الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الزهد والورع
1279 -
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: -وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بإصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ-: "إنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ، فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الْحَرَامِ، كَالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّه، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ" مُتَّفقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مُشْتبهات: المشتبهات: بضم الميم، وسكون الشين، وكسر الباء الموحدة، وفيها عدَّة روايات بغير هذا الضبط، هي: غير الواضحات البينات، فهي كل ما تتنازعه الأدلة، وتتجاذبه المعاني؛ فالإمساك عنه ورع.
- استبرأ لدينه وعرضه: بالهمزة، من البراءة، أي: احتاط، فحصل له براءة من الذم الشرعي، وصان نفسه وعرضه من ذم الناس.
(1) البخاري (52)، مسلم (1599).
- عِرْضَه: بكسر العين، والعرض: موضع المدح والذم من الإنسان، فهي الأمور التي بذكرها يرتفع أو يسقط، ومن جهتها يُحمد أو يُذم.
- في الشُّبُهَات: بضم الشين والباء، جمع شبهة، وهي الأمر الملتبس.
- وقع في الحرام: الوقوع في الشيء: السقوط فيه، وكل سقوط يُعبَّر عنه بذلك، وإنَّما قال: وقع، ولم يقل: يوشك أنْ يقع فيه؛ تحقيقًا لمداناة الوقوع؛ كما يُقال: من اتبع هواه هلك، وإلَاّ فحقيقة الأمر هو: يوشك أنْ يقع فيه.
- الحِمَى: بكسر الحاء، وفتح الميم المخففة، مقصور، أطلق اسم المصدر على اسم المفعول، وهو موضعٌ حَظَره الإِمام على النَّاس لنفسه، ومنع غيره منه.
- يُوْشِكُ: بضم الياء، وكسر الشين، بمعنى: يقرب ويسرع.
- محارمه: معاصيه التي حرمها؛ كالقتل.
- أَلَا: مركَّبة من همزة الاستفهام، وحرف النَّفي، لإعطاء معنى التنبيه على تحقُّق ما بعدها.
- مُضْغة: بضم الميم، وسكون الضاد المعجمة، بعدها غين معجمة، آخرها تاء التأنيث، هي: القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الإنسان.
- صلحت بفتح الَّلام وضمها، والفتح أفصح، والصَّلاح ضد الفساد.
"ألَا وإنَّ في الجسد مضغة
…
أَلَا وهيَ القلب": أبهم في الجملة الأولى، وبيَّنَ في الثانية، وكرَّر حرف التنبيه؛ لبيان فخامة شأنها، وعظيم موقعها، وعبَّر عن القلب بالمضغة؛ لأنَّه قطعةٌ من الجسد، كما أنَّ في المضغة معنى التصغير، مع أنَّ صلاح الجسد أو فساده تابعان لهذه المضغة، تعظيمًا لشأنها؛ ذلك أنَّ من معاني التصغير التفخيم.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحلال بيِّنٌ حكمه، واضحٌ أمره، لا يخفى حله؛ وذلك كالخبز، والفواكه،
والعسل، واللبن، وجميع المأكولات، والمشروبات، والملابس، الواضح حلها، وكذا المعاملات، والتصرفات.
2 -
وإنَّ الحرام بيِّنٌ حكمه، واضحٌ تحريمه؛ من أكل لحم الخنزير، وشُرب الخمر، ولبس الحرير، والذَّهب للرَّجل، والزنى، والغِيبة، والنميمة، والحقد، والحسد، وغير ذلك.
فهذان القسمان الحكم فيها بيِّنٌ؛ لما ورد فيهما من النصوص القاطعة.
3 -
هناك قسمٌ ثالثٌ مُشْتبه الحكم، غير واضح الحل أو الحرمة، وهذا الاشتباه راجعٌ إلى أمور:
منها: تعارض الأدلة: بحيث لا يظهر الجمع، ولا الترجيح بينها؛ فهذا مشتبهٌ في حقِّ المجتهد الَّذي يطلب الأحكام من أدلتها.
فمن انبهم عليه الحكم الرَّاجح، فيو في حقِّهِ مشتبه؛ فالورع اتقاء الشبهة.
ومنها: تعارض أقوال العلماء وتضاربها؛ وهذا في حق المقلِّد الَّذي لا ينظر في الأدلة؛ فالورع في حق هذا اتقاء المشتبه.
ومنها: ما جاء في النَّهي عنها حديث ضعيف، يوقع الشك في مدلوله.
ومنها: المكروهات جميعها: فهي رقية -أي: سُلّم وَصْل- إلى فعل المحرمات، والإقدام عليها؛ فإنَّ النَّفس إذا عصمت عن المكروه، هابت الإقدام عليه، ورأته معصية؛ فيكون حاجزًا منيعًا عن المحرمات.
ومنها: المباح الَّذي يُخشى أنْ يكون ذريعةً إلى المحرَّم، أو يجرّ -في بعض الأحوال- إلى المحرم، ومثله الإفراط في المباحات، فتسبب مجاوزته إلى الحرام، إمَّا عند فقده، أو للإفراط فيما هو فيه.
وبناءً عليه: فإنَّ هذا الحديث أصلٌ في الورع، وهو أنَّ ما اشتبه على الرجل أمره في الحل أو الحرمة، فالورع تركه وتجنبه؛ فإنَّه إذا لم يتركه
واستمر عليه، واعتاده، جَرَّ ذلك إلى الوقوع في الحرام.
4 -
وقد كان السلف رضي الله عنهم يتركون المباحات الكثيرة؛ خوفًا من المكروه والحرام؛ ذلك أنَّ من لم يتعد الشُّبَهَ في كسبه ومعاشه، فقد عرَّض دينه وعرضه للطعن.
5 -
ثمَّ ضربَ صلى الله عليه وسلم مثلًا للمحرَّمات بالحِمَى، الَّذي يتخذه الخلفاء والملوك مرعى لدوابُّهم.
ومثَّل المُلِمّ بالمشتبهات بالرَّاعي، الَّذي يسيم ماشيته حول الحمى، فيوشك ويقرب أنْ ترعى ماشيته فيه؛ لقربه منه، كذلك المُلِمّ بالمشتبهات يوشك أنْ يقع في المحرمات، وهو تصويرٌ بديعٌ، ومثالٌ قريب.
6 -
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أنَّ في الجسد لحمةً صغيرةً لطيفةً بقدر ما يمضغ، وأنَّ هذه القطعة من اللحم هي القلب، وأنَّ القلب هو السلطان المدبِّر لمملكة الأعضاء، وما تأتي من أعمالٍ؛ فعليه مدار فسادها أو صلاحها.
فإن صلح القلب، فإنه لن يأمر إلَاّ بما فيه الخير، وسيصلح الجسد كله، وإن فسد، فسيأمر بالفساد والشر، وتكون الأعمال معكوسة منكوسة، والله ولي التوفيق.
7 -
وبالجملة فهذا حديثٌ عظيم جليل، وقاعدةٌ من قواعد الإِسلام، وأصلٌ من أصول الشريعة، عليه لوائح أنوار النُّبوة ساطعة، ومشكاة الرِّسالة مضيئة؛ فهو من جوامع كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويحتاج استيفاء الكلام عليه إلى مصنَّف مستقل طويل.
8 -
اتَّفق العلماء على عظم هذا الحديث، وكثرة فوائده، وأنَّه من الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، قيل: هو ثلثه، وحديث:"إنَّما الأَعمال بالنِّيات"، ثلث، وحديث:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" الثلث الباقي.
9 -
قوله: "الحلال بيِّن، والحرام بيِّن
…
": معناه: أنَّ الأشياء ثلاثة أقسام:
حلال بيِّن واضح حله، وحرام بيِّن واضح الحرمة، والمتشابه هو الَّذي يحتمل الأمرين؛ فاشتبه على النَّاظر بأيهما يلحق، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله:"لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناَّس"؛ ففيه أنَّه يعلمهنَّ بعض النَّاس، وهم الرَّاسخون من العلماء، فإذا اجتهد المجتهد، فألحقه بأحدهما، صار حلالًا أو حرامًا، فإذا فَقَد هذه "الدلائل" فالورع تركه؛ لأنَّه دخل بقوله صلى الله عليه وسلم:"فمن اتَّقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه".
***
1280 -
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، والدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ" أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- تَعِسَ: كفَرِح، بفتحٍ، فكسرٍ، وهو الهلاك، والعثار، والسقوط، والانحطاط، والقرب من الشرِّ، والبعد عن الخير.
- عبد الدينار: أراد من استعبدته الدنيا بطلبها؛ فصار كالعبد لها، والدينار
والدِّرهم، والقطيفة: مجرَّد أمثلة.
- عبد: قال الطِّيبيُّ: خصَّ العبد بالذكر؛ ليؤذن بانغماسه في محبَّة الدنيا وشهواتها، كالأسَير الَّذي لا يجد خلاصًا.
- القَطِيفة: الثوب الَّذي له خمل، جمعه: قطائف وقطف.
- أُعْطِيَ: مبني للمجهول، وكذا "لم يُعْط"؛ قال تعالى:{فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة].
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
العبادة هي ما قصد بها وجه الله والدَّار الآخرة؛ فمن تعبَّد لأجل الدنيا، وليس له غرضٌ ولا مأربٌ سواها، فهذا رَكَن إلى الدنيا، وجعلها همه وغايته؛ وبهذا فقد تعس، وهلك، وسقط، وغرق في مسلكه، فلا قوام له، إلَاّ أنْ يتداركه الله تعالى بالتوبة النصوح.
2 -
فهذا قلبه وقالبه معلَّق بالدنيا، إنْ أُعطيَ منها، رضي، وحمد، وأثنى، وإنْ
(1) البخاري (6435).
لم يعط، سخط، وتبرَّم، وقد وصف الله المنافقين بهاتين الصفتين؛ فقال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة].
3 -
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في شرحه على كتاب التوحيد: وأما العمل لأجل الدنيا، وتحصيل أغراضها: إنْ كانت إرادة العبد كلها لهذا المقصد، ولم يكن له إرادةٌ لوجه الله والدَّار الآخرة، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب؛ وهذا العمل لا يصدر من مؤمن؛ فإنَّ المؤمن ولو كان ضعيف الإيمان لابُدَّ أنْ يريد الله والدَّار الآخرة.
وأمَّا من عمل لوجه الله ولأجل الدنيا، والقصدان متساويان، فهذا وإنْ كان مؤمنًا، فإنَّه ناقص الإيمان، والتوحيد، والإخلاص، وعمله ناقصٌ؛ لفقده كمال الإخلاص.
وأمَّا من عمل لله وحده، وأخلص في عمله إخلاصًا تامًّا؛ ولكنه يأخذ على عمله جُعلاً يستعين به على العمل والدِّين؛ كالجعالة التي تجعل على أعمال الخير، وكالمجاهد الَّذي يرتب على جهاده غنيمة أو رزق، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس، والوظائف الدينية التي يقوم بها، فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده؛ لكونه لم يرد بعمله الدنيا، وإنَّما أراد الدِّين، وقصد أنْ يكون ما حصل له معينًا على القيام بالدِّين.
***
1281 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمَنْكِبَيَّ، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صَحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ" أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- مَنْكِبي: بالإفراد والتثنية، مجمع الكتف والعضد.
- عابر: عبر يعبر عبرًا وعبورًا، من باب نصر: قطع السبيل وجازه.
- السبيل: الطريق، يذكَّر ويؤنَّث، جمعه على التذكير: سُبُل، وعلى التأنيث: سبول؛ كذا في المصباح.
وعابر السبيل: المسافر الَّذي لا يستقرّ حتَّى يصل إلى وطنه.
- أمسيت: أمسى الرَّجل مساءً ومُمْسًى: دخل في المساء، والمساء خلاف الصباح، وهو زمان من الظهر إلى الغروب، أو إلى منتصف الليل، قولان.
- أصبحت أصبح الرَّجل: دخل في الصباح، والصباح أوَّل النَّهار، وهو نقيض المساء.
قال في المصباح عن ابن الجواليقي: إنَّ الصباح عند العرب من منتصف الليل الآخر إلى زوال الشمس.
- سقمك: سقم يسقم، من باب عَلِمَ، وسقم يسقم، من باب كَرُمَ، سَقَمًا وسُقْمًا، أي: مرض، والمرض: كل ما خرج بالكائن الحي عن حد الصحة
(1) البخاري (6416).
والاعتدال، قاله في المعجم الوسيط.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذا الحديث الشريف من أحسن الأحاديث الواعظة، فهو أبلغ حديث لقطع الأمل، وتذكر الأجل، والحافز على العمل.
2 -
يقول: "كن في الدنيا كأنَّك غريب"؛ فإن الغريب لا يركن إلى دار الغربة، ولا يطمئن بها، ولا يستقر فيها، ولا تسكن نفسه إليها؛ فلا ينافس أهلها في حطامها، ويزاحمهم على رغباتهم، فنفسه مشتاقة إلى وطنه، لا تحدثه إلَاّ فيه، فهو عازمٌ على السفر، مزمع على الرِّحلة، جازم على النقلة، وهو في بلد الغربة غير عابىءٍ بأهله؛ فلا يأنف أنْ يُرى على خلاف عادة أهله في الملبس والهيئة.
فالحديث فيه الحض على قلَّة المخالطة، والترغيب في الزهد في الدنيا.
قال أبو الحسن: إنَّ الغريب قليل الانبساط إلى النَّاس، مستوحشٌ منهم، إذ لا يكاد يمر بمن لا يعرفه يأنس به، ويكثر من مخالطته فهو ذليلٌ خائف.
3 -
قوله: "أو عابر سبيل" عابر الطريق مسافر لا يقرّ له قرار، ولا تهنأ له دار، حتَّى يصل إلى داره دار القرار، ومجمع الأحبة والأخيار.
قال النووي: لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا، ولا تحدث نفسك بالبقاء فيها، ولا تتعلَّق منها إلَاّ بما يتعلَّق الغريب به في وطنه، الَّذي يريد الذهاب منه إلى أهله، وهذا معنى قول سلمان الفارسي رضي الله عنه:"أَمرنِي خليلي صلى الله عليه وسلم أنْ لا أتخذ من الدنيا إلَاّ كمتاع راكب".
ففي الحديث دليلٌ على قصر الأمل، والاستعداد للموت.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خطبته: إذا لم تكن الدنيا دار إقامة ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أنْ يكون حاله على أمرين:
إمَّا أنْ يكون فيها غريبًا في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه.
وإمَّا أنْ يكون كأنَّه مسافر غير مقيم ألبتَّة، بل هو ليله ونهاره، على إحدى هاتين الحالتين.
وقال الحسن البصري: المؤمن كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزِّها، له شأنٌ، وللنَّاس شأن.
4 -
جاء في بعض الروايات أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لابن عمر: "اعدد نفسك في الموتى، وإذا أصبحت نفسك، فلا تحدِّثها بالمساء، وإذا أمسيت، فلا تُحَدِّثها بالصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن شبابك لهرمك، ومن فراغك لشغلك، ومن غناك لفقرك، ومن حياتك لوفاتك".
5 -
قوله: وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" هذا من كلام ابن عمر رضي الله عنه مدرجٌ في الحديث، ومعناه: أنَّ الشَّخص يجعل الموت بين عينيه، فيُسارع إلى الطاعات، ويغتنم الأوقات، بالأعمال الصالحات، ويقصر الأمل فلا يركن إلى غرور الدنيا؛ فإنَّه كالغريب أو عابر السبيل، لا يدري متى يصل إلى وطنه مساءً أو صباحاً، والمسافة هي أيام العمر القصار.
قال ابن دقيق العيد: وأمَّا قول ابن عمر، فهو حضٌّ منه للمؤمن بأنْ يستعد أبدًا للموت، والاستعداد للموت يكون بالعمل الصَّالح.
وفيه حضٌّ على تقصير الأمل، بالأعمال، بل بادر بالعمل، وكذلك إذا أصبحت، فلا تحدِّث نفسك بالمساء؛ فتؤخِّر أعمال الصباح إلى الليل.
وقال ابن رجب: وأمَّا وصية ابن عمر، فهي متضمنةٌ لنهاية قصر الأمل، وأن الإنسان إذا أمسى لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح لا ينتظر المساء، بل يَظُنّ أنَّ أجله يُدْرِكُهُ قبل ذلك، وبهذا فسِّر الزهد في الدنيا.
وقيل للإمام أحمد: أي شيء يُزَهِّدُ في الدنيا؟ فقال: قصر الأمل. وهكذا قال سفيان.
6 -
وقول ابن عمر: "وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك"، قال ابن رجب: يعني اغتنم الأعمال الصالحة في الصحة قبل أنْ يحول بينك وبينها السقم، وفي الحياة قبل أنْ يحول بينك وبينها الموت.
وقد جاء في الترمذي (2306) من حديث أبي هريرة؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلَاّ فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائبٍ يُنْتَظر، أو السَّاعة فالسَّاعة أدهى وأمرّ؟! ".
أبيات في الزهد والحكمة: قال بعضهم:
تَأَهَّبَ لِلَّذِي لَابُدَّ مِنْهُ
…
فَإِنَّ المَوْتَ مِيقَاتُ الْعِبَادِ
أَتَرْضَى أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ
…
لَهُمْ زادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ
وقال بعضهم:
أَتَبْنِي بِنَاء الْخَالِدِينَ وَإِنَّمَا
…
مَقَامُكَ فِيهَا لَوْ عَقَلْتَ قَلِيلُ
لَقَدْ كَانَ فِي ظِلِّ الأَرَاكِ كِفَايَةٌ
…
لِمَنْ كَانَ فِيهَا يَعْتَرِيهِ رَحِيلُ
وقال بعضهم:
نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ
…
وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ المَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ
…
إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الأمَانِيُّ بَاطِلُ
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا
…
فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأسِ شَاعِلُ
تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
…
فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلَائِلُ
وقال ابنِ القيم:
فحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّها
…
مَنَازِلُكَ الأُوْلَى وَفِيهَا المُخَيَّمُ
وَلَكِنَّنَا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تُرِى
…
نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا ونُسَلِّمُ
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الغَرِيبَ إِذَا نَأى
…
وَشَطَتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهْوَ مُغْرَمُ
وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الْتِي
…
لَهَا أَضْحَتَ الأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ
1282 -
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَشَبَّهَ بقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث سنده حسن.
قال المؤلِّف: أخرجه أبو داود، وصحَّحهُ ابن حبان.
والحديث فيه ضعف، ولكن له شواهد عند جماعة من أئمة الحديث، عن جماعةٍ من الصحابة، تُخْرِجه عن دائرة الضعف، ومن شواهده: ما أخرجه أبو يعلى مرفوعًا من حديث ابن مسعود: "من رضيَ عمل قومٍ، كان منهم".
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: سنده جيد، وقال الحافُظ في الفتح: سنده حسن، وحسَّنَهُ السيوطي في الجامع الصغير.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
في الحديث أنَّ من تشبَّه بقومٍ، فهو منهم؛ فمن تشبَّه بالكفَّار من المسلمين في أمورهم المختصَّة بهم، فَتَشَبُّهُ الظَّاهر يدعوه إلى التشبه الباطن، فيرتضي زيهم، وسمتهم، فيكون معهم.
2 -
في الحديث: أنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، ووجوب سد الذرائع المفضية إلى المحرمات والشرور؛ لئلا تفضي إلى مقاصدها.
3 -
الحديث يدل على أنَّ من تشبَّه بالفسَّاق كان منهم، أو بالكفَّار، أو المبتدعة، في أي شيء ممَّا اختصوا به من ملبوس أو هيئة، كان على طريقتهم، وعلى
(1) أبو داود (4031).
مسلكهم.
4 -
صنَّف شيخ الإِسلام كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" كله لتحقيق هذه المسألة، فكان ممَّا جاء فيه:"فصلٌ في ذكر الأدلة من الكتاب والسنَّة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار، والنَّهي عن التشبه بهم، قال: وقد روى النسائي (5074) عن الزبير؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "غيِّروا هذا الشيب، ولا تشبهوا باليهود".
وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم، والنَّهي عن مشابهتهم؛ فإنَّه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشعر والشيب الَّذي ليس من فعلنا، فلأَنْ ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى؛ ولذا كان التشبه بهم محرَّمًا بخلاف الأوَّل.
وروى مسلم (260) عن أبي هريرة؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى؛ خالفوا المجوس".
ولهذا لمَّا فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره، كرهوا أشياء غير منصوص عليها بعينها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم هي من المجوس.
فلفظ المخالفة دليلٌ على أنَّ جنس المخالفة أمرٌ مقصودٌ للشَّارع.
***
1283 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يوْمًا، فَقَالَ:"يَاغُلَامُ! احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال ابن رجب في شرح الأربعين: أخرجه الترمذي، من حديث ابن عباسٍ، وأخرجه أحمد، من حديث حنش الصنعاني، عن ابن عباسٍ، وقد رويَ هذا الحديث عن ابن عباس من طرقٍ كثيرةِ، من رواية ابنه علي، وعكرمة، وعطاء ابن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وغيرهم، وأصح هذه الطرق طريق حنش الصنعاني التي أخرجها الترمذي؛ فهي حسنةٌ جيدةٌ.
* مفردات الحديث:
- احْفَظِ اللهَ؛ بصيغة الأمر، أي: اذكُرِ الله، واحفظ أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم التجاوز والتعدي.
- تجاهك: بتثليث التاء، أي: أمامك، فيحفظك من شرور الدَّارين.
* ما يؤخذ من الحديث:
في هذا الحديث العظيم جمل جامعات:
الأولى: "احفظ الله؛ يحفظك":
(1) الترمذي (2516).
قال النووي: احفظ أوامره وامتثلها، وانته عن نواهيه، يحفظك في تقلباتك، وفي دنياك، وآخرتك.
فكل ما يحصل للعبد من النبلاء والمصائب، فهو بسبب تضييع أوامر الله تعالى؛ قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وقال ابن رجب: قوله: "احفظ الله" يعني: احفظ حدوده، وحقوقه، وأوامره، ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده بأنْ لا يتجاوز ما أمر به وأذن فيه، إلى ما نهى عنه؛ فمن فعل ذلك، فهو من الحافظين لحدود الله.
وقوله: "يحفظك" يعني: أنَّ من حفظ حدود الله، وراعى حقوقه، حفظه الله فإنَّ الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وحفظ الله لعبده نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه؛ كحفظه في بدنه، وولده، وأهله، وماله، قال تعالي:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11].
قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر، تخلوا عنه.
الثاني، وهو أشرف النوعين: حفظ العبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضللة، ومن الشهوات المحرَّمة؛ فيتوفَّاه على الإيمان، وفي الجملة: فإنَّ الله عز وجل يحفظ على المؤمن حدود دينه، ويحول بينه وبين ما يفسد عليه دينه، بأنواعٍ من الحفظ، وقد لا يشعر العبد ببعضها.
الثانية: "احفظ الله؛ تجده تجاهك":
معناه: أنَّ من حفظ حدود الله، وجد الله معه في كلِّ أحواله؛ حيث
توجه: يحوطه، ويحفظه، ويوفِّقه، ويسدِّده، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الَّذي لا ينام، والهادي الَّذي لا يضل.
قال تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه]، وقال صلى الله عليه وسلم:"وما ظنك باثنين الله ثالثهما"[البخاري (2663) ومسلم (2381)]، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تحزن إنَّ الله معنا"[رواه البخاري (3615) ومسلم (2009)].
فهذه المعيَّة الخاصَّة تقتضي النصر، والتأييد، والحفظ، والإعانة.
أمَّا المعيَّة العامَّة المذكورة في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]: فإن هذه معيَّة تقتضي علمه، واطلاعه، ومراقبته لأعمالهم؛ فهي تقتضي تخويف عباده منه.
وأمَّا المعيَّة الأولى: فتقتضي حفظه، وحياطته، ونصره، فمن حفظ الله، وراعى حقوقه، وَجَدَهُ أمَامه وتجاهه، فاستأنس واستغنى به عن خلقه.
الثالثة: قوله: "إذا سألت، فأسأل الله":
قال النووي: فيه إشارة إلى أنَّ العبدَ لا ينبغي له أنْ يعلِّق سرَّه بغير الله، بل يتوكَّل عليه في جميع أموره:
ثمَّ إنْ كانت الحاجة التي يسألها لم تجر العادة بجريانها على أيدي خلقه؛ كمطلب الهداية، والعلم، والفهم في القرآن والسنَّة، وشفاء المرض، وحصول العافية من بلاء الدنيا، وعذاب الآخرة-: سأل ربه ذلك.
وإنْ كانت الحاجة التي يسألها جرت العادة أنَّ الله سبحانه وتعالى يجريها على أيدي خلقه، كالحاجات المتعلقة بأصحاب الحرف والصنائع وولاة الأمور-: سأل الله تعالى أنْ يعطِّف عليه قلوبهم.
وقال ابن رجب: قوله: "إِذَا سألت؛ فأسأل الله، وإذا استعنت؛ فاستعن بالله": هذا منتزعٌ من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)}
[الفاتحة].
فالدعاء هو العبادة، فتضمَّن هذا الكلام أنْ يسأل الله تعالى، ولا يسأل غيره، وأنْ يستعين بالله دون غيره.
واعلم أنَّ سؤال الله عز وجل دون خلقه هو المتعيِّن؛ لأنَّ السؤال فيه إظهار الذل من السَّائل، والمسكنة، والحاجة، والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على رفع هذا الضرر، وقيل المطلوب، وجلب المنافع، ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلَاّ لله وحده؛ لأنَّه حقيقة العبادة.
***
1284 -
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْته، أَحَبَّنِي اللهُ، وَأَحَبَّنِي النَّاسُ، فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ" روَاهُ ابْنُ مَاجَةَ وَغَيْرُهُ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسنٌ بشواهده.
قال ابن رجب في شرح الأربعين: هذا الحديث أخرجه ابن ماجه، وذكر النووي؛ أنَّ إسناده حسن، وفي ذلك نظرة فإنَّ فيه خالد بن عمرو القرشي، قال الإِمام أحمد: منكر الحديث، ليس بثقة، يروي أحاديث باطلة، وقال ابن معين: ليس حديثه بشيءٍ؛ فهو كذَّاب، حدَّث عن شعبة أحاديث موضوعة، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ضعيف، ونسبه ابن عدي إلى وضع الحديث.
قال الحافظ: سنده حسن، أخرجه أبو نعيم من حديث مجاهد عن أنس برجال ثقات، إلَاّ أنه لم يثبت سماع مجاهد من أنس، وقد رويَ مرسلاً، وقد حسَّن النووي الحديث، وكأنَّه لشواهده.
* مفردات الحديث:
- ازهد في الدنيا: يُقال: زهد في الشيء -بالكسر- يزهد زهدًا وزهادة: إذا لم يرغب فيه، فالزهد خلاف الرغبة، ومنه سمي "الزاهد"؛ لأنَّه لم يرغب في
(1) ابن ماجة (4102).
الدنيا، وقد عرَّف الزهدَ في الدنيا شيخُ الإِسلام ابن تيمية بقوله: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال في الإحياء: الزهد في الدنيا مقامٌ شريف من مقامات السَّالكين، وينتظم هذا المقام: من علم، وحال، وعمل؛ كسائر المقامات، والزهد عبارةٌ عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خيرٌ منه، وقد جرت العادة بتخصيص اسم الزَّاهد بمن ترك الدنيا، ومن زهد في الدنيا، مع رغبته في الجنَّة ونعيمها؛ فهو -أيضًا- زاهد؛ ولكنَّه دون الأوَّل.
2 -
وليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء واستمالة القلوب، وإنَّما الزهد أنْ يترك الدنيا؛ للعلم بحقارتها بالنسبة إلى نفاسة الآخرة.
3 -
قوله: "ازهد في الدنيا يحبك الله":
قال الشيخ: الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
وقال ابن رجب: الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء، كلها من أعمال القلب، لا من أعمال الجوارح:
أحدها: أنْ يكون العبد بما يزيد الله أوثق منه بما يزيد نفسه، وهذا ينشأ عن صحَّة اليقين وقوته، فإنَّ الله تعالى ضمن أرزاق عباده، وتكفَّل بها؛ قال تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
الثاني: أنْ يكون العبد إذا أصيب بمصيبةٍ في دنياه من ذهاب ولد، وغير ذلك، كان أرغب في ثواب الله ممَّا ذهب من الدنيا أنْ يبقى له، وهذا ينشأ من كمال اليقين.
الثالث: أنْ يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق، وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، فإنْ عظمت الدنيا عنده، اختار المدح، وكره الذم، فمن استوى عنده حامده وذامه في الحق، دلَّ
على سقوط منزلة المخلوقين في قلبه، وامتلائه من محبة الحق وما فيه رضا مولاه.
4 -
الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الذهب والفضة، فمن أخرج من قلبه حب الرياسة في الدنيا، والترفع فيها عن النَّاس، فهو الزَاهد حَقًّا، وهذا هو الَّذي يستوي عنده حامده وذامه في الحق.
5 -
الوصية الثانية: "وازهد فيما في أيدي النَّاس؛ يحبك النَّاس":
قال ابن رجب: تكاثرت الأحاديث عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالأمر بالاستعفاف عن مسألة النَّاس، والاستغناء عنهم؛ فمن سأل النَّاسَ ما بأيديهم، كرهوه وأبغضوه؛ لأنَّ المال محبوب لنفوس بني آدم، فمن طلب منهم ما يحبون، كُرِهَ لذلك.
وأمَّا من زهد فيما في أيدي النَّاس، وعفّ عنهم، فإنَّهم يحبونه ويكرمونه لذلك.
6 -
قال أعرابي: مَنْ سيِّد أهل البصرة؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج النَّاس إلى علمه، واستغنى عن دنياهم.
***
1285 -
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقُولُ: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ" أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- التقي: يُقال: اتقى اللهَ اتقاءً: حَذِره وخافه، وأصل اتقى: اوْتَقَى، قلبت الواو تاءً وأدغمت، والاسم: التقوى؛ فهو تقي، وهو: الممتثل لأوامر اللهِ، والمجتنب لنواهيه.
- الغَنِي: يُقال: غَنِيَ فلان غِنًى وغناء: أكثر ماله؛ فهو غني، ومنه غنى النفس، وهو المراد هنا.
- الخَفِي: خفي الأمر يخفى خفاء: لم يظهر؛ فهو خافي وخفي، والخفي -هنا- هو: المنقطع إلى عبادة الله تعالى بالسر؛ فهو بعيد عن مظان الرِّياء والسمعة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
التقي: هو من أتى بما أوجب الله، واجتنب ما نهى الله عنه؛ ابتغاء رضوانه، وخوفا من عقابه وعذابه.
2 -
الغني: هو غني النَّفس، والعافّ عمَّا في أيدي النَّاس، اعتمادًا على ما قسم الله له من الرزق الَّذي يناله من عمل يده.
3 -
الخفي: هو الَّذي آثر الخمول، وعدم الشهرة والذكر، وانقطع إلى عبادة الله، والاشتغال بذكره، وما يعنيه من أمور نفسه.
4 -
من جَمَعَ هَذه الصفات الثَّلاث، فإنَّ الله تعالى يحبه؛ لأنَّه اتَّقى الله، والله
(1) مسلم (2965).
يحب المتقين، ولأنَّه استغنى بالله تعالى، ومن استغنى بالله أحبَّه وأغناه.
* فائدة:
ذكروا للعزلة فوائد منها:
1 -
التفرغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه.
2 -
التخلص من المعاصي التي يتعرَّض لها الإنسان بالمخالطة؛ من الفتن، والرياء، ونحوهما.
3 -
الخلاص من الفتن والخصومات.
4 -
الخلاص من شرِّ النَّاس.
***
1286 -
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: حَسَنٌ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث مرسل.
وحسَّنه مرفوعًا الإِمام النووي، رحمه الله.
قال ابن رجب في شرح الأربعين: أخرجه الترمذي، وابن ماجه، من رواية الأوزاعي، عن قرَّة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
قال الترمذي: غريب، وقد حسَّنه النووي؛ لأنَّ رجال إسناده ثقات، وقرَّة بن عبد الرحمن بن حيوة، وثَّقه قومٌ، وضعَّفه آخرون.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث محفوظ عن الزهري بهذا الإسناد من رواية الثقات، وهذا موافق لتحسين الشيخ النووي -رحمه الله تعالى.
وأمَّا أكثر الأئمة فقالوا: ليس هو محفوظًا بهذا الإسناد؛ إنَّما هو محفوظٌ عن الزهري، عن علي بن حسين، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، رواه عن الزهري مالك في الموطأ، ويونس، ومعمر، وممَّن قال: لا يصح إلَاّ مرسلاً، الإِمام أحمد، ويحيى بن معين، والبخاري، والدَّارقطني، والصحيح أنَّه مرسل.
وقال الزرقاني في شرح الموطَّأ: والحديث حسنٌ، بل صحيح.
(1) الترمذي (2318).
* مفردات الحديث:
- من حسن: "من" تبعيضية، ويجوز أنْ تكون بيانية.
- ما لا يعنيه: يُقال: عُنِيتُ بالحاجة، فأنا بها مَعْنِيّ، أي: اهتممت بها، واشتغلت بقضائها.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال ابن رجب -رحمه الله تعالى-: الَّذي يعني الإنسان هو الَّذي تتعلَّق به عنايته، ويكون مقصده ومطلوبه، والعناية شدَّة الاهتمام بالشيءِ.
وليس المراد: أنه ترك ما لا عناية به، ولا إرادة، بحكم الهوس، وطلب النفس، بل بحكم الشرع والإِسلام؛ ولذا جعله من حسن الإِسلام؛ فإنَّ من حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، وسَلِمَ من المحرَّمات، والمشتبهات، والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإنَّ هذا كله لا يعني المسلم إذا كمل إسلامه، وبلغ درجة الإحسان وهو أن يعبد الله كأنَّه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنَّ الله يراه، فمن عَبَدَ الله على استحضار قربه، ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قرب الله منه واطلاعه، فقد حسن إسلامه، ولزم من ذلك أنْ يترك كل ما لا يعنيه في الإِسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه؛ فإنه يتولَّد من هذين المقامين الاستحياء من الله، وترك كل ما يُستحيا معه.
2 -
وقال الشيخ أحمد الفشني: الَّذي يعني الإنسان من الأمور ما يتعلَّق بضرورة حياته في معاشه، وسلامته في معاده، وذلك يسير بالنسبة إلى ما لا يعنيه، فإنِ اقتصر الإنسان على ما يعنيه من الأمور، سلم من شرٍّ عظيم، والسَّلامة من الشرِّ خير.
3 -
قال ابن عبد البر: كلامه صلى الله عليه وسلم هذا من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة.
وقال ابن الصلاح: قال أبو زيد إمام المالكية في زمنه: جماع آداب الخير في أربعة أحاديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت"[رواه البخاري (6138) ومسلم (47)] وَ"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"[رواه الترمذي (2317)] وَ"لا تغضب"[البخاري (6116)] وَ"لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"[البخاري (13) ومسلم (245)].
فهذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام.
4 -
قال الإِمام الغزالي: وحدُّ ما لا يعنيك في الكلام: أنْ تتكلَّم بكلِّ ما لو سكتَّ عنه لم تأثم، ولم تتضرَّر في حالٍ ولا مالٍ، فإنَّك به مضيع زمانك؛ لأنَّك به أنفقت وقتك الَّذي خيرٌ لك لو صرفته في الفكر والذِّكر، فمن قدر على أنْ يأخذ كنزًا من الكنوز، فأخذ بدله مدراة لا ينتفع بها، كان خاسرًا.
***
1287 -
وَعَنِ المِقْدَام بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث حسن.
قال ابن كثير في تفسيره، بعد أنْ أورد نصَّ هذا الحديث: رواه النسائي، والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر به، وقال الترمذي: حسن، وفي نسخة: حسنٌ صحيح.
ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
فذكر الحديث، ورواه الدَّارقطني في الأفراد، وقال: هذا حديثٌ غريب تفرَّد به بقية.
قال محرره: ولهذا الحديث شاهدٌ من حديث ابن شعيب.
قال الشوكاني في تفسيره: أخرجه عبد بن حميد، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي في شُعَب الإيمان، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قال:"كلوا، واشربوا، والبسوا، من غير مخيلة، ولا سرف".
وقد صحَّح هذا الحديث كل من الترمذي، وابن حبان، والذهبي، وحسَّنه الحافظ في الفتح، والسيوطي في الجامع الصغير.
(1) الترمذي (2380).
* مفردات الحديث:
- ما: حرف نفي، وقد دخلت على جملةٍ فعلية.
- وعاء: بكسر الواو، مفعولٌ به منصوب.
والوعاء: ظرف يوضع فيه الشيء، جمعه أوعية.
- شرًّا: منصوبٌ على أنَّه صفةٌ لوعاء.
- بطْنه: بَطَنَ الشيءُ يَبْطُنُ بُطُونًا: خَفِيَ، والبطن: جوف كل شيء.
فالبطن -هنا- خلاف الظهر، وهو مذكَّر، والجمع: بطون وأبطن، سمِّيَ بذلك؛ لخفاء ما فيه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
قال ابن رجب: رويَ أنَّ ابن أبي ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث قال:
"لو استعمل النَّاس هذه الكلمات، لسلموا من الأمراض والأسقام، ولتعطلت دكاكين الصيادلة".
وإنَّما قال هذا؛ لأنَّ أصل كل داء التخم، قال الحارث بن كلدة: الحمية رأس الدواء، والبطنة رأس الدَّاء.
فهذا بعض منافع تقليل الغذاء، وترك التملؤ من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته.
2 -
وأمَّا منافعه بالنسبة للقلب، وصلاحه، فإنَّ قلَّة الغذاء توجب رقَّة القلب، وقوَّة الفهم، وانكسار النفس، وضعف الهوى، والغضب، وكثرة الغذاء توجب ضد ذلك.
3 -
ومن حيث الأخلاق: فإنَّ معصية الله تعالى بعيدةٌ من الجائع، قريبةٌ من الشبعان، والشبع يخبث القلب، ومنه يكون الفرح، والمرح، والضحك.
فالنَّفس إذا جاعت وعطشت، صفا القلب ورَقَّ، وإذا شبعت ورويت، عميَ القلب.
قال الحسن الخشني: من أراد أن تغزر دموعه، ويرق قلبه، فليأكل وليشرب في نصف بطنه.
وقد ندب النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى التقلل من الأكل، فقال:"حسب ابن آدم لقيمات يُقِمْنَ صُلْبَه"[رواه الترمذي (2380)].
4 -
الحديث يدل على ذمِّ التوسع في المأكولات، والأخبار في ذلك كثيرةٌ؛ لما فيه من المفاسد الدينية والبدنية؛ فإنَّ فضول الطعام مجلبةٌ للأسقام، ومثبِّطةٌ عن القيام بالأحكام.
قال لقمان لابنه: يابنيَّ! إذا امتلأت المعدة، نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وفي الخلو عن الطعام فوائد، وفي الامتلاء مفاسد:
ففي الجوع: صفاء القلب، وإيقاد القريحة، ونفاذ البصيرة، وإنَّ الشبع: يورث البلادة، ويعمي القلب، ويكثر أبخرة المعدة والدماغ، فيثقل القلب.
ومن فوائد التخفيف من الطعام؛ كسر شهوة المعاصي كلها، والاستيلاء على النَّفس الأمَّارة بالسوء؛ فإنَّ منشأ المعاصي كلها الشهوات، والسعادة كلها في أنْ يملك الإنسان نفسه، والشقاوة كلها في أن نفسه تملكه، والله المستعان.
***
1288 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابُونَ" أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث سنده قوي.
قال الشيخ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه الترمذي، واستغربه، والحاكم صحَّح إسناده من حديث أنس، قلت: فيه علي بن مسعدة، ضعَّفه البخاري.
لكن قوَّى سنده ابن حجر، وكذلك ابن القطان انتصر لتصحيح الحاكم له، وقال: ابن مسعدة صالح الحديث، وإنَّما غرابته فيما انفرد به عن قتادة.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث دليلٌ على أنَّه لا يخلو من الخطيئة إنسان؛ لما جبل عليه من الضعف، وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما دعاه إليه، وترك ما عنه نهاه، ولكنَّه تعالى بلطفه فتح باب التوبة لعباده، وأخبر أنَّ خيرَ الخطَّائين هم التَّوابون المكثرون للتوبة، والمسارعون إليها كلما وقعوا في الخطيئة.
2 -
الذنوب قسمان: كبائر وصغائر:
فأمَّا الصغائر: فإنَّ الأعْمَال الصَّالحة تكفرها بإذن الله تعالى؛ من الصلوات الخمس، ومتابعة الحج والعمرة، وصيام رمضان وقيامه، وصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وغير ذلك، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ
(1) الترمذي (2499)، ابن ماجة (4251).
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].
وأمَّا الكبائر: فلا يكفرها إلَاّ التوبة النصوح، المشتملة على الإقلاع عن المعصية في الحال، والعزم على أنْ لا يعود، والنَّدم على ما فات، وإنْ كانت مظلمة لمخلوق فالبراءة منها بأداءٍ، أو استحلالٍ، أو غير ذلك.
3 -
وصغائر الذنوب لا سبيل إلى حصرها وعدِّها.
أمَّا الكبائر: ففي عدِّها خلافٌ بين العلماء، فبعضهم قال: سبع، وقال بعضهم: سبعة عشر، وبعضهم قال: سبعون، وقال بعضهم: ستمائة.
وأحسن الأقوال أنَّها محدودة بتعريف، وليست محصورةً بعددٍ، وقد عرفها العلماء بتعريفاتٍ كثيرة، وأجمعها ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية:"الكبيرة: ما فيه حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة، أو غضبٌ، أو لعن صاحبها، أو نفي الإيمان عنه".
4 -
والغزالي أرجع المعاصي إلى أربع صفات: "صفات استعلائية، صفات شيطانية، صفات بهيمية، صفات سَبُعِية":
فالأولى: صفات استعلائية: ينتج منها الكبر، والفخر، والعجب، وحب المدح، وطلب الاستعلاء، ونحو ذلك، وهذه الصفات مهلكات، وبعض النَّاس يغفل عنها.
والثانية: صفات شيطانية: ومنها ما ينتج الحسد، والبغي، والخداع، والمكر، والغش، والنِّفاق، والأمر بالفساد، ونحو ذلك.
والثالثة: صفات بهيمية: ومنها يتشعَّب الشر، والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومن ذلك: الزنى، واللواط، والسرقة، والرشوة، والغلول، وأخذ حطام الدنيا بدون حق.
والرَّابعة: صفات سَبُعِية: ينتج عنها الغضب، والحقد، والتهجم على النَّاس بالقتل، والضرب، وغصب الأموال من النَّاس.
فهذه أمهات الذنوب ومنابعها، ثمَّ تفجَّر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح:
فبعضها: في القلب؛ كالكفر، والبدعة، والنِّفاق، وإضمار السوء للنَّاس، وبعضها: على العين، والسمع، وبعضها: على الِّلسان، وبعضها: على البطن، والفرج، وبعضها: على اليدين، والرجلين، وبعضها: على جميع البدن.
ولا حاجة إلى تفصيل ذلك؛ فإنَّه واضح.
5 -
التوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى بالنَّدم على ما مضى من المعاصي، والعزم على تركها إيمانًا لا لأجل نفع الدنيا، أو أذى النَّاسِ، وأنْ لا يكون على إكراهٍ وإلجاءٍ، بل اختيار حال التكليف.
6 -
قال الغزالي: المقبل على الله تعالى لابُدَّ لهُ من التوبة من المعاصي، وذلك لأمرين:
أحدها: ليحصل له توفيق الطَّاعة؛ فإنَّ شؤم الذنوب يورث الحرمان، وإنَّ الذنوب تمنع عن السير إلى الله تعالى، والمسارعة إلى خدمته.
الثاني: إنَّما تلزم التوبة لتُقْبَل من العبد الطَّاعات؛ فإنَّ التوبة إرضاءٌ للرَّبِّ، فكيف ندعوه ونناجيه، ونثني عليه، وهو غضبان.
والتوبة النَّصوح من مساعي القلب، فهيَ ترك اختيار ذنبٍ سبق مثله؛ تعظيمًا لله تعالى، وحذرًا من سخطه.
7 -
وللتوبة ثلاثة شروط:
أحدها: ترك الذنب اختيارًا لله تعالى.
الثاني: العزم على أنْ لا يعود إليه.
الثالث: النَّدم على ما فات منه.
ثمَّ إذا كان الذنب في حقِّ آدمي، فإنَّه يزاد شرطٌ رابعٌ: وهو أداؤه أو
الاستسماح من صاحبه:
فما كان من المال: فيجب عليك رده إنْ أمكنك، وإلَاّ فتستحل صاحبه، فإنْ عجزت عن معرفته، فتصدق عنه.
وأمَّا النَّفس: فتمكنه من القصاص أو أولياءه، فإنْ عجزت فالرجوع إلى الابتهال أنْ يرضيه الله عنه يوم القيامة.
وأمَّا العرض: فإن اغتبته، أو بهتَّه، أو شتمته، فتكذِّب نفسك بين يدي من فعلت ذلك عنده، وأنْ تستحل من صاحبه، هذا إذا لم تخش زيادة غيظ، وإلا فالمرجع إلى الله تعالى ليرضى عنك.
وأمَّا الحرمة: فإنْ خنته في محارمه، فتضرَّع إلى الله ليرضى عنك.
وأمَّا في الدِّين: فإنْ فسَّقته، أو بدَّعته، أو ضلَّلته، فتحتاج إلى تكذيب نفسك عند من كفَّرته، أو بدَّعته عنده، وأنْ تستحل من صاحبه إنْ أمكنك ذلك.
8 -
فإذا أنت عملت ما وصفناه، وبرَّأت القلب عن اختيار فعلها في المستقبل، فقد خرجت من الذنوب كلها، وإنْ حصلت منك تبرئة القلب، ولم يحصل منك قضاء الفوائت، وإرضاء الخصوم، فالتبعات لازمةٌ، وسائر الذنوب مغفورة.
9 -
قال شيخ الإِسلام: من تاب توبةً عامَّة، كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها، وتصح من بعض ذنوبه في الأصح؛ خلافًا للمعتزلة.
10 -
قال الطيبي: من يترك المعاصي، ويندم على فعلها، ويدخل في العمل الصَّالح، فإنه بذلك يكون تائبًا إلى الله مثابًا مرضيَّا عند الله، مكفرًا للخطايا، محصِّلاً للثواب، والله يحب التوابين، ويعرف لهم حقَّهم، والتَّائب من الذنب كمن لا ذنب له.
11 -
قال ابن رجب: الهمُّ بالسيئة من غير عملٍ لها:
تارةً: يتركها الهامُّ لخوف من الله تعالى، فهذه يكتب له بها حسنة؛ لما في الحديث القدسي:"إنَّما تركها من جرِّائي".
وتارةً يتركها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم؛ فقد قيل: إنَّه يعاقب على تركها بهذه النية؛ لأَنَّ تقديم خوف المخلوقين على خوف الله محرَّم.
وإنْ سعى في حصول المعصية بما أمكنه، فلم يقدر عليها، فإنَّه يعاقب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذَا التقى المسلمان بسيفهما
…
إلخ" [رواه البخاري (3) ومسلم (2888)].
وأمَّا إن انفسخت نيَّة الهام بالمعصية، وفترت عزيمته من غير سبب منه، فهل يعاقب على ما هم به من المعصية أم لا؟ على قسمين:
أحدهما: أنْ يكون الهَمُّ بالمعصية خاطرًا خطر، ولم يساكن صاحبه، ولم يعقد قلبه عليه، فهذا معفوٌّ عنه.
الثاني: أنْ تقع النَّفس، ويدوم، ويساكن صاحبها، فهذا أيضًا نوعان:
الأوَّل: ما كان عملًا منْ أعمال القلوب؛ كالشكِّ في الوحدانية، أو النبوة، أو البعث، أو نحو ذلك من صور الكفر والنِّفاق، فهذا يعاقب عليه العبد، ويصير به كافرًا، أو منافقًا، ويلتحق بهذا سائر المعاصي المتعلِّقة بالقلوب.
الثاني: ما لم يكن من أعمال القلوب، بل من أعمال الجوارح؛ كالزنى، والسرقة، والقتل، ونحو ذلك، فالرَّاجح من أقوال العلماء: أنَّه يؤاخذ به؛ وهو قول أكثر الفقهاء والمحدِّثين من أصحابنا وغيرهم؛ واستدلوا بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: 235]؛ وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله تجاوز لأُمَّتي عمَّا حدَّثت به أنفسها، ما لم تتكلَّم به أو تعمل"[رواه البخاري (5269) ومسلم (127)] على الخطرات، وغالبُ ما عقد العبد قلبه عليه، فهو من كسبه وعمله، فلا يعفى عنه.
12 -
وإذا أتى المؤمن بالتوبة النصوح، خرج من ذنوبه طاهرًا كيوم ولدته أمه، وأحبه الله سبحانه وتعالى، وحصل له من الأجر، والثواب، والبركة، والرحمة ما لا يحيط به وصف الواصفين، وحصل له الأمن والخلاص بإذن الله تعالى.
13 -
وأهل القبلة ثلاثة أقسام: "فائزون، ومعذَّبون، وناجون":
الفائزون: هم إمَّا مقرَّبون، أو من أصحاب اليمين، وهؤلاء هم الَّذي أحكموا أصل الإيمان، وقاموا بجميع الفرائض، واجتنبوا الكبائر، ولم يصروا على الصغائر، فهؤلاء إمَّا يلتحقون بالمقرَّبين، أو بأصحاب اليمين، بحسب إيمانهم ويقينهم.
ومن أتى بكبيرةٍ، أو أهمل واجبًا، أو ترك الإِسلام، ثمَّ تابَ توبةً نصوحًا قبل قرب الأجل، أُلحق بمن لم يرتكب؛ لأنَّ التَّائبَ من الذنب كمن لا ذنب له.
أمَّا المعذَّبون: فهم الَّذين ماتوا قبل التوبة من الكبيرة، فهؤلاء على خطرٍ، وهم تحت مشيئة الله تعالى، وإذا ماتَ قبل التوبة وعُذِّبَ، فإنَّ عذابه بحسب قبح الكبائر، ومدَّة الإصرار.
وأمَّا النَّاجون: ويُراد بالنَّجاة السَّلامة فقط من العذاب، وهم قومٌ لم يخدموا فَيُخْلَع عليهم، ولم يقصروا فيعذبوا.
ويشبه أنْ تكون الحالُ للمجانين، وأولاد الكفَّار، والَّذين لم تبلغهم الدعوة فلم يكن له معرفة ولا جحود، ولا طاعة ولا معصية، ويصلح أنْ يكونوا أصحاب الأعراف.
***
1289 -
وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الصَّمْتُ حِكَمٌ، وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ" أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، وَصَحَّحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ الحَكِيمِ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث موقوف.
قال زين الدِّين العراقي في تخريجه أحاديث الإحياء: أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، من حديث ابن عمر بسندٍ ضعيف، والبيهقي في شعب الإيمان، من حديث أنس بلفظ "الصمت"، والصحيح عن أنسٍ أنَّه من قول لقمان، قال: رواه كذلك هو، وابن حبان في كتاب "روضة العقلاء" بسندٍ صحيحٍ إلى أنس.
* مفردات الحديث:
- حِكَم: جمعة حكمة، يُقال: حَكَمَ حُكْمًا: صار حكيمًا، والحكمة لها معانٍ كثيرة جليلة، أجمعها: أنَّها وضع الشيءِ في موضعه.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث فيه فضيلة الصمت، وأنَّه من الحكمة قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} [ق]، وجاء في البخاري (6474) أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"من ضمنَ لي ما بين لَحييه ورجليه أضمن له الجنَّة"، وما أخرجه الترمذي (2616) من حديث معاذ بن جبل؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"وهل يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وجوههم إلَاّ حصائدُ ألسنتهم"، وما أخرجه الترمذي (2406) من
(1) البيهقي في الشعب (5027).
حديث عقبة بن عامر؛ أنَّه سأل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن النَّجاة؟ فقال: "أمسك عليك لسانك".
وكان أبو بكرِ الصديق رضي الله عنه يشير إلى لسانه، ويقول:"هذا الَّذي أوردني في الموارد".
وقال الحسن البصري: "ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه".
2 -
ذكر الغزالي من آفات اللسان: الخوض في الباطل، والتقعر في الكلام، والفحش، والسب، والسخرية، والاستهزاء، وإفشاء السر، والمراء، والجدال، واللعن، والكذب، والغيبة، والنميمة، والخصومة.
3 -
وبهذا نعلم أنَّ الصَّمْت المحمود هو عن الكلام المحرَّم الَّذي ذكرنا بعضه، ومثله الكلام الَّذي لا فائدة منه؛ إذ ربما يجرَّ إلى الكلام المكروه، أو المحرَّم.
أمَّا إذا كان الكلام فيما ينفع، من التلاوة، والذكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، ومباسطة الأهل والإخوان: فهذا محمود.
4 -
واللسان لهذه الأغراض الفاضلة من نِعَمِ الله تعالى العظيمة، ولطائف صنعه، فإنَّه ينطق بالإيمان والإِسلام؛ قال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].
فهذه الآية الكريمة هي الفصل في قبيح الكلام ومليحه.
5 -
قوله: "قليلٌ فاعله": لأنَّ النَّاسَ مجبولون على القيل والقال، وكثرة السؤال.
والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل.
***