الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيعملُ بعمل [أهل] الجنة فيدخلُ الجنة". فهذا وأمثاله تُبين أنه في الآخرة يُحشَر على ما ماتَ عليه.
وأما ثوبُه الذي كان عليه وقتَ الموت فلا مناسبةَ في بَعْثِه فيه، فقد تموتُ الأنبياء والصالحون
(1)
في الثياب الرَّثَّةِ، وقد يموتُ الكفار والمنافقون في ثياب حسنةٍ، فهل يكون قيامُ الكفّار والمنافقين من قبورهم أجملَ وأبهَى من قيام الأنبياء والمؤمنين؟ ولو كان صحيحًا لكان تكفينُه في ثيابه التي مات فيها ويُبْعَثُ فيها أولى من تكفينه في غيرِها، وليس الأمر كذلك، بل قد يختلف الحكم في ذلك.
وقد ثبت في الصحيح
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كَفنَ أحدُكم أخاه فليُحسِنْ كَفنه". وقد رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ بشَدِّ الفخذِ في بعض الجنائز، وقال:"إن هذا لا يُغنِيْ شيئًا، وإنما تَطِيب نفسُ الحيِّ"
(3)
، ولو كان الميتُ يُبْعَث في ثياب موته لوردت السنة بتجميلها.
وأما الأكفانُ فلا أصلَ لكونه يُبعَث فيها بحالٍ.
و
أما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء
(4)
، فلا يحتاج إلى موتٍ ثانٍ، والله سبحانه قد أخبرَ بصَعَقِ من في السماوات ومن في
(1)
في الأصل: "الصالحين".
(2)
مسلم (943) عن جابر.
(3)
لم أجده فيما بين يديّ من المصادر.
(4)
أخرجه الطبري في تفسيره (16/ 72) عن كعب الأحبار. انظر "البداية
والنهاية" (1/ 234 - 236).
الأرض إلاّ من شاء الله
(1)
، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر "أن الناس يَصعَقون يومَ القيامة فأكونُ أوَّلَ مَن أفيقُ، فأجدُ موسى باطش بساقِ العرش، لا أدري هل أفاقَ قبلي أم كان ممّا استثنى الله"
(2)
.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد توقَّف في مثل هذا فكيف يَجْزِمُ أحدنا بما لا علمَ له به؟ والله أعلم.
(1)
سورة الزمر: 68.
(2)
أخرجه البخاري (6517 ومواضع أخرى) ومسلم (2373) عن أبي هريرة.
مسألة
في معنى قوله "من قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد"
(1)
، وهل يجب على الشخص أن يَبذُل ثُلُثَ مالِه قبلَ القتال - كما هو متعارفٌ بين الناس - أم يجوز ذلك؟ وهل الواجب عليه الدفعُ عن نفسه وأهلِه ومالِه دون البذل؟
الجواب
قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن قُتِل دونَ مالِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دمِه فهو شهيد، ومَن قُتِلَ دونَ حُرمتِه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون دينه فهو شهيد"
(2)
.
واتفق العلماءُ على أن قُطَاعَ الطريق إذا تعرَّضوا لأبناءِ السبيل يُريدون أموالَهم فإن لهم أن يقاتلوهم دفعًا عن أموالِهم، إذا لم يندفعوا إلاّ بالقتال، ولا يجب عليهم أن يبذلوا لهم من المال لا قليلاً ولا كثيرًا، لا الثلث ولا غير الثلث، لكن إن أحبُّوا هم أن
(1)
أخرجه البخاري (2480) ومسلم (141) عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 190) وأبو داود (4772) والترمذي (1421) والنسائي (7/ 116) عن سعيد بن زيد.
يبذلوا ذلك ويتركوا القتال فلهم ذلك، وليس بواجب عليهم، إلاّ أن يكونوا عاجزين عن القتال، فحينئذ يُصالِحونهم بما أمكن، ولا يُقاتِلون قتالاً تذهبُ فيه أنفسُهم وأموالُهم.
وأما الوجوب فلا يجب عليهم الدفعُ عن أموالِهم، بل لهم أن يقاتلوا عنها ولهم أن يبذلوها، لأنّ إعطاء المال لهم جائز، وإمساكه عنهم جائز، والعبد يَفعَلُ أصلحَ الأمرينِ عنده.
وأما الدفعُ عن الحرمة مثل أن يريد الظالمُ أن يَفجُر بامرأةِ الإنسان أو ذاتِ محرمِه أو بنفسِه أو بولدِه ونحو ذلك، فهذا يجب عليه الدفعُ، لأن التمكينَ من فعلِ الفاحشة لا يجوز، كما لا يجوز بذل المال، فيجب عليه أن يدفع ذلك بحسب إمكانه، وإذا لم يندفع إلاّ بالقتال وهو قادرٌ عليه قاتَلَ.
وأما دفعُه عن دمِه فهو جائز أيضًا، لكن في وجوبِه قولانِ للعلماء هما روايتان عن أحمدَ:
أحدهما: لا يجب، لأن ابن آدم المظلوم لما أراد أخوه قَتْلَه لم يَدفعْ عن نفسِه، وقال:(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29))
(1)
.
وكذلك أمير المؤمنين عثمان لما طلب الخوارجُ قتلَه لم يدفع
(1)
سورة المائدة: 28 - 29.
عن نفسه، وأمرَ الذين جاءوا ليقاتلوا عنه - كغلمانِه وأقاربِه والحسن ابن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم - أن لا يقاتلوا، وكان ذلك من مناقبه رضي الله عنه.
والقول الثاني: يجب الدفعُ عن نفسه، لأن قتلَه بغير حقٍّ محرَّمٌ، فلا يجوز له التمكين من محرَّمٍ.
وهذا إذا لم تكن فتنة، وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلانِ أو طائفتان على مُلْكِ أو رئاسةِ أو على أهواء بينهم، كأهواءِ القبائل والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيسٍ أعتقَهم، فيقاتِلون على رئاسةِ سيدهم، وأهواءِ أهل المدائن الذين يتعصَّبُ كل طائفة لأهلِ مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب والطرائق كالفقهاء الذين يتعصَّب كل قومِ لحزبهم ويقتتلون، كما كانَ يَجري في بلادِ الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة يُنهَى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا التقى المسلمانِ بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال:"إنه أرادَ قتلَ صاحبِه"
(1)
.
وفي الصحيح
(2)
أنه قال: "مَن قُتِل تحتَ رايةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبةٍ ويدعو لِعَصَبةِ فليس منا - أو قال: - هو في النار". وقال صلى الله عليه وسلم: "ستكون فتنةٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم، والقائمُ خيرٌ من
(1)
أخرجه البخاري (31،6875) ومسلم (2888) عن أبي بكرة.
(2)
مسلم (1848) عن أبي هريرة.
الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خيرٌ من المرجِع"
(1)
.
والأحاديث الصحيحة كثيرة في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة، بل عند التداعي بسعارِها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من سمعتموه يتعزَّى بعَزَاءِ الجاهلية فأعِضوهُ هَنَ أبيه ولا تكنُوا"
(2)
، يعني: إذا قال الداعي: يا لفُلان! أو يا للطائفة الفلانية! فقولوا له:
اغْضَضْ ذَكَرَ أبيك.
وفي الصحيحين
(3)
عنه أن المسلمين كانوا معه في سفرٍ، فاقتتل - يعني - رجلٌ من المهاجرين ورجلٌ من الأنصار، فقال المهاجري: يا للمهاجرين! وقال الأنصاري: يا للأنصار! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أبدعوى الجاهلية وأنا بينَ أظهرِكم؟ دَعُوها فإنها مُنْتِنَةٌ".
وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)
(4)
،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ
(1)
أخرجه البخاري (3601،7081،7082) ومسلم (2886) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 136) والبخاري في "الأدب المفرد"(963) والنسائي في "عمل اليوم والليلة"(975،976) عن أبي بن كعب. وانظر كلام الألباني عليه وتصحيحه في "الصحيحة"(269).
(3)
البخاري (4905) ومسلم (2584) عن جابر.
(4)
سورة البقرة: 193.
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)
(1)
. قال ابن عباس: تَبيَضُّ وجوهُ أهل السنة والجماعة، وتَسودُّ وجوهُ أهل البدعة والضلالة.
وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)
(2)
. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا فضلَ لعربيّ على عجمي، ولا لعجميّ على عربي، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلاّ بالتقوى، الناسُ من آدمَ وآدمُ من تراب"
(3)
. وقال صلى الله عليه وسلم: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثل الجسدِ الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالحمَّى والسَّهَر"
(4)
.
فالله قد جعل المؤمنين إخوةً مع الاقتتال، وأَمَر بالعدل بينهم، فقال تعالى:(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
(1)
سورة آل عمران: 102 - 106.
(2)
سورة الحجرات: 13.
(3)
أخرجه أحمد (5/ 411) عن أبي نضرة عمن سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(3/ 100) عن أبي نضرة عن جابر، وفي إسناده بعض من يُجهل. وانظر "الصحيحة"(2700).
(4)
أخرجه البخاري (6430) ومسلم (2586) عن النعمان بن بشير.
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ)
(1)
. فجعلنا إخوةً مع الاقتتال والبغي، وأمر بالعدل بينهم.
فيجب على كلِّ أحدٍ أن يُعَظِّمَ أهلَ التقوى والحق ويكونَ معهم، سواء كانوا من طائفته أو لم يكونوا، ويَقصِدَ أن يكونَ الدينُ لله لا لمخلوقٍ، فإذا فُضِّل هؤلاء على هؤلاء لم يكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، بل يَسعَى بينهم بالعدل والإصلاح.
فإذا طُلِب قتلُ الرجلِ في هذه الحال وهو لا يُريد أن يُقاتِلَ أحدًا، فهل له أن يَدفعَ عن نفسِه في هذه الحال؟ على قولين للعلماء هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: لا يَدفَعُ عن نفسه وإن قُتِل، حتى لا يكون مقاتلاً في الفتنة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسائل لما سأله عن ذلك:"دَعْهُ حتى يَبُوْءَ بإثمِه وإثْمِك"
(2)
.
والثاني: يجوز لعموم الحديث، والأحاديث الخاصة تُبين أنه نهَى عن القتال في الفتنة وإن قُتِل مظلومًا، ولهذا لم يقاتل عثمان رضي الله عنه، لأنه رأى أن ذلك يُفضِي إلى الفتنة. والله أعلم.
(1)
سورة الحجرات: 9 - 10.
(2)
أخرجه مسلم (2887) عن أبي بكرة.
مسألة
سؤال منكر ونكير، الميتُ إذا ماتَ تدخل الروح في جسده ويجلس ويُجاوِب منكر ونكير، فيحتاج موتًا ثانيًا؟
الجواب
عودُ الروح في بدن الميت في القبر ليس مثل عَودِها إليه في هذه الحياة الدنيا، وإن كان ذاك قد يكون أكملَ من بعض الوجوه، كما أن النشأة الآخرة ليست مثلَ هذه النشأة وإن كانت أكملَ منها، بل كل موطنٍ في هذه الدار وفي البرزخ والقيامة له حكم يَخُضُّه.
ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الميت يُوَسَّع له في قبرِه ويُسْألَ ونحو ذلك، وإن كان التراب قد لا يتغير. فالروح تُعادُ إلى بدن الميت وتُفارِقُه، وهل يُسَمَّى ذلك موتًا؟ فيه قولان:
قيل: يُسمَّى ذلك موتًا، وتأوَّلوا على ذلك قولَه (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)
(1)
. قيل: إن الحياة الأولى في هذه الدنيا، والحياة الثانية في القبر، والموتة الثانية في القبر.
(1)
سورة غافر: 11.
والصحيح أن هذه الآية كقوله (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)
(1)
. فالموتة الأولى قبل هذه الحياة، والموتة الثانية بعد هذه الحياة، وقوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بعد الموت. قال:(*مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55))
(2)
، وقال:(فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25))
(3)
.
فالروح تتصل بالبدن متى شاء الله، وتُفارقه متى شاء الله، لا يتوقَّتُ ذلك بمرّةٍ ولا مرَّتين، والنومُ أخو الموت، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أَوَى إلى فراشِه:"باسمك اللهمَّ أموتُ وأحيَا". وكان إذا استيقظ يقول: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النُّشُور"
(4)
. فقد سمَّى النومَ موتًا والاستيقاظَ حياةً.
وقد قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42))
(5)
، فبيَّن أنه يتوفَّى الأنفسَ على نوعين، فيتوفاها حينَ الموت، ويتوفّى الأنفس التي لم تَمُتْ بالنوم، ثمَّ إذا ناموا فمن مات في منامِه أمسكَ نفسَه، ومن لم يَمُتْ
(1)
سورة البقرة: 28.
(2)
سورة طه: 55.
(3)
سورة الأعراف: 25.
(4)
أخرجه البخاري (6312،6314،6324،7394) عن حذيفة. وأخرجه البخاري (6325،7395) عن أبي ذر.
(5)
سورة الزمر: 42.
أرسلَ نفسَه. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أَوَى إلى فراشِه قال: "باسمك ربّي وضعتُ جَنْبي، وبك أرفعُه، فإن أمسكتَ نفسي فارحمْها، وإن أرسلتَها فاحفظْها بما تحفَظُ به عبادك الصالحين"
(1)
.
والنائمُ يَحصُلُ له في منامِه لذّةٌ وألمٌ، وذلك يحصلُ للروح والبدن، حتى إنه يحصلُ له في منامِه من يَضْرِبُه، فيُصبِحُ والوجَعُ في بدنِه، ويَرى في منامِه أنه أطعِمَ شيئًا طيبًا، فيُصْبِحُ وطَعْمُه في فمِه، وهذا موجود، فإذا كان النائم يَحْصُل لروحِه وبدنِه من النعيم والعذاب ما يُحِسُّ به والذي إلى جَنْبِه لا يُحِسُّ به، حتى قد يَصِيح النائمُ من شِدَّةِ الألم والفزع الذي يحصُل له ويسمع اليقظان صياحَه، وقد يتكلَّم إمّا بقراَن وإمّا بذكرٍ وإمّا بجواب، واليقظان يسمع ذلك وهو نائم عينُه مُغْمَضَة، ولو خُوطِب لم يَستَمعْ، فكيف يُنكَرُ حالُ المقبور الذي أخبرَ الرسولُ بأنه يَسمعُ قرعَ نعالِهم، وقال:"ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم"
(2)
.
والقلبُ يُشبَّه بالقبر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاةُ العصر يومَ الخندق:"مَلأَ اللهُ أجوافَهم وقبورَهم نارًا"
(3)
، وفي لفظ:"قلوبهم وقبورهم نارًا"، وفرّق بينها في قوله:(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10))
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (6320،7393) ومسلم (2714) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه البخاري (1370،3980،4026) عن ابن عمر.
(3)
سبق تخريجه.
(4)
سورة العاديات: 9 - 10.
وهذا تقريب وتقرير لإمكان ذلك، ولا يجوز أن يقال: ذلك الذي يجده الميت من النعيم والعذاب مثلُ ما يجده النائمُ في منامِه، بل ذلك النعيم والعذاب أكملُ وأبلغُ وأتمُّ، وهو نعيمٌ حقيقي وعذابٌ حقيقي، ولكن يُذكَر هذا المثل لبيان إمكانِ ذلك إذا قال السائل: الميتُ لا يتحرك في قبرِه، أو الترابُ لا يتغير، ونحو ذلك. مع أن هذه المسألة لها بسط يطولُ وشرح لا يحتمل هذه الورقة. والله أعلم.
مسألة
الميت في أيام مَرَضِه أدركَه شهرُ رمضانَ، ولم يكن يَقدِر على الصيام، وتوفي وعليه صيام شهر رمضان، وكذلك الصلاة مدةَ مرضِه، ووالداه بالحياة، فهل تَسقُط الصلاة والصيام عنه إذا صامَا عنه وصلَّيَا إذا وَصَّى أو لم يُوص؟
الجواب
إذا اتصلَ به المرضُ ولم يُمكِنْه القضاءُ فليس على ورثته الاطعام عنه. وأما الصلاة المكتوبة فلا يُصلَّى عن أحدٍ، ولكن إذا صلَّى عن الميت واحدٌ منهما تطوُّعًا وأهداه له، أو صامَ عنه تطوعًا وأهداه له، نفعَه ذلك.
مسألة
في الشهداء، هل يَشفَع الشهيدُ منهم في أربعين من أهلِ بيته أم لا؟ وهل هم سبعةٌ أو تسعة؟ وهل يشفعون جميعهم أم لا؟ وهل إذا كان الشهيد عاصيًا يكون منهم أم لا؟ وإذا كان الشهيد عليه دَيْن أو مَظلمةٌ يُطالَبُ بها أم لا؟
الجواب
الحمد لله، أما الشهيد المقتول في الجهاد في سبيل الله - وهو الذي يُقتَل في سبيل الله صابرًا محتسبًا مقبلاً غيرَ مُدبرٍ، ويكون قتالُه لتكون كلمةُ الله هي العليا، لا حميَّةً ولا لدُنْيا ولا غير ذلك - فهذا جاء فيه أنه يُشَفع في اثنين وسبعين من أهل بيته
(1)
.
وأما سائر الشهداء فهم أكثر من ذلك، وقد جاء أنهم سبعةٌ
(2)
:
(1)
وردت فيه عدة أحاديث، منها حديث المقدام بن معدي كرب الذي أخرجه أحمد (4/ 131) والترمذي (1663) وابن ماجه (2799). وفيه "سبعين".
(2)
أخرجه مالك في الموطأ (1/ 233،234) وأحمد (5/ 446) وأبو داود (3111) والنسائي (4/ 13،14) وابن ماجه (2803) عن جابر بن عتيك.
وصححه ابن حبان (1616 - موارد) والحاكم في المستدرك (1/ 352). وهو صحيح بشواهده.
المبطون شهيد، والغريق شهيد، والذي يموت تحت الرَّدْمِ شهيد، وصاحب ذاتِ الجنب شهيد، والمرأة التي تموت بالطَّلق شهيد.
وإن كان أحدهم مذنبًا يُرجَى أنَّ الشهادة يُغفَر له بها، لكن حقوق الآدميين دَيْنٌ عليه لابدَّ لصاحبها من استيفائها. والله أعلم.
مسألة
في أقوامٍ لهم تُربةٌ، وهي في مكانٍ منقطع، وقُتِل فيها قَتيلٌ، وقد بَنَوا لهم تُربةً أخرى، هل يجوز نَقْلُ موتاهم إلى التربة المستجدَّة أم لا؟
الجواب
لا يُنْبَش الميتُ لأجل ما ذُكِر. والله أعلم.
مسألة
فيمن يَحُضُّ الناسَ من أهل الإيمان على أن يصوموا ويُصلُّوا ويتصدقوا، ويقرأوا القرآن، ويهللوا ويسبحوا، ويسألوا الله أن يتقبلَ منهم، ويُوصِلَ أجورَ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى أزواجه وأولاده، فَسُئِل عن ذلك، فقال: لأنه كان يُحِبُّ الهدية، ويأمر بها للتحابب، فقيل له: ذلك في الدنيا، فقال: إن الإمام علي رضي الله عنه كان يُضحِّيْ عنه بعد موته، وإن أبي بن كعب قال: إني أُكثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟ قال:"ما شِئْتَ"، قال الربع؟ قال:"ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: النصف؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: الثلثين؟ قال: "ما شئتَ، وإن زدتَ فهو خير"، قال: يا رسول الله! فاجعلُ لك كلَّها، قال:"إذًا تكفَى هَمَّك، ويُغفَر ذنبُك".
فما هذه الصلاة المقسَّمةُ بالربع والنصف والثلثين والكل؟ فإن كانت الصلاةُ عليه فكلُّها له، وللمصلي أجرها، وكانت الزيادة فيها تكون بالأعداد من واحد إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألف، فأكثر من ذلك، فانصرفَ المفهومُ أنها صلاةُ نوافلِه وتطوعاتِه، وأنْ يَجعَلَ له ربعَها ونصفها وثلثيها وكلَّها، فهل أصابَ فيما أمرَ به وحَضَّ عليه؟
وبَنَى على ما رواه الدارقطني: أن رجلاً سأله فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، كان لي أبوانِ، وكنتُ أبرُّهما حالَ حياتهما،