الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الأضاحي
مقدمة
الأضاحي: مشدَّدة الياء، جمع أُضحيَّة، بضم الهمزة، ويجوز كسرها.
ويُقال: ضحِيَّة، جمعها ضحايا.
فاسمها مشتقٌّ من الوقت الَّذي شرع بدء ذبحها فيه.
وبهذا سمي: عيد الأضحى، ويوم الأضحى.
وهي مشروعةٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع:
قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} [الكوثر].
وفي السنَّة كثير؛ ففي البخاري (5564) ومسلم (1966) أنَّه صلى الله عليه وسلم: "كان يضحِّي بكبشين أملحين أقرنين".
وفي المسند (8074) أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له سعةٌ ولم يضح، فلا يقربنَّ مصلَاّنَا".
وأجمع العلماء على مشروعيتها، واختلفوا في وجوبها:
فذهب أبو حنيفة: إلى وجوبها، ويروى ذلك عن مالك.
وذهب جمهور العلماء -ومنهم الشَّافعي وأحمد-: إلى أنَّها سنَّةٌ مؤكدة على كلِّ قادرٍ عليها من المسلمين.
والمشهور عن مالك: أنَّها لا تجب على الحجاج اكتفاء بالهدي، واختاره شيخ الإِسلام.
وأفضل الأضحية إنْ ضحَّى كاملًا: إبل، ثُمَّ بقر، ثمَّ غنم.
قال الشيخ تقي الدِّين: الأضحية، والعقيقة، والهدي أفضل من الصدقة بثمن ذلك، وهي من النفقة المعروفة، فيضحي عن اليتيم من ماله، وتأخذ المرأة من مال زوجها ما تُضَحِّي به عن أهل البيت، وإنْ لم يأذن في ذلك، ويضحي المدين إذا لم يطلب بالوفاء.
***
1174 -
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: "أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، وَيُسَمِّي، وَيُكَبِّرُ، وَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى صِحَافِهِمَا" وَفِي لَفْظٍ: "ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1)، وَفِي لَفْظٍ:"سَمِينَيْنِ"، وَلأبِي عَوَانَةَ في صحيحه:"ثَمينيَنِ" بالمُثلَّثةِ بَدَلَ السِّينِ (2)، وفِي لفْظٍ لِمُسْلِمٍ، ويَقُولُ:"بِاسْمِ اللهِ، وَاللهُ أكْبَرُ".
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أمَرَ بِكَبْشٍ أقْرَنَ، يَطَأُ في سَوَادٍ، وَيَبْرُكُ في سَوَادٍ، ويَنْظُرُ في سَوَادٍ، فَأُتِيَ بِهِ، لِيُضَحِّيَ بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَائشِةُ هَلُمِّي المُدْيَةَ، ثمَّ قالَ: اشْحَذِيهَا بِحَجَرٍ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أخَذَهَا، وأَخَذَهُ فَأَضْجَعَهُ، ثمَّ ذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: بِسْم اللهِ، الَّلهُمَّ تَقَبلْ مِنْ مُحَمَّدٍ، وآلِ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ"(3).
ــ
* مفردات الحديث:
- يُضحِّي: الأضحيَّة جمعها أضاحيَّ، والضحيَّة جمعها ضحايا، ومن العرب من قال: ضِحيَّة، بكسر الضاد.
- كبشين: مثنَّى كبش بفتح الكاف، وسكون الباء الموحدة، آخره شين معجمة، هو فحل الضأن في أي سن كان، جمعه أكبش وكباش.
(1) البخاري (5565)، مسلم (1966).
(2)
الَّذي نقله الحافظ في الفتح عن صحيح أبي عوانة أنَّه بالسِّين المهملة.
(3)
مسلم (1967).
- أملحين: الأملح: هو الَّذي بياضه أكثر من سواده، وفيه أقوال أخر.
- أقرنين: الأقرن: هو الَّذي له قرنان.
- صِفاحهما: جمع صفحة، وهي وجه الشيء وجانبه، والمراد عنق الكبش.
- ثمينين - سمينين: يروى بالثاء، والسين، فإن كان بالثاء: فهو غالي الثمن؛ لحسنه، والسمين: ضد الغث الهزيل.
- يطأ في سواد: يعني قوائمه سود.
- يبرك في سواد: يعني بطنه أسود.
- ينظر في سواد: يعني أنَّ ما حول عينيه أسود.
- هَلُمِّي: أي هاتي، وفيها لغتان: فأهل الحجاز يطلقون على الواحد، والجمع، والمثنَّى، والمؤنث بلفظٍ واحدٍ، مبنيٍّ على الفتح، وأمَّا بنو تميم فيثنونها، ويجمعونها، ويؤنثونها.
- المُدْية: بضم الميم، وسكون الدَّال المهملة، بعدها ياء مفتوحة، وآخرها هاء، جمعها مدى ومديات، هي السكين العريضة المسمَّاة: الشفرة.
- اشحذيها: يُقال: شحذت السيف والسكين: إذا حددته بالمسن وغيره.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث بيان مشروعية الأضحية، وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها، لقوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} .
قال قتادة وعطاء وعكرمة وغيرهم: المراد صلاة العيد، ونحر الأضحية.
ولا شكَّ في عموم الآية لكلِّ صلاة، وكل ذبح، أنَّ المسلم مأمورٌ بأنْ يخلصهما لله تعالى.
2 -
استحباب استحسان الأضحية واستسمانها، وأنْ تكون بأحسن الألوان، فتكون من جنس الغنم، ومن نوع المذكور منها، وأنْ تكون بيضاء، أو بياضها أكثر من سوادها، وأنْ تكون قرناء؛ لأنَّ ذلك دليل القوَّة، فهذا هو الأفضل،
وإلَاّ فيجزىء ما خالف هذا.
3 -
ومن الألوان المستحسنة في الأضاحي أنْ تكون قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود، وبقيته أبيض، والأبيض هو الأملح الَّذي لونه شبيهٌ بلون الملح.
4 -
أنْ تكون ذات قَدْرٍ وثمن غال؛ لأنَّ هذا دليل نفاستها وحسنها، وأنْ تكون سمينة؛ لأنَّه أكثر منفعة واستفادة ماديَّة ومعنوية فيها.
5 -
قوله: ثمَّ قال: "باسم الله" ليس معناه أنَّ التسمية وقعت بعد الذبح، وإنَّما معناه التراخي في الرتبة، وإنَّما محل التسمية قبل الذبح عند تحريك يده.
6 -
أنَّ اختيار الأضحية كريمة وطيبة هو من تعظيم شعائر الله؛ قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]؛ فهي من أعلام دين الإِسلام، قال ابن عباس: تعظيمها: استسمانها واستحسانها.
7 -
الأضحية من أفضل الأعمال الصَّالحة؛ فقد روى الترمذي (1493) وابن ماجة (3126) والحاكم (4/ 246) بإسنادٍ صحيحٍ من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم يوم النَّحر عملًا أحب إلى الله من هراقة دم؛ فطيبوا بها نفسًا".
ذهب كثيرٌ من الفقهاء منهم الحنابلة: إلى أنَّ ذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، وقد اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
8 -
ويشرع التسمية عند ذبحها يقول "باسم الله"؛ لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36].
والمشروع عند الذبح الاقتصار على "باسم الله"، فذكر صفة رحمة الله تعالى لا تناسب الذبح الَّذي فيه القسوة، وإراقة الدم.
9 -
وقول "باسم الله" عند الذبح واجب عند الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}
[الأنعام: 121]، ومستحب عند الإِمام الشَّافعي.
قال الغزالي: الأخبار متواترة فيها، واتفقوا على مشروعيتها.
10 -
ويُشرع مع "باسم الله" أنْ يقول عند الذبح: "الله أكبر"؛ لقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37].
قال ابن المنذر: ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقول ذلك.
ومن تلك الأحاديث حديث الباب من قوله: "باسم الله، والله أكبر".
وأجمع العلماء على أنَّ التكبير عند الذبح مستحب، وليس بواجب.
11 -
يستحب للمضحِّي أنْ يتولَّى ذبح أضحيته بنفسه إنْ كان يحسن الذبح؛ لأنَّ الذبح عبادة وقُربة إلى الله تعالى.
قال في الإقناع: وإنْ ذبحها بيده كان أفضل بلا نزاع، وفي ذلك اقتداءٌ بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، الَّذي نحر بيده ثلاثًا وستين بدنة من هديه، وذبح أضحيته بنفسه.
وقد أجمع العلماء على أنَّ ذبح المضحي أو المهدي، أضحيته أو هديه أنَّه: مستحب، وليس بواجب.
12 -
وإنْ لم يتول ذبحه بيده، فالأفضل أنْ يَحْضُر عند ذبحه؛ لما روي أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة:"احضري أضحيتك، يُغفر لك بأوَّل قطرة من دمها"[رواه الحاكم (4/ 247)].
ولما جاء في حديث ابن عباس أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "احضروها إذا ذبحتم؛ فإنَّه يغفر لكم عند أوَّل قطرةٍ من دمها".
13 -
استحباب الذبح بآلةٍ حادَّةٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "اشحذيها بحجر"، وَلأنَّ في ذلك إراحةٌ للذبيحة بسرعة زهوق روحها، وهو إحسان الذبح، والإجهاز عليها؛ فقد قال النَّبي صلى الله عليه وسلم:"إذَا ذَبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرته، وليُرح ذبيحته"[رواه مسلم (1955)].
14 -
ويستحب إضجاع ما يذبح من البقر والغنم ونحوهما على جنبها الأيسر، وحمل الذَّابح على الآلة بقوَّة، وإسراع القطع، وأنْ تكون موجهة إلى القبلة.
قال في شرح الإقناع: "ويكره توجيه الذبيحة إلى غير القبلة، ويكره أنْ يحد السكين والحيوان يبصره، أو يذبح الشاة وأخرى تنظر إليه؛ لما روى أحمد (5830) وابن ماجة (3172) عن ابن عمر: "أنَّ النبَّي صلى الله عليه وسلم أمر أنْ تحد الشفار، وأنْ توارى عن البهائم".
15 -
ويستحب أنْ يقول عند ذبح الأضحية ونحوها: "اللهم هذا منك ولك" أي: هذا من فضلك ونعمتك عليَّ، لا من حولي، ولا من قوتي، "ولك" التقرب به لك وحدك، لا إلى سواك، فلا رياء، ولا سمعة.
فقد روى أبو داود (2795) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حين وجَّهها إلى القبلة قال: "باسم الله، الله أكبر، اللهم هذا منك ولك".
16 -
قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم تقبَّل عن محمَّد، وآل محمد، ومن أمَّة محمد".
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: هذا هو المعتمد في التضحية عن الأموات، والأصل في التضحية أنَّها في حق الحي، فيضحي عن نفسه.
17 -
قال الشيخ حمد بن ناصر بن معمر: اختلف العلماء هل الأضحية عن الميت أفضل، أم الصدقة بثمنها؟
فذهب الحنابلة، وكثيرٌ من الفقهاء: إلى أنَّ ذبحها أفضل من الصدقة بثمنها؛ وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية.
وذهب بعضهم: إلى أنَّ الصدقة بثمنها أفضل، وهذا القول أقوى في النظرة لأنَّ التضحية عن الميت لم يكن معروفاً، والأمر في ذلك واسعٌ إنْ شاء الله.
18 -
فيه أنَّه يستحب الدعاء بقبول الأضحية وغيرها من أعمال الطاعة، وقد أمر تعالى بالدعاء، ووعد بالإجابة، وهو لا يخلف الميعاد؛ فقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
19 -
وقوله: "من محمد، وآل محمد" دليلٌ على أنَّ الأُضحية الواحدة تجزىء عن الرجل وأهل بيته، ويشركهم في ثوابها، فقد روى مالكٌ في الموطأ (1050) بسندٍ صحيحٍ، والترمذي (1505) وصحَّحه من حديث أبي أيوب قال:"كان الرجل على عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم يُضَحِّي بالشَّاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون، ويطعمون".
***
1175 -
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كانَ لَهُ سَعَةٌ، ولَمْ يُضَحِّ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَاّنَا" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةَ، وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ، وَرَجَّحَ الأَئِمَّةُ غَيْرُهُ وَقْفَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ موقوفًا؛ فرجاله ثقات.
قال المصنِّف: رواه أحمد، وابن ماجة، وصحَّحه الحاكم، ورجَّح الأئمة غير الحاكم وقفه.
قال في الفتح: رجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب، قاله الطحاوي وغيره مع أنَّ الَّذين رفعوه ثقات.
وفي الباب له أحاديث شواهد لا تخلو من الكلام:
منها حديث أبي سعيد عند الحاكم، وفي إسناده عطية.
وحديث عمران بن حصين عند الحاكم، وفي إسناده أبو حمزة الثمالي ضعيف جدًّا.
وحديث علي عند الحاكم، وفي إسناده عمرو بن خالد الواسطي وهو متروك.
* مفردات الحديث:
- سَعَة: بفتحتين، يُقال: وسع يسع سعة، والسعة: الاتساع، والجِدَة، والطَّاقة، والهاء -في السعة- عوض عن الواو.
- مصلَاّنَا: المصلَّى موضع الصَّلاة، والمراد هنا مصلَّى العيد.
(1) أحمد (8256)، ابن ماجة (3123)، الحاكم (4/ 231).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على وجوب الأضحية مع القدرة والسعة، وهو مذهب أبي حنيفة، وذهب الأئمة الثلاثة، وصاحبا أبي حنيفة إلى أن الأضحية سنة مؤكدة، وليست بواجبة.
2 -
قال شارح البلوغ: ولضعف أدلة الوجوب، ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين إلى أنها سنة مؤكدة، قال ابن حزم: لا يصح عن أحدٍ من الصحابة أنها واجبة.
وقد أخرج الدارقطني (2/ 21)، والحاكم (1/ 441) عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثٌ هي عليَّ فرائض، ولكم تطوع: النحر، والوتر، وركعتا الفجر".
***
1176 -
وَعَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ رضي الله عنه قَالَ: "شَهِدْتُ الأَضْحَى مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا قَضى صَلَاتَهُ بِالنَّاسِ، نَظَرَ إِلَى غَنَمٍ قَدْ ذُبِحَتْ، فَقَال: مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةَ، فَلْيَذْبَحْ شَاةً مَكَانَهَا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ، فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الأضحية عبادة مؤقتة لا تصح بغير وقتها الَّذي شرعت فيه.
2 -
يدل الحديث على أنَّ الابتداء وقت ذبح الأضحية بعد صلاة عيد الأضحى، ولو قبل الخطبة، وأنَّ الذبح قبل انتهاء الصَّلاة لا يجزىء، بمعنى أنَّ ذبيحته لم تقع أضحية، وإنَّما هي شاة لحم.
قال الشيخ عبد الله بن بطين: من ضحَّى بعد صلاة الإِمام فأضحيته مجزئة ولو لم يصل؛ لأنَّ العبرة بصلاة الإِمام، لا بصلاة إنسان نفسه.
3 -
قال في شرح الإقناع: ووقت ابتداء ذبح أضحية يوم العيد بعد الصلاة، ولو كان قبل الخطبة، أو بعد مضي مدَّة قدر الصَّلاة بعد دخول وقتها في حق من لا صلاة عليه في موضعه؛ كأهل البوادي.
4 -
ظاهر الحديث أنَّ الذبح قبل الوقت لا يجزىء مطلقًا، سواء أكان الذَّابح عامدًا، أو جاهلًا، أو ناسيًا؛ كمن صلَّى الصَّلاة قبل دخول وقتها.
5 -
المذاهب في أوَّل دخول وقت الذبح ثلاثة:
عند الإِمام مالك: أنَّ الوقت يدخل بنحو الإِمام.
وعند الشَّافعي: يبتدىء بوقت صلاة العيد.
(1) البخاري (5562)، مسلم (1960).
وعند أبي حنيفة وأحمد: بانتهاء صلاة العيد، وهو الصحيح الَّذي يدل عليه الحديث.
6 -
أمَّا آخر وقت الذبح، فالمشهور من مذهب الإِمام أحمد: أنَّه ينتهي بغروب اليوم الثاني عشر من ذي الحجَّة.
ومذهب الإِمام الشَّافعي: أنَّه يمتد إلى غروب اليوم الثالث عشر، واختاره ابن المنذر والشيخ تقي الدِّين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"كل يوم التشريق ذبح"[رواه أحمد (16309)].
قال ابن القيم: إنَّ الأيام الثلاثة تختص بكونها أيَّام مني، وأيام تشريق، ويحرم صومها، ويشرع التكبير فيها، فهي إخوة في هذه الأحكام؛ فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نصٍّ ولا إجماع؟!
ويروى من وجهين مختلفين يشير أحدهما للآخر: "كل أيَّام التشريق ذبح" من رواية جبير بن مطعم، ومن حديث أسامة بن زيد، وعن عطاء عن جابر، ومذهب الإِمام الشَّافعي هو الرَّاجح، والله أعلم.
7 -
قال في بداية المجتهد: سبب اختلافهم أمران:
أحدهما: الاختلاف في الأيَّام المعلومات ما هي؟
الثاني: معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، بحديث جبير بن مطعم:"كل أيَّام التشريق ذبح"[رواه أحمد 16309]:
فمن قال في الأيَّام المعلومات: إنَّها يوم النَّحر ويومان بعده، رجَّح دليل الخطاب في الآية، على الحديث المذكور.
ومن رأى الجمع بين الحديث والآية قال: لا معارضة بينهما؛ إذ الحديث اقتضى أمرًا زائدًا على ما في الآية، مع أنَّ الآية ليس المقصود فيها تحديد
أيَّام النَّحر، والحديث المقصود منه ذلك؛ وعلى هذا قالوا: يجوز الذبح في اليوم الرَّابع إذَا كان من أيَّام التشريق باتفاق.
9 -
وهذا الوقت للذبح من ابتدائه إلى انتهائه على القولين كليهما هو للأضحية، والهدي، ودم المتعة، أو القرآن.
قال ابن القيم: النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في نحو الهدي قبل طلوع الشمس البتة، فحكمه حكم الأضحية إذا ذبحت قبل الصلاة.
10 -
قال فقهاؤنا: فإنْ فات وقت الذبح، قضى واجبه؛ كالمنذور، والمعيَّن، والموصى به؛ لأنَّ حكم القضاء كالأداء لا يسقط بفواته؛ لأنَّ الذبح أحد مقصودي الأضحية، فلا يسقط بفوات وقته، كما لو ذبحها ولم يفرقها حتَّى خرج الوقت.
11 -
قال في الروض والحاشية: ويسقط التطوع بفوات وقته؛ لأنَّ المحصل لفضيلة الزمان، وقد فات فلو ذبحه وتصدَّق به كان صدقة مطلقة، وليست أضحية.
قال الوزير: اتَفقوا على أنه إذا خرج وقت الأضحية على اختلافهم فيه، فقد فات وقتها.
***
1177 -
وعن البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أربعٌ لَا تَجُوزُ في الضَّحَايَا: العَوْرَاءُ البَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالمَرِيضَةُ البَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَرْجَاءُ البَيِّنُ ضَلَعُهَا، وَالْكَبِيرَةُ الَّتي لَا تُنْقِي" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
رواه الإِمام أحمد، والأربعة، وصحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، وقال الحافظ ابن حجر: لم يخرجه البخاري ومسلم، ولكنَّه صحيح أخرجه أصحاب السنن بأسانيد صحيحة، وحسَّنه الإِمام أحمد، فقال: ما أحسنه من حديث، وقال الترمذي: صحيح حسن.
* مفردات الحديث:
- العَوْرَاء: بالمدّ، هي التي ذهب بصر إحدى عينيها، سواءٌ بقيت الحدقة أو فُقدت، وهذا على القول الرَّاجح.
- البيِّن عَوَرها: أصحابنا يفسرون بيان العور: بانخساف عينها، فإنْ كانت قائمة أجزأت ولو ذهب بصرها.
(1) أحمد (4/ 84)، أبو داود (2802)، الترمذي (1497)، النسائي (7/ 214)، ابن ماجة (3144)، ابن حبان (1046).
- العَرْجَاء البَيِّن عَرَجهَا: العرجاء هي الَّتي تغمز يزيدها أو رجلها، خِلْقةً، أو لعلَّة طارئة، فهو أعرج وهي عرجاء، أمَّا بيان العرج فهي التي لا تقدر على المشي مع جنسها الصحيح.
- لا تُنْقِي: بضم التَّاء الفوقية، وكسر القاف، بينهما نون ساكنة، أي التي لا نِقْيَ فيها، والنقي بكسر النون: هو منع العظم، جمعه أنقاء.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على أنَّ الموصوفات الأربع في الحديث لا تجزىء، وسكت عن غيرها من العيوب.
فذهب أهل الظاهر: إلى أنَّه لا عيب غير الأربعة، وذهب الجمهور: إلى أنَّه يُقاس عليها غيرها، ممَّا هو أشدُّ منها، أو مساوٍ لها؛ كالعمياء، ومقطوعة السَّاق، وسيأتي كلام بعضهم في هذا.
2 -
فمن العيوب: العوراء البين عورها، وهي التي انخسفت عينها، فإنْ كانت العين قائمة، أجزأت ولو لم تبصر بها.
3 -
يُقاس على العوراء من باب أولى العمياء، فإنَّها لا تجزىء، وإنْ لم تنخسف عيناها؛ لأنَّ العمى يمنع مشيها مع رفيقتها، ويمنعها من المشاركة في العلف.
4 -
ولا تجزىء المريضة البين مرضها؛ كالجرباء؛ فإنَّ المرض يمنعها من الأكل، ويفسد لحمها، ويهزل جسمها.
5 -
ولا تجزىء العرجاء البيِّن عرجها، وهي التي لا تقدر على المشي مع جنسها الصحيح إلى المراعي، والكسيرة لا تجزىء من باب أولى.
6 -
ولا تجزىء الهزيلة الَّتي لا تُنْقِي، وفي بعض روايات هذا الحديث:"ولا العجفاء التي لا تنقي"، والعجفاء، هي الهزيلة التي لا مخ فيها.
7 -
قال النووي: أجمعوا على أنَّ الَّتي فيها العيوب المذكورة في حديث البراء لا
تجزىء التضحية بها، وكذا ما كان في معناها، أو أقبح منها؛ كالعمى، وقطع الرِّجل، ونحوه.
وقال الوزير: اتفقوا على أنَّه لا يجزىء في الأضحية ذَبْحُ مَعِيب بنقص.
8 -
عدم إجزاء هذه المعيبات المذكورة في الحديث، وما هو أشد منها عيبًا، ليس خاصًّا في الأضحية، بل يشمل الهدي الواجب والتطوع، ودم المتعة، والقران، والعقيقة، فكل ما لا يجزىء في الأضحية لا يجزىء في ذبائح القُرَب.
9 -
في دورة مجلس هيئة كبار العلماء (34) بحث المجلس إذا ذبحت الأضحية أو الهدي ونحوهما، فلم يعلم مرضها إلَاّ بعد الذبح، فأجاز المجلس بالأكثرية إجزاءَهَا، وأنَّها حين الذبح ليست بينة المرض.
وعارض بعض الأعضاء، فرأى أنَّها لا تجزىء إذا ظهر المرض بعد الذبح، وهذا هو الرَّاجح عندي، فإنِّي من الأعضاء المعارضين؛ لأنَّهم لم يستدلوا على الإجزاء إلَاّ بلفظ "البين مرضها"، وأنَّها حين الذبح ليست بينة المرض، وإنَّما ظهر ذلك بعد الذبح.
والحقيقة: أنَّ الحديث ليس فيه تقييد بيان المرض قبل الذبح ولا بعده، كما أنَّه قد حكى الإجماع جماعةٌ من العلماء؛ كابن قدامة، والنووي، وابن هبيرة، وابن حزم، على عدم الإجزاء.
ولأنَّ القصد من الهدي والأضحية وغيرهما من ذبائح القُرَب هو الفائدة منها، فإذا عدمت فات القصد؛ قال تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]
ولأنَّ العيب معتبرٌ شرعًا في البيع بعد تلف المبيع وقبله.
والمريضة يعرف أهل الخبرة مرضها قبل ذبحها، وهم المعتبرون في مثل هذه الأمور، والله أعلم.
1178 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَذْبَحُوا إِلَاّ مُسِنَّةً، إِلَاّ أَنْ تَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- المُسِنَّة: هي الثنية من بهيمة الأنعام: الإبل، والبقر، والغنم، فما فوقها.
- الجَذَع: أصل الجذع من أسنان الدواب: هو ما كان شابًّا فتيًّا، فهو من الضَّأن ما تمَّ له ستَّة أشهر، وبعضهم قال: ما تمَّ له سنة، والأوَّل أرجح: ومن الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر ما دخل في السنة الثالثة، والمراد هنا الجذع من الضأن، وسيأتي بيان حكمه إن شاء الله تعالى.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال الأزهري: ليس معنى أسنان البقر والشَّاة كبر سن، كالرجل، ولكن معناه طلوع الثنية.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا تذبحوا إلَاّ مسنَّة" ليس معناه كبيرة متقدمة في السن، وإنَّما معناه -كما قال أهل اللغة- ثنية؛ فهو كبر نسبي.
2 -
الثني من الإبل: ما له خمس سنين، ومن البقر والجاموس ماله سنتان، ومن المعز ما له سنة.
3 -
ظاهر الحديث أنَّ جذع الضأن وهو ما تمَّ له ستَّة أشهر أنَّه لا يجزىء إلَاّ عند تعسر المسنَّة، ولكن حكى غير واحدٍ الإجماع على إجزاء الجذع من الضأن، ولو لم يتعسَّر غيره، وحملوا الحديث على الاستحباب بقرينة ما
(1) مسلم (1963).
رواه الإِمام أحمد (26532) من حديث أم بلال بنت هلال عن أبيها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضحوا بالجَذع من الضأن".
4 -
الثني من بهيمة الأنعام ما تجاوز لحمه طور الرخاوة والميوعة، ولم يصل إلى درجة العسر والعضالة، فهو أحسن وألذ؛ لأنَّ هذا دور طعمه ولذته ونفعه؛ ولهذا نصح بِهِ النَّبي صلى الله عليه وسلم.
5 -
إنْ لم توجد تلك المسنَّة عُدِلَ إلى جذع الضَّأن، فهو أسرع بهيمة الأنعام نموًّا وطيبًا.
***
1179 -
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَشْرِفَ العَيْنَ والأُذُنَ، وَلَا نُضَحِّيَ بِعَوْرَاءَ، وَلَا مُقَابلَةٍ، وَلَا مُدَابَرَةٍ، وَلَا خَرْقَاءَ، وَلا ثرْمَاءَ" أخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالأرْبَعَةُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
الحديث أخرجه الإِمام أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وصحَّحه الترمذي، وابن حبان، والحاكم، وسكت عنه أبو داود، والمنذري فظاهره الصحة.
* مفردات الحديث:
- أنْ نستشرف العين
…
إلخ: مأخوذٌ من الاستشراف، وهو رفع البصر للنظر إلى الشيء، لتأمله وفحصه، لمعرفة سلامته من آفة تكون فيه.
- مقابَلة: بفتح الباء، هي الشَّاة التي قطعت أذنها من قدام، وتركت معلقة، كأنَّها زنمة.
- مدابَرة: بفتح الباء الموحدة، هي التي قطعت من جانب أذنها المدبر.
- خَرْقَاء: بالمد، قال في النهاية: هي التي في أذنها خرق مستدير.
- ثَرْمَاء: بالثاء المثلثة، والثرم: هو سقوط الثنية من الأسنان.
(1) أحمد (853)، الترمذي (1498)، أبو داود (2804)، النسائي (4372)، ابن ماجة (3143)، ابن حبان (13/ 242)، الحاكم (1/ 640).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الأفضل أنْ تكون الأضحية، والهدي، والعقيقة على أحسن الصفات، وأجمل الهيئات، وأنْ تكون بعيدة عن عيب تكون معه غير مُجزِئةً، رغبةً في استحسانها وجمالها؛ لأنَّها عبادةٌ وقربةٌ، وقد قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، وقال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
2 -
من كمال الأضحية وحسنها أنْ تكون سليمة الأذن، والعين، والقرن، فلا تكون أذنها مقطوعة، ولا مخروقة، ولا مشقوقة، وأنْ يكون قرنها سليمًا من الكسر، وأنْ تكون عينها سليمةً من البياض، والغشاء.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في مثل مكسورة القرن، ومقطوعة أكثر الأذن.
فجمهور العلماء: أنَّها لا تجزىء، قال الإِمام أحمد:"لا تجزىء الأضحية بأعضب القرن والأذن"؛ لحديث علي الَّذي صحَّحه الترمذي: وظاهره التحريم والفساد.
وذهب الإِمام الشَّافعي: إلى أنَّها تجزىء؛ لأنَّ في صحَّة الحديث نظرًا؛ ولأنَّ الأذن والقرن لا يقصد أكلها، واختار ابن مفلح في الفروع الإجزاء مطلقًا، وصوَّبه في الإنصاف.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: الصحيح قول من قال من أهل العلم: إنَّ عضباء الأذن والقرن تجزىء؛ لأنَّ النَّهي عن التضحية بأعضب الأذن والقرن إذا صحَّ الاحتجاج به يدل على الكراهية، كما أمر باستشراف الأذن والقرن.
أمَّا مقطوعة الإلية أو بعضها، ومجبوبة السنام، فلا تجزىء؛ لأنَّ هذا
شيءٌ مقصود منها.
* قرار هيئة كبار العلماء بشأن حكم التضحية بمقطوع الإلية:
جاء في قرار هيئة كبار العلماء رقم (183) في 12/ 7/ 1414 هـ ما يلي:
لا تجزىء الأضحية، ولا الهدي، ولا العقيقة بمقطوع الإلية؛ لأن الإلية عضوٌ كاملٌ مقصودٌ، فصار مقطوعها أولى بعدم الإجزاء من مقطوع القرن والأذن، والله ولي التوفيق.
هيئة كبار العلماء
***
1180 -
وَعَنْ عَلِيِّ بْن أِبي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أَقُومَ عَلَى بُدُنِهِ، وأَنْ أَقْسِمَ لُحُومَهَا، وَجُلُودَهَا، وَجِلَالَهَا عَلَى المَسَاكِينِ، وَلَا أُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا مِنْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- بُدُنِه: بضم الباء والدَّال، جمع بَدَنَة، تطلق على النَّاقة أو البقرة، وإنَّما المراد هنا الإبل فقط؛ فإنَّها هي هدي النَّبي عليه الصلاة والسلام.
- جِلَالها: بكسر الجيم المعجمة، وفتح الَّلام، جمع جُلٍّ، بالضم، هو ما تغطَّى به الدَّابة، وتجلَّل؛ لتصان عن البرد ونحوه، فهو للدَّابة كالثوب للإنسان.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
جواز التوكيل على ذبح ونحر الأضحية والهدي، وتقسيم لحومها على مستحقيها.
2 -
أنَّ مستحقي قسم الصدقة منها هم المساكين، قال تعالى:{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]. وفي الآية الأخرى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج].
3 -
أنَّ جلودها لا تُباع، بل يكون مصرفها مصرف لحومها، فإمَّا أنْ ينتفع بها صاحبها، أو يهديها، أو يتصدق بها على الفقراء والمساكين.
4 -
أنَّ جازرها لايعطى شيئًا من لحومها أو جلودها، على أنَّه أجرة على جزارته
(1) البخاري (1707)، مسلم (1317).
باتفاق الأئمة، وإنَّما يجوز إعطاؤه هدية منها إنْ كان غنيًا، أو صدقة إنْ كان فقيرًا، لاسيما ونفسه تائقة إليها لمباشرته لها، وبهذا يتخصص عموم الحديث.
5 -
استحباب الهدي والأضحية بأكثر من واحدة لذي سعة في ماله، فإنَّه من الصدقة، وإراقة دم لله تعالى في هذا اليوم العظيم.
6 -
الأفضل في الأضحية، والهدي، والعقيقة: أنْ يأكل منها، ويهدي على غني ممَّن بينه وبينه علاقة قرابة، أو جوار، ونحوهما، ويتصدق على فقيرٍ أو مسكين؛ قال تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)} [الحج].
ولما أخرجه الإِمام الترمذي (1510) من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ ليتسع ذُو الطَّول له، فكلوا ما بدا لكم وأطعموا وادخروا"، وقال: حديث حسن صحيح.
* خلاف العلماء:
أجمع العلماء على أنَّه لا يجوز بيع لحوم الأضاحي، أو الهدي.
وذهب الجمهور: إلى أنَّه لا يجوز -أيضًا- بيع جلودها، وأصوافها، وأوبارها، وشعرها.
وأجاز أبو حنيفة بيع الجلود، والشعر، ونحوه بعروض لا بنقود، ملاحظًا في ذلك أنَّ المعاوضة بالنقود بيعٌ صريح، وأمَّا بالعروض ففيه شبه انتفاع كل من المتبادلين بمتاعِ الآخر.
***
1181 -
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قَالَ: "نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الحُدَيْبِيَةِ: الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
البدنة هي من الإبل والبقر كبيرتا الحجم، كثيرتا اللحم؛ ففيهما فائدة، ومنفعة للمهدي والمضحي أكثر من الضَّأن والمعز؛ ولذا صارت كل واحدة منهما تقوم مقام سَبعْ من الغنم، فإذا ضحَّى ببدنةٍ أو ببقرة أجزأت عن سبع ضحايا، أو سبع هدايا.
2 -
يجوز أنْ يشترك سبعة مضحون أو مهدون ببدنة أو بقرة، فيكون لكلِّ واحدٍ منهم أضحيته أو هديه، ويقسمون لحمها أسباعًا.
3 -
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جاسر في منسكه: الاعتبار في إجازة البدنة أو البقرة عن سبعة فأقل، أنْ يشترك الجميع في البدنة أو البقرة دفعة واحدة، فلو اشترك ثلاثة في بدنة أو بقرة أضحية، وقالوا: من جاء يريد أضحية أشركناه، فجاء قومٌ فشاركوهم، لم تجزىء البدنة أو البقرة إلَاّ عن الثلاثة، نقله الزركشي عن الحقي عن الشيرازي.
قال في الإقناع وشرحه: والمراد إذا أوجبها الثلاثة على أنفسهم؛ لأَنَّهم إِذا لم يوجبوها، فلا مانع من الاشتراك قبل الذبح؛ لعدم التعيين.
وقال في شرح المنتهى: وإنْ اشترك ثلاثة في بدنة أو بقرة وأوجبوها، لم يجز أنْ يشركوا غيرهم.
(1) مسلم (1318).
4 -
يجوز للمضحي أنْ يجعل ضحية الشَّاة عنه وعن أهل بيته، فيشترك فيها عدد من المضحَّى عنهم.
وإنْ كانت الأضحية سُبُعَ بدنة، أو سُبُع بقرة، فقال الشيخ أحمد القصير: إن سبع البدنة أو سبع البقرة لا يكفي عن الرجل وأهل بيته؛ لأنَّه شرك في دم، ولفظ الحديث في الشَّاة، بخلاف سُبُع البدنة أو البقرة.
أمَّا الشيخ عبد الرحمن السعدي فقال: لا شكَّ أنَّ سبع البدنة أو سبع البقرة قائمٌ مقام الشَّاة، وهذا هو الَّذي تدل عليه الأحاديث النبوية، وهو الَّذي فهمه أهل العلم منها؛ ولذلك فالإفتاء بمنع إهداء سُبُع البدنة أو سبع البقرة، لأكثر من واحد، في حياة الإنسان أو في موته، إنَّما حدث الإفتاء به في الأوقات الأخيرة، وهو لا شكَّ غلطٌ، وإلَاّ فجميع الأصحاب في الكتب المختصرة والمطولة ذكروا أنَّ حكم أضحية البقرة والبدنة حكم أضحية الغنم في كلِّ شيء، كما ذكروه في آخر كتاب الجنائز، وصرَّح به صاحب الإقناع تصريحًا لا يحتمل الشك، وكذلك ذكروه في آخر جزاء الصيد من كتاب الحج، ولله الحمد.
واعلم أنَّ سند من أفتى من المتأخرين بعدم إجزاء التشريك فيها قول الأصحاب: "وتجزىء البدنة والبقرة عن سبعة"؛ ففهم أنَّ المراد أنَّه لا يشرك بها كلها أكثر من سبعة، وليس هذا مراد الأصحاب، ونحن نسلم أنَّه لا يجزىء إلَاّ عن أضحية واحدة، كما أنَّ الشَّاة لا تجزىء إلَاّ عن أضحية واحدة.
وأمَّا كون الشَّاة يجوز إهداء ثوابها لأكثر من واحد، وسُبُع البدنة لا يجوز، فهذا قولٌ بلا علم، وهو مخالف للأدلة، ولكلام الفقهاء.
وقد أشكلت على كثيرٍ من المشايخ، وذلك لاشتباه مسألة الإجزاء بمسألة الإهداء:
أمَّا مسألة الإجزاء: فإنَّ سُبُع البدنة لا يجزىء إلَاّ عن واحد.
ومسألة الإهداء بأنْ يضحي الإنسان ويهدي ضحيته لأكثر من واحد، سواءٌ في الحياة، أو أوصى بها بعد الوفاة، فهذه تجزىء فيها الشَّاة وسُبُع البدنة عن أكثر من واحد.
وقد قال الشيخ عبد الله أبا بطين حين سُئِل عن هذه المسألة: لم أجد ما يدل على المنع، وبعض من أدركنا يهدون سُبُع البدنة لأكثر من واحد، وإنَّما وجه الاشتباه على بعض المشايخ قول الأصحاب:"وتجزىء البدنة والبقرة عن سبعة"؛ وهذا في باب الإجزاء، لا في باب الإهداء، والله أعلم.
5 -
حديث الباب في الهدي، ولكن يقاس عليه الأضحية، بل جاء في الأضحية ما أخرجه الترمذي (905)، والنسائي (4392) من حديث ابن عباس قال:"كُنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر، فحضر الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعة، وفي البعير عشرة".
وفي إجزاء البدنة عن عشرة أو سبعة خلافٌ بين أهل العلم، ولكن الأثر الأخير -وهو في حجَّة الوداع- إجزاؤها عن سبعة كالبقرة، والله أعلم.
***