الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في أوقات الإجابة وأحوالها
منها: ليلة القدر، ومنها: يوم عرفة، ومنها: شهر رمضان، ومنها: ليلة الجمعة، ومنها: يوم الجمعة، وساعة الجمعة.
ومنها: جوف الليل؛ يدل عليه ما أخرجه الترمذي (3499) وحسنه من حديث أبي أمامة قال: "قيل: يا رسول الله! أي الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل، ودبر الصلوات".
والدبر يشمل الدعاء بعد التشهد الأخير في نفس الصلاة، وبعد التحلل منها بالسلام.
ومنها: عند النداء بالصلاة؛ لما أخرج مالك في الموطأ (155)، وأبو داود (2540) من حديث سهيل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس حين يلتحم بعضهم بعضًا".
وبين الأذان والإقامة، ودبر الصلوات المكتوبات، وفي السجود.
***
1357 -
وَعنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَدَّ يَدَيْهِ في الدُّعَاءِ، لَمْ يَرُدَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ (1)، وَلَهُ شَواهِدُ مِنْهَا: حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ (2)، وَمَجْمُوعُهَا يَقْضِي بِأَنَّهُ حَدِيث حَسَنٌ.
ــ
* درجة الحديث:
قال الحافظ: حديث حسن، وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية: ضعيف.
قال الشيخ صديق بن حسن: أخرجه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب، قال: كان صلى الله عليه وسلم
…
الحديث، وفي سنن أبي داود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
قال النووي: في إسناد كل واحد رجل ضعيف، وقول الحافظ عبد الحق: إنَّ الترمذي قال في الحديث الأول: إنَّه حديث صحيح، فليس في النسخ المعتمدة من الترمذي أنَّه صحيح، بل قال: حديث حسن غريب.
قلتُ: ولكن الغريب قد يكون من أنواع الصحيح، وله شواهد مجموعها يعضد بعضها بعضاً، وبهذا يقوى الحديث بمجموع طرقه، واختار قوته جمع من العلماء، منهم: إسحاق، والنووي في أحد قوليه، وابن حجر، والمناوي، والصنعاني، والشوكاني، وغيرهم.
(1) الترمذي (3386).
(2)
أبو داود (1485).
* ما يؤخذ من الحديث:
يدل الحديث على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء؛ وفي هذا تفاؤل بأنَّ الله تعالى استجاب دعاء السائل مطلوبه، فإعطاء مسؤوله بيديه الممدودتين، وبعد امتلائهما من عطاء الله تعالى وجُووِهِ، أفرغ خير الله على وجهه، والله عند حسن ظن عبده به.
***
1358 -
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ القِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَليَّ صَلَاةً" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال صديق بن حسن خان في كتابه "نُزُل الأَبْرَار": أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن، وأخرجه ابن حبان، وقال: صحيح، وفي إسناده موسى بن يعقوب الزمعي، وقد وثقه ابن معين، وأبو داود؛ فلا يضر وجوده في السند بصحته حيث وثق.
قال الترمذي: وفي الباب عن ابن عوف، وعامر، وعمار، وأبي طلحة، وأنس، وأبي بن كعب، رضي الله عنهم.
* مفردات الحديث:
- أولى الناس بي: أقربهم إليَّ، وأحقهم بشفاعتي.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة" معناه: إنَّ أولى الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحقهم بالقرب منه أكثرهم عليه صلاة في الدنيا.
2 -
وقد جاء في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نصوص كثيرة؛ فمن القرآن: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب].
(1) الترمذي (484)، ابن حبان (911).
3 -
ما جاء في الترمذي (3546) وابن حبان (3/ 189)، من حديث الحسين بن علي؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"البخيل من ذُكِرْتُ عنده فلم يصلِّ عليَّ".
فهذا كامل البخل بما لا نقص عليه فيه ولا مؤنة، مع كون الأجر عظيمًا.
4 -
وجاء في الترمذي (3545) وابن حبان (3/ 189)، من حديث أبي هريرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"رغم أنف رجل ذكرتُ عنده فلم يصل عليَّ".
ومعناه: لصق أنف امرىء بالتراب، وهان وذل رجل -أو امرأة- ذُكرتُ عنده فلم يجلَّني، ولم يقدرني بالصلاة والسلام عليَّ، وإنَّما أعطى إعراضًا وتغافلاً.
5 -
وجاء في مسلم (384)، من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَن صلى عليَّ صلاة واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا".
ففي الحديث الفضيلة العظيمة والمنقبة الكبيرة لمن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرَّة واحدة، بأنَّ الله تعالى يجازيه من جنس عمله، ولكنه أكثر وأفضل، وهو أنَّ الله يصلِّي عليه، ويعطيه بدل الصلاة الواحدة عشر صلوات من عنده تعالى.
6 -
وما أخرجه النسائي (1282)، وابن حبان (3/ 195)، من حديث ابن مسعود أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ لله ملائكة سياحين، يبلغوني عن أمتي السلام"؛ ففيه دليل على أنَّ سلام أمته يبلغه صلى الله عليه وسلم من البعيد عنه؛ كما يبلغه من القريب.
7 -
وجاء في الطبراني من حديث علي: "كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد"، والحديث جاء مرفوعًا وموقوفًا، ولكن الموقوف له حكم الرفع، لأنَّ هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه.
* الفوائد الحاصلة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن القيم في كتابه: "جلاء الأفهام، في الصلاة والسلام، على خير الأنام": في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فوائد:
الأولى: امتثال أمر الله تعالى بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب].
الثانية: حصول عشر صلوات من الله على المصلِّي مرَّة.
الثالثة: أنه يرجى إجابة دعائه إذا قدَّمها أمامه، وكان موقوفًا بين السماء والأرض قبلها.
الرابعة: أنَّها سبب لغفران الذنوب، وسبب لكفاية الله عبده ما أهمه.
الخامسة: أنَّها سبب لقضاء الحاجات.
السادسة: أنَّها سبب لطيب المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة.
السابعة: أنَّها سبب لدوام محبته وزيادتها.
الثامنة: أنَّها سبب لهداية العبد، وحياة قلبه.
التاسعة: أنَّها أداء لأقل القليل من حقه الذي له علينا.
العاشرة: أنَّها تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلى عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم. ثم قال أيضًا -رحمه الله تعالى-: الصلاة من الله على عباده نوعان:
عامة، وخاصة:
أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين؛ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43].
أما الخاصة: فهي صلاته على أنبيائه ورسله.
واختلف العلماء في معنى الصلاة منه سبحانه، على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها رحمته؛ وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.
الثاني: أنَّها مغفرته؛ وهذا القول من جنس الذي قبله، وهما ضعيفان.
الثالث: أنَّ معنى الصلاة عليه من الله: هو الثناء على الرسول، والعناية به، وإظهار شرفه، وفضله، وحرمته.
وهذا حاصل من صلاة العبد، لكن يريد ذلك من الله عز وجل، والله سبحانه يريد ذلك من نفسه أن يفعله برسوله.
1359 -
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لَا إِلهَ إِلَاّ أَنْتَ، خَلَقْتَنِي، وَأنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَاّ أَنْتَ" أَخْرَجَهُ البُخَاريُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- سيِّد الاستغفار: السيد يقال في الأصل للرئيس الذي يُقْصَد للحوائج، وصار هذا الاستغفار سيدًا؛ لأنَّ فيه الإقرار لله وحده بألوهيته، وعلى نفسه بالعبادة، والاعتراف بالخالق، والإقرار بالعهد، والرجاء بما وعد به، والاستعاذة مما جنى به على نفسه، وإضافة النعم إلى مُوجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، واعترافه بأنَّه لا يقدر على ذلك إلَاّ هو، إلى غير ذلك من بديع المعاني.
- على عهدك: أي: ما عاهدتك عليه، وواعدتك من الإيمان، وإخلاص الطاعة لك، وقيل: العهد ما أخذ في عالم الذر.
- ما استطعت: أي: مدَّة دوام استطاعتي، وفيه اعتراف بالعجز والقصور.
- أبوء بنعمتك، وأبوء بذنبي: أعترف وألتزم لك، قال الطيبي: اعترف بأنه أنعم عليه، ولم يقيده؛ ليشمل كل الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنَّه لم يقم بأداء شكر النعم عليه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث العظيم: سيد الاستغفار؛ لما احتوى عليه من
(1) البخاري (6306).
معاني التوبة والتذلل، مما ليس في غيره من أحاديث التوبة والاستغفار.
2 -
قال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة، استعير له اسم السيد الذي هو في الأصل الرئيس الذي يُقصد إليه في الحوائج، ويُرجع إليه في الأمور.
3 -
وقال ابن أبي جمرة: جمع هذا الحديث من بديع المعاني، وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمى بسيِّد الاستغفار.
4 -
اشتمل هذا الحديث السيد الشريف على اعترافات ترجع إلى الله تعالى بما يستحقه من العظمة والإجلال، وترجع إلى العبد بما يجب عليه من الذل، والخضوع، والانكسار.
5 -
فيه الإقرار لله تعالى بالربوبية، وذلك أنه تعالى هو الخالق، الرازق، المعطي، المانع، القابض، الباسط، المحيي، المميت، المدبِّر لجميع الأمور.
6 -
وفيه الإقرار له بالعبودية، والإلهية، والوحدانية، وأنَّه المألوه المعبود المقصود.
7 -
وفيه الإقرار والاعتراف من العبد لربه ومعبوده، بأنَّه العبد، المطيع، الخاضع، الذليل أمام ربه، وخالقه، ورازقه، ومعبوده.
8 -
وفيه إقرار العبد بأنَّه ملتزم بالوفاء بالعهد الذي أخذه ربه عليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)} [الأعراف].
9 -
قوله: "ما استطعت" وعد بالقيام بعهد الله تعالى بقدر الاستطاعة والطاقة، وهذا موافق لقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم"[رواه البخاري ومسلم]؛ فلا يكلف الله نفسًا إلَاّ وسعها.
وهو أيضًا: إقرار واعتراف من العبد لربه بالعجز والتقصير، بأن يعبده حق عبادته.
10 -
قوله: "أعوذ بك من شر ما صنعت" قال ابن القيم: أعوذ، بمعنى: ألتجيء وأعتصم وأتحرز، فالمستعيذ مستتر بمُعَاذ، ومستمسك به، ومعتصم به، والاستعاذة بقلب المؤمن معنى قائم وراء هذه العبارة التي ليست إلَاّ إشارة وتفهيمًا، وإلَاّ فما يقوم بالقلب حينئذٍ من الالتجاء، والاعتصام، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه، والتذلل بين يديه، أمرٌ لا تحيط به العبارة.
11 -
وقال أيضًا: المستعاذ به هو الله وحده الذي لا ينبغي الاستعاذة إلَاّ به، فلا يُستعاذ بأحد من خلقه؛ فهو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شره، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانًا.
12 -
أنواع الشرور المستعاذ منها لا تخلو من قسمين: إما شر وقع به من غيره، وإما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها؛ فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين، وأدومهما، وأشرهما اتصالاً بصاحبه.
والذنوب التي يستعيذ منها بهذا الحديث الشريف: هي من فعل العبد وقصده؛ فهو يستعيذ من شرها؛ لأنَّها موجبة للعقاب وللعقوبة، إلَاّ أن يعيذه ربه، ويغفر له، ويرحمه، وأقوى سبب لمنع شرها: التوبة النصوح.
13 -
قوله: "أبوء لك بنعمتك عليَّ" هذا إقرارٌ واعتراف بنعم الله تعالى على عباده، بأنَّه وحده المنعم المتفضل، وأنَّه المستحق للحمد والشكر على نعمه التي لا تحصى، وإفضاله الذي لا يحد ولا يعد.
14 -
وفي الحديث دليل على أنَّ المقاصد لا ينبغي أن تطلب إلَاّ بوسائلها الصحيحة، وأسبابها الموصلة، أما التعلُّل بالخرافات، والبدع، والتوسُّلات الشركية والبدعية، فهي لا تزيد الإنسان من ربه إلَاّ بعدًا.
1360 -
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤلَاءِ الكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيةَ في دِينِي، وَدُنْيَايَ، وَأَهْلِي، وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، وَاحْفَظْنِي مِنْ بيْنِ يَدَيَّ، وَمنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال الشيخ صديق حسن: أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه.
قال النووي في الأذكار: روي بالأسانيد الصحيحة.
وأخرجه ابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد.
* مفردات الحديث:
- العافية: الصحة التامة في البدن، والسلامة التامة في أمر الدين، والسلامة من المعاصي والبدع، والسلامة في الدنيا من شرورها ومصائبها.
- عَوْرَاتي: جمع عورة، والعورة: كل ما يُسْتَحْيَا منه إذا ظهر من الذنوب والعيوب.
- روعاتي: جمع روعة، يقال: راعه يروعه روعًا: أفزعه؛ فالروع: الفزع.
- عظمتك: عظمة الله تعالى: صفة جليلة من صفاته العلى؛ فهو موصوف
(1) النسائي في عمل اليوم والليلة (566)، ابن ماجه (3871)، الحاكم (1/ 517).
بالعظمة الكاملة، والقدرة النافذة، فله الكبرياء والعظمة المطلقة، فالسائل يستعيذ ويلتجيء من الشرور، بعظمة الله تعالى، وقدرته المحيطة بكل شيء.
- أَنْ أَغْتَال: اغتاله: أخذه من حيث لا يدري فأهلكه، من الاغتيال، وهو: أخذ الشيء خفية.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذه الأدعية الكريمات كان صلى الله عليه وسلم لا يدعها صباحًا ولا مساءً؛ لتكون حصنًا من الآفات، وحرزاً من الشرور، وأمانًا من المكاره؛ فعلى المسلم أن يلازمها، ولا يدعها؛ اقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم، وحفظًا لنفسه من الشرور وأسبابها.
2 -
ففيها سؤال الله تعالى العافية في الدين؛ من المعاصي، والابتداع، وترك الواجبات.
أما العافية في الدنيا: فالسلامة من شرورها، ومصائبها، وغوائلها، والانهماك فيها، والغرور بها، وما تجرّه من الغفلة ونسيان الآخرة.
وأما العافية في الأهل: فسلامة أديانهم من الشهوات والشبهات، وسلامة أبدانهم من الأمراض والأسقام، وسلامة قلوبهم من فتنة الدنيا، والانهماك فيها دون غيرها، مما ينقصهم في حياتهم الأبدية.
3 -
"استر عوراتي": يسأل ربه ستر عورته، بأن يستر أعماله القبيحة عن الناس، ثم يمن عليه بالتوبة منها، والسلامة من فضيحتها، وخزيها في الدنيا والآخرة، ويشمل طلب الرزق بكسوة يتجمَّل بها.
4 -
"وآمن روعاتي": يكون التأمين من فجائع الدنيا، ومصائبها، وحوادثها المروعة، ويكون من روعات يوم القيامة، وهو أعظم الأمرين، ففي أهوال يوم القيامة ما يذهل كل مرضعة عما أرضعت:{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)} [الحج: 2].
5 -
ويسأله حفظًا كاملًا، وصيانةً تامةً، تحيط به من جميع الجهات؛ فلا تخلص إليه الشرور، ولا تصل إليه المصائب، فيحاط بحصن الله تعالى من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه.
6 -
ويستعيذ ويلتجيء إلى ربه بأن لا يغتال من تحته من حيث لا يشعر، فيخسف به كما خسف بقارون، أو يغرق كما أغرق فرعون، أو يأتيه حادث مروِّع من حوادث المعدات الثقيلة أو الخفيفة، والله أعلم.
***
1361 -
وَعنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- زوال نعمتك: الزوال: التحول والانتقال، وأما النعمة: فهي المنفعة المعمولة للغير على جهة البر والإحسان.
- تحَوُّل عافيتك: تحول العافية: هو انتقالها، فلا تنتقل إلى ضدها، وهو المرض.
- فَجْاَة نِقْمَتِكَ: بفتح الفاء، وسكون الجيم، مقصور، ويقال: بضم الفاء، وفتح الجيم، والمد "فُجَاءَة"، وهي: الأخذ بغتة من غير توقُّع.
…
(1) مسلم (2739).
1362 -
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبْةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبْةِ العَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبي، وقال الحافظ زين الدين العراقي في حاشيته على الإحياء: أخرجه النسائي، والحاكم من حديث عبد الله بن عمر، وقال: صحيح على شرط مسلم.
* مفردات الحديث:
- غلبة: يقال: غلبه يغلبه غلبًا، وغلبه: قهره واعتزَّ عليه.
- شماتة: يقال: شمت بعدوه يشمت شماتة: فرح ببليَّته، فهو شامت.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
هذان الحديثان اشتملا على أدعية نبوية شريفة، والأدعية النبوية هي أشرف الأدعية؛ لما تشتمل عليه من المعاني السامية، والمطالب العالية، وما فيها من شرف الألفاظ، وجمع المعاني الكثيرة بالجمل القليلة.
2 -
قوله: "اللَّهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك": الأمور كلها بيد الله تعالى؛ فهو المعطي، وهو المانع، لا رادَّ لأمره، فالاستعاذة والاعتصام من زوال النعم هي في موقعها؛ وواقعة موضعها، فهو يسأل معطيها أن لا يزيلها، وزوالُ النعم يكون غالبًا بسبب الذنوب، فهو يسأل ضمنًا العصمة من الذنوب التي هي سبب زوال النعم.
(1) النسائي (8/ 265)، الحاكم (1/ 104).
قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41].
3 -
قوله: "وتحوُّل عافيتك" فيه الاستعاذة بالله تعالى من أن ينقل العافية منه إلى غيرها، ويسأله بقاءها سابغة عليه، وهي تشمل العافية في الدين، والبدن، والوطن، والأهل، والمال، بأن تبقى سالمة مما يطرأ عليها فيزيلها، أو يهلكها، أو يذهبها.
4 -
وقوله: "وفجأة نقمتك" الفجأة: هي البغتة التي تأخذ الإنسان من حيث لا يكون عنده سابق إنذارٍ وإخطارٍ وتحذير، فيؤخذ من مأمنه، حينما تفجؤه النقمة، ويبغته العذاب، ولات حين مناص ولا مفر.
5 -
قوله: "وجميع سَخَطِك" تعميم بعد تخصيص، فهو يستعيذ بالله تعالى، ويعتصم من جميع الشرور والأمور التي توجب سخط الله تعالى، والذي يسخطه جلَّ وعلا على عباده: هو عموم المعاصي والذنوب، من انتهاك المحرَّمات أو ترك الواجبات، والله أعلم.
6 -
وقوله: "اللَّهمَّ إني أعوذ بك من غلبة الدَّين" الدَّيْنُ الغالب الظاهر هو الدين الذي ليس عند المدين ما يقضيه به، أما إذا كان عند المدين ما يفي به الدين، فهذا دين ليس بغالب.
7 -
الدَّيْنُ إذا غلب يسبِّب الهم والغم، ويكون صاحبه في قلق وتعب بدني وقلبي وفكري، وهذا هو ما استعاذ منه؛ لأنَّ حقوق الآدميين مبنية على الشح.
ولذا استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من المَغْرَم وهو الدَّين، وقال صلى الله عليه وسلم مبينًا آثار الدين السيئة، وعواقبه الوخيمة:"إنَّ الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف"[رواه البخاري (832) ومسلم (2589)].
8 -
أما غلبة العدو: فهي تسبب لصاحبها الذلَّة، والمهانة، والحقارة؛ فإنَّ العدو لا يرحم، ولا يشفق، وإنما يقسو ويعثو.
والقسوة قد تسبب جلاء عن الديار، أو هلاكًا في الأعمار، أو استيلاءً على الأموال، أو غير ذلك من أنواع المضار التي يتعسفها العدو الغالب.
وتأمل -أيها القاريء الكريم- ما تفعله دولة إسرائيل العدو في المسلمين من استيلاء على بلدانهم، وتشريد لزعمائهم، وقتل لأبريائهم، وتعذيب لما تحت أيديهم منهم، وانظر إلى الأقليات الإِسلامية؛ كيف هم مضطهدون تحت سيطرة أعدائهم؛ نسأل الله أن يعز الإِسلام والمسلمين.
9 -
"شماتة الأعداء" هو فرحهم بما يصيب الإنسان من نكبة في بدنه، أو أهله، أو ماله، أو سُمعته، أو غير ذلك من نكبات الحياة ومصائبها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى، ويرشد أمته إلى الاستعاذة من هذه الشرور التي تسبب وينتج عنها هذه الأمور السيئة.
***
1363 -
وَعَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: "سَمعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أنَّك أَنْتَ اللهُ لَا إِلهَ إِلَاّ أَنْتَ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ سَأَلَ الله بِاسْمِهِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أُعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ" أَخْرَجَهُ الأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: أخرجه أهل السنن الأربع، وابن حبان، وهو من حديث بريدة، وحسَّنه الترمذي، وصحَّحه ابن حبان، وأخرجه أيضًا من حديث بريدة الحاكم، وقال: صحيح على شرطهما.
قال المنذري: قال شيخنا أبو الحسن المقدسي: إسناده لا مطعن فيه.
وقال ابن حجر: إنَّ هذا الحديث أرجح ما ورد في الاسم الأعظم من حيث السند.
وحسَّنه السخاوي كما في الفتوحات الربانية.
* مفردات الحديث:
- الأحد: أي: الواحد الذي ليس له شريك في الألوهية، والربوبية، والأسماء، والصفات؛ فهو منزه الذات والصفات جلَّ وعلا.
- الصمد: هو السيد الذي يَصْمُدُ إليه الخلق في الحوائج، ويقصدونه في
(1) أبو داود (1493)، الترمذي (3475)، النسائي في الكبرى (4/ 394)، ابن ماجه (3857)، ابن حبان (2383).
المطالب، مِن صَمَدَ إليه، بمعنى قصده؛ فهو فَعَلٌ بمعنى مفعول.
- كُفُوًا أحد: الكفء: هو الشبيه، والمثيل، والنظيرة فهو جلَّ وعلا ليس له من خلقه مكافئىٌ، ولا مماثلٌ، ولا نظيرٌ، ولا شبيهٌ.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قوله: "أسألك بأنَّي أشهد أنك أنت الله" هذا قسم استعطافي وتضرعي، ومعناه: أسألك باستحقاقك لهذه الصفات، ولم يذكر المسؤول والمطلوب بهذه التوسِّلات؛ لعدم الحاجة إلى ذكره.
2 -
قوله: "بأني أشهد أنَّك أنت الله لا إله إلَاّ أنت" هذا من باب التوسُّل بالأعمال الصالحة، وهو منع التوسل الجائز، بل المستحب؛ قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]، وليس في الذكر أفضل من هذه الجملة الكريمة؛ لما اشتملت عليه من الشهادة بإفراده تعالى بالعبادة، ونفي الشريك عنه.
وتقدم شرح هذه الجملة العظيمة.
3 -
"الأحد" الواحد وحدانيةً حقيقيةً في ربوبيته، وفي ألوهيته، وفي ذاته، وفي صفاته، فقد انحصرت فيه الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال المطلق.
4 -
"الصمد" الذي تصمُدُ إليه جميع الخلائق، وتقصده لقضاء حوائجها؛ فالعالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار، ويرغبون إليه في مهماتهم؛ لأنَّه القادر على قضائها.
قال الشيخ محمد رشيد رضا: فلو أنَّ مبتدعة عُبَّاد القبور، وأسرى الخرافات يفقهون معنى هذه الحكمة، ويؤمنون بها إيمانًا صحيحًا يملك قلوبهم، لَمَا صَمَدَ أَحَدٌ منهم إلى قبر أحد من الصالحين، ولا إلى دَجَّالٍ يدَّعي استخدام الجن، وتسخير الشياطين؛ ليقضي له ما عجز عنه من منافعه ومصالحه، أو من دفع الأذى عن نفسه وأهله، فإنَّ هؤلاء -أحياءً وأمواتًا-
عاجزون كلُّهم عما يظنه الجاهلون بهم من التصرُّفِ في عالم الغيب والشهادة.
5 -
"لم يلد ولم يولد"؛ فهو جلَّ وعلا لكمال غناه، وعدم افتقاره إلى غيره، لم يصدر عنه ولد، ولم يصدر هو عن شيء؛ لاستحالة نسبة العلم إليه سابقًا ولاحقًا؛ ولو كان مولودًا، لكان مسبوقًا بالعلم؛ لأنَّ المولود حادث، ولو كان والدًا، لوجب أن يكون له أولادٌ، وللزم أن يكونْ للخلق آلهة متعددة؛ وهذا مستحيل.
6 -
"لم يكن له كفوًا أحد" الكُفُؤ: النظير المكافيء، والله تعالى لا نظير له، ولا شبيه؛ لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهذه السورة الجليلة -التي تعدل في معانيها الشريفة ثلث القرآن- قد أبطلت جميع الشرك؛ لاشتمالها على جميع أنواع التوحيد الثلاثة.
7 -
"لقد سأل الله باسمه الذي إذا سُئِل به أعطى، وإذا دُعِي به أجاب"، وفي رواية:"لقد سأل الله باسمه الأعظم":
إعطاء السؤال والإجابة على الدعاء دليل على شرف السائل والداعي، ووجاهته عند المعطي والمجيب، حيث أجاب سؤاله، ولبى دعاءه ونداءه.
كما يدل على فضل هذا الدعاء وحسنه؛ فإنَّه وسيلة قوية، وسبيل قويم إلى حصول المطالب من الله تعالى، وتلبية نداء عبده.
8 -
أما الاسم الذي إذا سئل به أعطى، أو كما جاء في رواية أخرى أنَّه "الأعظم" -فهذا هو أحد أسماء الله تعالى، ولكن اختلف العلماء في تعيينه؛ فقد أخفاه الله تعالى لِحكم عظيمة، لعلَّ منها أن يتلمَّسه العباد في جميع أسماء الله، فيدعوه بها، فيكثر عملهم، ليكثر ثوابهم، كما أخفى ليلة القدر، وساعة الجمعة، وساعة الليل، للاجتهاد في طلبها، وكثرة العمل في تلمُّسها.
9 -
قال ابن علَّان: الأظهر أنَّ الاسم الأعظم أنَّه لفظ الجلالة "الله"؛ فهو الأعظم عند أكثر العلماء، ومعناه أنَّه امتاز على غيره من الأسماء والصفات بخصوصية ليست في البقيَّة.
10 -
قال محرره: اختلف في تعيينه على نحو من "أربعين قولًا"، وقد أفردها السيوطي في مصنف.
قال ابن حجر: أرجحها من حيث السند: "الله لا إلله إلَاّ هو، الأحد، الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد".
***
1364 -
وَعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَصْبَحَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِكَ أَصْبَحْنَا، وَبِكَ أَمْسَيْنَا، وَبِكَ نَحْيَا، وَبِكَ نَمُوتُ، وَإِلَيْكَ النُّشُورُ، وَإذَا أَمْسَى قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِلَاّ أَنَّهُ قَالَ: وَإِلَيْكَ المَصِيرُ" أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال صديق حسن: أخرجه أهل السنن، وابن حبان.
قال الترمذي: هذا الحديث صحيح، وصححه ابن حبان، والنووي، وأخرجه أحمد بإسناد رجاله رجال الصحيح.
وحسَّنه الترمذي، وابن حجر، والسيوطي، والمناوي.
قال الشيخ الألباني: سنده جيد، ورجاله كلهم ثقات، فهم من رجال مسلم.
* مفردات الحديث:
- بك أصبحنا: الباء للاستعانة بكل هذه المتعلقات، وقدِّم الجار والمجرور؛ لإفادة الاختصاص والحصر، و"أصبحنا" أي: دخلنا في الصباح وأعماله.
- وإليك النشور: النشور: هو البعث بعد الموت، وفيه مناسبة؛ لأنَّ النوم أخو الموت، فالإيقاظ كالإحياء بعد الإماتة.
- وإليك المصير: المصير: هو المرجع، وفيه مناسبة ذكر المصير في المساء؛
(1) أبو داود (5068)، الترمذي (3391)، النسائي في عمل اليوم والليلة (564)، ابن ماجه (3868).
لأنَّه ينام فيه، والنوم أخو الموت.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
"اللهمَّ بك أصبحنا" أي: بسبب نعمة إيجادك، وإمدادك، دخلنا في الصباح؛ فأنت الموجد لنا وللصباح.
"وبك أمسينا" مثله.
قال النووي: اعلم أنَّ أشرف أوقات الذكر في النهار بعد صلاة الصبح.
قال ابن علَّان: إنَّما فضِّل الذكر هذا الوقت؛ لكونه تشهده الملائكة.
2 -
قوله: "وبك نحيا، وبك نموت" فما نعمله في حال الحياة من الأعمال الصالحة، وما يلحقنا ثوابه وأجره من أعمال الخير: من قربات، وصدقات، ومبرات، وآثار صالحة؛ من علم موروث، وعين جارية، وغير ذلك، فكل هذا خالص لوجهك، ومتقرَّب به إليك؛ لأنَّك أنت المستحق له، والهادي إليه، والموضِّح سبله، والميسِّر طرقه، فأعمالنا الصالحة في الحياة والممات منك وإليك.
3 -
"إليك النشور" تقال في الصباح لمشابهة الاستيقاظ من النوم بحال البعث والنشور من القبور؛ فكل من الموت والنوم فقدٌ للإحساس، فالأولى الموتة الكبرى، والنوم الموتة الصغرى، والبعث منهما رجوع إلى الحياة من جديد.
4 -
"إليك المصير" تقال في المساء حين إقبال النوم المشابه للموت بمفارقة الروح لجسدها، ورجوعها إلى خالقها، وإن اختلفا في نوع المفارقة والانفصال، فيمسك التي قضى عليها الموت، وأما روح الحي: فيرسلها إلى أجل مسمًّى.
***
1365 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الدعاء هو آية كريمة في القرآن الكريم، كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به، فهي آية كريمة، وحديث شريف.
قال القاضي عياض: إنما كان صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الآية لجمعها معاني الدعاء كله من أمر الدنيا والآخرة، فإنَّ الحسنة هاهنا النعمة، فسأل نعيم الدنيا والآخرة؛ والوقاية من النار، وهذا كمال السعادة في الحياتين: الأولى والثانية.
2 -
هذا الدعاء من أجمع الأدعية، وأشملها، وأكملها، ومن أنفع الأدعية، وأجلها، وأحسنها؛ ذلك أنَّه جمع خيري الدنيا والآخرة، والوقاية من الشر وأسبابه، فشمل من حسنة الدنيا سؤال كل مطلوب ومرغوب: من حصول العلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والعافية من الأمراض والأسقام، والسلامة من المشاكل والأزمات والنكبات، والتوفيق بالزوجة الصالحة التي تعجبه إن نظر إليها، وترضيه إن حضر عندها، وتحفظه في نفسها وولدها وماله إن غاب عنها، وحصول الأولاد البررة الصلحاء، الذين بهم تقر العين، وترضى النفس، ويُسر القلب، وحصول الأمن في الأوطان، والاستقرار في البيوت والدور، وحصول الرضا والقناعة بما قسم الله تعالى
(1) البخاري (6389)، مسلم (2690).
وأعطى، مِنَ الحياة السعيدة، والمعيشة الهنية الرغيدة.
3 -
أما حسنة الآخرة فهي النعمة الكبرى، والسعادة العظمى، والحياة الباقية، والنعيم المقيم، وأعلاها رضا الرب، ودخول جنته التي فيها النظر إلى وجهه الكريم، والحظوة بيوم المزيد، وما في الجنة من نعيم لا يفنى، وشباب لا يبلى، وحياة سعيدة لا تنتهي، وتمتُّع دائم بملاذَّ لا تنقطع، مما لا يدور في الخيال، ولا يحيط به البال؛ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة]، مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال بشر.
4 -
أما الوقاية من عذاب النار: فإنَّها كمال النعيم، وتمام الأنس، والحصول على الأمن، وزوال الهم والغم، وذهاب الخوف والكرب؛ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، وبأنَّه الله الذي لا إله إلَاّ هو الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، أن يجعلنا من الفائزين بجنته ورضاه، الناجين من عذابه وغضبه، ووالدينا، وأقاربنا، ومشايخنا، وإخواننا المسلمين أجمعين، الأوَّلين منهم والآخرين، وصلى الله على نبيِّنا وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
***
1366 -
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي، وَهَزْلي، وَخَطَئِي، وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذلِكَ عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ المُقَدِّمُ، وَأَنْتَ المُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
مفردات الحديث:
-الخطيئة: الذنب.
-جهلي: الجهل: ضد العلم، ويحتمل أنَّ المراد به هنا: الخطيئة المتعمَّدة.
-إسرافي: الإسراف: مجاوزة الحد في كل شيء.
-جِدِّي: بكسر الجيم، ضد الهزل.
-خطئي وعَمْدي: من عطف الخاص على العام؛ لأنَّ الخطيئة تكون عن هزل وعن جد، وتكرير ذلك لتعدد الأنواع التي تقع من الإنسان من المخالفات.
-أنت المقدِّم: أي: تقدِّم من تشاء من خلقك، فيتَّصف بصفات الكمال، ويتحقق بحقائق العبودية بتوفيقك.
-أنت المؤخِّر: لمن تشاء من عبادك بخذلانك وتبعيدك له عن درجات الخير.
…
(1) البخاري (6398)، مسلم (2719).
1367 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي إِلَيْهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ المَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- أصلح لي ديني: بأن تُوفِّقني للقيام بآدابه على الوجه الأكمل.
- عِصمة أمري: العصمة المنع والحفظ، أي: ما أعتصم به في جميع أموري.
- معاشي: أي: مكان عيشي، وزمان حياتي، بإعطاء الكفاف.
- معادي: أي: زمان إعادتي؛ باللطف، والتوفيق على العبادة، والإخلاص.
- راحة لي من كل شر: أي: راحة لي من الفتن، والمِحن، والابتلاء بالمعصية والغفلة.
وخلاصة آخر هذا الدعاء: اجعل عمري مصروفًا فيما تحب، وجنِّبني ما تكره.
…
(1) مسلم (2720).
1368 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَارْزُقْنِي عِلْمًا يَنْفَعُنِي" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَالحَاكِمُ (1).
1369 -
وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُهُ، وقَالَ فِي آخِرِهِ:"وَزِدْنِي عِلْمًا، الحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِالله مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ" وإِسْنَادُهُ حسَنٌ (2).
ــ
* درجة الحديث:
إسناده حسن قاله المصنف والسيوطي.
والحديث أخرجه النسائي، والترمذي، وصححه الحاكم، فقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذَّهبِي.
أما الحافظ ابن كثير في تفسيره فقال: أخرجه ابن ماجه، والبزار، وأخرجه الترمذي عن أبي كريب، عن عبد الله بن نمير، به، وقال: غريب من هذا الوجه.
* مفردات الأحاديث الأربعة السابقة بتوسع أكثر:
- الخطيئة: هي الذنب الكبير أو الصغير.
- الجهل: ضد العلم؛ قال ابن عباس: "كل من عمل السوء فهو جاهل، فمن جهالته عمل السوء".
(1) الحاكم (1/ 510)، النسائي في الكبرى (4/ 444).
(2)
الترمذي (3599).
- إسرافي في أمري: مجاوزة الحد في كل شيء، والمراد هنا: الإفراط في المعاصي، والاستكثار منها.
- وما أنت أعلم به مني: يعني: إنَّ الله تبارك وتعالى وكَّل بعباده ملائكته، يحصون عليهم سيئاتهم من أقوال وأفعال؛ قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)} [يس].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)} [المجادلة].
فالعبد يسأل ربه غفران ذنوبه التي يعلمها، والتي نسيها، وعلمها الله تعالى، وأحصاها، وحفظها عنده.
- اغفر لي جِدِّي وهزلي: الجِد: الاجتهاد في الأمر، والاهتمام به، والهزل ضده، لم يجدّ فيه.
- خطئي وعمدي: الخطأ: ما وقع من الإنسان من غير قصد، والعمد: قصد عين الفعل بعلم.
- اللَّهمَّ اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت: الذنوب المتقدمة على طلب المغفرة واضحة معروفة، وأما الذنوب المتأخرة فقيل: معناها أنَّ الله يحفظه، فلا يقع منه ذنب في بقية عمره، وقيل: معناه أنَّه لا يؤاخذ بما سيقع منه من الذنوب المستقبلة، بحيث يوفِّقه للتوبة التي تمحوها.
وقد صنَّف الحافظ ابن حجر رسالة سماها: "الخصال المكفِّرة للذنوب" تتبع فيها الأحاديث التي ورد فيها الوعد بغفران الذنوب "ما تقدم منها وما تأخَّر"، وخرَّج أحاديثها وحقَّقها.
- أنت المقدِّم: أي: تقدِّم من تشاء من خلقك، فيتَّصف بصفات الكمال، ويتحقق بحقائق العبودية بتوفيقك.
- أنت المؤخِّر: تؤخِّر من تشاء من خلقك بخذلانك وتبعيدك إيَّاه عن درجات
الخير.
- وأنت على كل شيء قدير: عموم بعد خصوص؛ لئلا يتوهَّم الحصر والعدد.
- اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري: فوصف الدِّين بأنَّه عصمة الأمر، وهو عين الحقيقة. لأنَّ صلاح الدين هو رأس مال العبد، وغاية ما يطلبه.
- وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي: وأما صلاح الدنيا -لأنَّها مكان وموضع معاشه- فحقيقةٌ لابد منها في حياته، فمن لم تستقم معيشته، لا تتم له آخرته.
- وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي: وأما صلاح آخرته، التي هي المرجع والمصير -فحول ذلك يسعى العباد بفعل الطاعات، وترك المنهيات، وقد استلزمها سؤال صلاح الدين؛ لأنَّه إذا أصلح الله دين الرجل، فقد أصلح له آخرته التي هي دار المعاد.
- واجعل الموت راحةً لي من كل شرٍّ: لأنَّه إذا كان الموت دافعًا للشرور قاطعًا لها، ففيه الخير الكثير للعبد.
وليس في الحديث دلالة على جواز الدعاء بالموت، وإنما دلَّ على سؤال أن يجعل الموت -في قضائه عليه، ونزوله به- راحةً من شرور الدنيا، ومن شرور القبر؛ لعموم الدعاء من جميع الشرور، والذي ينبغي أن يقوله المسلم الخائف من المِحَن والفتن:"اللَّهمَّ أحيني ما كانت الحياة خيرًا، وتوفني إذا كان الموت خيرًا"[رواه البخاري (5671) ومسلم (2680)].
- الَّلهُمَّ علِّمني ما ينفعني، وارزقني علمًا ينفعني: سؤال الله سبحانه وتعالى علمًا نافعًا، والعلم النافع هو العلوم الشرعية أصولها وفروعها؛ فهي من أجَلِّ النعم وأفضل القسم؛ قال تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].
وقال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"[رواه البخاري (71) ومسلم (1037)].
والنصوص في فضلِ العلم والحثِّ عليه كثيرة جدًا.
قال الإِمام أحمد: طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحَّت نيته.
وقال الإمامان أبو حنيفة، ومالك: أفضل ما تطوِّع به العلم، تعلمه وتعليمه.
وقال الإِمام النووي: اتَّفق السلف على أنَّ الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصلاة، والصيام، والتسبيح، ونحو ذلك؛ فهو نور القلوب، والميراث النبوي، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، فهو أفضل الأعمال وأقربها إلى الله.
وأفضل العلوم: أصول الدين، ثم التفسير، ثم الحديث، ثم أصول الفقه، ثم الفقه.
- وانفعني بما علَّمتني: هذا هو ثمرة العلم، وزبدته، وفائدته؛ فالعلم الذي لا ينفع صاحبه، وبَال عليه، وحجة قائمة عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"اللَّهمَّ أعوذ بك من علمٍ لا ينفع".
وثمرة العلم تتلخَّص في أمرين:
في الإخلاص لله تعالى في طلبه وتحصيله.
وفي العمل به، فمن ضيَّع هذين الأمرين، أو أحدهما، فقد خسر.
قال الإِمام الغزالي: أيها المقبل على العلم، إن كنت تقصد بطلب العلم المنافسة، والمباهاة، والتقدم على الأقران، واستمالة وجوه الناس إليك، وجمع حطام الدنيا -فصفقتك خاسرة، وتجارتك بائرة.
وإن كانت نيتك من طلب العلم الهداية، فأبشر؛ فإنَّ الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت؛ رضًا بما تطلب.
- وفيه الاستعاذة من حال أهل النار: لأنَّهم أهل المعاصي بتركهم الواجبات، وانتهاكهم المحرمات؛ فمآلهم إلى النار، وبئس القرار.
* ما يؤخذ من الأحاديث:
1 -
"اللَّهم اغفر لي" الاستغفار: طلب المغفرة من الله، وهي الوقاية من شر الذنوب مع سترها.
أما العفو عن الذنوب، فهو محو أثرها؛ ولكن قد يكون بعد عقوبة على المذنب، بخلاف المغفرة؛ فإنَّها لا تكون مع عقوبة.
قال ابن رجب: وأفضل الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يُثَنِّي بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة؛ كما في حديث شداد بن أوس "سيد الاستغفار".
2 -
قال ابن رجب: أسباب المغفرة ثلاثة:
أحدها: الدعاء مع الرجاء؛ فإنَّ الدعاء مأمور به، وموعود عليه بالإجابة؛ قال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وفي الحديث: "ما كان الله ليفتح على عبد باب الدعاء، ويغلق عنه باب الإجابة".
لكن الدعاء سبب مقتضٍ للإجابة، مع استكمال شرائطه، وانتفاء موانعه.
وقد تتخلف الإجابة لانتفاء بعض شروطه، أو وجود بعض موانعه، ومن أعظم شروطه: حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى، ففي المسند (6617) عن ابن عمر أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:"إِنَّ هَذهِ القُلوب أوعية، فبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإنَّ الله لا يستجيب لعبد دعاه من قلب غافل".
ومن أعظم أسباب المغفرة: أنَّ العبد إذا أذنب، لم يرج مغفرته من غير ربه، ويعلم أنَّه لا يغفر الذنوب ويأخذ بها غيره.
الثاني: الاستغفار، ولو عظمت الذنوب، وبلغت في الكثرة عَنَان السماء.
والمراد بالاستغفار: الاستغفارُ المقرونُ بعدم الإصرار.
أما الاستغفار باللسان مع إصرار القلب على الذنب، فهو دعاء مجرَّد، إن شاء الله أجابه، وإن شاء ردَّه.
وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة؛ ففي المسند (6505) عن عبد الله ابن عمرو بن العاص مرفوعًا: "ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون".
وخرَّج البيهقي في الشعب (5/ 436) عن ابن عباس مرفوعًا: "المستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزيء بربه".
فالاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار؛ كما مدح الله أهله، ووعدهم بالمغفرة.
فأفضل الاستغفار ما قارن به ترك الإصرار، وهو حينئذٍ يؤمِّل توبة نصوحًا، وإن قال بلسانه: أستغفر الله، وهو غير مقلع بقلبه، فهو داع لله بالمغفرة، قد يرجى له الإجابة.
وأفضل أنواع الاستغفار: أن يبدأ بالثناء على ربه، ثم يثنِّي بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة؛ كما جاء في سيد الاستغفار.
الثالث: التوحيد، فهو أقوى أسباب المغفرة، فالتوحيد هو السبب الأعظم؛ فمن فقده، فقد المغفرة، ومن جاء به، فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة؛ قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
جاء مع التوحيد، ولو جاء بقُراب الدنيا خطايا، لقيه الله بقُرابها مغفرة، لكن هذا مع مشيئته عز وجل، فإن شاء غفر له، وإن شاء أخذه بذنوبه، ثم
كانت عاقبته أن لا يخلَّد في النار، بل يخرج منها، ثم يدخل الجنة.
قال بعضهم: الموحِّد لا يُلقى في النار كما يلقى الكفار، ولا يبقى كما يبقى الكفار؛ فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله فيه، وقام بشروطه كلها بقلبه، ولسانه، وجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت -أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها، ومنعه من الدخول في النار بالكلية.
فمن تحقَّق بكلمة التوحيد قلبه، أخرجت منه كل ما سوى الله محبةً، وتعظيمًا، وإجلالاً، ومهابةً، وخشيةً، ورجاءً، وتوكلاً؛ وحينذٍ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، ولو كانت مثل زيد البحر، وربما قلبتها حسنات، فإنَّ هذا التوحيد هو السبَبُ الأكبر الأعظم، فلو وضع ذرة منه على جبال الذنوب والخطايا، لقلبها حسنات، كما جاء في المسند (26847) عن أم هاني، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا إله إلَاّ الله لا تترك ذنبًا، ولا يسبقها عمل" اهـ كلامه، رحمه الله تعالى.
***
1370 -
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَّمَهَا هَذَا الدُّعَاء: "اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِن الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، ومَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءَ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا" أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
ففد صحَّحه الحاكم وابن حبان.
قال الشوكاني في تحفة الذاكرين: أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة.
قال الترمذي: حسن غريب، وإنما لم يصححه الترمذي؛ لأنَّ في إسناده ليث بن أبي سليم، وهو -وإن كان فيه مقال- فقد أخرج له مسلم، وحديثه لا يَقْصُرُ عن رتبة الحسن.
وقال الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني: أخرجه أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، من طريق حماد بن سلمة، أخبرني جبر بن حبيب، عن أم كلثوم بنت أبي بكر، عن عائشة؛ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّمها هذا الدعاء، فذكره.
(1) ابن ماجه (3846)، ابن حبان (869)، الحاكم (1/ 521).
قُلتُ: وهذا إسناد صحيح، رواته ثقات، رواه مسلم، عن جبر بن حبيب، وهو ثقة، ثم رأيت الحديث في المستدرك من طريق شعبة، عن جبر بن حبيب، به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذَّهبي.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمَّد، انتهى الكلام على درجات أحاديث بلوغ المرام في: ليلة الأحد الموافق: 19/ 6/ 1408 هـ.
ثم تمت المراجعة الأخيرة في ضحى يوم الجمعة 5/ 4/ 1410 هـ.
ثم أعيدت المراجعة مرَّة أخرى، وكان آخرها في شهر رجب عام: 1421 هـ.
* مفردات الحديث:
- عاجله: العاجل: مقابل الآجل من كل شيء، ومعناه: الخير الحاضر.
- آجله: ما تأخَّر من خير الدنيا والآخرة.
- قضاء قَضَيْته: القضاء له عدة معان، وأقربها هنا: أنَّ المراد به ما قدَّرته وأمضيته تجعله لي خيرًا.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النبي صلى الله عليه وسلم علم عائشة رضي الله عنها هذا الدعاء الجامع؛ فكذلك ينبغي للمسلم أن يعلِّمه أهله، وأولاده، وأهل بيته، ومن يتَّصل به، يعلِّمهم الخير بما ينفعهم في أمو دينهم ودنياهم.
2 -
ففي الحديث سؤال الله تعالى الخير الذي يشمل منافع الدنيا والآخرة، مما لا يعد ولا يحصى، العاجل منها والآجل، والمتأخر المعلوم منها للداعي، والمجهول له مما لا يعلمه إلَاّ الله تعالى.
3 -
كما يستعيذه ويلتجيء إليه من شرور الدنيا والآخرة، العاجل الحاضر منها، والآجل المتأخر، مما علم به الداعي، وما جهل.
4 -
ثم عمم السؤال من نوع آخر، وهو أنَّ الداعي يسأل الله تعالى من خير ما سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستعيذ مما استعاذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي علم ما عند الله من الخير والشر أكثر مما نعلم، فسأل أفضل سؤال، واستعاذ بربِّه من أسوأ معاذ؛ فنحن به مقتدون في الرَّغبة في الخير، والبعد من الشر.
5 -
ثم سأل العبد من ربه الجنة، وهي غاية المطلوب، وسأل الوسيلة إليها من الأقوال الطيبة، والأعمال الصالحة.
6 -
ثم سأل الله تعالى العبد أن يجعل كل قضاء قضاه أن يكون خيرًا، ولو ظاهره ومظهره الشر، إلَاّ أنَّه في حقيقة الأمر هو خير؛ فإنَّ تدابير الله تعالى كلها وفق الحكمة والمصلحة، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)} [البقرة].
7 -
فهذه الأدعية الشريفة علَّمها النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائشةَ؛ ليكون عِلْمُهَا لأمته التي نَصَحَهَا، وَبَرَّهَا، وأَحْسَنَ إليها، وهي من أنفع الأدعية، وأجمعها لخيري الدنيا والآخرة.
***
1371 -
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلِمَتَانِ حَبِيبتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ"(1).
قَالَ مُصَنِّفُهُ: فَرَغَ مِنْهُ مُلَخِّصُهُ، أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَجَرٍ فِي حَادِي عَشْرِ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ، حَامِدًا اللهَ تَعَالَى وَمُصَلِّيًا عَلَى رَسُولهِ صلى الله عليه وسلم، وَمُكَرِّمًا، وَمُبَجِّلاً، وَمُعَظِّمًا.
ــ
* مفردات الحديث:
- كَلِمَتان: تثنية كلمة، وهو خبر مقدَّم، و"سبحان الله" هو المبتدأ، وما بينهما صفة، وكلمتان يراد بهما الكلام من إطلاق الكلمة على الكلام، مثل قولهم: كلمة الإخلاص: "لا إلله إلَاّ الله" و"كلمتان" خبر مقدَّم، و"حبيبتان" وما بعدها صفة، والفائدة من تقديم الخبر: تشويق السامع إلى المبتدأ.
- حبيبتان إلى الرحمن: حبيبة: بمعنا محبوبة؛ على وزن "فعيل" بمعنى مفعول، وأنَّث هنا؛ لأنَّ التسوية بين المذكر والمؤنث في "فعيل" بمعنى مفعول: جائزة لا واجبة؛ وخصَّ لفظ "الرحمن" بالذكر؛ لأن المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله بعباده، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الكثير.
(1) البخاري (6406)، مسلم (2694).
- خَفيفتان على اللسان: لقلَّة حروفهما، وأنَّهما من الحروف السهلة المخارج؛ فليس فيهما حرف من حروف الشدة، ثم جاءت بأسماء، والأسماء أخف من الأفعال؛ فالنطق بهما سريع رشيق.
- ثقيلتان في الميزان: ثقيلتان ثقلاً حقيقيًّا؛ لكثرة الأجور لقائلهما، والحسنات المضاعفة للذاكر بهما، وقوله:"حبيبتان، خفيفتان، ثقيلتان" صفة لقوله: "كلمتان".
- سُبحان الله: اسم مصدر لازم النصب بإضمار فعل محذوف، والمصدر التسبيح.
- وبحمده: الواو للحال، أي أسبحه متلبسًا بحمدي له.
- سبحان الله العظيم: ذكر صفة العظمة هنا ليجمع في هذا الذكر بين الذي يخافه ويرجوه، وهذه طريقة القرآن في إيراد وعده ووعيده، وختم الآيات بما يناسب المقام.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ففي اليوم الثامن من الشهر الثامن من عام ثمانية وأربعمائة وألف، انتهيت من شرحي لمفردات أحاديث هذا الكتاب المبارك "بلوغ المرام" في منزلي بمكة المكرمة في العزيزية.
وفي صباح 30/ 1/ 1409 هـ تمت المراجعة الثانية لشرح غريب "بلوغ المرام"، والحمد لله رب العالمين.
وفي مساء يوم الثلاثاء الموافق 9/ 5/ 1421 هـ، انتهينا من إعادة مراجعة "مفردات الحديث"؛ لتعديل ما وقع فيها من خطأٍ، أو نقصٍ، أو خللٍ، والحمد لله رب العالمين.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ختم المؤلِّف -رحمه الله تعالى- كتابه بالتسبيح والتحميد؛ كما فعل الإِمام البخاري في صحيحه، حينما ختمه بهذا الحديث الشريف، وهو ختام
حسن، واقتداء طيب؛ فإنَّ الله تعالى ختم رسالة نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم بذلك؛ قال تعالى:{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر].
2 -
"حبيبتان إلى الرحمن" أي: هما محبوبتان، وأيضًا محبوب قائلهما عند الرحمن تبارك وتعالى.
وخصَّ الرَّحمن من بين سائر الأسماء الحسنى؛ لأنَّ المقصود من الحديث بيان سعة رحمة الله على عباده، حيث يجازي على العمل القليل بالثواب الكثير.
3 -
"ثقيلتان في الميزان": حقيقةً؛ لكثرة الأجور المدَّخرة لقائلهما، والحسنات المضاعفة للذاكر بهما، فقد ذهب أهل الحديث إلى أنَّ الموزون هو نفس الأعمال؛ قال تعالى:{فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)} [الأعراف: 8]، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وأما معرفة كيفية الوزن: فهذه أمور توقيفية، لا يتجاوزها المسلم إلى غير المسموع والمنقول، وليس للعقل دخل في تخيلها ووصفها، وبيان كيفيتها؛ فهذا من علم الغيب.
4 -
"سبحان الله وبحمده": قرن التسبيح بالحمد؛ ليعلم ثبوت الكمال له نفيًا وإثباتًا ومعنًى، والتسبيح هنا: تنزيهه وتقديسه عن جميع ما لا يليق به سبحانه، وإلَاّ فهو تعالى مقدَّسٌ أزلًا وأبدًا، وإن لم يقدِّسه أحدٌ، وإذا حصل الاعتراف والاعتقاد بأنه منزَّهٌ عن جميع النقائص، ثبتت له الكمالات ضرورة؛ فثبت أنَّه الرب على الإطلاق.
والربوبية حجة ملزمة، وبرهان يوجب توحيد الألوهية، فتضمَّنت هذه الكلمة إثبات التوحيدين، كما تضمنت إثبات الكمالين، وهذان الإثباتان في ضمنهما كلُّ حمد يليق بالله تعالى.
5 -
"سبحان الله العظيم": هو الذي يستحق أوصاف العظمة: من الكبرياء، والعزة، والجبروت؛ فهذه صفاته جلَّ وعلا.
6 -
قوله: "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم": قرنا ليجمعا بين مقامي الرجاء والخوف، فوصفه بالحمد الذي هو الثناء الجميل على الفعل الصادر من فاعله، وعلى ما يتَّصف به من صفات الكمال والجمال، والخوف والرهبة والهيبة ترجع إلى معنى العظمة، والكبرياء، والجبروت.
7 -
قال في فتح الباري: هذه الفضائل الواردة في فضل الذكر إنَّما هي لأهل الشرف في الدين، والكمال، والطهارة من الحرام، والمعاصي العظام؛ فلا تظن أنَّ من أدمن الذِّكْرَ، وأصرَّ على ما شاء من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته، أنَّه يلتحق بالمطَّهرين المقدَّسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه، ليس معه تقوى، ولا عمل صالح.
8 -
أما ابن رجب فيقول: ومجرَّد قول القائل: "اللَّهمَّ اغفر لي" فيكون حكمه حكم سائر الدعاء، فإن شاء الله أجابه وغفر لصاحبه، ولاسيَّما إذا خرج من قلب منكسر بالذنوب، أو صادف ساعة من ساعات الإجابة، كالأسحار، وأدبار الصلوات، فذنوب العبد -وإن عظمت- فإنَّ عفو الله ومغفرته أعظم منها؛ فهي صغيرة في جنب عفو الله ومغفرته.
قال ابن مسعود رضي الله عنه "ليغفرنَّ الله يوم القيامة مغفرة لم تخطر على بال بشر" أخرجه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله تعالى.
والحمد لله الذي بنعمته وفضله تتم الصالحات؛ ففي اليوم السادس من شهر جمادى الثانية من عام عشر وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية: تم هذا الشرح المبارك، وذلك بالانتهاء من استنباط أحكامه، وذلك بقلم راجي عفو ربه عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح بن حمد بن محمَّد بن حمد البَسَّام، في منزله بحي العزيزية في مكة المكرمة، وأسأل الله تعالى أن ينفع به مؤلِّفه،
وقارئه، وناشره، وأن يجعل العمل خالصًا لوجهه الكريم، مقرِّبًا لديه في جنات النعيم.
وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
انتهى الجزء السابع
وبه تم الكتاب ولله الحمد والمنة