الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب النذر
مقدمة
النذر لغةً: مصدر نذرتُ أَنذُر، بضم الذَّال وكسرها، فأنا ناذر، أي: أوجبتُ على نفسي شيئًا لم يكن واجبًا عليَّ.
وشرعًا: هو إلزامُ مكلفٍ مختارٍ نفسَه لله تعالى شيئًا غير لازم بأصل الشرع، بكلِّ قولٍ يدل عليه، ولو كان من كافر لعبادة فيصح.
والنذر مكروه، ولو عبادةً، والوفاء به بشروطه: واجب.
والنذر المنعقد ستَّة أقسام:
1 -
النذر المطلق: كقوله: لله عليَّ نذر، ولم يسم شيئًا، ولله عليَّ نذر إنْ فعلت كذا، وفعله، فيلزمه كفَّارة يمين.
2 -
نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذر بشرط يقصد منه المنع، أو الحمل عليه؛ فيخير بين فعل ما نذره، وبين كفَّارة يمين.
3 -
نذر فعل مباح: كقوله: لله عليَّ أن ألبس ثوبي ونحوه؛ فيُخيَّر أيضًا بين فعله وكفَّارة يمين.
4 -
نذر المكروه: كنذر الطلاق ونحوه؛ فيسن أنْ يكفِّر ولا يفعله.
5 -
نذر المعصية: كنذر القتل؛ فيحرم الوفاء به، ويكفر كفَّارة يمين.
6 -
نذر التبرر: كالصلاة والصوم ونحوه بقصد التقرب إلى الله مطلقًا، أو أنْ يعلق نذره بحصول نعمةٍ، أو دفع نقمة؛ فيلزمه الوفاء به إذا وجد شرطه.
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية: النذر للقبور، أو لأهل القبور، أو للشيخ فلان: نذر معصية، لا يجوز الوفاء به.
1194 -
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنَّه نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: إِنَّه لَا يأْتِي بخيرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا يأتي بخير: أي أنَّ عقباه لا تُحْمَد، وقد يتعذَّر الوفاء به.
- يُستخرج به من البخيل: يعني أنَّ البخيل لا يُخرج الصدقة، ولا يقدم على الإحسان إلَاّ بأمرٍ يكون لازمًا عليه، والنَّذر يضطره إلى ذلك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
النَّهي عن النَّذر، والنَّهي يقتضي التحريم، والَّذي صرفه عن التحريم إلى الكراهة هو مدح الموفين به.
قال في الاختيارات: توقف أبو العباس في تحريم النذر، وحرَّمه طائفةٌ من أهل الحديث.
وقد أجمع العلماء على الوفاء به.
2 -
العلَّة في النَّهي عنه هو: "أنَّه لا يأتي بخيرٍ، وإنَّما يستخرج به من البخيل"، الَّذي غايته القيام بالواجب بأصل الشرع، ويثقل عليه ما عداه من فضائل الأعمال.
3 -
وممَّا يجعل النَّذر مكروهًا هو أنَّ النَّاذر يشارط الله تعالى، ويعاوضه على أنَّه إنْ حصل له مطلوبه، أو زال عنه ما يكرهُ، قام بالعبادة التي نذرها، وإلَاّ لم يقم بها، والله تعالى غنيٌّ عن العباد، وعن طاعاتهم.
(1) البخاري (6608)، مسلم (1639).
4 -
النَّذر لا يرد من قضاء الله شيئًا، ولكن رُبَّما لو صادف أنَّ النذر وافق حصول مطلوب، أو دفع مكروه، ظنَّ النَّاذر أنَّ هذا بسبب نذره الَّذي علق القيام به على حصول مطلوبه، أو دفع مكروهه.
5 -
المسلم في سعة، فإذا نذر عبادة من العبادات، أوجب على نفسه ما لم يوجبه الله تعالى عليه، وقد يقصِّر في أدائها، فيلحقه الإثم.
6 -
الله تعالى قدَّر الواجبات على العباد بقدر يسهل عليهم أداؤه، وجعل الزَّائد نوافل حتى لا يثقل على الناس العبادات.
وهذا بابٌ واسعٌ، من تتبَّعه، عرف أنَّ العبد إذا أولج نفسه فيما لم يوجبه الله عليه، كان معرَّضًا لعدم الوفاء، وأنَّه لا يفي بما ألزم به نفسه إلَاّ القليل؛ وذلك لتقصير النَّفس، وتثبيط الشيطان له، وقد أشار الله تعالى إلى القليل الموفين بعهده؛ فقال:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب].
7 -
باب النَّذر من غرائب مسائل العلم؛ لأنَّ عقده مكروه، والوفاء به واجب، والأصل أنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، ولكن الحكمة ظاهرة في ذلك.
8 -
النَّذر المكروه هو ما كان لطاعة الله، فأمَّا النذر للموتى، وللقبور، والطواغيت، والشياطين، وغيرهم، فهذا هو الشرك، نعوذ بالله تعالى من غضبه، وأسباب غضبه.
9 -
قال شيخ الإِسلام: ما وجب بأصل الشرع إذا نذره العبد، أو عاهد، أو بايع عليه الإِمام، يكون وجوبه من وجهين، ويكون تركه موجبًا لترك الواجب بالشرع، والواجب بالنذر، بحيث يستحق تاركه من العقوبة ما يستحقه ناقض العهود والمواثيق، وما يستحقه عاصي الله ورسوله، وهذا هو التحقيق، ونصَّ عليه أحمد، وقاله طائفة من العلماء.
***
1195 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَّارَةُ النَّذْرِ كفَّارَةُ يَمِينٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَزَادَ التِّرْمِذِيُّ فِيهِ: "إِذَا لَمْ يُسَمِّهِ" وَصَحَّحَهُ (1).
وَلأَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: "مَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَمْ يُسَمَّ، فَكَفَّارَتُهُ كفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا في مَعْصِيةٍ، فَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا لَا يُطِيقُهُ، فَكَفَّارَتُهُ كفَّارَةُ يَمِينٍ"، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، إِلَاّ أَنَّ الحُفَّاظَ رَجَّحُوا وَقْفَهُ (2).
وَلِلبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: "وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ الله، فَلا يَعْصِهِ"(3).
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ: "لَا وَفَاءَ لِنَدْرٍ في مَعْصِيةٍ"(4)
ــ
* درجة الحديث:
الزيادات التي ليست في الصحيحين، بيَّن الحافظ ابن حجر درجتها.
* مفردات الحديث:
- نذر: نذر ينذر من باب ضرب، وقال في المصباح: الصواب أنَّه من باب قتل.
(1) مسلم (1645)، الترمذي (1528).
(2)
أبو داود (3322).
(3)
البخاري (6700).
(4)
مسلم (1641).
النذر لغة: الإيجاب.
وشرعًا: إلزام مكلف مختارٍ نفسَهُ لله تعالى شيئًا.
- كَفَّارة: على وزن فعالة بالتشديد، من الكفر، وهو التغطية، سميت بذلك؛ لأنَّها تكفِّر الذنب، أي: تستره، واصطلاحًا: ما يكفر به؛ من عتقٍ، أو صومٍ، أو صدقةٍ.
* ما يؤخذ من الحديث:
في الحديث بيان أنواع النذور:
أحدها: أنَّ ينذر نذرًا مطلقًا، كأنْ يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يسم شيئًا، أو لله عليَّ نذر إنْ فعلت كذا، وفعله، فهذا يجب عليه في حنثه كفَّارة يمين.
الثاني: أنْ ينذر فعل معصية من المعاصي، أو ترك واجب من الواجبات عليه، فهذا يجب عليه الحنث؛ لحديث:"من نذر أنْ يعصي الله، فلا يعصه"، وعليه كفَّارة يمين.
قال في المقنع: ويحتمل أنْ لا ينعقد النذر المباح، ولا المعصية، ولا يجب به كفارة، وجزم به الموفَّق في العمدة، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد"[رواه مسلم (1641)]. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لَا نَذْرَ إلَاّ فِيمَا ابتغي به وجه الله"[رواه أبو داود (2190)].
قال الإِمام مالك: لم أسمع أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ناذر المعصية، أو تارك الطاعة بكفارة.
وذكر الوزير: أنَّه مذهب الأئمة الثلاثة، واختاره الشيخ تقي الدِّين.
الثالث: أن ينذر نذرًا لا يطيقه ويشق عليه مشقَّة كبيرة؛ من عبادة بدنية مستمرة، أو نفقات من ماله باهظة، فعليه كفارة يمين؛ فقد أخرج البيهقي عن عائشة رضي الله عنها في رجلٍ جعل ماله للمساكين صدقة، فقالت:"كفارة يمين".
وقال الأثرم بسنده إلى عكرمة، عن ابن عباس: سُئِل عن رجل جعل ماله في المساكين؟ فقال: أمسِكْ عليك مالك، وكفِّر عن يمينك.
وقال شيخ الإِسلام: لو نذر عبادةً مكروهةً؛ مثل قيام الليل كله، أو صيام الدهر كله، لم يجب الوفاء بهذا النَّذر، وعليه كفَّارة يمين.
وقالت الهيئة الدَّائمة في دار الإفتاء؛ لأنَّ نذر الطَّاعة عبادةٌ من العبادات مدح الله الموفين به؛ فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، فإنْ نذر العبادات المكروهة فيكره؛ لأنَّه معصية، ولا وفاء بالنذر بها.
الرَّابع: نذر التبرر؛ كالصلاة، والصوم، والحج، والعمرة، بقصد التقرب إلى الله تعالى، فيلزم الوفاء، سواءٌ نذره نذرًا مطلقا، أو علَّقه على حصول نعمة، أو اندفاع نقمة؛ كقوله: إنْ شَفَى الله مريضي، أو سَلِمَ مَالِي الغائب، ونحوه، فعليه كذا، أو حلف بقصد التقرب، كقوله؛ إنْ سلم مالي لأتصدقنَّ بكذا، فيلزمه الوفاء به إذا وُجِدَ شرطه.
***
1196 -
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَفْتَيْتُهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالَّلفْظُ لِمُسْلِمٍ.
وَلأحْمَدَ وَالأرْبَعَةِ: "فَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَصْنعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكَ شَيْئًا، مُرْهَا فَلْتَخْتَمِرْ، وَلْتَرْكَبْ، وَلْتَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ"(1).
ــ
* درجة الحديث:
رواية أحمد، والأربعة: قال عنها الترمذي: إنَّه حديثٌ حسنٌ صحيح، لكن قال المنذري: في إسناده عبيد الله بن زحر، وقد تكلَّم فيه غير واحد.
وقال عنه ابن حجر في التقريب: صدوقٌ يخطىء؛ لكن ذكر هذه الرواية ابن حجر في الفتح في زيادات الباب ممَّا يدل على حسنها، والله أعلم.
* مفردات الحديث:
- حافية: قال في المحيط: حَفِيَ الرَّجل يحفى حفًى: رقَّت قدمه من كثرة المشي، أو هو المشي بلا خف ولا فعل، فهو حافٍ، وهي حافية.
- شقاء: يُقال: شقي يشقى شقاءً، والشقاء: الشدَّة والعسرة.
- تختمر: يُقال: اختمرت المرأة، أي: لبست الخمار، والخمار ما تغطي به المرأة رأسها ووجهها، وجمع الخمار: خُمُر.
(1) البخاري (1866)، مسلم (1644)، أحمد (4/ 143)، أبو داود (3293)، الترمذي (1544)، النسائي (7/ 20)، ابن ماجة (2134).
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
يدل الحديث على أنَّ من نذر الحج أو العمرة ماشيًا أنَّه لا يلزمه الوفاء بنذره، وإنَّما له أنْ يمشي طاقته، ويركب ما شاء، وأنَّ عليه كفَّارة يمين.
2 -
أنَّ النَّذر فيما يشق على العبد من الأعمال والطاعات مكروه، وإذا وقع من العبد فلا يلزم به، ومذهب الإِمام أحمد: أنَّ على النَّاذر كفَّارة يمين؛ لعدم الوفاء بنذره، ومذهب الأئمة الثلاثة: أنه لا يجب عليه كفَّارة.
3 -
جاء في رواية أحمد (2824) وأبي داود (3295) من هذا الحديث: "ولتكفِّر عن يمينها"، ورواية الباب:"ولتصم ثلاثة أيَّام"، ولأحمد أيضًا:"ولتهد بدنة"، لكن قال البخاري: لا يصح الهدي، ولم يجىء في الأحاديث الصحيحة كفَّارة لما ليس بطاعة.
4 -
أما كفَّارة اليمين، فقال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]:
قال في شرح الإقناع وغيره مستدلين بهذه الآية: يخير من لزمته الكفارة بين ثلاثة أشياء:
- إطعام عشرة مساكين.
- كسوة عشرة مساكين.
- تحرير رقبة مؤمنة.
فإنْ لم يجد بأنْ عجز عن العتق، والإطعام، والكسوة، فصيام ثلاثة أيَّام، ولا ينتقل المكفِّر إلى الصوم إلَاّ إذا عجز؛ للآية.
5 -
قال في شرح الإقناع: ويجوز أنْ يطعم بعضًا من العشرة، ويكسو بعضًا منهم. وتجب كفَّارة يمين ونذر على الفور إذا حنث، لأنَّهُ الأصل في الأمر المطلق.
1107 -
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "اسْتَفْتَى سَعْدُ بْنُ عُباَدَةَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في نَذْرٍ كانَ عَلى أُمِّهِ، تُوفِّيَتْ قَبْلَ أنْ تَقْضِيَهُ؟ فَقَالَ: اقْضِهِ عَنْهَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ (1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
أنَّ الوفاء بالنَّذر عبادة يجب أداؤها، وقد أثنى الله تعالى على الموفين بالنَّذر في عدَّة آياتٍ كريمات.
2 -
أنَّ من مات وعليه نذر طاعة، شُرِعَ لوارثه أنْ يقضيه عنه.
3 -
النَّذر الَّذي على أمِّ سعد بن عبادة قيل: كان صومًا، وقيل: عتقًا، وقيل: صدقة، وقيل: نذرًا مطلقًا.
وكلٌّ من هذه الأقوال استدل أصحابها عليها بحديث، ولكن قال القاضي عياض: الَّذي يظهر أنَّه كان نذرها في مال ابنها.
وقال ابن حجر: بل الظَّاهر أنه كان معينًا من سعد.
4 -
في الحديث مشروعية بر الوالدين، وأنَّ من أعظم البر وفاء ما عليهما من الديون، والحقوق، والواجبات، سواءٌ أكانت لله تعالى، أو للآدميين.
5 -
الحديث من الأدلة على أنَّ الميت يلحقه ما يفعل له من الأعمال الصَّالحة من عتقٍ، أو صدقةٍ، أو صيام، أو غير ذلك؛ وَهَذا بين في قوله تعالى:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَاّ مَا سَعَى} [النجم]. فقد قال ابن القيم: إنَّ القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنَّما نفى ملكه لغير سعيه، وأمَّا سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإنْ شاء أنْ يبذله لغيره، وإنْ شاء أنْ يبقيه لنفسه، وهو تعالى لم
(1) البخاري (2761)، مسلم (1638).
يقل: لا ينتفع إلَاّ بما سعى، وكان شيخنا -ابن تيمية- يختار هذه الطريقة، ويرجحها.
* خلاف العلماء:
اختلف العلماء في قضاء الصوم عن الميت على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يقضى عنه بحال؛ وهو مذهب الأئمة الثلاثة.
الثاني: يُقضى عنه النَّذر والواجب بأصل الشرع؛ وهو مذهب أحمد.
الثالث: أنَّه يقضى عنه النَّذر دون الواجب بأصل الشرع، وهو مذهب أهل الحديث، ونصره ابن حزم والبيهقي، واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي؛ لحديث:"من مات وعليه صيامٌ، صامَ عنه وليه" متفق عليه.
وهل يجب قضاء نذر الصوم عن الميت، في ذلك ثلاثة أقوال:
- جمهور العلماء: يرون أنَّ قضاءه عن الميت من وارثه مستحب.
- والظاهرية: أوجبوا القضاء؛ عملًا بحديث سعد بن عبادة.
- الحنابلة: قالوا: إنْ كان الميت خلَّف تركة وجب القضاء، وإلَاّ فهو مستحب، وقالوا: إنْ صامَ غير الوارث، أجزأه.
قال فقهاؤنا: وإنْ مات وعليه صوم نذرٍ، أو حج نذر، أو اعتكاف نذر، أو صلاة نذر، استُحب لوليه قضاؤه؛ لأنَّ النيابة تدخل العبادة بحسب خفتها، والنَّذر أخفُّ حكمًا من الواجب بأصل الشرع.
وإنْ خلَّف تركةً، وجب فعل النَّذر، فيفعله الولي، أو يدفع إلى من يفعله عنه.
وهذا كله فيمن أمكنه فعل ما تقدَّم بأنْ مضى وقتٌ يتسع لفعله قبل موته فلم يفعله، فليفعله عنه؛ لثبوته في ذمته لقضاء الدَّين من تركته.
فإنْ لم يخلف النَّاذر تركةً، لم يلزم الولي شيءٌ اتفاقًا، لكن يسن فعله عنه؛ لتفرغ ذمته.
والولي هو الوارث، قال النووي: الولي: القريب عصبةً أو نسبًا، وارثًا أو غير وارث.
1198 -
وَعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ رضي الله عنه قَالَ: "نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْحَرَ إِبِلاً بِبُوَانَةً، فَأتى رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَهُ؟ فَقَالَ: هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ يُعْبَدُ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ في مَعْصيَةِ اللهِ، وَلَا في قَطِيعَةِ رَحِمٍ، وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالَّلفْظُ لَهُ، وَهُوَ صَحيحُ الإِسْنَادِ (1).
وَلَهُ شاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ كَرْدَم عِنْدَ أَحْمَدَ (2).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال في التلخيص: رواه أبو داود من حديث ثابت بن الضحاك بسندٍ صحيح، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، وسمَّى الموضع "بُوَانَة" ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس.
وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: أصل هذا الحديث في الصحيحين، وهذا الإسناد على شرطهما، ورجال إسناده كلهم ثقات مشاهير، وهو متصلٌ بلا عنعنة.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في كتاب التوحيد: رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.
(1) أبو داود (3313)، الطبراني (2/ 75).
(2)
أحمد (3/ 419).
قال ابن عبد الهادي: رجال سنده رجال الصحيحين.
* مفردات الحديث:
- بُوَانة: بضم الباء، وتخفيف الواو، ثُمَّ نون، وهاء، هَضبةٌ وراء ينبع، قريبةٌ من ساحل البحر الأحمر.
- وَثَن: بفتح الواو، والثَّاء المثلثة، هو التمثال يُعبَد، سواءٌ كان من نحاسٍ، أو ذهبٍ، أو فِضَّةٍ، أو حجرٍ، أو خشبٍ، أو غير ذلك.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
الحديث يدل على أصل النَّذر، وانعقاده، ولزومه إذا قصد بعقده، والوفاء به وجه الله تعالى.
2 -
أنَّ من المحاذير التي يجب اجتنابها مشابهةَ الكفَّار في عباداتهم وأعيادهم، ووجوب البعد عن الأمكنة التي يقيمون فيها لهم عيدًا؛ فإن هذا يُفضي إلى تشابه عبادة المسلمين وأعيادهم بعبادة الكفَّار وأعيادهم، فإذا كان في عقد النَّذر أو الوفاء به شائبة من ذلك، فإنه لا يجوز عقده، وإذا عقد فيحرم الوفاء به.
3 -
في الحديث أنَّ تخصيص النَّذر ببقعةٍ جائزٌ، إذا خلا من الموانع الشرعية، التي منها أنْ يكون في البقعة صنمٌ، أو قبرٌ، أو يُقام فيها أعيادٌ للكفَّار، ونحوه من وسائل الشرك بالله تعالى وأسبابه، فإنْ كان فيها شيءٌ من ذلك، فلا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنَّه نذر معصية.
4 -
وفي الحديث التحذير من مشابهة الكفَّار في أعيادهم، وأمكنة عبادتهم.
قال شيخ الإِسلام: العيد اسمٌ لما يصدر من الاجتماع العام على وجهٍ معتاد، إمَّا بالسَّنَة، أو الأسبوع، أو الشَّهر، أو نحو ذلك، وقد يختص العيد بمكان يعينه، فكلٌّ مِن هذه الأمور قد يُسمَّى عيدًا، وقد يكون لفظ العيد اسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه، وهو الغالب.
5 -
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إنَّ المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذا الطَّاعة، وإنَّ تخصيص بقعة بالنَّذر لا بأس به، إذا خلا من الموانع.
وإنَّ من المانع أنْ يكون فيه عيدٌ من أعيادهم، ولو بعد زواله، أو يكون فيه وثنٌ من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله، فإنْ كان فيه شيءٌ من ذلك، فإنه لا يجوز الوفاء بما نذَرَ في تلك البقعة؛ لأنَّه نذر معصية.
6 -
وقال الشيخ محمد -أيضًا-: وفي الحديث الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وفيه المنع من اتخاذ آثار المشركين محلاًّ للعبادة؛ لكونها صارت محلاًّ لما حرَّم الله من الشركِ والمعاصي، والحديث -وإنْ كان في النَّذر- فيشمل كلَّ ما كانَ عبادة، فلا تُفعَل في هذه الأماكن الخبيثةِ.
7 -
قوله: "أَوف بنذرك" قال شيخ الإِسلام: فهذا يدل على أنَّ الذَّبحَ بمكانِ عيدهم، ومحل أوثانهم معصيةٌ لله من وجوه:
أحدها: أنَّ قوله: "أوفِ بنذرك" تعليقٌ للوصف بالحكم بحرف الفاء، وذلك يدل على أنَّ الوصف هو سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاءِ، ولو لم يكن معصية، لجاز الوفاء به.
الثاني: أنَّه عقب ذلك بقوله: "لا وفاء لنذرٍ في معصية الله"، ولولا اندراج الصورة المسؤول عنها في هذا الَّلفظ العام، وإلَاّ لم يكن في الكلام ارتباط المنذور، وإنْ لم يكن معصية، لكن لما مسألة عن الصورتين قال له:"أوف بنذرك" يعني: حيث ليس هناكَ ما يوجب تحريم الذبح هناك، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم فيه أمرٌ بالوفاء عند الخلو من هذا، ونهي عنه عند وجود هذا.
الثالث: أنَّه لو كان الذَّبح في موضع العيد جائزًا، لسوَّغ صلى الله عليه وسلم للنَّاذر الوفاء به، كما سوَّغ لمن نذرت الضرب بالدف أنْ تضرب به، بل لأوجب الوفاء به
إذ كان الوفاء بالمكان المنذور واجبًا.
8 -
وقال الشيخ تقي الدِّين -أيضًا-: وإذا كان الشَّارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أنْ يدنَّس المسلم بشيءٍ ما، فالخشية من تَدَنُّسِهِ بأوصاف الكتابيين أشد، والنَّهي عنه أكثر.
وقال: ومعلومٌ أنَّه لولا نهيه صلى الله عليه وسلم ومنعه، لَمَا ترك النَّاس تلك الأعياد؛ لأنَّ المقتضي لها قائمٌ من جهة الطبيعة التي تحب ما يُصنَع في الأعياد، خصوصًا أعياد الباطل من اللعب والَّلذات، فلولا المانع القوي، لما درست تلك الأعياد.
9 -
لذا فالواجب على المسلمين الَّذي بُلُوا بمجاورة الكفَّارِ من كتابيين وغيرهم، أنْ يحذروا من مشاركتهم في أعيادهم -المعروفة- وأنْ لا يبادلوهم التَّهاني، أو أنْ يهدوا إليهم، أو يبيعوا لهم شيئًا ممَّا يجعلونه في تلك الأعياد من المأكولات والزهور، أو نقلهم إلى أماكنهم بالسيارات أو غيرها، فإنَّ هذه المشاركة هي إعانةٌ ورضا بأعيادهم الشركية، والإِسلام ينهى أشد النَّهي عن ذلك، فمن فعل ذلك فقد أضاع دينه، وباعه بثمنٍ بخسٍ من متاع الحياة الدنيا، وويلٌ لهم ممَّا يكسبون.
10 -
قال الشيخ حامد الفقي: الأعياد التي يسميها أهل العصر "الموالد"، أو يسمونها الذكريات لمعظِّميهم من مُدِّعي الأولياء وغيرهم، ولحوادث يزعمون أنَّها كان لها شأنٌ في حياتهم من ولادة ولد، أو تولي ملك، أو رئيس، أو نحو ذلك، فكل ذلك إنَّما هو إحياءٌ لسننِ الجاهلية، وإماتة لشرائع الإِسلام، وإنْ كَانَ أكثر النَّاس لا يشعرون بذلك؛ لشدَّة استحكام ظُلْمَة الجاهلية على قلوبهم، ولا ينفعهم ذلك الجهل عذرًا، بل هو الجريمة كل الجريمة التي تولد عنها كل الجرائم، من الكفر، والفسوق، والعصيان.
11 -
ويدل الحديث على أنَّ من نذر أنْ يعصيَ اللهَ تعالى بفعل محرَّمٍ، أو ترك واجبٍ؛ كقطيعة رحمٍ، أو نذر على حق غيره، فهذا نذرٌ لاغٍ لا ينعقد، ولا
كفَّارة فيه عند طائفةٍ من العلماء.
قال في المقنع: ويحتمل أنْ لا ينعقد النَّذر المباح، ولا المعصية، ولا يجب به كفَّارة، وجزم به الموفق في العمدة، وهو مذهب مالك والشَّافعي.
***
1199 -
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ: "يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ إِنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بيْتِ المَقْدِس، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: صَلِّ هَاهُنَا، فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فَشَأْنَكَ إِذًا" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (1).
ــ
* درجة الحديث:
الحديث صحيح.
قال المصنِّف: رواه أحمد، وأبو داود، وصحَّحه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصحَّحه ابن دقيق العيد.
* مفردات الحديث:
- شأنك: منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ به، أي: الزم شأنَك.
- إذًا: جواب وجزاء، أي: إذا أَبَيْتَ أنْ تُصلِّيَ هُنَا، فافعل ما نذرت به من صلاتِكَ في بيت المقدس.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
انعقاد النذر المعلق على حصول مطلوبٍ؛ كـ: إنْ شفى الله مريضه، أو حصل ماله الغائب، أو نحو ذلك، فلله عليه كذا من العبادة البدنية؛ كالصَّلاة والصيام، أو مالية، كالصدقة والعتق، انعقد نذره، ووجب عليه الوفاء بما نذره، إذا حصل شرطه المعلق عليه.
وقد ينذر الطَّاعة بدون تعليق؛ كَـ"لله عليَّ صلاة كذا، وصوم كذا"،
(1) أحمد (3/ 363)، أبو داود (3305)، الحاكم (4/ 304).
فيجب عليه الوفاء.
ويسمَّى هذا النَّذر: "نذر التبرر، أو نذر التقرب".
2 -
قال في شرح الإقناع: ويجوز فعل النَّذر قبل وجود شرطه؛ كإخراج الكفَّارة بعد اليمين، وقبل الحنث.
3 -
قال شيخ الإسلام: تعليق النَّذر بالملك؛ نحو: "إنْ رزقني الله مالاً، فللهِ عليَّ أنْ أتصدق به، أو بشيءٍ منه" يصح إجماعاً؛ ويدل عليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75].
4 -
يدل الحديث على أنَّ من نذر الصَّلاة، أو أي عبادة في بيت المقدس، أنَّه يجزىء أنْ يصليها في المسجد الحرام؛ لأنَّ المسجد الحرام أفضل من الأقصى؛ لكن لو عيَّن الأفضل -كالمسجد الحرام- لم يجز فيما دونه.
وهو مذهب الأئمة الثلاثة، أمَّا أبو حنيفة: فيرى أنَّ الصلاة لا تتعيَّن في مسجد بحال.
5 -
يدل الحديث على أنَّ كثرة السؤال، والإلحاح فيه، والتنطع في الأمور: مكروه، وأنَّه يفضي صاحبه إلى إضجار المسؤول، وارتكاب الخطأ.
6 -
ويدل الحديث على وجوب الوفاء بالنَّذر ما دام أنَّه نذر تبرر وتقرب إلى الله تعالى.
7 -
كما يدل الحديث على فضل المسجد الحرام، وأنَّة أفضل البقاع وسيدها، فمن نذر عبادة في غيره، أغنى أداؤها فيه؛ لأنَّها فيه أفضل، وأكمل، وأتم.
***
1200 -
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَال إِلَاّ إِلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَام، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، واللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ (1).
ــ
* مفردات الحديث:
- لا تُشَدُّ: "لا" نافية، والفعل بعدها مبني للمجهول.
تشد: يُقال: شدَّ الشيء يشدُّه شدًّا: عقده وأوثقه، ومنه شدَّ الرِّحال، وهو كنايةٌ عن السفر.
- الرِّحال: جمع رحل، والرحل هُنَا: اسمٌ لما يوضع على البعير من قتبه وكوره -بضم الكاف- ويربط ذلك من حبال.
- الأقصى: الأبعد، من قصى المكان: إذا بَعُدَ، وسمِّي الأقصى لبعده عن المسجد الحرام، وقيل: لأَنَّه لم يكن وراءه حينئذٍ مسجد.
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
هذه المساجد الثلاثة المفضلة، وهي: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، لها ميزات خاصَّة، وفضائل لا يلحقها بها غيرها من بقاع الأرض، فهذه المساجد المطهرة بناها الأنبياء، فالمسجد الحرام بناه إبراهيم الخليل، والمسجد النبوي بناه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى بناه يعقوب، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
2 -
قال شيخ الإسلام: المساجد التي تشد الرِّحال إليها هي المساجد الثَّلاثة، فالسفر إليها للصلاة فيها، والدعاء، والذِّكر، والقراءة، والاعتكاف، من
(1) البخاري (1197)، مسلم (827).
الأعمال الصَّالحة.
3 -
وقال أيضاً: وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم، حتَّى مسجد قباء، يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة، ولا يشرع شد الرِّحال إليه؛ ففي البخاري (1193) ومسلم (1399) عن ابن عمر قال:"كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً، وراكباً، وكان ابن عمر يفعله"؛ وفي لفظٍ لمسلم: "فيصلي فيه ركعتين".
4 -
وقال الشيخ أيضاً: اتَّفق العلماء على استحباب إتيان المساجد الثلاثة للصَّلاة ونحوها، ولكن لو نذر ذلك هل يجب الوفاء؟:
فمذهب مالك، وأحمد، وغيرهما: أنَّه يجب إتيانها بالنَّذر، ولكن إنْ أتى الفاضل أغناه عن إتيان المفضول؛ وذلك لحديث:"من نذر أنْ يطيع الله فليطعه" وهو يعم كل طاعةٍ.
5 -
قال الشيخ: اتَّفق الأئمة على صحَّة هذا الحديث "حديث الباب" والعمل به، فلو نذر الرَّجل أنْ يصلي بمسجدٍ أو مشهد، أو يعتكف فيه، ويسافر إليه، غير الثلاثة، لم يجب عليه باتفاق الأئمة، وأمَّا السفر إلى بقعةٍ غير المساجد الثَّلاثة: فلم يوجبه أحدٌ من العلماء.
6 -
الحديث صريحٌ في تحريم السفر للعبادة إلى غير المساجد الثلاثة، ويعظم الإثم إذا قصد المسافر بسفره قبراً؛ ليعظِّمه، ويغلو بصاحبه، فهذا إنْ كان يعتقد أنَّ دعاء الله عنده أفضل فهو مبتدع، وإنْ كان يدعو صاحب القبر فعمله كفر.
7 -
وتحريم السفر إلى قبور الصالحين ونحوها من المواضع -غير هذه المساجد الثَّلاثة- هو قول محقِّقي العلماء، منهم أبو محمد الجويني، والقاضي عياض، والشيخ تقي الدِّين، وابن القيم، وابن رجب، والشيخ محمد بن
عبد الوهاب، وأبناؤه، وأحفاده، وتلاميذهم، وسائر علماء الدعوة السلفية، وهو قول علماء الحديث.
8 -
تحريم السفر إلى غير المساجد الثلاثة هو منع للشرك، ووسائله المفضية إليه؛ فإنَّ الشرك لم يحدث إلَاّ من تعظيم البقاع والأمكنة التي لم يعظِّمها الله تعالى، ولم يشرع الرحلة إليها، لاسيما الأمكنة التي فيها قبور أنبياء، أو أولياء، أو علماء، ونحوهم؛ فشدُّ الرِّحال إليها وتعظيمهم هو الَّذي جرى عليه كثير من النَّاس، فأضلَّهم عن دينهم الحق إلى البدع والشرك.
9 -
فالإسلام بنصوصه الكريمة، حسم مادَّة تعظيمها والغلو فيها؛ لئلا يكون وسيلة إلى الكفر والضلال.
10 -
قال شيخ الإسلام في الرَّد على الأخنائي: والقول بتحريم السفر إلى غير المساجد الثَّلاثة، وإنْ كان قبر نبينا صلى الله عليه وسلم، هو قول مالك، وجمهور أصحابه، وكذلك أكثر أصحاب أحمد، وأهل الحديث؛ ثمَّ قال رحمه الله: وأهل الجهل يجعلون السَّفر إلى زيارة قبر مَن يعظِّمونه، ويسافرون إليه؛ ليدعوه، ويدعو الله عنده، ويقعدون عند قبره، ويكون عليه، أو عنده مسجد بُني لأَجل القبر، فيصلون في ذلك المسجد؛ تعظيماً لصاحب القبر، وهذا ممَّا لعن النَّبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب على فعله، ونهى أمَّته عن فعله؛ فقال صلى الله عليه وسلم في مرض موته:"لعن الله اليهود والنَّصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ممَّا صنعوا"[رواه البخاري (1390)، ومسلم (531)].
11 -
الزيارة الشرعية إلى المدينة المنورة هي أنْ يقصد المسافر العبادة في المسجد النبوي الشريف، الَّذي جعل الله له ميزة وشرفاً، وضاعف فيه ثواب الأعمال الصَّالحة، فإذا وصل إليه زار القبر الشريف، وقبري الصحابيين الكريمين؛ لحديث:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"
[رواه مسلم (1977)]؛ فهذه رحلةٌ شرعية، وقصد حسنٌ مشروع، وكذلك إذا وصل إلى المدينة المنورة، فإنَّه يشرع له زيارة البقيع، وشهداء أحد، كل ذلك للترحم عليهم والاعتبار، وكذلك يذهب إلى مسجد قباء للصَّلاة فيه، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك كله، أمَّا بقية المزارات المعروفة الآن، مثل مسجد القبلتين، والمساجد السَّبعة، ومسجد الغمامة، فلا يشرع الذهاب إليها؛ لأنَّه لم يرد أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يذهب إليها، والعبادات مبناها على التوقيف؛ كما أنَّها غير مؤكَّدة وثابتة.
***
1201 -
وَعَنْ عُمَرَ -رَضِىَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ اعْتَكِفَ لَيْلَةً في المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَزَادَ البُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: "فَاعْتَكَفَ لَيْلَةً"(1).
ــ
* ما يؤخذ من الحديث:
1 -
تقدَّم أنَّ الاعتكاف شرعاً: هو لزوم مسلمٍ عاقلٍ مسجداً لعبادة الله تعالى، وأنَّه ثابتٌ بالكتاب، والسنَّة، والإجماع.
وأنَّ الغرض منه: حبس النَّفس والبدن على عبادة الله تعالى، وقطع العلائق عن الخلائق؛ للاتصال بخدمة الخالق، وإخلاء القلب من الشواغل عن ذكر الله تعالى.
2 -
الحديث من أدلَّة مشروعيته، قال الإمام أحمد: لا أعلم عن أحدٍ من أهل العلم خلافاً أنَّه مسنون.
3 -
ويدل الحديث على صحَّة الاعتكاف، وجوازه بلا صوم؛ لأَنَّ نذر عمر رضي الله عنه اعتكاف ليلة، ولو كان الصوم شرطاً، لما صحَّ اعتكاف الليل؛ لأنَّه لا صيام فيه، فلم يشترط الصيام كالصَّلاة؛ ولأَنَّ إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلَاّ بالشرع، ولم يصح فيه نصٌّ، ولا إجماع.
وهذا مذهب الإمامين؛ الشَّافعي، وأحمد، واشترط أبو حنيفة، ومالك الصيام، والقول الأوَّل أصح، وأسعد بالدليل.
قال المجد، وحفيده تقي الدِّين، والشَّارح، وغيرهم: ليس في اشتراط
(1) البخاري (2032، 2042)، مسلم (1656).
الصوم في الاعتكاف نصٌّ من كتابٍ، ولا سنَّةٍ، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ صحيح، أمَّا ما رُوي عن عَائِشَةَ:"لا اعتكاف إلَاّ بصومٍ" فموقوف، ومن رفعه فقد وهم، وكذا ما جاء في أبي داود (2474) في رواية:"اعتكف وصم" فهو ضعيف.
وعلى فرض رفع الأوَّل، وصحَّه الثاني، فالمراد به الاستحباب، فإنَّ الصوم فيه أفضل.
4 -
قال الفقهاء: وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتكف صائماً، أو يصوم معتكفاً، لزمه الجمع بين الاعتكاف والصيام؛ لما روى البخاري (6700) من حديث عائشة أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"، والأمر يقتضي الوجوب.
5 -
ويدل الحديث على أنَّ الكافر إذا نذر فى حال كفره، وكان نذره على وفاق حكم الإسلام، ثم أسلمَ، أنَّه يجب عليه الوفاء بنذره، وإن عقده وهو كافر؛ وإلى هذا ذهب الإمام أحمد، والبخاري، وابن جرير، وجماعةٌ من الشافعية، والحديث صريح الدلالة على ذلك، ولأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، كما هم مخاطبون بأصولها.
وذهب أكثر العلماء: إلى أنَّه لا ينعقد؛ لأنَّ الكافر لا تصح منه العبادة حتَّى يُسلم؛ قال الطحاوي: لا يصح من الكافر التقرب بالعبادة.
والقول الأول أصح.
6 -
وفيه دليلٌ على أنَّ من حلف في حال كفره فأسلم، ثم حنث، أنه يلزمه كفَّارة.
ومثل ذلك ظهاره، فإنه صحيحٌ موجبٌ للكفَّارة، وهذا هو مذهب الإمامين؛ الشافعي، وأحمد، رحمهما الله تعالى.
…
انتهى كتاب الأيمان