الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب القضاء
مقدمة
القضاء لغةً: مصدر قضى يقضي قضاءً، فهوِ قاضٍ، ويُطلق على عدَّة معانٍ هي: حَكَم، وفَصَل، وأحكم، وأمَضى، وفَرَغ من الشيء، وَخَلَق، والمعنى الظَّاهر في هذا الباب من هذه المعاني: هو حَكَمَ وفَصَلَ.
وجمع القضاء: أقضية، وجُمِعَ -مع أنَّه مصدر، والمصادر لا تُجمع- باعتبار أنواعه.
وشرعاً: إنشاء للحكم والفصل.
والقضاء فرض كفاية، فلابُدَّ للنَّاس من حاكمٍ؛ لئلا تذهب الحقوق.
وفيه فضلٌ عظيمٌ لمن قَوِيَ على القيام به، وأدَّى الحقَّ فيه، فهو من أفضل القربات، والأَعمالُ بالنِّيات، وفيه خطرٌ عظيمٌ، ووزرٌ كبيرٌ لمن لم يؤدِّ الحقَّ فيه.
ويجب على إمام المسلمين: أنْ يختار لهذا المنصب أفضل من يجد علماً وورعاً، فإنْ لم يجد، قَدَّمَ الأمثل، فالأمثل.
وللقاضي آدابٌ وأحوال، ذكرها العلماء في "كتاب القضاء" يحسن الرجوع إليها.
1202 -
عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "القُضَاةُ ثَلَاثةٌ: اثْنَانِ فِي النَّار، وَوَاحِدٌ في الجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ في الحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، ورَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ" رَوَاهُ الأربَعَةُ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
*درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في المحرر: إسناده جيد، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في التلخيص: له طرق جمعتها في جزء. ومن هذه الطرق:
الأولى: أخرجها أبو داود، وابن ماجة، والبيهقي، عن أبي هاشم، عن ابن بريدة، عن أبيه، قال أبو داود: وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة، قلت -الألباني-: وهذا إسناد رجاله ثقات، رجال مسلم، غير أنَّ فيه خلف بن خليفة، اختلط في الآخر، ولكن لم يتفرَّد به.
الثانية: أخرجها الحاكم عن حكيم بن جبير، عن ابن بريدة، عن أبيه، وقال: صحيح الإسناد، وردَّه الذهبي بقوله: قلت: ابن بكير الغنوي منكر الحديث، وهو من رجال السند.
الثالثة: أخرجها الحاكم، والبيهقي عن سهل بن عبيدة، عن ابن بريدة، عن أبيه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(1) أبو داود (3573)، الترمذي (1322)، النسائي في الكبرى (3/ 461)، ابن ماجة (2315)، الحاكم (4/ 90).
والحديث بمجموع هذه الطرق صحيح.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث قسَّم القضاة إلى ثلاثة أصناف:
أحدها: قاضٍ عرف الحقَّ، والحكم الشرعي، فقضى به؛ فهذا القوي الأمين على ما ولَاّه الله إيَّاه؛ فهذا من أهل الجنَّة، إنْ شاء الله.
الثاني: قاضٍ عرف الحقَّ، واستبان له الحكم الشرعي، ولكن هواه -والعياذ بالله- أغراه، فقضى بغير الحق؛ فهذا من أهل النَّار، والعياذ بالله.
الثالث: قاضٍ لم يعرف الحقَّ، ولم يفهم الحكم الشرعي؛ ولكنَّه تجرَّأَ فحكمَ بالجهل؛ فهذا من أهل النَّار، سواءٌ أصابَ في حكمه، أو لا.
قال شيخ الإسلام: القضاة ثلاثة: مَن يصلح، ومن لا يصلح، والمجهول، فلا يُرَدّ من أحكام الصَّالح إلَاّ ما علم أنَّه باطل، ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلَاّ ما علم أنَّه حقٌّ، واختاره الموفق، وغيره.
2 -
ففي الحديث التحذير الشديد من القضاء بالهوى، أو القضاء بالجهل؛ فحقوق الخلق أمرها عظيمٌ، وعذاب الله شديد.
3 -
قال شيخ الإسلام: الواجب اتخاذ ولاية القضاء ديناً وقربة؛ فإنَّها من أفضل القربات، وإنَّما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها.
وقال في شرح الإقناع: وفي القضاء خطرٌ عظيمٌ، ودورٌ كبيرٌ لمن يريد الحق فيه؛ ولهذا جاء الحديث:"من جُعِل قاضياً، فقد ذُبِحَ بغير سكين".
4 -
ويحرم الدخول في القضاء على من لا يحسنه؛ قال شيخ الإسلام: من باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية، وأصرَّ على ذلك، عاملاً بالجهل والظلم، فهو فاسق، ولا تنفذ أحكامه.
5 -
وقال الشيخ تقي الدِّين -أيضًا-: الفرق بين القاضي والمفتي: أنَّ القاضي يبين الحكم الشرعي، ويلزم به، والمفتي يبينه فقط.
فالمفتي أوسع دائرةً من القاضي؛ لأَنَّه يُفتي في الأمور المتنازع عليها وغيرها، والقاضي لا يتعلَّق قضاؤه إلَاّ بالمسائل المتنازع فيها بين النَّاس.
6 -
قال الشيخ محمد بن إبراهيم: لا يجوز الترويج في الفتيا، وتخيير المسائل، وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أنْ يبين بياناً مزيلاً للإشكال.
* فوائد:
الأولى: القضاء إلزامٌ بالحكم الشرعي، وفصل للخصومات، فالحاكم له ثلاث صفات: فهو من جهة الإثبات شاهد، وهو من جهة تبيين الحكم مفتٍ، وهو من جهة الإلزام بذلك ذو سلطان.
الثانية: الأصل في القضاء قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإنْ أخطأ فله أجر"[رواه البخاري (6919) ومسلم (1716)].
قال شيخ الإسلام: الشَّارع نصوصه كلمات جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامَّة، يمتنع أنْ ينص على كل فردٍ من جزئيات العالم إلى يوم القيامة، فلابد من الاجتهاد في جزئيات، هل تدخل في كلماته الجامعة أو لا؟
الثالثة: القضاء فرض كفاية؛ كالإمامة العظمى، قال الإمام أحمد: لابُدَّ للنَّاس من حاكمٍ؛ لئلا تذهب حقوق النَّاس.
وقال شيخ الإسلام: قد أوجب النَّبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، وهو تنبيهٌ على أنواع الاجتماع.
الرَّابعة: نصبُ الإمام للقاضي واجبٌ؛ لفصل خصومات النَّاس، ولأنَّ القضاء من مستلزمات الإمام الأعظم، فهو القائم بأمر الرعية، فينصب القضاة بقدر الحاجة، نواباً عنه في الأمصار والأقاليم.
الخامسة: قال مجلس المجمَّع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة في أحد قراراته: على قادة المسلمين أنْ يبادروا إلى تطبيق شريعة الله، لينعموا، وتنعم
رعيتهم بالأمن والطمأنينة في ظلِّ الشريعة الإسلامية، كما حصل ذلك لسلف هذه الأُمَّة، الَّذين وفَّقهم الله لتطبيق شرعه، فجمع لهم بين النَّصر على الأَعداء، والذكر الحسن في هذه الحياة الدنيا.
ولا شكَّ أنَّ الحالة التي وصل إليها العرب والمسلمون من ذلك أمام الأعداء: نتيجة حتمية لعدم تطبيق الشريعة الإسلامية.
والله المسؤول أنْ يوفق المسلمين جميعاً إلى ما فيه عزهم وفلاحهم على أعدائهم؛ إنَّه سميعٌ مجيب.
السَّادسة: قال الشيخ محمد بن إبراهيم: بلغنا أنَّ بعض القضاة يرد بعض القضايا إلى مكتب العمل، أو إلى غيره من الدوائر؛ بحجة أنَّ ذلك من اختصاص جهة معينة، وغير خافٍ على أنَّ الشريعة الإسلامية كفيلةٌ بإصلاح الأحوال البشرية في كلِّ المجالات، وفيها كفاية لحلِّ النزاع، وفصل الخصومات، وإيضاح كل مشكل، وفي الإحالة إلى تلك الجهات إقرار للقوانين الوضعية، وإظهار للمحاكم بمظهر العجز؛ فاعتمدوا النظر في كلِّ ما يرد إليكم، والحكم فيه بما يقتضيه الشرع الشريف.
السَّابعة: قال الشيخ تقي الدِّين: ولا تثبت ولاية القضاء إلَاّ بتولية الإمام، أو نائبه؛ لأَنَّ ولاية القضاء من المصالح العامة؛ فلم تجز إلَاّ من جهة الإمام.
والولاية لها كفاية القوَّة والأمانة، فالقوَّة في الحكم ترجع إلى العلم والعدل في تنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى.
الثَّامنة: قال الشيخ تقي الدِّين -أيضاً-: شروط القضاء تعتبر حسب الإمكان، ويجب تولية الأمثل، فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولَّى لعدم التقي أنفع الفاسقين، وأقفُهم شرًّا، وأعدل المقلِّدين، وأعرفهم با لتقليد.
التاسعة: قال ابن القيم: معرفة النَّاس وأحوالهم أصلٌ عظيمٌ، يحتاج إليه الحاكم، فإنْ لم يكن فقيهاً فيه، وفقيهاً في الأمر والنَّهي، ثم يطبِّق أحدهما على
الآخر، كان إفساده أكثر من إصلاحه.
وإذا لم يكن فقيه النَّفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي قرائن الحال، والمقال، كفقيه في كليات الأحكام، أضاع حقوقاً كثيرةً على أصحابها، وحَكَمَ بما يعلم النَّاس بطلانه، اعتماداً منه على نوع ظاهرٍ لم يلتفت إلى باطنه، وقرائن أحواله؛ فالرجوع إلى القرائن في الأحكام متَّفَقٌ عليه بين الفقهاء.
العاشرة: قال في التنوير: ينبغي أنْ يكون القاضي موثوقاً به في عفافه، وعقله، وصلاحه، وفهمه، وعلمه بالسنَّة والآثار، ووجوه الفقه والاجتهاد، وألَاّ يكون فظًّا غليظاً.
وقال في ردِّ المحتار للحنيفة، وشرح الإقناع للحنابلة: ينبغي أنْ يكون القاضي شديدًا في غير عنفٍ، ليناً في غير ضعف، فكل من هو أعرف، وأقدر، وأوجه، وأهيب، وأصبر على ما يصيبه من النَّاس، كان أولى.
الحادية عشرة: نختم هذه الفوائد بختام مسك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لأَبي ذَرٍّ رضي الله عنه:"أوصيك بتقوى الله في سرِّكَ وعلانيتك، وإذا سألت فأحسن، ولا تسألنَّ أحداً شيئاً، وإنْ سقط سوطك، ولا تقبض أمانة، ولا تقض بين اثنين"[رواه أحمد (21063)].
***
1203 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ، فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
رواه أصحاب السنن، وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه الدَّارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، ورواه الحاكم، والبيهقي، من حديث أبي هريرة، وله عدَّة طرق، وذكر الدَّارقطني الخلاف فيه على سعيد المقبري قال: والمحفوظ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأعلَّه ابن الجوزي فقال: هذا حديث لا يصح؛ ولكن النسائي قوَّاه بتخريجه، كما قال ابن حجر.
قال العراقي: إسناده صحيح. وصحَّحه السيوطي في الجامع الصغير.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث بيان عِظَم خطر القضاء؛ لأَنَّ موضوعه الحكم بين النَّاس في دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم، وسائر حقوقهم، فخطره عظيم جدًّا؛ لأَنَّه يخشى أن يكون هناك ميول من القاضي من خصم لآخر؛ لكون أحدهما ذا قرابة، أو صداقة له، أو أنَّه صاحب جاه ومنصب، يراعي جاهه، أو يخاف سلطته، أو يقدم له خدمة، أو منفعة، والمعصوم من عصمه الله، وتغلَّب على أهوائه الشخصية، فالخطر عظيم، نسأل الله السَّلامة.
(1) أحمد (2/ 230)، أبو داود (3571)، الترمذي (1325)، النسائي في الكبرى (3/ 462)، ابن ماجة (2308).
2 -
الذبح بغير سكِّينٍ المترتب على تولي القضاء يشمل أمرين:
الأول: عذاب الآخرة لمن لم يقم بحق القضاء من التحري، والاجتهاد في إصابة الحق، ومعرفة الحكم الشرعي حسب الطاقة والقدرة.
الثاني: أنَّ معاناة القضاء من البحث، وطلب تصور القضية، ومعرفة حكمها، وطلب الدليل عليه، وإجهاد النَّفس بالاستقصاء بالوصول إلى الصواب أمر ينهك البدن ويضعفه، وربما أدَّى بالحياة إلى الفناء، وهذا ذبحٌ بغير سكِّين، وإنَّما بالمشكلات، والمتاعب البدنية والنفسية.
ولعلَّ في هذا إعجازاً علميًّا لم يكشفه إلَاّ الطب الحديث.
3 -
وفيه دليل على أنَّ في الذبح بالسكين والآلة الحادة راحةً للمذبوح، وكذلك وصَّت الشريعة بالحيوان المذبوح؛ فقال صلى الله عليه وسلم:"وليُحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته"[رواه مسلم (1955)].
وأمَّا الإماتة البطيئة فهي عذابٌ وعناءٌ، ومنه ما يعانيه القاضي من أعماله المرهقة، ونفسه المؤنبة حتَّى يقضي به الأمر إلى الموت، ثمَّ ما يعقبه من الحسرة والنَّدامة يوم القيامة؛ فقد جاء في مسند الإمام أحمد (23943) من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليأتينَّ على القاضي العدلِ يوم القيامة يتمنَّى أنَّه لم يقض بين اثنين في عمره"، -وأخرجه البيهقي (10/ 96) بلفظ:"في تمرة".
***
1204 -
وَعَنْ أِبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ القِيَامَةِ، فَنِعْمَتِ المُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- ستحرصون: حرص: بفتح العين وكسرها، من باب ضرب وعلم، حِرْصاً، بمعنى: جشع واشتدت رغبته في الشيء.
- الإمارة: بكسر الهمزة، هي منصب الأمير.
- ندامة: ندم على ما فعل يندم ندماً وندامة: أسف وحزن على ما فعل.
قال الجرجاني: النَّدم غمٌّ يصيب الإنسان يتمنَّى أنَّ ما وقع منه لم يقع.
- فنعمت - بئست: نعم وبئس فعلان ماضيان، بدليل دخول تاء التأنيث السَّاكنة عليهما، وهما جامدان لا يتصرفان، جاءا لإفادة المدح، أو الذم.
- المرضعة: الرضاع بفتح الرَّاء وكسرها، هو مصدر رضع الثدي: إذا مصَّه، بكسر الصَّاد وفتحها، والكسر أفصح، ويُقال: امرأةٌ مرضع، إذا كان لها ولدٌ ترضعه، فلا تلحقها التَّاء لتأنيثها.
والمراد هنا تشبيه منافع الإمارة العاجلة الزَّائلة بالرضاع في مدته القصيرة.
- الفاطمة: مؤنث فاطم، جمعها فواطم، يُقال: فطمت الرضيع تفطمه فطماً، من باب ضرب، أي: فصلت المرضعة الرضيع عن الرضاع، شبَّه انقطاع منافع الإمارة بالفطام.
(1) البخاري (7148).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
طالب ولاية القضاء أو غيرها من الولايات له إحدى حالتين: إحداهما: أنْ يقصد من الحصول عليها الجاه، والرئاسة، والمال، فهذا هو المذموم، وهو الَّذي وردت الأحاديث الصحيحة بذمِّه ومنعه، ومنع طالب الولاية فيها، ومن تلك الأحاديث:
- ما أخرجه مسلم (1825) عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: "قلت: يارسول الله! ألا تستعملني؟ قال: إنَّك ضعيف، وإنَّها أمانة، وإنَّها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلَاّ من أخذها بحقِّها، وأدَّى الَّذي عليه فيها".
- وما أخرجه الطبراني (18/ 71) والبزَّار (7/ 188) بسندٍ صحيح من حديث عوف بن مالك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلَاّ من عدل".
قال النووي عن حديث الباب: هذا أصلٌ عظيم في اجتناب الولاية، لاسيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية، ولم يعدل؛ فإنَّه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالجزاء يوم القيامة.
الثانية: أنْ يطلب القضاء أو الولاية؛ لأنَّها متعينة عليه؛ لأَنَّه لا يوجد من هو أهل لها وللقيام بها، وإذا تركها، تولَاّها من لا يقوم بها، ولا يحسنها، فيطلبها بهذه النية، وهو القصد الحسن؛ فهذا مثاب مأجور معان عليها.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أجلس قاضياً بين اثنين، أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة.
قال في المغني: وفي القضاء فضل عظيم. لمن قوي على القيام به، وأداء الحق فيه؛ ولذلك جعل الله فيه أجراً على الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأنَّ فيه أمراً بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء للحق إلى مستحقه، وردًّا للظَّالم عن ظلمه، وإصلاحاً بين النَّاس، وتخليصاً لبعضهم من بعض.
2 -
المتوسط لغيره في أمرٍ من الأمور، إنْ كان المتوسَّط له مستحقًّا لتلك الوظيفة، فالمتوسِّط محمود، وإنْ كان المتوسَّط له لا يستحق الولاية، وغيره أولى منه وأنفع، كان التوسُّط مذموماً، غشًّا لله ولرسوله، وغشًّا للمتوسط عنده، وغشًّا لمن توسَّط له؛ لكونه أعانه على ما هو منهيٌّ عنه.
3 -
"نعمت المرضعة" بما تدر من منافع المال، والجاه، ونفاذ الحكم، و"بئست الفاطمة" بتبعاتها يوم القيامة، وحسراتها.
4 -
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: المتوسِّط لغيره في أمرٍ من الأمور إنْ كان المتوسَّط له كفؤًا، فهي وساطة محمودة، وإلَاّ فهو غاشٌّ له، وللعمل، وللمسلمين.
فهذا هو الَّذي يحرص عليها للمطامع الدنيوية، "فنعمت المرضعة"؛ لما فيها من حصول الجاه في الدنيا، و"بئست الفاطمة"؛ لما يترتب عليها من التبعات في الآخرة.
5 -
قوله: "ستحرصون" هذا فيه دلالة على اغترار النَّفس لمحبتها في الإمارة، لما تنال فيها من نيل لحظوظ الدنيا ولذَّاتها، ونفوذ الكلمة، ولذا ورد النَّهي عن طلبها؛ فقد أخرج البخاري (6622) ومسلم (1652) من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنَّك إنْ أُعطيتها من غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها، وإنْ أُعْطِيتَهَا عن مسألةٍ وُكِلْتَ إليها".
6 -
وجاء في سنن الترمذي (1324) من حديث أنس أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتغى القضاء وسأله وُكِل إلى نفسه، ومن أُكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدِّده".
وإنَّما جمع بين الرغبة فيه وبين طلبه إظهار الحرص عليه؛ فإنَّ النَّفس مائلةٌ إلى جب الرئاسة، وطلب الترفع على النَّاس، فمن منعها، سلم من هذه الآفة، ومن أتبع نفسه هواها، وسأل القضاء، هلك؛ فلا سبيل إلى المشروع فيه إلَاّ بالإكراه، وحينئذٍ يسدّد ويوفّق.
1205 -
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ، فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
حَكَم: الحُكْمُ لُغَةً: المنع، يُقال: حكمت عليه بكذا: إذا منعته من خلافه.
واصطلاحاً: تبيينُ الحكم الشرعي، والإلزامُ به.
- فاجتهد: الاجتهاد لغةً: مأخوذٌ من الجهد، وهو المشقَّة والطَّاقة.
واصطلاحاً: هو بذل الفقيه وسعه في نيل حكمٍ شرعيٍّ عملي بطريق الاستنباط.
- أخطأ: الخطأ مهموز وهو لغةً: نقيض الصواب، ويقصر ويمد، واسم من أخطأ يخطىء، فهو مخطىء.
واصطلاحاً: هو أنْ يقصد بفعله شيئاً، فيصادف فعله غير ما قصد.
- فاجتهد: معطوف على الشرط، على تأويل: وأراد أنْ يحكم فاجتهد.
- ثم أصاب: معطوف على "فاجتهد".
- فله أجران: جزاء الشرط.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الاجتهاد في الاصطلاح: هو بذل الوسع في نيل الحكم الشرعي بطريق الاستنباط.
2 -
قال في شرح الإقناع: المجتهد المطلق: من يعرف من كتاب الله تعالى،
(1) البخاري (7352)، مسلم (1716).
وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم: الحقيقةَ والمجاز، والأمْرَ والنَّهي، والمجمَلَ والمبيَّن، والمحكَمَ والمتشابه، والخاصَّ والعامَّ، والمطلَقَ والمقيَّدَ، والنَّاسخَ والمنسوخ، ويعرف صحيحَ السنَّة من سقيمها، ومتواترها من آحادها، ممَّا له تعلقٌ بالأحكام خاصَّة، ويعرف القياس وشروطه، ويعرفُ اللغة العربية، وكلُّ ذلك مذكورٌ في أصول الفقه وفروعه.
3 -
أمَّا المجتهد المقيد: فهو الَّذي يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها، ويقلِّد كبار أئمة مذهبه في ذلك.
4 -
قال الشيخ تقي الدِّين: وهذه الشروط في القاضي تعتبر حسب الإمكان.
قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدَّة طويلة، وإلَاّ لتعطَّلت أحكام النَّاس.
5 -
وقال الشيخ: الواجب أنْ يكون مجتهداً في الأدلَّة الشرعية من الكتاب والسنَّة، وأنْ تكون هي إمامَهُ؛ فهي أقرب إلى الأفهام، وأدنى إلى إصابة المراد.
وقال: من كان متبعاً إماماً، ومخالفاً له في بعض المسائل؛ لقوَّة الدليل؛ فقد أحسن.
6 -
قال الشيخ: الشَّارعُ نصوصُهُ كلماتٌ جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامَّة، يمتنع أنْ ينص على كلِّ فردٍ من حدثان العالم إلى يوم القيامة، فلابُدَّ من الاجتهاد في جزئيات: هل تدخل في كلماته الجامعة، أو لا تدخل؟
وتقدَّم هذا، ولكنْ ذِكْرُهُ في الموضعَيْن مناسب.
7 -
قال في شرح الإقناع: ويجب على الإمام أنْ يختار للقضاء أفضل من يجد علماً وورعاً؛ لأَنَّ القضاء بالشرع فرْعٌ من العلم به، والأفضل أثبت وأمكن، وكذا من ورعه أكثر الكون النَّفس إلى ما يحكم به أعظم.
ويأمره بتقوى الله، وإيثار طاعته في سرِّه وعلانيته، ويأمره بتحري
العدل، والاجتهاد في إقامة الحقِّ؛ لأنَّ ذلك تذكرة له بما يجب عليه فعله.
8 -
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في نصيحة قاضٍ: أوصيك بتقوى الله تعالى ومراقبته، والأناة في قضائك، والتثبت والسؤال عن المشكِل، والصلح مهما وجدت إليه سبيلاً، ما لم يتضح الحكم الشرعي، كما نذكِّر فضيلتكم أنَّ البقاء في عملكم من التعاون، وأداء الواجب، وهو من الجهاد في سبيل الله، والَّذي نؤمله فيكم الصبر والاحتساب، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
9 -
قال ابن القيم: لا يشترط في المجتهد علمه بجميع ما قاله النَّبي صلى الله عليه وسلم وفعله، فيما يتعلَّق بالأحكام، ولكن أنْ يعلم جمهور ذلك ومعظمه.
10 -
الحاكم إذا بذل جهده في القضية، واجتهد فيها حتَّى وصل باجتهاده إلى ما يعتقد أنَّه الحق في القضية، ثم حكم، فإنْ كان حكمه صواباً موافقاً للحقِّ، وهو مراد الله تعالى في أحكامه، فله أجران: أجر الاجتهاد، وأجر إصابة الحق.
وإنْ اجتهد؛ ولكنَّه لم يصل إلى الصواب، فله أجرٌ واحد، هو أجر الاجتهاد؛ لأنَّ اجتهاده في طلب الحقِّ عبادة، وفاته أجر الإصابة.
ولكنَّه لا يأثم بعدم إصابة الحق بعد بذله جهده واجتهاده، فقد سقط عنه إثم الخطأ، ولكن بشرط أنْ يكون عالماً مؤهَّلاً للاجتهاد.
11 -
مفهوم الحديث: أنَّ القاضي إذا لم يجتهد، بل حكم بدون إمعان، ولا تحرٍّ للصواب: أنَّه آثمٌ؛ لأَنَّه حكم بين النَّاس وهو لا يعرف الحق؛ فهذا في النَّار.
12 -
قال ابن القيم: الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له حكمٌ إلَاّ بها:
- معرفة الأدلة.
- معرفة الأسباب.
- معرفة البينات.
فالأدلَّة: معرفة الحكم الشرعي، لا الكلي.
والأسباب: معرفة ثبوته في هذا المحل المعتبر، وانتفائِهِ عنه.
البينات: معرفة طريق الحكم عند التنازع.
فمن أخطأ واحداً من هذه الثلاثة أخطأ، في الحكم.
وجميع خطأ الحُكَّام مداره على هذه الثلاثة، أو بعضها.
* خلاف العلماء:
واختلف العلماء: هل كل مجتهدٍ مصيبٌ، أم أنَّ المصيب واحد، وهو من وافق الحق الَّذي عند الله، وأنَّ الآخر مخطىء؟:
فذهب بعضهم: إلى أنَّ كلاًّ منهما مصيب؛ لأنَّ الله تعالى جعل للمخطىء أجراً، فلولا إصابته الحق، لم يجعل له أجراً.
وذهب جمهور العلماء: إلى أنَّ المصيب واحد فقط، وهو من وافق الحق الَّذي هو مراد الله تعالى، وأمَّا الأجر الَّذي للمخطىء فهو لحرصه على الحق، واجتهاده فيه.
والرَّاجح: أنَّ المصيب واحد، والله أعلم.
***
1206 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَا يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَهُوَ غَضْبَانُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- وهو غضبان: بلا تنوين، لأَنَّه ممنوعٌ من الصرف؛ للوصفية والألف والنون الزائدتين.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الغضب: هو استجابةٌ لانفعالٍ يغلي منه دم القلب؛ لطلب الانتقام.
وإذا وصلت الحال الغضبية بالقاضي إلى هذا الحد من الثورة، فإنَّه معرَّضٌ لأَن يميل في حكمه في حقِّ المغضوب عليه، ولا يتزن في الحكم على غيره، فمتى قويت نار الغضب، أعمته عن الحقِّ.
2 -
الحديث فيه النَّهي عن القضاء وهو غاضب؛ لأنَّ الغضب يخرجه عن دائرة العدل، وإصابة الحقِّ.
قال في الروض المربع وحاشيته: ويحرم القضاء وهو غضان كثيراً، لا يسيراً؛ فإنَّه لا يمنع فهم الحكم، لأنَّ الغضب يشوِّش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد؛ فهو نوعٌ من الإغلاق.
3 -
فإنْ خالف وحكم فأصاب الحقَّ، نفذ حكمه؛ لموافقته الصواب.
قلت: أمَّا صحَّة الحكم مع الغضب، فمذهب جمهور العلماء، فإنَّه لا مناسبة بين الغضب، ومنع الحكم، وإنَّما ذلك مظنَّة لحصوله، وهو تشويشٌ
(1) البخاري (7158)، مسلم (1717).
للفكر، ومشغلةٌ للقلب عن استيفاء ما يجب من النظر، وحصول هذا قد يفضي إلى الخطأ دون الصواب، ولكنَّه غير مطَّرِد مع كلِّ غضبٍ، ومع كلِّ إنْسَان.
فإذا أفضى الغضب إلى عدم تمييز الحق من الباطل، فلا كلام في تحريمه.
4 -
قال في الحاشية: ولا يستريب عاقلٌ أنْ من قصَر النَّهيَ على الغضب وحده، دون الهم المزعج، والخوف المقلق، والجوع، والظمأ الشديد، وشغل القلب المانع من الفهم -فقد قلَّ فقهه وفهمه.
***
1207 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَقَاضَى إِلَيْكَ رَجُلَانِ فَلَا تَقْضِ لِلأوَّلِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الآخَرِ، فَسَوْفَ تَدْرِي كَيْفَ تَقْضِي"؛ قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِياً بَعْدُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَقَوَّاهُ ابْنُ المَدِيِنيِّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ولَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الحَاكِمِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال المؤلِّف: رَوَاه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسَّنه، وقوَّاه ابن المديني بقوله: حديثٌ كوفي، وإسناده صالح، وصحَّحه ابن حبان، فقد أخرجوا هذا الحديث من طرق؛ أحسنها رواية البزَّار عن عمرو بن مرَّة، عن عبد الله ابن سلمة، عن علي رضي الله عنه وفي إسناده عمر بن أبي المقدام، واختلف فيه على عمرو بن مرَّة، فرواه شعبة عنه، عن أبي البحتري، قال: حدَّثني من سمع عليًّا، رضي الله عنه.
وأخرجه أبو يعلى، وإسناده صحيح لولا هذا المتهم.
وله طرق أُخر تشهد له، ويشهد له ما رواه الحاكم من حديث علي، قال: بعثني النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: "إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقضِ
(1) أحمد (1/ 90)، أبو داود (3582)، الترمذي (1331).
(2)
الحاكم (4/ 98).
لأحدهما حتَّى تسمع من الآخر، كما سمعت من الأوَّل"، قال علي: فما زلت قاضياً بعدها.
قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح الإسناد، ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
العدل بين الخصوم هو أساس الحكم؛ فيجب على القاضي أنْ يعدل بين الخصمين إذا ترافعا إليه في كلِّ شيءٍ، حتَّى الَّلفظ واللحظ.
قال ابن رشد: أجمعوا على أنَّه يجب عليه أنْ يسويَ بين الخصمين في المجلس.
وقال ابن القيم: نهي عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، وعن مشاورته، والقيام له دون خصمه؛ لئلا يكون ذريعةً إلى انكسار قلب الآخر، وضعفه عن القيام بحجته، وثقل لسانه.
2 -
وحديث الباب فيه النَّهْيُ عن القضاء للمدَّعِي حتَّى يسمع الحاكم كلام الآخر، والنَّهْيُ يقتضي الفساد، فإنْ حكم قبل سماع الإجابة، بطل قضاؤه، فإنْ سكت المدَّعَى عليه، وأصرَّ على عدم الجواب، اعتبر ناكلاً، وقُضِيَ عليه بالنكول.
هذا إذا كان المدَّعَى عليه حاضراً في مجلس الحكم، وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد.
3 -
أمَّا إذا كان المدَّعَى عليه متغيباً عن المجلس، أو مستتراً في البلد، أو كانت الدَّعوى على ميت، أو صغير، أو مجنون، فإنَّها تسمع الدَّعوى إذا كان لدى المدَّعِي بينةً على دعواه، ويُحْكَمُ بموجب البينة، ثمَّ إذا قدم الغائب، وبلغ الصغير، وعقل المجنون، وظهر المستتر، فهم على حججهم؛ لأنَّ المانع إذا زال صاروا كالحاضرين المكلفين، وهذا مذهب الجمهور، ومنهم الأئمة
الثلاثة، فإنْ لم يكن لدى المدَّعِي بينةٌ، فإنَّ الدَّعوى لا تصح ضدهم.
4 -
قال فقهاؤنا: ولا تصح الدعوى إلَاّ محرَّرةً؛ لأنَّ الحكم مرتَّبٌ عليها؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّما أقضي على نحو ما أسمع"[رواه البخاري (6967) ومسلم (1713)].
وأنْ يكون المُدَّعَى به معلوماً؛ ليتأتَّى الإلزامُ به إذا ثبت.
ولابُدَّ أنْ تَنْفَكَّ عمَّا يكذِّبها عرفاً؛ فلا تصح على إنسان أنَّه قتل، أو سرق منذ عشرين سنة، وسنُّهُ دونها، ولا يعتبر فيها ذكر سبب الاستحقاق لعينٍ، أو دينٍ؛ لكثرة سببه، وقد يخفى على المدَّعي.
5 -
قال في الروض وغيره: وإنْ كان عقَدَ نكاح، أو عقد بيع، أو غيرهما كإجارةٍ، فلابُدَّ من ذكر شروطه؛ لأَنَّ النَّاس مختلفون في الشروط؛ فقد لا يكون العقد صحيحاً عند القاضي، فلا يتأتَّى الحكم بصحته مع جهله بها.
***
1208 -
وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نحْوِ مَا أسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَطَعْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئاً، فَإنَّمَا اقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- تختصمون: يُقال: خَصَمَهُ يَخْصُمُهُ خَصْماً: غلبه في الخصومة، وخاصمه فَخَصَمَهُ: إذا غلبه في الخصومة، فالخصم يقع على المفرد والمثنَّى والجمع، وعلى المذكر والمؤنَّث بلفظٍ واحد، واختصم القوم خاصم بعضهم بعضاً، وتجادبوا وتنازعوا.
- لعلَّ: حرف مشبه بالفعل، لفتح آخره كالماضي، ووجود معنى الفعل فيه، وهو من أخوات إنَّ، وله معانٍ، منها التوقُّعِ للمكروه، ولعلَّه المراد هنا.
- ألحن بحجته: لَحَنَ الرَّجلُ يَلْحَنُ لحناً: فَطِنَ لحجته وانتبه.
قال أهل اللغة: أصل هذه المادَّة: الميل عن جهة القصد.
قال في المصباح: اللَّحن: سرعة الفهم، وهو ألحن من زيد، أي: أسبق فهماً منه.
- القطعة: قطع يقطع قطعاً، والقطعة: الطَّائفة من الشيء.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ الحاكم يحكم على نحو ما يسمع من الخصمين من قوَّة الحجَّة، وبيان البرهان، فإذا اجتهد فأخطأ، فلا إثم عليه، وإنَّما يؤجر على
(1) البخاري (7169)، مسلم (1713).
اجتهاده؛ كما جاء في الحديث الصحيح: "وإنْ اجتهدَ فَأخطأ، فله أجر".
2 -
وفيه أنَّ الَّذي يلحقه التبعة والإثم هو الَّذي كسب القضية بباطله؛ فإنَّ المعصوم صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّما أقطع له قطعة من نار".
3 -
قال الحافظ: وفيه أنَّ من ادعى مالاً ولم يكن له بينة، فحلف المدعى عليه، وحُكِمَ ببراءة الحالف: أنَّه لا يبرأ في الباطن، ولا يرتفع عنه الإثم بالحكم؛ وهذا مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة.
وخالف أبو حنيفة فقال: إنَّه ينفذ حكمه ظاهراً وباطناً، وأنَّه لو حكم بصحة الزواج بشهادة الزور، حلَّت للمدَّعِي، واستدل بآثار لا يقوم بها دليل، وبقياس لا يَقْوَى على مقاومة النَّصِّ.
4 -
وفي الحديث دليلٌ على عظم إثم من خاصم في باطل، حتَّى لو استحقه في الظاهر، فهو في الباطن حرامٌ عليه، وإنِ احتال حتَّى صار في الظاهر حقًّا، فلا يحل له تناوله في الباطن.
5 -
وفي الحديث ردٌّ على المخرِّفين الضَّالين الغالين، الَّذين يرفعون مقام النَّبي صلى الله عليه وسلم فوق المقام الرفيع الَّذي جعله الله له، ويعطونه من صفات الربوبية والألوهية، ومن الاطلاع على المغيبات: ما يبرأ منه دين الإسلام.
وقد أمره الله تعالى أنْ يُبَلِّغَ النَاسَ قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188].
قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره: هذه الآية من أعظم أصول الدِّين، وقواعد عقائده ببيانها لحقيقة الرِّسالة، والفصل بينها وبين الربوبية والألوهية، وهدمها لقواعد الشرك، ومباني الوثنية من أساسها، فقد أمره أنْ يُبيِّنَ للنَّاس أنَّ كلَّ الأمور بيد الله تعالى وحده، وأنَّ علم الغيب كله عنده، وأنْ ينفي كلاًّ منهما عن نفسه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ الَّذين كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن
السَّاعة من المسلمين كانوا يظنون أنَّ منصب الرِّسالة قد يقتضي علم السَّاعة، وغيرها من علم الغيب، وربما كان يظن بعض حديثي العهد بالإسلام أنَّ الرَّسول قد يَقْدِرُ على ما لا يصل إليه كسب البشر، من جلب النَّفع، ومنع الضر عن نفسه، وعمَّن يحب، أو يشاء؛ أو منع النفع، وإحداث الضر بمن يكره، أو بمن يشاء، فأمره الله تعالى أنْ يبيِّن أنَّ منصب الرسالة لا يقتضي ذلك، وإنَّما وظيفة الرسول التعليم والإرشاد والتزكية، وأنَّه فيما عدا تبليغ الوحي عن الله تعالى: بشر كسائر البشر؛ {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 115].
والنَّبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرًّا مستقلًّا بقدرته، وإنَّما يملك ما يملكه من ذلك بتمليك الرب الخالق جلَّت قدرته، وهو المراد بالاستثناء أي: لا أملك منهما "إلَاّ ما شاء الله" من نَفْعٍ أقدرني على جلبه، وضرٌّ أقدرني على منعه، وسخَّر لي أسبابهما.
كما أنَّه لا يملك شيئاً من عالم الغيب، الَّذي هو شأن الخالق دون المخلوق، والنَّاسُ فُتِنُوا منذ قوم نوحٍ بمن اصطفاهم الله، فجعلوهم شركاء لله تعالى فيما يرجوه عباده، من نفعٍ يسوقه إليهم، وما يخشونه من شرٍّ فيدعونه ليكشفه عنهم، وصاروا يدعونهم كما يدعون الله لذلك، إمَّا استقلالاً وإمَّا إشراكاً.
ولمَّا كان ملك الضر والنفع خاصًّا برب العباد وخالقهم، وكان طلب النفع، أو كشف الضر عبادةً لا يجوز أنْ توجَّه إلى غيره من عباده مهما يكن فضله: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يصرِّح بالبلاغ عنه، أنَّه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضرًّا، وقد تكرَّر هذا في القرآن مبالغةً في تقريره وتوكيده.
6 -
جاء في سنن أبي داود (3627) من حديث عوف بن مالك؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضيُّ عليه لمَّا أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل،
فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم يلوم على العجز: "ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ، فقل حسبي الله ونعم الوكيل".
ومعنى هذا: أنَّه على الإنسان التيقُّظ في الأمر وعمل الأسباب، فإذا أخفق بعد عمل الأسباب النَّافعة المشروعة، فليقل حينئذٍ:"حسبيَ الله ونِعْمَ الوكيل".
وبدون التيقُّظ وعمل الأسباب؛ فإنَّ الله يلوم على العجز، والتهاون في الأمور.
***
1209 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كَيْفَ تُقَدَّسُ أُمَّةٌ، لَا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ؟! " رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ (2)، وَآخَرُ مِنْ حَديْثِ أَبِي سَعِيدٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَه (3).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال المؤلِّف: رواه ابن حبان، وابن خزيمة، وابن ماجه، وله شواهدٌ:
1 -
حديث بريدة؛ عند البيهقي.
2 -
حديث قابوس بن مخارق عن أبيه؛ عند الطبراني، وابن قانع.
3 -
حديث خولة غير منسوبة؛ عند الطبراني، وأبي نعيم.
4 -
حديث أبي سعيد؛ عند ابن ماجه.
5 -
حديث عائشة؛ عند ابن حبان، والبيهقي.
وقد صحَّحه ابن خزيمة، وابن حبان، والسيوطي، وقال الذهبي: إسناده صالح، وقال الهيثمي: رجاله ثقات إلَاّ أنَّ فيه عطاء بن السَّائب ثقة؛ لكنَّه اختلط.
* مفردات الحديث:
- كيف تُقَدَّس أمَّة: التقديس: التطهير والتنزيه، يعني تَبْعُدُ الطهارة والنَّزاهة عن
(1) ابن حبان (1554).
(2)
البزَّار كما في "كشف الأستار"(1596).
(3)
ابن ماجة (4010).
أُمَّة لا تساوي في أحكامها بين القوي والضعيف.
- الأمَّة: أتباع النَّبي صلى الله عليه وسلم، والجمع أمم، مثل: غرفة وغرف.
- شديدهم: قويهم وغنيهم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال بعض المفسرين: لهذه الآية ثمرات هي أحكام، منها:
الأوَّل: وجوب العدل على القضاة والولاة، وأنْ لا يعدلوا عن القسط لأمر تميل إليه النفوس وشهوات القلوب، من غِنًى وفَقْرٍ، أو قرابة، بل يستوي عنده الدنيء والشريف، والقريب والبعيد.
الثاني: أنَّه يجب الإقرار على من عليه الحق، ولا يحل له أنْ يكتمه؛ لقوله:{وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .
2 -
قال محمد رشيد رضا: القوَّامون بالقسط هم الَّذين يُقيمون العدل بالإتيان به على أتمِّ الوجوه وأكملها وأدومها؛ فالقيام بالشيءِ هو الإتيان به مستوياً تامًّا، لا نقص فيه، ولا عوج، وهذه العبارة أبلغ ما يمكن أنْ يُقال في تأكيد أمر العدل والعناية.
3 -
حديث الباب فيه استبعاد أنْ تتطهَّر أمَّة من الذنوب، وهي لا يُنْصَف لضعيفها من قويها فيما يلزمه من الحق له؛ فإنَّه يجب نصر الضعيف حتَّى يأخذ حقه من القوي.
فقد جاء في صحيح البخاري (2444): "انصر أخاك ظالماً، أو مظلومًا"، ونصر الظَّالم: هو رده وكفه عن الظلم.
1210 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "يُدْعَى بِالْقَاضِي الْعَادِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ في عُمُرِهِ" رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَلَفْظُهُ:"فِي تَمْرَةٍ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث إسناده حسن.
قال في التلخيص الحبير: رواه أحمد، والعقيلي، وابن حبان، والبيهقي.
قال العقيلي: عمران بن حطَّان الراوي عن عائشة لا يتابع عليه، ولا يتبين لي سماعه منها.
قال ابن حجر في التهذيب: ليس كذلك؛ فإنَّ الحديث الَّذي في البخاري وقع عنده التصريح بسماعه منها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه بيان خطر القضاء، وعظم أمره؛ لأنَّ موضوعه هو الفصل في حقوق النَّاس، من الدماء، والأعراض، والأموال؛ فصاحبه مكلَّف بالاحتياط الشديد، والتحري الأكيد؛ لإصابة الحق والصواب.
2 -
وفيه دليلٌ على شدَّة حساب القضاة يوم القيامة؛ وذلك لما يتعاطونه من الخطر، فيجب عليهم الحيطة والتقصِّي، وبلوغ الجهد، والاستعانة بالله تعالى، وأهل الحق والإنصاف، والابتعاد عن قرناء السوء، والكتَّاب
(1) ابن حبان (1563)، البيهقي (10/ 96).
والأعوان أصحاب الأنفس الدنيئة، والقلوب المريضة بإيثار الدنيا على الآخرة.
3 -
إذا كان ما جاء في الحديث في القاضي العدل، فكيف بقضاة الظلم، والجور، والجهل، اتخذوا المناصب الدينية، والسلطة القضائية أداةً لجمع الأموال من غير حلها؟!
4 -
من هذا الحديث وأمثاله التي تذكر خطر القضاء، وعظيم أمره، هرب من توليه، والسَّلامة منه كثير من أصحاب الورع.
فقد دُعِيَ أبو قلابة إلى القضاء؛ فهرب من العراق إلى الشَّام، ودعي إليه سفيان الثوري؛ فهرب إلى البصرة، وتوفي وهو متوار، وضرب على قبوله أبو حنيفة؛ فلم يقبله حتَّى مات، وقال الشعبي: القضاء محنةٌ وبلية، من دخل فيه، عرَّض نفسه للهلاك.
وهناك أحاديث وآثار تحث على قبول القضاء، واتباع سلوك العدل؛ فاتخذ العلماء المحققون طريق التوفيق بين الأمرين:
وهو أنَّ التحذير لمن طلب القضاء، ولم يف بحقِّه.
وأمَّا الترغيب: فهو لمن وَلِيَ بدون طلب، وسلك مسلك الخوف والرَّجاء.
***
1211 -
وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَنْ يُفْلحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
قال محمد رشيد رضا: أي: من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية، والرعاية، والولاية، والكفاية، ومن لوازم ذلك: أنْ يفرض عليهم الجهاد دونهنَّ؛ فإنَّه يتضمن الحماية لهن
…
وسبب ذلك: أنَّ الله تعالى فضَّل الرِّجال على النِّساء في أصل الخِلْقة، وأعطاهم ما لم يعطهنَّ من الحول والقوَّة، فكان التفاوت في التكاليف والأحكام أثراً للتفاوت في الفطرة والاستعداد؛ {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36]، فالرِّجال أقدر على الكسب، والاختراع، والتصرُّف في الأمور، فلأجل هذا كانوا هم المكلفين أنْ ينفقوا على النِّساء، وأنْ يحموهنَّ، ويقوموا بأمر الرئاسة العامَّة في مجتمع العشيرة، ويتبع هذه الرئاسة: جعل عقدة النكاح في أيدي الرِّجال، هم الَّذين يبرمونها برضا النِّساء، وهم الَّذين يحلونها بالطَّلاق.
وأوَّل ما يذكره جمهور المفسِّرين المعروفين في هذا التفضيل: النبوة، والإمامة الكبرى، والصغرى، وإقامة الشَّعائر؛ كالأذان، والإقامة، والخطبة في الجمعة، وغيرها، ولا شكَّ أنَّ هذه المزايا تابعةٌ لكمال استعداد الرِّجال في مقتضى الفطرة.
(1) البخاري (4425).
2 -
الحديث صريحٌ في عدم صحَّة ولاية المرأة، وأنَّ الأمَّة التي توليها لن تفلح في أمور دينها، ولا في أمور دنياها، وعدمُ صحَّة ولايتها هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد.
وذهب الحنفية: إلى جواز توليتها الأحكام إلَاّ الحدود، وقولهم مصادمٌ للنَّصِّ، وللفطرة الربانية.
3 -
والدول التي ولتها إنَّما هيَ ولاية صورية لا حقيقية؛ فبلادهم يحكمها دستورٌ لا يتخطَّاه أحدٌ منهم، لا حاكمٌ ولا محكوم، وعلى فرض أنَّ لها السيطرةَ، ونفوذَ الكلمة، فإنَّهم لم يفلحوا لا في شؤون دينهم، ولا في شؤون دنياهم، والله المستعان.
4 -
ولمَّا قال تعالى في كتابه: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران: 36] ليس معناه: أنَّه أهمل جانب المرأة، وأعفاها من المسؤولية وجعلها -فقط- أداة متعة ونظر، وإنَّما جعل لها من الحقوق مثل ما للرَّجل؛ فقال تعالى:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]؛ إلَاّ أنَّ هذه المسؤولية، وتلك الحقوق والواجبات هي من نوعٍ آخر؛ {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32].
فمسؤولية البيت وشؤون المنزل مهامُّ كبيرة: من ترتيبه، وتنظيمه، والقيام بشؤونه، وحفظه، ورعايته، ثمَّ وظائفُ الحمل، والولادة، وتربية الأطفال، وإصلاح شؤونهم، هي أمورٌ هامَّةٌ جدًّا، ومع أهميتها: فإنَّ الرَّجل لا يستطيع الصبر عليها، ولا يحسن القيام بها، ومتى أُهمِلت هذه الأمور بلا راعٍ مسؤول، تعطَّل كلُّ شيءٍ، وضاع جهد الرَّجل خارج المنزل.
فالرجل: عمله خارج المنزل لإعداده، وتكوينه البدني، والنَّفسي، والعقلي، بما يحويه من صلابةٍ في العضلات، وتحكُّمٍ في العاطفة، ومنطقية في التفكير.
وأمَّا المرأةُ: فهي المُعَدَّةُ بدنيًّا، ونفسيًّا، وعقليًّا بكلِّ ما تحويه من مرونة في الملبس، ورقة في المشاعر، وجيشان في العاطفة، وانفعال في الوجدان، هذا هو الاستعداد الحقيقي لأنبل المهام، وأهمها على الإطلاق، وهي مهمة بناء الإنسان.
فهذه نظرة الإسلام إلى الجنسين، تلك النظرة القائمة على الاستعدادات "البيولوجية" التي جَعَلَ الله تعالى منها خصائصَ ذات طابعٍ ذكري وأنثوي، وجَّهت كلاًّ إلى ما خُلِقَ له، ولله في خلقه شؤون!!
أمَّا الَّذين يُنادون بما يسمَّى "تحرير المرأة" لتشارك الرِّجال في أعمالهم، فهؤلاء جهلوا مراد الله تعالى من خلق الجنسين، وغفلوا عن الإعداد الفطري الَّذي أنشأ عليه المرأة لتقوم بوظائفها الخاصَّة بها، والأعمال التي لا يحسنها غيرها؛ وبهذا الجهل، وتلك الغفلة: هدموا البيوت، وقوَّضوا معالم الأسرة، وأضاعوا الأولاد؛ ليصبحوا مشرَّدين مهملين، وأسعدهم حظًّا الَّذي تليه خادمةٌ جاهلةٌ أجنبيةٌ جافَّة، بدل حنان الأُم وتربيتها وعنايتها وعطفها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"كلٌّ ميَسَّرٌ لما خُلِقَ لَه"[رواه البخاري (6596) ومسلم (2649)]، والله المستعان.
***
1212 -
وَعَنْ أَبِي مَرْيَمَ الأَزْدِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "مَنْ وَلَاّهُ اللهُ شَيْئاً مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ عَنْ حَاجَتِهِمْ،
وَفَقيرِهِمُ -احْتَجَبَ اللهُ دُونَ حَاجَتِهِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث سنده جيد.
قال ابن حجر في التلخيص: رواه الترمذي، وأبو داود، والحاكم وصحَّحه، ووافقه الذهبي، وأورد له الحاكم شاهداً، وعنه رواه أحمد، والترمذي، ورواه الطبراني في الكبير، من حديث ابن عباس، قال ابن أبي حاتم عن أبيه في العلل: هذا حديث منكر.
والحديث المرفوع سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حديثٌ غريب، ولم يطعن فيه المنذري.
قال الصنعاني: ورواه الطبراني برجال ثقات، إلَاّ شيخه فإنَّه قال: المنذري لم يقف فيه على جرحٍ، ولا تعديل.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (13/ 133): سنده جيد.
* مفردات الحديث:
- ولَاّه: يُقال: ولَاّه الأمر تولية: جعله والياً عليه، وملَّكه أمره.
- احتجب: يُقال: حَجَبَهُ يَحْجُبُهُ حَجْباً: ستره ومنعه، واحتجب: استتر.
- حاجة: يُقال: حَاجَ الرَّجل يحوج: إذا احتاج، والحاجة جمعها حوائج، وهي: ما يفتقر إليها الإنسان ويطلبها.
(1) أبو داود (2948)، الترمذي (1333).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
من ولَاّه الله تعالى أمراً من أمور المسلمين، فقد أصبح أجيرهم، والقائم بأمورهم، والمتولِّي على شؤونهم، ومثل هذا يجب عليه مقابلتهم، وسماع شكاويهم وحاجاتهم؛ ليقضي ما يتعيَّن عليه قضاؤه، ويوجِّههم إلى ما يحتاجون إليه من التوجيه.
2 -
أمَّا من يقفل دونهم بابه، أو يجعل له حُجَّاباً قساةً جفاةً، يمنعون أصحاب الحاجات من الوصول إليه، فهذا حرامٌ لا يجوز، فإنِ احتجب عنهم، فإنَّ الله تعالى يحتجب عن حاجته يوم القيامة، جزاءً وفاقاً؛ فالجزاء من جنس العمل، وكما تدين تُدان.
3 -
قال في شرح الإقناع: ولا يتخذ القاضيَ في مجلس الحكم حاجباً، ولا بوَّاباً إلَاّ لعذرٍ؛ لأَنَّ الحاجب ربَّما قدَّم المؤخَّر، وأخَّر المتقدِّم؛ لغرض له، وليس له أنْ يحتجب إلَاّ في أوقات الاستراحة؛ لأَنَّهَا ليست وقتاً للحكومة، ويكون له من يرتَّب النَّاس إذا كثروا، فيكتب الأوَّل فالأوَّل.
4 -
فليحذر القاضي -وكل قائمٍ على عملٍ يتصل بجمهور النَّاس- من قرناء السوء، ومروِّجي الدعاوى باسمه، وبواسطة القرب منه؛ فإنَّهم يموِّهون على النَّاسِ أنَّ لهم تأثيراً على القضاة، وأصحاب الأعمال يدركون بها مطلوبهم، ليحذروهم، ولا يكن حوله إلَاّ من يتَّقي الله تعالى ويراقبه، من الأمناء أصحاب النفوس العفيفة، والضمائر الطيبة، والله ولي التوفيق.
***
1213 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "لعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِيَ، وَالمُرْتَشِيَ في الْحُكْمِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو عِنْدَ الأَرْبَعَةِ إِلَاّ النَّسَائِيَّ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والبغوي، قال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.
ورجاله ثقات، رجال الشيخين، وله شاهدٌ من حديث عبد الله بن عمرو.
قال الدَّارمي: هو أحسن شيءٍ في هذا الباب وأصح.
قال الهيثمي: أخرجه الطبراني في الصغير، ورجاله ثقات.
وقال الشوكاني: لا مطعن في إسناده.
وله شواهدُ أخر: عن عائشة، وأمِّ سلمة، وعبد الرحمن بن عوف، وثوبان.
*مفردات الحديث:
- الراشي: يقال: رشاه يرشوه رشواً: أعطاة الرِّشْوة، والرَّاشي: هو الذي يعطي المال الذي يعينه على الباطل.
- المرتشي: هو آخذ الرِّشْوة.
(1) أحمد (2/ 387)، الترمذي (1336)، ابن حبان (1196)، ولم يروه باقي أصحاب السنن.
(2)
أبو داود (3580)، الترمذي (1337)، ابن ماجة (2313).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الرَّاشي: هو من يُعطي العطية؛ ليحكم له بباطل، أو يدفع عنه حقًّا.
المرتشي: هو الَّذي يأخذ الرشوة؛ ليحكم بإسقاط حقٍّ، أو إثبات باطل.
الرشوة: هو ما يُعْطَى الحاكِمُ بعد طلبه لها.
2 -
يَحْرُمُ بذلها، وأخذُهَا، والتوسُّطُ فيها، والإعانةُ عليها؛ لأنَّ ذلك من أكل أموال النَّاس بالباطل، مع ما فيها من تغيير حكم الله تعالى، والحكم بغير ما أنزل الله؛ فقد ظَلَمَ بأخذها نفسه، وظَلَمَ المحكومَ له، وظَلَمَ المَحكومَ عليه.
3 -
الرشوة من كبائر الذنوب؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آخذها، ومعطيها، واللعنُ لا يكون إلَاّ على كبيرةٍ من كبائر الذنوب، وقد أجمع العلماء على تحريمها.
4 -
قال في شرح الإقناع: ويحرم قبول القاضي هدية، وهي الدفع للقاضي ابتداءً من غير طلب، إلَاّ ممَّن كان يهدي إليه قبل ولايته، إنْ لم يكن للمهدي حكومة؛ لأنَّ التهمة منتفية؛ لأَنَّ المنع إنَّما كان من أجل الاستمالة، أو من أجل الحكومة، وكلاهما منتف.
***
1214 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ الخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (1).
ــ
*درجة الحديث:
الحديث فيه ضعف.
قال المؤلِّف: رواه أحمد، وأبو داود، والحاكم وصحَّحه، وأقرَّه الذهبي، ورواه البيهقي، كلهم من رواية مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وفيه كلام، قال أبو حاتم: إنَّه كثير الغلط.
وله شاهدٌ من حديث أمِّ سلمة: رواه أبو يعلى، والدَّارقطني، والطبراني، وفي إسناده عبادة بن كثير، وهو ضعيف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
العدالة بين الخصمين مطلوبةٌ في كلِّ شيء؛ فيجب على القاضي أنْ يعدل بينهما في مجلسه.
قال ابن رشد: أجمعوا على أنَّه يجب عليه أنْ يسوِّيَ بين الخصمين في المجلس.
قال الطيبي: ليس على القاضي أمرٌ أشق ولا أخوف من التسوية بين الخصمين.
وقال ابن القيم: نهى عن رفع أحد الخصمين عن الآخر، وعن الإقبال عليه، والقيام له دون خصمه؛ لئلا يكون ذريعةً إلى انكسار قلب الآخر،
(1) أبو داود (3588)، الحاكم (4/ 94).
وضعفه عن القيام بحجته.
2 -
قال فقهاؤنا: يجب أنْ يعدل بين الخصمين في لحظه، ولفظه، ومجلسه، ودخولهما عليه.
ويحرم أنْ يسارَّ أحدهما، أو يلقِّنه حجته، أو يضيِّفه، أو يعلِّمه كيف يدَّعي، إلَاّ أن يترك ما يلزمه ذكره في الدعوى؛ كشرطٍ، أو عقد، وسبب إرث، ونحوه، فله أنْ يسأل عنه ضرورةً لتحرير الدعوى، ولأنَّ أكثر الخصوم لا يعلم ذلك، وليتضح للقاضي وجه الحكم.
***