الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الشهادات
1215 -
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؛ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
1216 -
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حصَيْنِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ خَيْرَكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ يَكُونُ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُون، وَينْذُرُونَ، وَلَا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (2).
ــ
* مفردات الحديث:
- خير: جمعه: أخيار وخيار، يستعمل اسم تفضيل، وأصله: أخْيَرُ، فحذف الهمزة على خلاف القياس؛ لكثرة الاستعمال، فصار متصرِّفاً لمغايرته وزن الفعل.
- قرني: القرن جمعه قرون، وهو مصدر، وهو مدة، قيل: أربعون سنة،
(1) مسلم (1719).
(2)
البخاري (2651)، مسلم (2535).
وقيل: أقل، وقيل: أكثر، والرَّاجح عند اللغويين: أنَّه مائة سنة، وعليه جرى المؤرِّخون.
ولعل المراد هنا أهل زمانٍ واحد.
- يُسْتَشهدون: الشَّاهد جمعه شهود، يُقال: شهد المجلس، أي: حضره، وشهد عند الحاكم لفلان على فلانٍ بكذا: أدَّى ما عنده من الشهادة، أي: أخبر بما عنده خبراً قاطعاً.
فمعنى "يستشهدون" أي: يؤدون الشهادة قبل أنْ تُطلَب منهم.
- يخونون: خانه في كذا يخونه خوناً وخيانة، فهو خائن، والجمع خَوَنَةٌ، والخيانة: خلاف الأمانة.
- يؤتمنون: يُقال: أَمُنَ يَأْمُنُ أمانةً، ضد خان، فهو أمين.
فمعنى يُؤتمنون: يُتخذون أمناء.
- ينذرون: النَّذر مصدر نَذَرْتُ أَنْذُر بضم الذَّال، من باب قتل، والنَّذْرُ في الشرع: إلزَامُ مكلَّفٍ مختارٍ نَفْسَهُ بعبادة الله تعالى.
- يوفون: يُقالُ: وَفَى بالعهد والوعد يفي وفاءً، بمعنى: أتمه وحافظ عليه، وهو ضد الغدر، فهو وفيٌّ ووافٍ، فأوفى نذره: أحسن الإيفاء.
- السمن: يُقال: سمن يسمن سمانةً وسِمناً: كثر لحمه وشحمه، ضد هزل، فهو سمين، والجمع سِمَان.
* ما يؤخذ من الحديثين:
1 -
الشَّهادات واحدها شهادة، مشتقَّة من المشاهدة: إمَّا بالبصر، أو البصيرة؛ لأنَّ الشَّاهد يخبر عمَّا شاهده، وتطلق الشَّهادة على التحمُّل والأداء،
2 -
الشَّهادةُ: هي الإخبار بما يعلمه بلفظ أَشْهَدُ، أو شَهِدتُّ، وهذا هو المشهور من مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد.
والرواية الأخرى عن أحمد: أنَّه لا يشترط في أداء الشهادة لفظ
أشْهَدُ؛ واختاره شيخ الإسلام، وتلميذه ابن القيم.
قال الشيخ: وهو مقتضى قواعد أحمد وغيره، ولا أعلم نصًّا يخالفه، ولا يعرف عن صحابي، ولا تابعي اشتراط لفظ الشَّهَادة.
وقال ابن القيم: الإخبار إشهادٌ محض في أصح الأقوال.
وهو قول الجمهور؛ فإنَّه لا يشترط في صحَّة الشهادة لفظ أشْهَدُ، بل متى قال الشاهد: رأيتُ، أو سَمِعْتُ، أو نحو ذلك، كانت شهادةً منه، وليس في كتاب الله، ولا في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم موضعٌ واحدٌ يَدُلُّ على اشتراط لفظ الشهادة، ولا عن رجلٍ واحدٍ من الصحابة، ولا قياس، ولا استنباط يقتضيه، بل الأدلَّةُ المتضافرةُ من الكتاب، والسنَّة، وأقوال الصحابة، ولغة العرب: تنفي ذلك.
3 -
الحِديثان متعارضان؛ فحديث زيد: مدح الَّذي يأتي بالشَّهادة قبل أنْ يُسْأَلَهَا، وتطلب منه، وحديث عمران: ذمَّ الَّذين يَشْهَدون قبل أنْ يُستَشْهدوا، وتُطلَبَ منهم، وجُمعَ بينهما بعدَّة أوجهٍ:
أحسنها: كونه يَشْهَد قبل أنْ يُسْتَشهد مذمومٌ، إلَاّ أنْ يكون عنده شهادة بحق لا يعلم بها صاحب الحق، فيأتي إليه، ويخبره بها، أو يموت صاحبُ الحق فيأتي إلى ورثته، فيخبرهم بأنَّ عنده لهم شَهادة؛ فهذا هو أحسن الوجوه في الجمع بين الحديثَيْنِ.
قال في الإنصاف: مَنْ عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يقمها حتَّى يسأله، فإنْ لم يعلمها، استحب له إعلامه بها.
4 -
قال شيخ الإسلام: يجب على من طُلِبَتْ منه الشهادةُ أداؤها، فإذا امتَنَعَ الجماعةُ من الشهادة، أثموا كلهم باتفاق العلماء.
وقال ابن القيم: إنَّ الشَّاهد إذا كتم الشهادة بالحقِّ، ضمنه؛ لأَنَّه أمكنه تخليص حق صاحبه، فلم يفعل؛ فلزمه الضمان.
5 -
قال فقهاؤنا: تحمُّلُ الشهادة في غير حق الله تعالى فرضُ كفاية، وإنْ لم يوجد من يكفي، تعينت عليه، لقوله تعالى:{وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، أي: لتحمل الشهادة، فعليهم الإجابة، وعند جمهور العلماء: أن تحملها فرض كفاية، والأداء فرض عين.
6 -
قال فقهاؤنا: وأداء الشهادة فرض عين على من تحمَّلها متَّى دعي إليها؛ لقوله: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فهذا وعيدٌ شديد، وإنَّما خصَّ القلب؛ لأنَّه موضع العلم بالشهادة، فدلَّت الآية على فرضية أدائها عيناً على من تحمَّل متَّى دعي إليها.
7 -
قال العلماء: إنْ لَحِقَ الشَّاهدَ ضررٌ بتحمُّلِ الشهادة، أو أدائها في بدنه، أو عرضه، أو ماله، أو أهله -لم تلزمه.
8 -
حديث عمران بن حصين دليل على أنَّ الصحابة رضي الله عنهم هم أفضل الأُمَّة، وهم أفضل من التَّابعين، والتَّابعون أفضل من تابع التَّابعين.
9 -
الصحيح أنَّ فضل الصحابة على التَّابعين هو فضل جملة على جملة، لا فضل كل فرد على كل فرد؛ فإنَّه قد يكون في فضلاء التَّابعين من يَفْضِّلُ بعض الصحابة؛ ولكن يستثنى من هذا أمران:
أحدهما: مشاهير الصحابة، وأصحاب السَّابقة منهم، من المهاجرين والأنصار، لاسيما أهل بدر وأهل الشجرة؛ فهؤلاء لا يلحقهم أحدٌ في فضلهم، وسابقتهم، ونصرهم دينهم، وما خصَّهم الله تعالى به من صحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنَّ المفضول من الصحابة أمام الفاضل من التَّابعين وغيرهم، فالصحابي يفضل على غيره بالصحبة، فلا يلحقه أحدٌ فيها، وإن امتاز عليه الآخر بالعلم، والعبادة، والفضل، فللصحابي مهما كانت حاله فضيلةُ الصحبة.
10 -
الحديث يدل على فضل هذه القرون الثلاثة المفضَّلة ممَّن ساروا على نهج نبيهم، واقتفوا أثره؛ فكانوا خير أمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاسِ.
فلمَّا جاء القرن الرَّابع، بدأت الخلافات في المقالات، وتعددت المذاهب المنحرفة، والمقالات الكلامية، وحدثت البدع؛ فأخذت معالم العقيدة الصحيحة تتغيَّر، ومحاسنها تنطمس.
11 -
ويدل الحديث على أنَّ الفضيلة ليست بعمارة الحياة الدنيا، وبهجتها، وزينتها، وإنَّما الفضيلة موجودة حيث توجد الأمانة، ويوجد الوفاء بالعهود، والعقود، والنذور، وتكون الآخرة هي أكبر هم المسلم؛ لأَنَّ المسلم ليس همه، وكده، وجده، فيما يعود عليه بالترف من حسن المآكل، والملابس، والمراكب، والمساكن؛ فإيثار الحياة الدنيا على الآخرة هو عين الخسارة؛ قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى].
***
1217 -
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ، وَلَا خَائِنَةٍ، وَلَا ذِي غَمَرٍ عَلَى أَخِيهِ، ولَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأَهْلِ البَيْتِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديت حسن.
أخرجه أحمد، وأبو داود، والدَّارقطني، والبيهقي، وإسناده حسن، قال الحافظ: وسنده قوي.
وقال في التنقيح: ومحمد بن راشد -أحد رواته- وثَّقه أحمد ويحيى بن معين، وغيرهما، ولا مطعن فيه.
* مفردات الحديث:
- خائن: خان الشيء خوناً وخيانة: نقضه وخان العهد فيه، وخان الأمانةَ: لم يؤدها.
- ذي غَمَرٍ: بفتح الغين المعجمة، وفتح الميم، بعدها راء، وهو الحقد والشحناء.
- القانع: بالقاف، ثمَّ ألف، بعدها نون، ثمَّ عين مهملة: هو الخادم المنقطع لخدمة أهل البيت، وقضاء حوائجهم؛ لما لهم عليه من السلطة، ولما له عندهم من المنفعة، فالتهمة بمواليهم قائمة.
- لأهل البيت: الَّلام هنا متعلِّقة بمحذوف، تقديره: مقارنة لأهل البيت، فتكون حالاً من "القانع".
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
بيان شيءٍ من موانع الشهادة التي إذا وُجِدَ شَيْءٌ منها في شخص، فإنَّها لا
(1) أحمد (2/ 204)، أبو داود (3600).
تقبل شهادته.
قال في شرح الإقناع: الموانع تحول بين الشهادة ومقصودها؛ فإنَّ المقصود منها قبولها، والحكم بها، ومن الموانع ما يلي:
الأوَّل: الخيانة: فالخائن ضد الأمين، وهي إمَّا أنْ تكون خيانة في حقوق الله تعالى؛ من تضييع ما افترض الله عليه من الواجبات؛ فقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27]؛ فمن ضيَّع شيئاً ممَّا أمر الله تعالى به، أو ارتكب شيئاً ممَّا نهي عنه، فليس بأمين، وإنَّما هو خائن، لا تصح أنْ تقبل شهادته.
وإمَّا أنْ تكون الخيانة فيما ائتمنه النَّاس عليه من الودائع، والأمانات؛ فلا يوجد عنده تقوى تمنعه من الحفاظ عليها وأدائها، فهذا لا يحصل الاطمئنان إلى خبره؛ فلا تصح شهادته.
قال في الروض المربع وحاشيته: السَّادس: العدالة، وهي أداء الفرائض، واجتناب المحارم.
قال ابن رشد: اتفق المسلمون على اشتراط العدالة في قبول شهادة الشاهد؛ لقوله تعالى: {تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
قال الشيخ: رَدَّ شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء.
والعدل في كلِّ زمانٍ ومكانٍ وطائفةٍ بحسبها، فيكون الشَّاهد في كلِّ قومٍ مَنْ كان ذا عدل فيهم، وإنْ كان وجوده في غيرهم، لكان عدله على وجهٍ آخر، بهذا يمكن الحكم بين النَّاس.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم: شروط الشهادة تعتبر حسب الإمكان.
الثاني: ذو الغَمَر: هو الحاقد ذو الشحناء والبغضاء؛ فلا تقبل شهادته على من يضمر له عداوة وشحناء.
قال في الروض المربع وحاشيته: ولا تقبل شهادة عدوٍّ على عدوه؛ وهو
مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد، وحجتهم:"لا تقبل شهادة خصمٍ ولا ظنين"[رواه أبو داود في المراسيل (ص 286)]، قال ابن حجر: ليس له إسنادٌ صحيح؛ لكن له طرق يقوِّي بعضها بعضاً.
قال ابن القيم: منعت الشريعة من قبول شهادة العدو على عدوه؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشهادة الباطلة، وقد أجمع الجمهور على تأثيرها في الأحكام الشرعية.
الثالث: القانع: وهو الخادم لأهل البيت، المنقطع للخدمة، وقضاء الحوائج، وموالاتهم، ذلك أنَّ الخادم متعلقةٌ مصالحه وحاجاته بأهل البيت، ولهم عليه سلطة، وتأثيرٌ كبير، وهذا مظنَّة تتهمه أنَه يحب دفع الضرر عنهم، أو جلب المصلحة والخير إليهم؛ فَمُنِعَتْ شهادته من القبول.
قال في الروض المربع: ولا تُقبل شهادة من عُرِفَ بعصبيةٍ، وإفراط حمية؛ لحصول التهمة بذلك.
2 -
ذكر الفقهاء أشياء أخرى ممَّا تُرَدُّ به الشهادة؛ منها: شهادة عمودي النسب، وهم الآباء وإنْ عَلَوْا، والأولاد وإنْ نزلوا، فلا تُقبل شهادة بعضهم لبعض.
قال ابن رشد: اتفقوا على رد شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، وكذا الأم لابنها، وابنها لها؛ لتهمة القرابة.
3 -
ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه عند أكثر العلماء، لأنَّ كلاًّ منهما يتبسط في مال الآخر؛ فالتهمة موجودة.
4 -
وتقبل الشَّهادة من عمودي النسب بعضهم على بعض؛ كما تقبل شهادة أحد الزوجين على الآخر؛ لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]؛ نصَّ عليه الإمام أحمد، قال الموفق: لم أجد خلافاً لأحد.
1218 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَجُوزُ شَهَادَة بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِب قَرْيَةٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث منكر.
أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وابن الجارود، عن طريق ابن الهاد، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة، به.
قال ابن دقيق العيد: رجاله إلى منتهاه رجال الصحيح؛ فالحديث صحيح الإسناد، رجاله كلهم ثقات؛ فهم رجال الشيخين.
قال ابن عبد الهادي: رواته ثقات.
لكن قال الذهبي: هو حديث منكر، مع نظافة سنده.
* ما يؤخذ من الحديث:
اختلف العلماء في قبول شهادة البدوي على الحضري:
فذهب الإمامان: مالك، وأحمد -في إحدى الروايتين عنه:- إلى عدم قبول شهادة البدوي على الحضري؛ لأَنَّ بينهما شحناء لا تمنع البدوي الَّذي يغلب عليه الجفاء في الدِّين، وقلَّةِ معرفة الأحكام الشرعية، وعدم ضبطه ومعرفته لما يُلقى عليه، ويسمعه.
قال الإمام أحمد: أخشى أنْ لا تُقبل شهادة البدوي على صاحب القرية؛ لهذا الحديث.
(1) أبو داود (3602)، ابن ماجة (2367).
وذهب الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشَّافعي وأحمد -في المشهور عنه-: إلى قبولها؛ لأَنَّه الأصل، ولما أخرجه أبو داود (2340) والترمذي (691) من حديث ابن عباس:"أنَّ أعرابيًّا جاء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي رأيت الهلال، فقال: أتشهد أنْ لا إله إلَاّ الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أنَّ محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: فأذِّن في النَّاس يابلال أنْ يصوموا غداً".
أمَّا حديث الباب: فحملوه على مَنْ لا تعرف عدالته من أهل البادية.
قال في شرح المنتهى: وتقبل شهادة بدوي على قروي؛ وحديث: "لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية" محمولٌ على من لا تعرف عدالته من أهل البدو.
والرَّاجح: قبولُ شهادة من عرف بالعدالة منهم على أنفسهم وعلى الحاضرة، فهذا هو الأصل ما دام أنَّه لم يوجد مانع من موانع الشَّهادة، والله أعلم.
***
1219 -
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّه خَطَبَ فَقَالَ: "إنَّ أُنَاساً كَانُوا يُؤْخَدونَ بِالوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- يؤخذون: يُقال: أُخِذَ به يؤخذ مؤاخذة، والمؤاخذة: المعاقبة على الذنب.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الأثر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاله للنَّاس،، وهو أمير المؤمنين؛ فأقروه عليه، فصار مثل الإجماع، وهو موافق لقواعد الشريعة.
2 -
يدل على هذا الأصل ما رواه الحافظ ابن كثير في الإرشاد، من أنَّه شهد عند عمر رجلٌ، فقال له عمر رضي الله عنه:"لست أعرفك، فأتِ بمن يعرفك" رواه البغدادي يإسنادٍ حسن.
3 -
قال الشيخ تقي الدِّين: خبر الفاسق ليس بمردود، بل هو موجب للتبين والتثبت؛ كما قال تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]
قال ابن القيم: الفاسق باعتقاده إذا كان محافظاً في دينه، فإنَّ شهادته مقبولة، وإنْ حكمنا بفسقه؛ كأهل البدع من الخوارج، والمعتزلة، ونحوهم؛ هذا منصوص الأئمة.
4 -
كان النَّبي صلى الله عليه وسلم في حياته يعرف المنافقين، فكان يخبر بهم بعض الصحابة، ومنهم حذيفة.
(1) البخاري (2641).
5 -
استدل بالحديث على قبول شهادة من لم تظهر مثه ريبة، نظراً إلى ظاهر حاله، وأنَّه يكفي في التعديل ما يظهر من حال المعدل الاستقامة، من غير كشفٍ عن حقيقة سريرته؛ لأنَّ ذلك متعذِّرٌ إلَاّ بالوحي، فقد انقطع.
6 -
قال في الروض وحاشيته: ويكفي في التزكية عدلان يشهدان لعدالة الشَّاهد، هذا هو المشهور من المذهب، وعنه، تكفي تزكية الواحد للواحد، وعليه العمل.
***
1220 -
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ عدَّ شَهَادَةَ الزُّورِ في أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ في حَدِيثٍ طَوِيلٍ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الزُّور: تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتَّى يخيل إلى من سمعه، أو رآه أنَّه بخلاف ما هو به؛ فهو تمويه الباطل بما يوهم أنَّه حقٌّ.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الزور عديلاً للشرك ومساوياً له؛ فإنَّ لشهادة الزور مفاسد كبيرة كثيرة:
- فهي سببٌ في أكل المال بالباطل.
- وهي سببٌ لإضلال الحكَّام؛ ليحكموا بغير ما أنزل الله.
- وهي سببٌ لإضاعة الحقوق، وحرمان المُحِقِّ من حقِّه.
2 -
وإنَّما اهتمَّ صلى الله عليه وسلم بإخبارهم عن شهادة الزور، وجلس وأتى بحرف التنبيه، وكرَّر الإخبار؛ لكون قول الزور وشهادته أسهل على الِّلسان، والتهاون بها أكثر، والمفاسد بها أكبر؛ لأَنَّ الحامل عليها أمور كثيرة: من العدواة، والحسد، وغيرهما؛ فاحتيج إلى الاهتمام بشأنها.
3 -
فقد جاء في البخاري (6919)، ومسلم (87) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"ألَا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر ثلاثاً؟ قالوا: بلى يارسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس -وكان متكئاً- ثم قال: ألا وقول الزور، فما زال يكرِّرها حتَّى قلنا: ليته سكت".
4 -
وبهذا فشهادة الزور من أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب.
(1) البخاري (2654)، مسلم (87).
1221 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: "تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ، أَوْ دَعْ" أَخْرَجَهُ ابْنُ عَدِيٍّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
إسناده ضعيف.
قال الألباني: أخرجه العقيلي، وابن عدي، والحاكم، والبيهقي، من طريق محمد بن مسمول.
قال العقيلي وابن عدي: لا يعرف إلَاّ بابن مسمول، وكان الحميدي يتكلَّم فيه، أمَّا الحاكم فقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: قلت: واهٍ؛ فعمرو بن مالك البصري كان يسرق الحديث، وابن مسمول ضعَّفه غير واحدٍ.
وقال الحافظ: صحَّحه الحاكم فأخطأ.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الشَّهادة مشتقَّة من المشاهدة؛ فالشَّاهد يخبر عمَّا شاهده، وهي حجَّةٌ شرعية تظهر الحق.
وبناءً عليه: فلابدَّ في أدائها من العلم اليقيني برؤية ما شهد عليه، أو سماعه،: فالرؤية: تختص بالأفعال؛ كالقتل، والغصب، والسرقة.
والسَّماع ضربان: سماع من المشهود عليه؛ كالطَّلاق، والإبراء، والعقود، ونحوها، وسماع من جهة الاستفاضة فيما يتعذَّر علمه غالباً؛ كالنَّسَب، والموت، والنكاح عقداً ودواماً، والطلاق، وشرط الوقف.
(1) ابن عدي (6/ 2213)، الحاكم (4/ 98).
قال في شرح الإقناع: ويجوز أنْ يشهد بالاستفاضة إذا علم ما شهد به عن عددٍ يقع العلم بخبرهم، واختار المجد والشيخ: ولو واحداً يُسْكَنُ إليه.
2 -
وإلى العمل بشهادة الاستفاضة ذهب الشَّافعي وأحمد.
قال في فتح الباري: اختلف العلماء في ضابط ما تفيد الشهادة بالاستفاضة:
فيصح عند الشَّافعية: في النسب، والولادة، والموت، والولاء، والوقف، والنكاح، والتعديل، والتجريج، والوصية، والرشد، والسفه، وبلَّغها بعض الشَّافعية بضعة وعشرين موضعاً.
وأمَّا عند الحنابلة: فشهادة الاستفاضة في تسع مواضعٍ هي:
النسب، والموت، والملك المطلق، والنكاح عقداً ودواماً، والوقف، والعتق، والخلع، والطلاق، والولاية، فيشهد بالاستفاضة في ذلك كله؛ لأَنَّ هذه الأشياء تتعذَّر الشَّهادة عليها في الغالب بمشاهدتها، ومشاهدة أسبابها، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة.
وعند الحنفية: في خمسة مواضع هي:
النكاح، والنسب، والموت، والولاء، وولاية القضاء.
قال القُدُورِيُّ مع حاشيته: فإنَّه يسعه أنْ يشهد بهذه الأشياء إذا أخبره مَنْ يثق به؛ لأَنَّ هذه الأمور تختص بمعاينة أسبابها الخواصُّ من النَّاس، ويتعلَّق بها أحكام تبقى القرون والأعوام، فلو لم يقبل فيها بالتسامع، لأدَّى إلى تعطيل الأحكام؛ وإنَّما يجوز للشَّاهد أنْ يشهد بالاشتهار إذا أخبره رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان؛ ليحصل له نوعٌ من العلم.
4 -
استدل العلماء على وجوب التحقق من الشهادة بقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)} [الإسراء]. ففي الآية الكريمة النَّهي أنْ يقول الإنسان ما لا يعلم؛ فإنَّ هذه الآلاء التي
أنعم الله عليه بها هي ابتلاء واختبار، فإن استعملها في الخير، استحق الثواب، وإن استعملها في الشرِّ، استحق العذاب.
ومن ذلك: الشَّهادة إنْ كانت عن يقين، أو كانت عن ظنٍّ وكذب، والله أعلم.
***
1222 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، والنَّسَائِيُّ، وقَالَ: إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ (1).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مِثْلُهُ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (2).
ــ
*درجة الحديث:
رواية أبي هريرة صحَّحها كُلٌّ من: ابن حبان، وأبي حاتمٍ، وأبي زرعة، وحسَّنها الترمذي، ولهذه الرواية طريقان آخران، قال الإمام أحمد: ليس في هذا الباب حديثٌ أصح منه. ورجاله رجال الصحيحين، وقال السيوطي والكتاني: إنَّه من المتواتر.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة: مالك، والشَّافعي، وأحمد: إلى الحكم بالشَّاهد الواحد، ويمين المدَّعِي؛ فقد روى مسلم (1712) من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عباس:"أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بشاهد ويمين".
قال الشَّافعي: حديث ابن عباس ثابت، ومعه ما يشده.
قال ابن القيم في الطرق الحكمية: وقد روي القضاء بالشَّاهد مع اليمين:
(1) مسلم (1712)، أبو داود (3608)، النسائي في الكبرى (3/ 490).
(2)
أبو داود (3610)، الترمذي (1343)، ابن ماجة (2368).
عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وسعد بن عبادة، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله، وزيد بن ثعلبة، وجماعةٍ من الصحابة.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة: "اقض بالشَّاهد مع اليمين؛ فإنَّه سنَّة"[رواه الشَّافعي في الأم (6/ 255)].
2 -
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه: إلى أنَّها لا تقبل شهادة واحدٍ ويمين في شيءٍ.
قال الجصاص: إنَّ قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] يوجب بطلان القول بالشَّاهد واليمين، ولا يجوز الاقتصار على ما دون العدد المذكور؛ ففي تجويز أقل منه مخالفةٌ للكتاب، ولا يجوز إسقاط العدد؛ إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء أمرين: العدد، والعدالة، فغير جائز إسقاط واحدٍ منهما، وفي مضمون ذلك ما ينفي قبولَ يمين الطالب والحكمَ له بشاهد؛ لما فيه من الحكم بغير ما أمر الله به من الاحتياط والاستظهار، ونفي الريبة والشك، وفي قبول يمينه أعظمُ الريب والشك، وأكبر التهمة؛ وذلك خلاف مقتضى الآية.
وأما ابن القيم في الطرق الحكمية فقال: "روى الترمذي (1343)، وابن ماجه (2368)، وأبو داود (3610) من حديث أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد"، وفي مراسيل مالك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد الواحد"، وذكر أبو الزناد بن عامر قال: "حضرت أبا بكر، وعمر، وعثمان، يقضون بشهادة الواحد، واليمين" [رواه الدارقطني (4/ 215)] وقضى به علي رضي الله عنه بالعراق".
3 -
وقال ابن القيم أيضاً: قال الشَّافعي: اليمين والشَّاهد لا تتخالف مع ظاهر
القرآن شيئاً؛ لأنَّا نحكم بشاهدين، وشاهد وامرأتين، فإذا كان شاهد واحد حكمنا بشاهدٍ ويمين، وليس ذا يخالف القرآن؛ لأَنَّه لم يحرِّم أنْ يكون أقل ممَّا نصَّ عليه في كتابه، ورسولُ الله أعلم بمراد الله، وقد أمرنا الله أنْ نأخذ ما أتانا به.
وقال ابن القيم: وليس في القرآن أنَّه لا يُحْكَمُ إلَاّ بشاهدين، أو شاهد وامرأتين؛ فإنَّ الله سبحانه وتعالى إنَّما أمر بذلك أصحاب الحقوق أنْ يحافظوا على حقوقهم بهذا النصاب، ولم يأمر بذلك الحُكَّامَ أنْ يحكموا به، فضلاً عن أنْ يكون قد أمرهم أنْ لا يقضوا إلَاّ بذلك؛ ولهذا يحكم الحاكمُ بالنكولِ، واليمينِ المردودةِ، والمرأة الواحدة، والنساء المنفردات لا رجل معهنَّ، وغير ذلك من طرق الحكم التي لم تذكر في القرآن، فإنْ كان الحكم بالشَّاهد مخالفاً لكتاب الله، فهذه أشد مخالفةً لكتاب الله منه، وإنْ لم تكن هذه الأشياء مخالفة للقرآن، فالحكم بالشَّاهد واليمين أولى ألَاّ يكون مخالفاً.
فطرق الحكم شيء، وطرق حفظ الحقوق شيءٌ آخر، وليس بينهما تلازُمٌ، فتحفَظُ الحقوقُ بما لا يَحْكُمُ به الحاكم ممَّا يعلم صاحب الحق أنَّه يحفظ به حقَّه، ولا خطر على باله النكولُ، وردُّ يمين، وغير ذلك، ومن العجائب رد الشَّاهد واليمين، والحكمُ بمجرَّد النكول، الَّذي هو سكوت، ولا ينسب إلى ساكت قول.
4 -
وإذا قضى بالشَّاهد واليمين، فالحكم بالشَّاهد وحده، واليمينُ تقوية وتوكيد، هذا منصوص أحمد، فلو رجع الشَّاهد، كان الضمان كله عليه.
5 -
الَّذي يظهر من الأحاديث ومن التعليل والتحليل، والمقارنة بين القولين هو رجحان القول بقبول الشَّاهد مع اليمين في الحقوق المالية، والله أعلم.