف والَّلام، قلت: امرُؤٌ، بكسر همزة الوصل، جمعه: رجال من غير لفظه، والأنثى: امرأة جمعها: نساء من غير لفظها.
(1) البخاري (2517)، مسلم (1509).
(2)
الترمذي (1547).
(3)
أبو داود (3967).
- أعتق: يُقال: عَتَقَ العبد يَعْتِقُ، من باب ضرب، ومصدره عَتَقٌ وعَتَاقٌ وعَتاقةٌ بفتح الأوائل، والعِتْق بالكسر: اسم منه، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أَعْتَقَهُ فهو معتق، ولا يتعدَّى بنفسه فيقال: عَتَقَهُ، والعتق لغةً: الخلوص، وشرعاً: تحرير رقبة، وتخليصُهَا من الرِّق.
- عضو: يُقال: عضا الشَّاةَ يعضوها عضواً: جزَّأَها، والعضو بالضم والكسر، والضم أشهر، وهو جزءٌ من مجموع الجسد؛ كاليد والرِّجل والأذن، وجمعه أعضاء.
- فكاكه: يُقال: فكَّ الأسير فكًّا وفكاكًا: خلَّصه وأطلقه؛ فالفكاك: الخلاص.
***
1234 -
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: "سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللهِ، وجِهَادٌ فِي سَبيلِهِ، قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَغْلَاهَا ثَمَناً، وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهلِهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أغلاها ثمناً: في رواية الأكثرين: "أعلاها" بالعين المهملة.
- أنفسها: أكرمها، وأكثرها رغبةً عند أهلها؛ لمحبتهم فيها.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الرقيق في حكم المعدوم؛ فلا تصرُّف له في نفسه، وإنَّما يتصرَّف فيه كما يتصرف في الدَّابة؛ لذا كان عتقه كإخراجه من العدم إلى الوجود، فقد جعل الشَّارع لمن أعتقه حقَّ ميراثه، إذا لم يوجد مَنْ هو أقربُ منه من النسب.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "الولاء لُحْمَةٌ كلُحمة النسب"[رواه الحاكم (4/ 231)].
ولذا قال الفَرَضِيُّون: الولاء عصوبة سببها نعمة المعتِق على عتيقه.
2 -
من أجل هذا صار الإعتاق عظيماً، وأجره كبيراً؛ "فأي امرىءٍ مسلمٍ أعتق امرأً مسلماً، استنقذَ الله بكلِّ عضوٍ منه عضواً من النَّار"؛ كما قال صلى الله عليه وسلم[رواه البخاري (6715) ومسلم (21509)].
3 -
وجعله الشَّارع أوَّلَ الكفارات في محو الذنوب، وتكفير الخطايا المترتبة على قتل الخطأ، والوطء في نهار رمضان، والظهار، والأيمان الحانثة، كل هذا رغبة أكيدة من الشَّارع الرحيم الحكيم في فكاك الرقاب، وجعلها حرَّة
(1) البخاري (2518)، مسلم (84).
تتمتَّع بنفسها وبتصرفاتها.
4 -
الأحاديث التي في معناها جاء الفضل والأجر بعتقِ واحدٍ، وبعتق امرأتين مسلمتين، وبعتق امرأةٍ مسلمة.
فالأجر والفضل حاصلٌ في كل واحد من هذا.
قال الفقهاء: وأفضل الرقاب فكاكاً: أَنْفَسُهَا عند أهلها، وَذَكَرٌ، وتعدُّد أفضل.
5 -
قال في نيل المآرب: يسن عتق من له كسب؛ لانتفاعه بكسبه؛ قال تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، ويُكره عتق من لا قوَّة له، ولا كسب؛ لسقوط نفقته بإعتاقه، فيصير كَلاًّ على النَّاسِ، ويحتاج إلى المسألة.
6 -
أمَّا الحديث رقم (1234) فرتَّب الفضائلَ على ما يأتي:
المرتبة الأولى: الإيمان بالله؛ ذلك أنَّ الإيمان بالله تعالى هو أصلُ الأعمال الصالحة وأساسُهَا، وَعَمَلٌ لا يقوم على الإيمان بالله تعالى فإنَّه عملٌ لاغٍ باطلٌ.
والإيمان بالله هو الطريق المستقيم الموصِّل إلى خيري الدنيا والآخرة.
وبالإيمان الكامل يحرَّم الإنسان على النَّار، وبالإيمان -ولو قليلاً- ينجو من الخلود في النَّارِ.
المرتبة الثانية: الجهاد في سبيل الله؛ قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف].
وقد جاء في البخاري (2792) ومسلم (1880) من حديث أنس؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحَةٌ في سبيل الله، خيرٌ من الدنيا وما
فيها".
والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الجهاد في الإسلام هو الذروة، فقال:"وذروة سنامه الجهاد فى سبيل الله".
وثمرةُ الجهادِ إخراجَ النَّاس من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإسلام والعلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لأَنْ يهديَ اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم"[رواه البخاري (3009) ومسلم (2406)].
وحُمْرُ النَّعَمِ، بسكون الميم: كرائمها، وهو مَثَلٌ في كل نفيس.
المرتبة الثالثة: إعتاق الرِّقاب؛ فقد جاء في المرتبة الثالثة من شعائر الإسلام الكبار، وتقدَّمت الإشارة إلى فضله.
7 -
أفضل الرِّقاب أغلاها ثمناً؛ لأنَّ غلاء الثمن دليلٌ على توفُّر المنفعة في المعتق، وقد قال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
فإذا كانت الرقبة ثمينة نفيسة عند أهلها، تحقَّق أنَّ صاحبها لم تَطِبْ نفسه بإعتاقها إلَاّ إيثاراً للأجر وَلِمَا عند الله، على حاجته وهوى نفسه؛ بخلاف إعتاق العاجز، وكبير السن، والضعيف، والأخرق؛ فهذا ليس نفيساً، وربما أنَّ الَّذي حمل صاحبه على إعتاقه هو التخلُّص من نفقاته ومؤنته، لا ابتغاء ما عند الله تعالى، ثمَّ إنَّ هذا العاجز سيكون عالة على مجتمعه، وعبئاً عليهم؛ وإنَّما الأعمال بالنِّيات، وإنَّما لكلِّ امرىٍ ما نوى!!.
***
1235 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ العَبْدِ، قُوِّمَ قِيمَةَ عَدْلٍ، فَأَعْطَى شُركَاءَهُ حِصَصَهُمْ، وَعَتَقَ عَلَيْهُ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ، وَاسْتُسْعِيَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ"، وَقِيلَ: إنَّ السِّعَايَةَ مُدْرَجَةٌ في الخَبَرِ (2).
ــ
* مفردات الحديث:
- من أعتق: ظاهره العموم؛ ولكنَّه مخصَّص بالإجماع؛ فلا يصح من المجنون، والصبي، والمحجور عليه بسَفَهٍ.
- شِرْكًا: بكسر الشِّين، أي: حصَّة ونصيبًا.
- ثمن العبد: أي: ثمن بقية العبد، وأوضح ذلك في رواية النسائي بلفظ:"وله ما يبلغ قيمة أنصباء شركائه، فإنَّه يضمن لشركائه أنصباءهم".
- قُوّمَ: مبني للمجهول، من قوَّم المتاعَ بكذا، أي: جَعَلَ له قيمةً معلومة.
- عدل: عَدَلَ الشيءَ بالشيء: سوَّاه به، وجعله مثله، والمراد: أنْ يقوِّمه بقيمة مثله.
- فأعطى شركاءه: بالبناء للفاعل على رواية الأكثرين، و"شركاء" منصوب على أنه مفعول، وروي على صيغة المجهول و"شركاؤه" مرفوعٌ على أنه نائب
(1) البخاري (2522)، مسلم (1501).
(2)
البخاري (2527)، مسلم (1503).
فاعل.
- عبد: يشمل الذكر والأنثى.
- وإلَاّ: أي: وإن لم يكن موسرًا، فقد عَتَقَ منه حصته، وهي ما عَتَقَ.
- استُسْعِيَ: طلب من العبد أن يسعى، فيعمل ليحصّل حصة الشريك.
- غير مشقوق: أي: غير مكلَّف عليه، فلا يشق عليه سيده في الخدمة فوق طاقته، ولا فوق حصته من الرق.
- حصصهم: جمع حِصَّة -بكسر الحاء وتشديد الصاد- وهي: النصيب، يقال: تحاصُّوا: اقتسموا حصصهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
للشارع الحكيم الرحيم تشوُّفٌ إلى عتق الرقاب من الرق؛ فقد حثَّ عليه، ورغَّب فيه، وجعله أجلَّ الكفَّارات، وأعظم الإحسان، وجَعَلَ لَهُ من السراية والنفوذ ما يفوِّت على مالك رقه بغير اختياره في بعض الأحوال، التي منها ما ذكر في هذين الحديثين، وهي أن له شراكة، ولو قليلة في عبدٍ أو أمةٍ، ثم أعتق جزءًا منه، عَتَق نصيبه بنفس الإعتاق.
2 -
فإنْ كان المعتِق موسرًا -بحيث يستطيع دفع نصيب شريكه- عَتَقَ العبد كله، نصيبه، ونصيب شريكه، وقوِّم عليه نصيب شريكه بقيمته التي يساويها، وأعطَى شريكَهُ القيمة.
فإنْ لم يكن موسرًا -بحيث لا يملك قيمة نصيب صاحبه- فلا إضرار على صاحبه، فيعتق نصيبه، ويبقى نصيب شريكه رقيقًا كما كان.
وبعضهم يرى أنَّه يعتق، ويُسْتَسْعَى العبد بالقيمة، ويأتي الخلاف فيه.
3 -
أنَّه إنْ ملكَ بعض قيمة نصيب شريكه، عَتَقَ عليه بقدر ما عنده من القيمة.
4 -
جوازُ الاشتراك في العبد، والأمة في الملك.
5 -
تشوُّف الشَّارع إلى عتق الرقاب؛ إذ جعل للعتق هذه السرايةِ والنفوذ.
6 -
ظاهر الحديثين الاختلافُ في عتق العبد كلِّه، مع إعسار مباشر العتق، واستسعاء العبد.
7 -
الجمع بين الحديثين:
دلَّ الحديث الأَوَّل -في ظاهره- على أن من أعتق نصيبه من عبدٍ مشتركٍ، عتق نصيبه:
فإنْ كان موسرًا، عتق باقيه، وغرم لشريكه قيمة نصيبه.
وإنْ كان معسرًا، لم يعتق نصيب شريكه، وصار العبد مبعَّضًا، بعضه حر، وبعضه رقيق.
ودلَّ الحديث الثَّاني: على أنَّ المباشر لعتق نصيبه: إنْ معسرًا، عتق العبد كله أيضًا؛ ولكن بأنْ يُسْتَسْعَى العبد بقدر قيمة نصيبه الَّذي لم يعتق وتعطى له.
وذهب إلى الأخذ بظاهر الحديث الأوَّل الأئمة: مالك، والشَّافعي، وأحمد -في المشهور من مذهبه- وأهل الظاهر.
ودليلهم: ظاهر الحديث، وجعلوا الزيادة في الحديث مُدْرَجة، وهي قوله:"فإنْ لم يكن له مالٌ، قُوِّمَ المملوك قيمة عدل، ثمَّ استسعي العبد غير مشقوقٍ عليه".
قال الحافظ: قيل: إنَّ السِّعاية مدرجة.
قال النسائي: "بلغني أنَّ همَّامًا رواه، فجعل هذا الكلام -أعني الاستسعاء- من قول قتادة"، وكذا قال الإسماعيلي إنَّما هو من قول قتادة، مدرج على ما روى همام، وجزم ابن المنذر والخطابي بأنَّه من افتيات قتادة.
ولكن قال صاحب شرح البلوغ: وقد رُدَّ جميعُ ما ذُكِرَ من إدراج السعاية باتفاق الشيخين على رفعه؛ فإنَّهما في أعلى درجات الصحيح.
ولذا فإنَّه ذهب إلى الأخذ بهذه الزيادة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، واختاره بعض أصحابه، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم،
وشيخنا عبد الرحمن السعدي، رحمهم الله تعالى.
وَجُمِعَ بين الحديثين، وصفة الجمع: ما قاله شارح بلوغ المرام: أنَّ معنى قوله في الحديث الأوَّل: "وإلَاّ فقد عتق منه ما عتق" أي: بإعتاق مالك الحصَّة حصَّته، وحصَّة شريكه تعتق بالسعاية، فيعتق العبد بعد تسليم ما عليه، ويكون كالمكَاتَبِ، وهذا هو الَّذي جزم به البخاري.
ويظهر أنَّ ذلك يكون باختيار العبد؛ لقوله: "غير مشقوق عليه".
فلو كان ذلك على جهة الإلزام بأنْ يكلَّف العبد الاكتساب والطلب حتَّى يحصل ذلك، لَحَصَلَ له بذلك غايةُ المشقَّة، وهو لا يلزم في الكتابة: ذلك عند الجمهور، ولأنَّها غير واجبة، فهذا مثلها.
وإلى هذا الجمع ذهب البيهقي وقال: لا تبقى معارضة بين الحديثين أصلاً، وهو كما قال، إلَاّ أنَّه يلزم منه أنْ يبقى الرق في حصَّة الشريك إذا لم يختر العبد السعاية. اهـ.
***
1236 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَاّ أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يجزي: يُقال: جزاه يجزيه جزاءً: كافأه وأثابه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الله جلَّ وعلا عظَّم حقَّ الوالدين بكتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} [الأحقاف: 15].
أمَّا الأحاديث فكثيرةٌ؛ منها: ما في البخاري (527) ومسلم (85) عن ابن مسعود قال: "قلت: يارسول الله، أي العمل أفضل؟ فقال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين"، ومنها حديث الباب.
2 -
الحديث يدل على أنَّ فضلَ برٍّ بِالوَالدَيْنِ، أو أحدهما: هو أنْ يجد أباه أو أمه رقيقًا مملوكًا، فيشتريه ويعتقه؛ لأَنَّه خلَّصه من الرق، الَّذي حَرَمَه من الحرية، والاستقلال بالنفس، والكسب.
3 -
وفي إعتاق الإنسان أباه، أو أُمَّه مجازاةٌ على إحسانهما إلى ولدهما؛ ذلك أنَّهما سبب وجوده من العدم، وهو بإعتاقهما أو إعتاقِ أحدهما -كأنَّه أخرجهما من العدم إلى الوجود؛ فإنَّ الرَّقيق مملوك المنافع والمكاسب،
(1) مسلم (1510).
فكأنَّه غير موجود في الحياة، فإذا عَتَقَ، ومَلَكَ نفسه وكسبه، صار من الموجودين.
4 -
يدل الحديث على أنَّ الوالد لا يَعْتِقُ بمجرَّد شراء ولده له، وأنَّه لابُدَّ من إعتاقه بعد الشِّراء؛ لقوله:"فيعتقه"؛ وهذا مذهب الظاهرية.
وذهب جمهور العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة-: إلى أنَّه يَعْتِقُ بمجرَّد الشراء، ويؤكِّده الحديث الآتي عن سمرة:"من ملك ذا رحم محرم، فهو حر".
5 -
والجواب عن هذا الحديث ليوافق حديث: "من ملك ذا رحم محرم، فهو حر" كما سيأتي، فقد قال الطِّيبِيُّ في شرح المِشْكَاة: إنَّ هذا تعليق بالمحال للمبالغة، والمعنى: لا يجزى ولد والده إلا أنْ يملكه فيعتقه، وهو محال؛ إذ المجازاة محالة، وبهذا تكون الفاء في قوله "فيعتقه"، للسببية، يعني: أنَّه عتق بسبب شرائه، لا أنَّ الفاء للتعقيب، لتفيد المعنى الَّذي ذهب إليه الظاهرية، والله أعلم.
***
1237 -
وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ، فَهُوَ حُرٌّ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَرَجَّحَ جَمْعٌ مِنَ الحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث موقوف.
وهو مُختَلَفٌ في رفعه ووقفه، والوقف له حكم الرفع.
قال المؤلِّف: رواه الإمام أحمد، والأربعة، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح جمعٌ من الحفاظ أنَّه موقوف، وأخرجه أبو داود مرفوعًا من رواية حماد، وموقوفًا من رواية شعبة، وشعبة أحفظ من حماد، فالوقف حينئذٍ أرجح.
قلت: ولو فرض وقفه، فله حكم الرَّفع؛ لأنَّ هذا مما لا مجال للرَّأي فيه.
قال ابن المديني والنسائي: هو حديث منكر، وقال البخاري: لا يصح، وقال الترمذي: لم يتابع ضمرة عليه، وهو خطأ، ولكن صحَّح الحديثَ: ابن القطان، وعبد الحق، وابن حزم، وقد رواه الخمسة مرفوعًا، وقال الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم.
وله شاهدٌ من حديث ابن عمر بإسنادٍ صحيح، رواه ابن ماجه (2525) وابن الجارود (972).
(1) أحمد (5/ 15)، أبو داود (3949)، الترمذي (1365)، النسائي في الكبرى (3/ 173)، ابن ماجة (2524).
* مفردات الحديث:
- ذا رَحِم: بفتح الرَّاء، وكسر الحاء، وأصله: موضع تكوين الولد، ثمَّ استعمل للقرابة؛ فالمراد بها هنا: كل من كان بينك وبينه نسب يوجب تحريم النكاح.
- مَحْرَم: بفتح الميم، وسكون الحاء، وفتح الرَّاء المخففة، ويُقال:"مُحَرَّم" بصيغة المفعول من التحريم، والمحرم: من لا يحل نكاحه من الأقارب.
- فهو حر: جواب الشرط، أي: فذو الرحم المحرم حر، والجملة اسمية، فهو تقتضي الدوام والثبوت.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الشَّارع الحكيم الرحيم جَعَلَ للعتق عدَّةَ أسباب، ومن تلك الأسباب:
أنَّ القريب إذا ملك قريبه، فإنَّه يعتق، عليه على تفصيل سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
2 -
قال ابن رشد: جمهور العلماء على أنَّه يعتق عليه بالقرابة؛ فقد أجمع الأئمة الأربعة على هذا الحكم، على اختلاف بينهم في تحديد ذلك، وتفصيله.
3 -
أبو حنيفة: جعل العتق بالآباء والأمهات وإنْ عَلَوْا، وبالأولاد وإنْ نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والأخوال دون أولادهم.
4 -
ومالك: قصره على الأصول، والفروع، والإخوة، والأخوات فقط.
5 -
والشَّافعي: قصره على الآباء؛ للنص في حديث أبي هريرة، وألحق الأبناء قياسًا عليهم؛ لأنَّه لم يثبت عنده حديث سمرة.
6 -
أمَّا أحمد: فمذهبه: أن من ملك ذا رحم محرم عليه، وهو الَّذي لو قدِّر أحدهما ذكرًا والآخر أنثى، حَرُمَ نكاحه للنسب -عَتَقَ عليه بالملك.
بخلاف ولد عمه، وولد خاله، ولو كان أخاه في الرضاع؛ فإنَّه لا يعتق عليه.
***
1238 -
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلاً أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمَالِيكَ لَهُ عِنْدَ مَوْتهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمْ، فَدَعَا بهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَزَّأَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً، وقَالَ لَهُ قَوْلاً شَدِيدًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مماليك: جمع مملوك، اسم مفعول، وهو العبد الرقيق، والأنثى مملوكة.
- جزَّأ: يُقال: جزَّأ المالَ يُجَزِّئُهُ تجزيئًا، وتجزئة: قسَّمه أجزاء، والجُزْءُ البعض.
- أَقْرَعَ: يُقال: أقرع بين القوم،: ضَرَبَ بينهم القرعة، والقرعة: طريق يبين بها السهم والنصيب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الَّذي دبَّر مماليكه الستَّة بأنْ يكونوا عتقاء بعد موته، حكمهم حكم الموصى بهم، الَّذين لا تنفذ الوصية بهم إلَاّ بعد موت الموصي.
لذا فإن النَّبي صلى الله عليه وسلم أجاز عتقه بقدر ما تجوز الوصية به وهي ثلث ماله، فأمضى منهم اثنين، ولم يُجزِ العتق في الأربعة الآخرين.
2 -
قال الفقهاء: ولا تجوز الوصية بأكثر من الثلث لأجنبي، إلَاّ بإجازة الورثة لها بعد الموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد:"الثلث والثلث كثير"[متَّفق عليه]، والأجنبي هنا من ليس بوارث.
(1) مسلم (1668).
3 -
قال الوزير: أجمعوا على أنَّه يستحب للموصي أنْ يوصي بدون الثلث، مع إجازتهم للثلث؛ عملًا بإطلاق النصوص.
4 -
ويدل الحديث على أنَّ التبرعات في مرض الموت حكمها حكم الوصية، فينفذ منها ما يجوز تنفيذه في الوصية، ويمنع منها ما يمنع فيها.
قال فقهاؤنا: وإنْ كان المرض الَّذي اتصل به الموت مَخُوفًا، فعطاياه كوصية، تنفذ في الثلث فما دونه لأجنبي؛ لما روى ابن ماجه (2709) والدَّارقطني (4/ 150) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ الله تصدَّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم، زيادةً لكم في أعمالكم" ضعَّفه الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 91).
5 -
قوله: "قولاً شديدًا" أي: تغليظًا عليه؛ كراهةً لفعله، والرواية الأخرى:"لقد هممت ألَاّ أُصلِّي عليه"؛ وهذا محمولٌ على أنَّه صلى الله عليه وسلم لا يصلي عليه وحده، دون الصحابة؛ تغليظًا له، وزجرًا لغيره.
***
1239 -
وَعَنْ سَفِينَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ مَمْلُوكًا لِأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: أَعْتِقُكَ، وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ تَخدُمَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا عِشْتَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وَالحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال الشوكاني: الحديث أخرجه أبو داود، والنسائي، وقال النسائي: لا بأس بإسناده، وأخرجه الحاكم، وفي إسناده سعيد بن جُمْهان الأسلمي، وثَّقه يحيى بن معين، وأبو داود السجستاني، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
وقال الألباني: إسناد الحديث حسن.
قلت: جُمْهَان، بضم الجيم، وسكون الميم، ثمَّ هاء، فألف، وآخره نون.
* مفردات الحديث:
- سفينة: بفتح السين، وكسر الفاء، من مولَّدي العرب، قيل: اسمه مهران، وكنيته أبو عبد الرحمن، كان مولى لأم سلمة، فأعتقته، واشترطت عليه خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمَّاه النَّبي صلى الله عليه وسلم سفينة؛ لقصَّة غريبة ذكرها ابن الأثير في أسد الغابة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على جواز تنجيز العتق مع اشتراط نفعه للمعتِق، أو اشتراط
(1) أحمد (5/ 221)، أبو داود (3932)، النسائي في الكبرى (3/ 190)، الحاكم (2/ 213).
نفعه لغير المعتِق.
2 -
قال في شرح الإقناع: لو قال: أعتقتك على أنْ تخدم زيدًا مدَّة حياتك، صحَّ؛ لحديث سفينة، وإنَّما اشترط تقدير زمن الاستثناء في البيع؛ لأَنَّه عقد معاوضة، فيشترط فيه علم الثنيا وزمنها؛ لأنَّ الثمن يختلف من حيث طولها وقصرها.
3 -
قال في الحاشية: واستثنى منافعه، فقد أخرج الرقبة، وبقيت المنفعة، ولخبر:"المؤمنون على شروطهم"، ولقصَّة سفينة.
4 -
وقصَّة سفينة ليست من باب تعليق العتق على الشرط، وإنَّما هي من باب استثناء منافع العتق.
5 -
وجه الاستدلال من الحديث: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم علم بما أجرته به أم سلمة رضي الله عنها فأقرها، فصار جواز هذا الشرط من السنَّة، والله أعلم.
***
1240 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي حديثٍ طوِيلٍ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث جملة من حديث بريرة المتقدِّم في كتاب البيع.
2 -
الحديث يدل على أنَّ الولاء لمن أعتق، وأنَّ بائعَ الرقيق لو اشترط على المشتري أنَّ الولاء له، فإن شرطه باطل.
3 -
قال صلى الله عليه وسلم في حقِّ البائع الَّذي اشترى الولاء على المشتري: "ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإنْ كان مائة شرط، فقضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنَّما الولاء لمن أعتق".
4 -
قال في الروض وحاشيته: وإنْ شرط البائع إنْ أعتق المشتري، فالولاء للبائع، بطل الشرط وحده، ولم يبطل العقد؛ لقصَّة بريرة؛ فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم أبطل الشرط، أمَّا العقد فقال:"اشتريها، وأعتقيها، واشترطي لهم الولاء، فإنَّما الولاء لمن أعتق".
5 -
قال ابن القيم: كل شرطٍ ليس في حكم الله، فهو مخالف له؛ فيكون باطلًا، واعتبار كل شرط لم يحرمه الله تعالى، ولم يمنع منه.
…
(1) البخاري (2168)، مسلم (1504).
1241 -
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ، لَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ" رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (1).
وأَصْلُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِغَيْرِ هَذَا الَّلفْظِ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه الشَّافعي، ومن طريق الشَّافعي أخرجه الحاكم، والبيهقي.
قال الألباني: قال النيسابوري: رواه الحسن مرسلًا، قلت: وإسناد هذا المرسل صحيح، وهو ممَّا يقوي الموصول؛ فإنَّ طريق الموصول غير طريق المرسل.
فالحديث إذًا صحيح من طريق الحسن البصري، والله أعلم.
* مفردات الحديث:
- الوَلاء: بالفتح: ولاء العتاقة، وهي عصوبة سببها نعمة المعتِق على رقيقه بالعتق.
- لُحمة كلُحمة النسب: اللحمة بالضم: علاقة وارتباط، كعلاقة وارتباط النسب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الرق هو عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان، سببه الكفر؛ فالرق معناه فَقْد الإنسان
(1) الشَّافعي (1232)، ابن حبان (4929)، الحاكم (4/ 231).
(2)
البخاري (6756)، مسلم (1506).
حريته الشخصية، وحريته المالية؛ فهو مملوك الذَّات والتصرفات لسيده.
فإذا أعتقه، فكأنَّه أخرجه من العدم إلى الوجود؛ لذا صارت منَّة السيد على رقيقه كبيرة، ونعمته عليه عظيمة.
2 -
العتق هو تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق، وخصَّت الرقبة -مع أنَّ وقوع الرق على جميع البدن- لأنَّ ملك السيد له كالغل في رقبته المانع له من التصرفات، فإذا عَتَقَ، فكأنَّ رقبته أطلقت من ذلك الغل.
3 -
ولاء العتاقة: هي عصوبة سببها نعمة المعتق على رقيقه من العتق؛ فالولاء لمن أعتق.
4 -
صار الولاء لُحمة كلحمة النسب، وصار عُلْقَةً وارتباطًا كعلقة وارتباط النسب؛ لما بينهما من التشابه من حيث الإيجاد، والصلة القوية.
5 -
وكما أنَّ القرابة لا تباع، ولا توهب؛ فكذلك الولاء المكتسب من نعمة الإعتاق لا يصح بيعه، ولا هبته، وإنَّما يورث به من جانب واحد، وهو جانب المنعم بالعتق، أو من جاء عن طريقه بالإرث.
6 -
الَّذي يرث بالولاء هو من باشر العتق، ثم عصبته المتعصِّبون بأنفسهم، لا بغيرهم، ولا مع غيرهم؛ لأنَّ الولاء يورث به، ولا يورث، وأمَّا العتيق: فلا يرث من معتقه على قول جمهور العلماء؛ لأنَّ النِّعمة عليه لا له.
***
1242 -
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه "أَنَّ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ أَعْتَقَ غُلَامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ، فَبلغَ ذلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنِّي؟ فاشْتَراهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: "فَاحْتَاجَ".
وَفي رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ: "وَكَان عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ، وَقَالَ: اقْضِ دَيْنكَ"(1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أنَّ رَجُلاً: جاء في مسلم: "أنَّ الرَّجل من الأنصار"، وجاء في روايةٍ أخرى فيه أيضًا:"أنَّه من بني عذرة"، واسمه "أبو مذكور"؛ وهكذا عند الذهبي.
- غلامًا له: اسمه يعقوب.
- عن دُبُر: بضم الدَّال المهملة، وضم الباء الموحدة، وهو نقيض القُبُل من كلِّ شيءٍ، والمراد هنا: علَّق عتقه بموته.
- نُعَيْم: بضم النون، تصغير نعم، ابن عبد الله النحام القرشي العدوي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
علَّق رجلٌ من الأنصار عتق غلامه بموته، ولم يكن له مالٌ غيره، فبلغ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فعدّ هذا العتق من التفريط، وتضييع النَّفس، فردَّه، وباع غلامه بثمانمائة درهم، وأرسل بها إليه؛ فإنَّ قيامه بنفسه وأهله أولى له، وأفضل
(1) البخاري (6716، 2141)، مسلم (997)، النسائي (8/ 246).
من العتق، ولئلا يكون عالة على النَّاس.
2 -
فيه دليلٌ على صحَّة التدبير؛ وهو متَّفق عليه بين العلماء.
3 -
أنَّ المدبَّر يعتق من ثلث اليال لا من رأس المال؛ لأنَّ حكمه حكم الوصية؛ لأنَّ كلًّا منهما لا ينفذ إلَاّ بعد الموت؛ وهذا مذهب جمهور العلماء.
4 -
جواز بيع المدبر مطلقًا، للحاجة؛ كالدين والنفقة، بل أجاز الشَّافعي وأحمد بيعه مطلقًا للحاجة وغيرها، واستدلا بهذا الحديث الَّذي أثبت بيعه في صورة من جزئيات البيع، فيكون عامًّا في كلِّ الأحوال، وقياسًا على الوصية التي يجوز الرجوع فيها.
5 -
أنَّ الأولى والأحسن لمن ليس عنده سعة في الرزق أنْ يجعل ذلك لنفسه، ولمن يَعُولُ؛ فهم أولى من غيرهم؛ ولذا يتفقَّه في نوافل هذه العبادات: من الصدقة، والعتق، ونحوها.
أمَّا الَّذي وسَّع الله عليه رزقه، فليحرص على اغتنام الفرص بالإنفاق في طرق الخير، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110].
***
1243 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رضي الله عنهم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "المُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبتَهِ دِرْهَمٌ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بإِسْنَادٍ حَسَنٍ (1)، وَأَصْلُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ، والثَّلاثَةِ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث إسناده حسن.
قال في التلخيص: رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم من طرق، ورواه النسائي، وابن حبان من وجهٍ آخر، من حديث عطاء، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ولفظه:"ومن كان مكاتبًا على مائة درهم، فقضاها إلَاّ أوقية، فهو عبد".
قال النسائي: هذا حديثٌ منكر، وهو عندي خطأ، وقال ابن حزم: عطاء هذا هو الخراساني، ولم يسمع من عبد الله بن عمرو، وقال الشَّافعي: في حديث عمرو بن شعيب: لا أعلم أحدًا روى هذا إلَاّ عمرو بن شعيب، ولم أرَ من رضيت من أهل العلم يثبته.
وحسَّن إسناده المصنِّف، وصحَّحه الحاكم، وقال ابن عبد الهادي: هو رواية إسماعيل بن عياش عن شيخ شامي ثقة، وابن عياش إذا روى عن الشَّاميين فهو ثقة.
(1) أبو داود (3926).
(2)
أحمد (2/ 178)، أبو داود (3927)، النسائي في الكبرى (3/ 197)، الترمذي (1260)، ابن ماجة (2519)، الحاكم (2/ 218).
* مفردات الحديث:
- المكاتب: يُقال: كاتب عبده مكاتبة، أي: باعه لنفسه بآجالٍ معلومةٍ، وأقساطٍ معلومة.
سميت مكاتبة؛ لأَنَّه يكتب -في الغالب- للعبد على مولاه كتابًا بالعتق عند أداء النجوم.
***
1244 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ لإحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ، وَكَانَ عِنْدَهُ مَا يُؤدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث مختلَفٌ فيه، منهم من صحَّحه، ومنهم من تكلَّم فيه.
أخرجه أحمد، والترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، من طريق الزهري، عن نبهان مولى أمِّ سلمة، عنها، به.
وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وذكره ابن حجر في "التلخيص" دون أنْ يتكلَّم عليه.
قال ابن عبد الهادي: تكلَّم في هذا الحديث غير واحدٍ من الأئمة.
قال الألباني: ونبهان هذا أورده الذهبي في "ذيل الضعفاء"، وقال ابن حزم: مجهول، قلت: وقد أشار البيهقي إلى جهالته، وقال الشَّافعي: لم أرَ من أهل العلم من يثبت هذا الحديث.
قلت: وممَّا يدل على ضعف الحديث عمل أمهات المؤمنين على خلافه.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الحديثان يدلان مع الآية الكريمة: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} على أصل
(1) أحمد (6/ 289)، أبو داود (3928)، الترمذي (1261)، النسائي في الكبرى (3/ 198)، ابن ماجة (2520).
الكتابة، ومشروعيتها.
2 -
يدل الحديث رقم (1243) على أنَّ المكاتب لا يعتق من رقه حتَّى يوفي جميع دين الكتابة، فتجري عليه أحكام الرقيق ما بقيَ عليه درهم؛ هذا هو منطوق الحديث، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة.
3 -
أمَّا مفهومه فهو يوافق منطوق الحديث رقم (1244) من أنَّ الرقيق إذا صار معه جميع دين كتابته، فإنَّه أصبح حرًّا، له أحكام الأحرار؛ حيث خلص من الرق، وصار حرًّا.
4 -
يدل الحديث رقم (1244) على أنَّ المرأة لا تحتجب من رقيقها، بل يجوز لها كشف وجهها عنده؛ لقوَّة العلاقة، ولأنَّ الرَّقيق لا ترتفع نفسه إلى سيدته، والسيدة لا تنزل نفسها إليه، وفي المسألة خلافٌ بين الفقهاء.
5 -
ويدل على أنَّه بعد أداء جميع دين الكتابة، أو وجودها عنده، أصبح حرًّا؛ فيجب عليها حينئذٍ أنْ تحتجب عنه؛ لانفصاله عنها، ولأَنَّه بعد الحريَّة أصبح كامل الإنسانية والحرية.
6 -
اسم مولى أم سلمة "نبهان" قالت له: ماذا بقيَ عليك من كتابتك؟ قال: ألفا درهم، قال: هما عندك؟ قال: نعم، قالت: ادفع ما عليك، وعليك السَّلام، ثم ألقت دونه الحجاب، فبكى، وقال: لا أعطيه أبدًا، قالت: إنَّك -والله- يا بني أبدًا لن تراني أبدًا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا، أنَّه إذا كان عبد لإحداكنَّ، ووفى بما بقي عليه من كتابته، فاضربي دونه الحجاب.
7 -
ويدل الحديث على أصل مشروعية الحجاب من الأجنبي، أي: غير المحرَم.
***
1245 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُودَى المُكَاتَبُ بِقَدْرِ مَا عَتَقَ مِنْهُ دِيَةَ الحُرِّ، وَبقَدْرِ مَا رَقَّ مِنْهُ دِيةَ العَبْدِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
وقد أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وحسَّنه، وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
قال الشوكاني: حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود، والترمذي، وهو عند النسائي مسند ومرسل، ورجال إسناده عند أبي داود ثقات.
قال ابن عبد الهادي: وقد أُعِلَّ الحديث. اهـ.
* مفردات الحديث:
- دية الحر: ودى القاتلُ القتيلَ، يَدِيهِ، دِيَةً -مخففة-: إذا أعطى وليه المال الَّذي هو بدل النَّفس، وفاؤها محذوفة، والهاء عوض، والأصل وَدِيَه مثل: وَعِيَه، فتقول في الأمر "دِ" القتيلَ بدالٍ مكسورة لا غير، فإنْ وقفت قلت:"دِهْ"، ثمَّ سمي المال تسمية بالمصدر، والجمع ديات، مثل هبة وهبات، وعدة وعدات.
والدية شرعًا: المال المؤدَّى إلى مجني عليه أو وليه، بسبب جناية، وهي مقدرة شرعًا ومحدَّدة، وقدرت في كتاب الجنايات.
- رَقَّ: الشخص يرق، فهو رقيق، ويطلق الرقيق على الذكر والأنثى، والجمع أرقاء.
والرِّقُّ شرعًا: عجزٌ حكمي يقوم بالإنسان، سببه الكفر؛ فالعجز يمنعه من
(1) أحمد (1/ 222)، أبو داود (4581)، النسائي (8/ 46).
التصرفات الشرعية، ويسلبه الأهلية.
دية العبد: أمَّا دية العبد، أو الأمة، فهي قيمتهما، ولو بلغت دية الحر أو زادت عليها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
إِذَا أدَّى المكاتب بعض أقساط دين الكتابة، صار مبعَّضًا، بعضه حر، وبعضه رقيق، وحريته بقدر ما أداه من دين الكتابة.
أمَّا حريته الكاملة: فمراعاة بإيفاء جميع دينه، أمَّا ما جاء في الحديث المتقدم:"المكاتب عبدٌ ما بقيَ عليه من مكاتبه درهم" فمعناه: إنْ لم يُوفِ جميع أقساط كتابته، عاد إلى كامل رقه.
2 -
إذا اعتُدِيَ على هذا المبعَّض، فإنَّ ديته تسلَّم على نوعين:
النوع الأوَّل: تسلم دية كاملة هي دية الأحرار؛ وذلك بقدر ما فيه من الحريَّة.
النوع الثاني: تسلم دية رقيق، وذلك بقدر ما بقيَ من رقه.
قال في شرح الإقناع: ومن نصفه حر، ونصفه رقيق، فعلى قاتله نصف دية حر، ونصف قيمته.
3 -
وقال: أمَّا المكاتَبُ والمدبَّر وأمُّ الولد، فقال في شرح الإقناع: والمدبر، والمكاتب، وأم الولد، والمعلق عتقه بصفة عند وجودها -فكالقن؛ لحديث:"المكاتب قِن ما بقيَ عليه درهم"، والباقي بالقياس عليه.
4 -
ما ذكره صاحب الإقناع مخالفٌ للحديث الَّذي جعل حكم ديته كدية المدبر، وأم الولد، وهو في الحقيقة مخالف لهما؛ لأَنَّه عتق منه بقدر ما سلَّم، والحكم يدور مع علَّته وجودًا وعدمًا؛ أمَّا المدبَّر، والمعلَّق عتقه بصفة لم توجد، وأم الولد: فهؤلاء لا زالوا أرقاء لم يأتِ الوقت الَّذي يعتبرون فيه أحرارًا بخلاف المكاتب.
ولذا فالرَّاجح: أنَّ المكاتب من حيث الدية حكمه حكم المبعَّض فيما نصَّ عليه الحديث.
1246 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الحَارِثِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رضي الله عنهما قَالَ: "مَا تَرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عنْدَ مَوْتهِ دِرْهَمًا، وَلَا دِينَارًا، وَلَا عَبْدًا، وَلَا أَمَةً، وَلَا شَيْئًا، إِلَاّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلَاحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا صَدَقَةً" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بَغْلَتَهُ البيضاء: البغل: حيوان، أمه فرس، وأبوه حمار، فهو متولِّد منهما، وهي البغلة التي أهداها المقوقس صاحب الإسكندرية للنَّبي صلى الله عليه وسلم.
- صَدَقة: هي أرضه صلى الله عليه وسلم في قرية فدك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الحديث من أدلَّة ما عليه النَّبي صلى الله عليه وسلم من إعراضه عن الدنيا الفانية إلى الدَّار الباقية، وتقلُّله منها، وشمائله في هذا الباب كثيرة، وأخباره مشهورة، صلوات الله وسلامه عليه، فإن مثل قوله تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء] نصب عينيه؛ فكان صلى الله عليه وسلم خُلُقه القرآن.
2 -
فالحديث يبين أنَّه صلى الله عليه وسلم توفيَ ولم يخلِّف عند موته درهمًا، ولا دينارًا، ولا عبدًا، ولا أمة، ولا شيئًا.
وإنَّما الَّذي ترك هو شيء من عدة سلاحه للجهاد في سبيله، وهو بغلتُهُ، وسلاحُهُ، وأرضٌ جعلها بعده صدقة؛ لأَنَّه صلى الله عليه وسلم قال:"لا نُوْرَثُ، ما تركناه فهو صدقة"[رواه البخاري (3092) ومسلم (1758)].
3 -
الشَّاهد من الحديث إثبات الرق في الإسلام، وإثبات العتق أيضًا؛ فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ملك رقيقًا؛ ولكنَّه أعتقه.
(1) البخاري (2739).