المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع المعتدل جعل ظهر كفيه إلى السماء فقد أخطأ - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ نماذج من الأصول الخطية

- ‌مسائل من الفتاوى المصرية

- ‌ اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين

- ‌هذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير

- ‌ لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود

- ‌ أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ:

- ‌الصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب

- ‌منزلةُ الصديقِ والفاروقِ

- ‌ ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة

- ‌الشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر

- ‌ فسادُ استدلال الجهمي من وجوه:

- ‌ الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين:

- ‌ من ظنَ أن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ

- ‌ تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ

- ‌إن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها

- ‌ مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه

- ‌الصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء

- ‌ إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز

- ‌ يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه

- ‌ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة

- ‌الصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه

- ‌ تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء

- ‌ الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه

- ‌القراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة

- ‌ القبور ثلاثة أقسام:

- ‌منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه

- ‌القبورُ المختلَفُ فيها كثيرة

- ‌ ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها

- ‌ الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ

- ‌الاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز

- ‌ يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين

- ‌ يجوزُ تغسيلُه

- ‌يجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت

- ‌تجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر

- ‌ الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون

- ‌ لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد

- ‌أما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ

- ‌ يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ

- ‌ غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء

- ‌من ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ

- ‌ ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين

- ‌أما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء

- ‌ ذهب إليه طائفة من المتأخرين

- ‌الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى

- ‌ليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية

- ‌ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه

- ‌على العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام

- ‌من شبه الله بخلقه فقد كفر

- ‌الناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ:

- ‌لا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله

- ‌مسائل وردت من الصلت

- ‌مسائل متفرقة

- ‌ مسألة الضمان

- ‌رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه

- ‌ الثانيقوله: "يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه

- ‌ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء

- ‌ مذهب المسلمين وسائر أهل الملل

الفصل: ‌ من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع المعتدل جعل ظهر كفيه إلى السماء فقد أخطأ

فقد أخبر أنسٌ في هذا الحديث الصحيح أنه [لما] استسقَى بهم يومَ الجمعة على المنبر رفعَ يديه ورفعَ الناس أيديهم، وقد ثبت أنه لم يكن يرفع على المنبر في غير الاستسقاء، فيكون أنس رضي الله عنه أراد هذا المعنى، لا سيَّما وبعض بني أمية كانوا قد أحدثوا رَفْعَ الأيدي يومَ الجمعة، كما تقدم من حديث عبد الملك وبشر بن مروان، وإنكار عمارة بن رُؤَيْبَة وغُضَيْف بن الحارث عليهما مخالفةَ السنة، وأنسٌ أدرك هذا العصرَ فيكون هو أيضًا أخبر بالسنة التي أخبر بها غيرُه من أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه - أي على المنبر - إلاّ في الاستسقاء. وهذا الوجه يُوافق الذي قبلَه، ويُبين أن الاستسقاء مخصوصٌ بمزيدِ الرفع، وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس، فالأحاديث تَأتلفُ ولا تختلف.

وأما الموضع الثاني فنَقُول:‌

‌ من ظنَ أن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ

، وكذلك من ظنَ أنه قصدَ توجيهَ ظهرِ يَدَيْه إلى السماء في شيء من الدعاء، فليس في شيءٍ من الحديث ما يدلُّ على أنه قصدَ جَعْلَ كفيْه دُونَ بَطْنِهما إلى السماء، ولا على أنه في الرفع المعتدل أشار بظهرهما إلى السماء، بل الأحاديثُ المشهورة عنه تُبين أنّ سُنَّتَهُ إنما هي قصد توجيه بطن اليد إلى السماء دون ظهرها إذا قصد أحدهما.

ففي سنن أبي داود

(1)

من حديث مالك بن يسار السَّكُوني ثم

(1)

برقم (1486). وصححه الألباني في "الصحيحة"(595).

ص: 96

العَوْفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله فَاسْألوه ببطونِ أَكُفكم، ولا تَسْألوه بظُهورِها". ورَوَى أيضًا

(1)

من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نَظَر في كتاب أخيه بغير إذنِه فإنما ينظر في النار. سَلُوا اللهَ ببطون أكفكم، ولا تَسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم". قال أبو داود: رُوِيَ هذا الحديث من غير وجهٍ عن محمد بن كعبٍ كلُّها واهية، وهذا الطريقُ أمثلُها وهو ضعيف أيضًا.

وفي سنن أبي داود

(2)

وغيره عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم حَيِيٌّ كريمٌ يَستحي من عبدِه إذا رفعَ يديه إليه أن يردَّهما صَفْرَاوَيْن". وفي سنن أبي داود

(3)

عن السائب بن يزيد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهَه بيديه. وقد تقدم في حديث الاستسقاء من حديث عميرٍ مولى آبي اللحم أنه رأى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عند أحجار البيت

(4)

قائمًا يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهِه. لكن هذا الرفع دون الرفع الذي أخبر به أنس، وذاك كان في موطن آخر، فإن ذاك الرفع جاوزَ بهما رأسَه.

(1)

أبو داود برقم (1485).

(2)

برقم (1488). وأخرجه أيضًا الترمذي (3551) وابن ماجه (3865). وصححه ابن حبان (2399 - موارد) والحاكم (1/ 497).

(3)

برقم (1492). وفي إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف، يروي عن حفص بن هاشم، وهو مجهول كما قال الحافظ في "التقريب".

(4)

في هامش الأصل: صوابه "الزيت"، وهو موضع في طيبة، وقد تقدم ذكره.

ص: 97

وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضتْ به الأحاديث، وهو الذي عليه الأئمة في دعاء الصلاة، وعليه عمل المسلمين من زمن نبيهم إلى هذا التاريخ.

وأما حديث أنس فقد تقدم أنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه، فصار كفُّه مما يلي السماءَ لشدة الرفع، لا قصدًا لذلك، كما جاء أنه رفعَها حذَاءَ وجهه. وتقدم حديث أنس نفسه أنه رأى رسول صلى الله عليه وسلم يدعو بباطنِ كفَّيه وظاهرِهما، وتقدم حديث ابن عباس: الابتهالُ هكذا، ورفعَ يديه وجعل ظهورهما مما يلي وجهَه. فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفعِ الشديد رفع الابتهال، تارةً يذكر فيه أنَّ بطونَهما مما يلي وجهَه وهذا أشد، وتارةً يذكر هذا وهذا، فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظَهْرَ اليد ولا بَطْنَها، لأن الرفع يرتفع وتَبقَى أصابعُها نحوَ السماء مع نوع من الانحناءِ الذي يكون فيه هذا تارةً وهذا تارةً. وأما إذا قصد توجيهَ بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفعُ المسألة.

فبهذا تآلَفُ الأحاديث ويَظهر السنةُ وتبيَّنُ المعاني المتناسبة.

إذا تبين هذا فنقول: الجواب عن احتجاج الجهمي من وجوه: أحدها: أن يقال: لا نُسلِّم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قصدَ توجيه ظهرِ الكفِّ دونَ بطنِه إلى السماء في شيءٍ من الدعاء، وقد تقدم بيان معنى

ص: 98

حديث أنس وأنه لشدة الرفع انحنَتْ يدُه.

الوجه الثاني: أن يقال: لو جاء حديث واحد صحيح صريح بأنه قصدَ رفعَ ظهرِ كفَّيْه إلى السماء لكانت الأحاديث التي هي أكثر منه وأشهر مُعارضةً له في ذلك، فإن أمكنَ الجمعُ بينهما وإلَاّ كان الأكثر الأشهر أولَى بالتقديم عند التعارض.

الوجه الثالث: أن يقال: هَبْ أنه قصدَ رَفْعَ كفيه إلى السماء وتوجيهَ باطنِ يديه إلى الأرض، فهذا لا يدلُّ على نفي علوّ الله سبحانه وتعالى، فإن الناس كلهم متفقون على أن الله ليس في الأرض دون السماء، فلا يجوز أن يقال: قَصَدَ توجيهَ بطنِ يدِه إلى الله، ولم يقل هذا أحدٌ من الخلائق.

الوجه الرابع: أن يقال: غايةُ ما في هذا أنه لم يَقصِدْ رفعَ يده إلى السماء، ولا ريبَ أن رفع اليدين إلى السماء في الدعاء ليس واجبًا، فغاية هذا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع يديه إلى السماء في الدعاء، وهذا لا يدل على أن الله ليس في العلوّ.

الوجه الخامس: أن هذا غاية ما فيه أنه يبطُل استدلالُ من يَستدِلُّ برفع اليد على أن الله في العلو، فيقول المعارض: رفع اليد إلى السماء لا يدلُّ على أنه رفعَها إلى الله، كما أن جعلَ الكفِّ إلى السماء لا يدل على أنَّ بطن اليد إلى الله، فغاية ما يقول المعترض أن رفع اليد لا يَبقى فيه دلالة على العلوّ، ومعلومٌ أن انتفاءَ الدليل المعيَّن لا يَنفي الحكم.

ص: 99

الوجه السادس: أنه لا يَتوهَّمُ عاقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بذلك تعريفَ أمتِه أنَّ الله ليس في العلو، فإن هذا الفعل ليس ظاهرًا في هذا المقصود، ولهذا لم يستدل أحدٌ من الجهميَّة بذلك. والله قد أمرَ نبيَّه بالبلاغ المبين، فكيف يَتْرُك البيانَ الذي جُعِلَ عليه إلى ما لا بيانَ فيه؟ كيف والقرآن والأحاديث مملوءٌ من البيانِ الدالِّ على أن الله في العلو؟ فكيفَ يجوز أن يُقال: إنه قصدَ أن يُعرِّفَهم نفيَ العلوِّ بمثل هذا العلو الذي لا يدلُّ؟ ولا يقالُ: إنه قَصدَ تعريفهم العلوِّ بتلك الدلالات البينة الواضحة الكثيرة المتواترة؟ هذا مما يُعلَم بالاضطرار أنه من نسبَ الرسولَ إليه فهو من أكذَب الخلقِ عليه، وهو في هذا المقام من حبالة أهل السفسطة وَالقرمطة المُبطِلين للعقليات والسمعيات.

الوجه السابع: أن يقال: لا ريبَ أن النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء تارةً كان يُشير بإصبعه، كما ثبت مثل ذلك في الصلاة والخطبة، وأنه كان يدعو بباطن يَدَيه كما جاء في أحاديث متعددة، وقد كان يدعو أحيانًا بلا إشارة ولا رفعٍ، فيقالُ: إذا كان بعض هذه الأفعال دالاًّ على عُلوِّ الله تعالى وقد فعلَه بعضَ الأوقات حصلَ المقصود، وليس تركُ الدلالة في بعض الأوقاتِ نافيًا للمدلول بوجود الرفع دليل العلوّ، وعدمُه لا ينافيه، فلا يَضرُّ إذا كان في بعض الأدعية لم يرفع بطن يديه إلى السماء، إذ قد عُلِمَ أنه لم يَقصِد هنالك توجيهَ بطن يديه إلى غير الله.

الوجه الثامن: أنه قد جاء مُصَرَّحًا بأن الإشارة والرفع إلى الله تعالى،

ص: 100

كما تقدم من حديث سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ ربكم حَيِيٌّ كريم يَستحي من عبده إذا رفعَ يديه إليه أن يَرُدَّهما صَفْرَاوين".

وفي صحيح مسلم

(1)

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضعَ يَدَيه على ركبتيه، ورفعَ إصبعَه اليمنى التي تَلِي الإبهامَ فدَعا بها، ويدَه اليسرى على ركبتيه باسطَها. وفي لفظٍ

(2)

: كان إذا قعدَ في التشهد وضعَ يده اليسرى على ركبته [اليسرى]، ووضعَ يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعَقَدَ ثلاثًا وخمسين، وأشار بالسبَّابة. وفي لفظٍ

(3)

: كان إذا جلس في الصلاة وضعَ كفَّه اليمنى على فخذِه اليمنى، فقبض أصابعَه كلَّها، وأشارَ بإصبعِه التي تَلِي الإبهامَ، ووضعَ كفه اليسرى على فخذِه اليسرى.

وكذلك في صحيح مسلم

(4)

حديث عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدَ يدعو وضعَ يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى [على فخذِه اليسرى]، وأشار بإصبعِه السبَّابة، ووضعَ إبهامَه على إصبعِه الوسطى، ويُلْقِم كَفه اليسرى ركبتَه.

وفي صحيح مسلم

(5)

وغيره من حديث جابر الطويل في صفة

(1)

برقم (580).

(2)

عند مسلم أيضًا.

(3)

عند مسلم في الموضع السابق.

(4)

برقم (579).

(5)

برقم (1218). وقد جمع الألباني طرقَه في جزء بعنوان "حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر،، فليراجَع.

ص: 101

حجة الوداع - وهو أتمُّ حديثٍ جاء في صفة حجَّتِه - قال: حتى إذا زاغت الشمسُ أمرَ بالقَصوَاءِ فرحلتْ له، فأتى بطنَ الوادي، فخطبَ الناس فقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألَا كلُّ شيء من أمرِ الجاهلية تحتَ قدميَّ موضوع، ودماءُ الجاهلية موضوعة، وإن أولَ دمٍ أَضَعُ من دمائنا دمُ ابنِ ربيعةَ بن الحارث، كان مُسترضعًا في بني سعد فصَلَبَه هُذيل، وربا الجاهليةِ موضوع، وإن أول رِبًا أضعُه رِبَانَا رِبَا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كلُّه. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَ بأمانة الله، واستحللتُم فروجَهن بكلمة الله، ولكم عليهنّ ألا يوطئنَ فُرُشَكُم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضْرِبُوهن ضربًا غير مُبَرِّح، ولهن عليكم رزقُهن وكسوتُهن بالمعروف، وقد تركتُ فيكم ما لم تَضِلُّوا بعدَه إن اعتصمتُم به كتابَ الله. وأنتم تُسْأَلون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ ونصحتَ، فقالَ بأصبعِه السبَّابة يرفعها إلى السماء، ويَنْكُتُها إلى الناس: اللهمَّ اشْهَدْ، اللهمَّ اشْهَدْ، ثلاث مرات. ثم أذّن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقامَ فصلى العصر.

فهو هنا يدعو ربَّه ويُناجيه، مشيرًا بإصبعه إلى السماء، ثم ينكتها إليهم يقول: اللهمَّ اشهَدْ أنّيْ على ما قالوا. ومن رأى هذا الفعلَ منه وسمعَ هذا الكلامَ منه على هذا الوجه عَلِمَ ضرورةً أنه أشار بإصبعه إلى الله أن يَشهدَ على أمتِه بإقرارهم بالبلاغ. ولو كان يُكابِرُ وقال: هذا لا يدل، فلا يُنازع في أنه ظاهر في ذلك، ولو نازعَ في الظهورِ لم يُنازع في أن دلالة هذا وأمثالِه على علو الله أبينُ

ص: 102

من دلالة تركِ رفع اليدين أو تركِ رَفْع بطونهما على عدم علوِّه، فإن ذلك لا يدلُّ بوجهٍ من الوجوه، فمن تركَ هذه الدلالاتِ المحكماتِ وتمسكَ بالمتشابهات كان من الذين في قلوبهم زيغ.

ص: 103

مسألة

في رجالٍ يَتْرُكون الصلواتِ الخمسَ تهاونًا، ويُدْعَون في كل وقتٍ إلى فعلها فلا يُجيبُون، فماذا يَجب عليهم؟ وهل إذا سلَّموا على أحدٍ أن يَرُدَّ عليهم السلام؟ وهل يُهْجَروا في الله؟ وفيهم رجلٌ قال: صليتُ بلا وضوء، وقال أيضًا: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فماذا يجب عليه؟

الجواب

الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إذا لم يكونوا مُقِرِّين بوجوبِها عليهم فهم كفارٌ مرتدون

(1)

بإجماع المسلمين، يَجب قتلُهم كلهم إذا لم يَتُوبوا. والذي قال: ما كتبَ الله عليَّ صلاةً، فإن هذا كافر باتفاق المسلمين يجب قتله إذا لم يَتُبْ. وإذا أقَرُّوا بالوجوب وامتنعوا من الفعل فإنه يجب عند جماهير أئمة المسلمين أن يُستتابوا أيضًا، فإن لم يتوبوا ويُقيموا الصلاةَ المفروضةَ عليهم فإنه يجب قتلُهم أيضًا.

وهل يُقْتَلوا

(2)

كفرًا أو فسقًا؟ على قولين مشهورين للعلماء، أحدهما: أنهم يُقتَلون كفرًا، وهو قول أكثرِ السلف وقول طائفة من

(1)

في الأصل: "مرتدين" منصوبًا.

(2)

كذا في الأصل بحذف النون.

ص: 104

أصحاب مالك والشافعي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختاره أكثر أصحابه، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ليس بينَ العبد وبين الكفر والشرك إلا تركَ الصلاة". رواه مسلم

(1)

، وقال:"العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمن تركَها فقد كفر"

(2)

. قال الترمذي: حديث صحيح. وروى الترمذي

(3)

عن عبد الله بن شقيق: كان أصحابُ محمد لا يَرَون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلاّ الصلاة، مَن تركَها فقد بَرِئتْ منه ذمةُ الله ورسوله.

وفي صحيح البخاري

(4)

عن عمر أنه لما طُعِنَ قيل له: الصلاة، فقال: نعم، لا حظَّ في الإسلام لمن تركَ الصلاةَ، وقد قال تعالى:(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)

(5)

، فعلَّق الأخوَّةَ في الدين على التوبة من الشرك وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة، كما علَّق تركَ القتال على ذلك بقولَه:(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)

(6)

.

(1)

برقم (82) عن جابر بن عبد الله.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 346،355) والترمذي (2621) والنسائي (1/ 231) وابن ماجه (1079) عن بُريدة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

(3)

برقم (2622). ووصلَه الحاكم في المستدرك (1/ 7) عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة قال، وصححه الألباني في تعليقه على "المشكاة"(579).

(4)

لم أجده فيه، وقد أخرجه مالك في "الموطأ"(1/ 39 - 40) عن المسور بن مَخرمة عن عمر.

(5)

سورة التوبة: 11.

(6)

سورة التوبة: 5.

ص: 105

وفي الصحيح

(1)

أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عمن لم يَرَهُ كيف تَعرِفُهم؟

فقال: "يأتون يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلِيْنَ من آثارِ الوضوء". فمن لم يُصلِّ لم يكن فيه علامةُ أمةِ محمد يومَ القيامة.

وفي الصحيحين

(2)

في حديث الشفاعة أنه ذَكَر الجهنَّميين الذين أُخرِجوا من النار بالشفاعة، قال:"فتأكُلُهم النّارُ إلاّ موضعَ السجود، فإن الله حرَّم على النار أن تأكلَ أثَرَ السجود". وأمثال ذلك كثيرة.

وأما قول القائل: صلَّيتُ بلا وضوء، فإن كان مستحلاًّ لذلك أو مستهزئًا بالصلاة كَفَرَ باتفاق المسلمين، ووَجَبَ قتلُه، وإن كانَ معتقدًا لوجوب الوضوء للصلاة وأن الصلاةَ بغير وضوء حرام، ففي كفرِه قولان للفقهاء، فإن طائفة من أصحاب أبي حنيفة قالوا: يُكفَّر هذا، واتفق المسلمون على مثل هذا يَستحقُّ العقوبةَ الغليظة. والله سبحانه أعلم.

وهَجْرُ هؤلاء وتركُ ردِّ السلام عليهم من أهونِ ما يُعَزَّرُون به، فإنهم يستحقونَ ما هو أغلظ من ذلك، والله أعلم.

(1)

مسلم (249) عن أبي هريرة.

(2)

البخاري (6573) ومسلم (182) عن أبي هريرة.

ص: 106

مسألة

في رجلٍ مَضَى عليه زمنٌ لم يُصَل فيه، ثم تابَ ولازمَ الصلوات الخمس، ولم يتفرَّغ لقضاءِ ما فاتَه من الصلوات، فهل - والحالة هذه - يُطالِبُه الله بذلك أم لا؟

الجواب

الحمد لله. أمَّا إن كان أوّلاً ممن لا يعتقد وجوبَ الصلاةِ ويَعزِم على فعلها فهذا في الباطن ليس بمؤمن، وإن كان في الظاهر مسلمًا، كالمنافقين الذين تجري عليهم أحكامُ الإسلام الظاهرة، وهم في الآخرة في الدَّرْك الأسفل من النار. وإن لم يكُنْ مكذِّبًا في الباطن للرسول، بل قد يكونُ مُقِرًّا في الباطن بصِدْقِه، أو مُعرِضًا عن تصديقه وتكذيبه، وهو مع ذلك مُعرِضٌ عما جاء به، لا يَخْطُر بقلبه الصلاةُ هل هي واجبة أو ليست واجبة؟ وهل يلزمُه فعلُها أو لا يلزمُه؟ وإن خَطَر ذلك بقلبه أعرضَ عنه، واشتغلَ بأمورِ دنياه وشهواتِه عن أن يعتقد الوجوبَ ويَعزِمَ على الفعل، فهؤلاء وإن صَلَّوا لم تُقْبَلْ صلاتُهم. قال تعالى:(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142))

(1)

،

(1)

سورة النساء: 142.

ص: 107

وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7))

(1)

.

وهذا إذا تابَ فاعتقدَ الوجوبَ، وعَزَمَ على الفعل، وأقام الصلاةَ، كان بمنزلة من قد تابَ من الزكاة، وهذا على أصح قولَي العلماء وأكثرِهم لا يُوجَب عليه قضاءُ ما تركَه قبل الإسلام من صلاةٍ وغيرِها، ولهذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من تاب من المنافقين بإعادة ما فعلوه أو تركوه في حالِ نفاقهم، ولا أمرَ من تابَ من المرتدِّين بقضاءِ ما تركوه في حال الردَّة. وكذلك الصدِّيق والصحابة لما قاتلوا المرتدينَ لم يأمروهم بقضاء ما تركوه في حال الردَّة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في ظاهرِ مذهبِه أنه يَجبُ على المرتدِّ إذا أسلم أن يَقْضيَ ما تركَه حالَ الردَّة، وفي قضاءِ مَا تركَه قبل الردَّة روايتان عن أحمد، ومذهبُ أبي حنيفة ومالك أنه لا يَجب عليه قضاء شيءٍ من ذلك، ومذهب الشافعي: يَقضِي الجميعَ، وقد بَنَوا ذلك على أن الردَّة هل تُحبطُ مُطْلَقًا أو بشرطِ الموتِ عَليها؟ وفي هذا البناءِ وتقريرِ هذه المسائلِ كلام ليس هذا موضعَه، فإن المسئولَ عنه قد عُرِفَ حكمُه بالسنة المعروفة، مِع ما دلَّ عليه القرآن في قوله:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)

(2)

.

وقد أجمع المسلمون على أن الكافر لا يُصلِّي، سواءً كان حربيًّا أو ذميًّا، لا يجب عليه قضاءُ شيءٍ من هذه الفرائض، مع قولِ الجمهور إنه يُعاقَب على تركِها في الآخرة إذا لم يُسلِم.

(1)

سورة الماعون: 4 - 7.

(2)

سورة الأنفال: 38.

ص: 108

وأمّا إن كان هذا الذي فوَّتَ بعضَ الصلاة عمدًا مؤمنًا، يَعتقدُ وجوبَها ويَعزِمُ على أدائها، ولكن تكاسلَ عنها بعضَ الأوقات، فهذا يجبُ عليه عند جمهور العلماء، وعند بعضهم إذا تابَ فلا قضاءَ عليه، بخلاف ما لو نامَ عنها أو نسيَها فإن هذا عليه القضاءَ بالسنة والإجماع. ومن قالَ: العامدُ لا يَقضِي، فإن ذنبَه أكبرُ ولا ينفعُه القضاء، لكن إذا تابَ فالتوبةُ تَجُب ما قبلَها. والذين أوجبوا عليه القضاءَ أوجبوه بحسب الإمكان.

وأكثرُهم يقولون: إذا كثرتِ الفوائتُ لم يَجبْ قضاؤُها على الفورِ مرتبةً، كأبي حنيفةَ وأحمد في إحدى الروَايتين، وأصحاب الشافعي في أصح الوجهين، يُوجِبون قضاءَ ما تعمَّدَ تركَه على الفور، وأحمد في الرواية الأخرى يُوجب قضاءَ الجميع على الفور مرتبًا لكن بحسب الإمكان، بحيث لَا يَشْغَله عما لا بدَّ له منه من معيشةٍ ونحوِها، ولا يُضعِفُه عن واجبٍ أو ما لا بُدَّ منه.

والكثيرُ الذي لا يجب فيه الفورُ والترتيبُ، قيل: هو صلاة يوم وليلةٍ، كما هو في مذهب أبي حنيفة ومالك. وقيل: ما لا يمكن فعلُه إلاّ بفوتِ الحاضرةِ، كما هو المنقولُ عن أحمد.

والذي ينبغي لهذا التائب أن يجتهدَ في المحافظةِ على الصلاةِ فيما بقي من عمره، وإن قَصَّرَ في قضاءِ الفوائتِ فليجتهدْ في الاستكثار من النوافل، فإنه يُحاسَب بها يومَ القيامة، كما قال صلى الله عليه وسلم

(1)

: "أولُ ما يُحاسَب به العبدُ

(1)

أخرجه بهذا السياق أحمد (4/ 65،5/ 72،377) عن يحيى بن يعمر عن =

ص: 109

صلاتُه، فإن كان أَتَمَّها كُتِبَتْ تامَّة، وإن لم يكن أَتَمَّها قال الله: انظروا هل تجدون لعبدي مِن تطوُّع فَتكمِلونَ به. فريضتَه، ثم الزكاة كذلك، ثم تُؤخَذُ الأعمالُ على حسب ذلك".

وأمَّا إنْ قُدِّرَ أنه عَجَزَ عن القضاء، فلم يَتفرَّغْ حتى مات بعد التوبة، فهذا مغفورٌ له، ولا حولَ ولا قوةَ إلاّ بالله. وكذلك لو قضى البعضَ وعجَزَ عن البعضِ، ومن العَجْزِ أن يكونَ بحيثُ لو اشتغلَ بالقضاء لتَضرَّرَ في معيشتِه وما يَحتاج إليه لنفقةِ عيالِه وقضاءِ دُيونِه ونحوِ ذلك، فإنه ليس عليه أن يُواصِلَ القضاءَ مواصلةً تمنعُه عمّا لا بدَّ منه باتفاق العلماء. والله أعلم.

= رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا. وله شاهدٌ من حديث تميم الداري، أخرجه أحمد (4/ 103) وأبو داود (866) وابن ماجه (1426)، وشاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 290،4/ 103) وأبو داود (865) والترمذي (413) والنسائي (1/ 232،233) وابن ماجه (1425، 1426) من طرق عن أبي هريرة.

ص: 110