الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الدعاء
مقدمة
الدعاء: بالمد، قال في المصباح: دعوتُ الله أدعوه دعاءً: ابتهلتُ إليه بالسؤال، ورغبتُ فيما عنده من الخير.
والدعاء نوعان:
1 -
دعاء مسألة.
2 -
دعاء عبادة.
والمراد هنا هو الأول.
قال ابن القيم في الجواب الكافي:
الدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه إذا نزل، أو يخفِّفه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن.
فإذا اجتمع مع الدعاء حضورُ القلب، وجمعيَّته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة، وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذُلًّا له، وتضرعًا، ورقةً، واستقبال القبلة، وكان على طهر، ورفع يديه إلى الله تعالى، وبدأ بالحمد، والثناء عليه، ثم ثنَّى بالصلاة على محمَّد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قدَّم بين دعاء رغبة ورهبة، وتوسل إليه بأسمائه، وصفاته، وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقة-: فإنَّ هذا الدعاء لا يكاد يرد.
لاسيَّما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّها مظنة الإجابة، وأنَّها متضمنة للاسم الأعظم.
ولكن يهمنا أمر يجب التفطُّن له، وهو أنَّ الدعاء قد يتخلَّف أثره عن الداعي: إما لضعفه في نفسه، بأن يكون الدعاء لا يحبه الله؛ لما فيه من العدوان، وإما لضعف القلب، وعدم إقباله على الله وقت الدعاء، وإما لحصول مانع من الإجابة، من أكل الحرام، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشَّهوة.
ومن الآفات التي تمنع ترتب أثر الدعاء: أن يستعجل العبد، فيتباطأ الإجابة، فيحسر، ويدع الدعاء؛ ففي صحيح البخاري (6340) وصحيح مسلم (2735)؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"يُستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: دعوت فلم يُسْتَجَبْ لي".
نسأل الله تعالى أن يقبل دعاءنا، ويصلح أعمالنا، إنَّه حميد مجيب، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد، وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
***
1354 -
وَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ العِبادَةُ" رَوَاهُ الأَرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ (1).
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: "الدُّعَاءُ مُخُّ العِبادَةِ"(2).
ولَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه رَفَعَهُ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءَ" وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (3).
ــ
* درجة الحديث:
حديث النُّعمان صحيح، وحديث أنس ضعيف.
قال النووي عن حديث النعمان: أسانيده صحيحة.
قال الشيخ صديق بن حسن في نزل الأبرار: رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن حبَّان، وصحَّحه الحاكم، والترمذي، أخرجه هؤلاء من حديث النُّعمان بن بشير بلفظ:"الدعاء هو العبادة".
وأخرج الترمذي من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء منع العبادة".
وقوله: "هُوَ العبادة" المقتضي للحصر، والآيةُ الكريمة:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، تدل على أنَّ الدعاء من العبادة.
(1) أبو داود (1479)، الترمذي (3247)، النسائي في الكبرى (6/ 450)، ابن ماجه (3828).
(2)
الترمذي (3371).
(3)
الترمذي (3375)، ابن حبان (870)، الحاكم (1/ 490).
وخلاصة القول: هو ما ذكره الحافظ العراقي بقوله: حديث النُّعمان بن بشير: أنَّ الدعاء "هو العبادة" أخرجه أصحاب السنن، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأما حديث: "الدعاء مخ العبادة" فأخرجه الترمذي من حديث أنس، وقال: غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلَاّ من حديث ابن لهيعة.
وضعَّفه السيوطي في الجامع الصغير.
وأما حديث أبي هريرة: فرواه أحمد، والترمذي، وصحَّحه ابن حبان، والحاكم.
* مفردات الحديث:
- مُخُّ العبادة: بضم الميم، وتشديد الخاء، قال في المصباح: خالص كل شيء مخه، ومخ العبادة: خالصها وأصلها؛ لما فيه من امتثال أمر الله تعالى؛ لقوله: {ادْعُونِي} .
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
اللفظ الأول: "الدعاء هو العبادة" أثبت أنَّ دعاء الله تعالى هو أصل عبادته التي تعبَّد الله بها خلقه، وخَلَقَهم من أجلها؛ بدليل قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات].
وأما اللفظ الثاني: "الدعاء مخ العبادة" فأثبت أنَّ خالص العبادة وروحها هو دعاء الله تعالى؛ لأنَّ فيها امتثال أمره بقوله: {ادْعُونِي} ذلك أنَّ طالب الحاجة إذا علم أنَّ نجاح أموره لا يكون إلَاّ من الله تعالى، انقطع عما سواه، وأفرده، وأخلص له الدعاء بطلب الحاجات منه.
2 -
وأما قوله: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء": فقد جاء في هذا المعنى الكريم نصوص كثيرة، منها:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
[البقرة: 186]، وقال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)} [طه].
وجاء في سنن أبي داود (1488) والترمذي (3556) وابن ماجه (3865) من حديث سلمان الفارسي؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّ الله تعالى يستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما، فيردهما خائبتين".
وجاء في صحيح مسلم (2675) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني".
3 -
الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة؛ ويراد به في القرآن هذا تارةً، وهذا تارةً أخرى، وقد يراد مجموعهما:
فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي، من طلب نفع، أو كشف ضر.
وأما دعاء العبادة: فهو التوسل إلى الله تعالى لحصول مطلوبه، أو كف الشر عنه؛ بإخلاص العبادة له وحده.
4 -
قال شيخ الإِسلام: الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
وكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكلٍ دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة؛ قال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55]، وقال:{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [الأنعام: 41].
وأمثال هذا في القرآن كثير في دعاء المسألة، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأنَّ السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك ذاكر الله، والتالي لكتابه، فهو طالب من الله في المعناة فيكون دعاء عبادة.
5 -
وقال الشيخ -أيضًا-: المنتسب إلى الإِسلام في هذه الأزمان قد يمرق من الإِسلام لأسباب، منها: الغلو في بعض المشايخ، أو الغلو في علي بن أبي طالب، أو الغلو في المسيح، فكلُّ من غلا في نبيٍّ، أو رجلٍ صالحٍ، وجعل فيه نوعًا من الإلهية، حتى إنَّه يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، يستتاب، فإن تاب وإلَاّ
قُتِل؛ فإنَّ الله سبحانه إنَّما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليُعْبَدَ وحده لا شريك له، ولا يُدْعَى معه آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل: المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنَّها تخلق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، ويقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، ويقولون:{هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة.
6 -
وقال ابن القيم: ومن أنواع الشرك: طلب الحوائج من الميت، والاستعانة به، والتوجه إليه؛ وهذا أصل شرك العالم؛ فإنَّ الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، فضلاً عمَّن استغاث به، أو مسألة أن يشفع له إلى الله تعالى.
***
1355 -
وَعَنْ أَنَسٍ -رَضِىَ اللهُ عنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الدُّعَاءُ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ لَا يُرَدُّ" أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
صحيح الإسناد.
قال المناوي في فيض القدير: حسَّنه الترمذي، وقال العراقي: رواه النسائي في اليوم والليلة بإسناد جيد، وابن حبان، والحاكم وصححه.
* مفردات الحديث:
- الدعاء: أصله "دعاو" فألفه واو، فهو من دعوت، إلَاّ أن الواو لما جاءت بعد الألف صارت همزة، والدعاء: واحد الأدعية، ومعنى دعوت الله: ابتهلت إليه بالسؤال.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه الحث على الدعاء، وسؤال الله تعالى حاجات العبد ومطالبه؛ فقد قال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال تعالى في الحديث القدسي:"مَن يدعوني فَأَسْتَجِيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"[رواه البخاري (1145) ومسلم (758)].
2 -
ويدل الحديث على أنَّ ما بين الأذان وإقامة الصلاة وقتٌ فاضل يستجاب فيه الدعاء، ويسمع فيه النداء؛ فينبغي اغتنامه وسؤال الله تعالى فيه، لعلَّه أن يستجيب لعبده دعوة لا يشقى بعدها أبدًا.
(1) النسائي في عمل اليوم والليلة ص (168)، ابن حبان (1696).
3 -
الحكمة في استجابة الدعاء في هذا الوقت -والله أعلم- أنَّ الإنسان ما دام ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والصلاة موطن استجابة الدعاء؛ لأنَّ العبد يناجي ربه فيها.
4 -
قال شيخ الإِسلام: الدعاء في آخر الصلاة قبل الخروج منها مشروع بالسنة المستفيضة، وإجماع المسلمين، وعامة الأدعية المتعلِّقة بالصلاة إنَّما فعلها صلى الله عليه وسلم فيها، وأمر بها فيها، وهو اللائق بحال المصلي المقبل على ربه يناجيه، فيستحيب من الدعاء أحبه إليه، وليكن بخشوع وأدب، فإنَّه لا يستجاب الدعاء من القلب الغافل.
***
1356 -
وَعنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ رَبكمْ حَييٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا" أَخْرَجَهُ الأَرْبَعَةُ إِلَاّ النَّسَائيَّ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
صحيح الإسناد.
قال صديق بن حسن: أخرجه أبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين من حديث سلمان، وأخرجه أيضًا البيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد من حديث أنس.
وقال الذَّهبي: هذا حديث مشهور رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدد من الصحابة، منهم: علي، وابن عمر، وأنس.
* مفردات الحديث:
- حَييٌّ: يقال: حَيِيَ منه حياءً، فهو حَيِيٌّ، والحياء: صفة ثابتة لله تعالى، نؤمن بحقيقتها على ما يليق بجلاله، ونكل علم كيفيتها إلى الله.
- صِفْرًا: بكسر الصاد، أي: خالية، والمعنى: لم يعطه ما مسألة.
قال في المصباح: صِفْر وزانُ حِمْلٍ، وهو صفر اليدين ليس فيهما شيء، مأخوذ من الصفير: وهو الصوت الخالي عن الحروف.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، ورفع اليدين بالدعاء من
(1) أبو داود (1488)، الترمذي (3556)، ابن ماجه (3865)، الحاكم (1/ 497).
المسائل التي تواترت فيها الأحاديث تواترًا معنويًّا؛ فقد روي منها عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث، لكنَّها في مواضع مختلفة، فكل واحد منها لم يتواتر لفظًا، وإنما القدر المشترك بينها هو رفع اليدين في الدعاء؛ فهو متواتر باعتبار مجموع الطرق الدال كل منها على مسألة بعينها.
2 -
حكمة رفع اليدين أثناء الدعاء: إظهار الافتقار والفاقة أمام الغني الكريم، وتفاؤلاً في أن يضع فيهما جلَّ وعلا الحاجة المطلوبة منه.
3 -
لذا فإنَّه من كرمه، وجوده، وعطفه على عبده السائل يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا خاليتين من العطاء؛ فإنَّه يجود عليه، فيعطيه حاجته، ومطلبه؛ فهو الكريم الجواد.
***