المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الله لا يعرض نفسه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ نماذج من الأصول الخطية

- ‌مسائل من الفتاوى المصرية

- ‌ اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين

- ‌هذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير

- ‌ لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود

- ‌ أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ:

- ‌الصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب

- ‌منزلةُ الصديقِ والفاروقِ

- ‌ ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة

- ‌الشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر

- ‌ فسادُ استدلال الجهمي من وجوه:

- ‌ الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين:

- ‌ من ظنَ أن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ

- ‌ تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ

- ‌إن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها

- ‌ مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه

- ‌الصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء

- ‌ إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز

- ‌ يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه

- ‌ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة

- ‌الصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه

- ‌ تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء

- ‌ الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه

- ‌القراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة

- ‌ القبور ثلاثة أقسام:

- ‌منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه

- ‌القبورُ المختلَفُ فيها كثيرة

- ‌ ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها

- ‌ الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ

- ‌الاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز

- ‌ يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين

- ‌ يجوزُ تغسيلُه

- ‌يجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت

- ‌تجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر

- ‌ الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون

- ‌ لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد

- ‌أما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ

- ‌ يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ

- ‌ غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء

- ‌من ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ

- ‌ ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين

- ‌أما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء

- ‌ ذهب إليه طائفة من المتأخرين

- ‌الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى

- ‌ليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية

- ‌ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه

- ‌على العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام

- ‌من شبه الله بخلقه فقد كفر

- ‌الناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ:

- ‌لا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله

- ‌مسائل وردت من الصلت

- ‌مسائل متفرقة

- ‌ مسألة الضمان

- ‌رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه

- ‌ الثانيقوله: "يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه

- ‌ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء

- ‌ مذهب المسلمين وسائر أهل الملل

الفصل: ‌ الله لا يعرض نفسه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء

الفاسدة ليس لها حدٌّ. وما أكثر ما يُوجَدُ هذا في كلام هؤلاء الملحدة في أسماء الله وآياتِه المشابهين للإسماعيلية والنصيرية والفرعونية، ولهذا كان العلماء يقولون عنهم: لهم خيال واسعٌ، والخيال والوهم محل الشياطين الذين يتنزلون عليهم بهذا.

فيقال: قولك "تحركتِ الإرادة الأزلية" عبارة فيها إنكار، فلو قال:"توجَّهت أو تعلقت الإرادة" كان أحسن. ومتى كانت هذه الحركة؟ أهي قديمةٌ معه لم تزَلْ أم كان ذلك بعد أن لم يكن؟ فإن كان قديمًا بَطَلَ قولك "فلما تحركت الإرادة الأزلية نزلَ من كَانِه إلى شأنِه"، فإن هذا ظرفٌ لفعلاتٍ يقتضي تحوُّلاً من حالٍ إلى حال، والفعل الذي له ظرف زمانٍ لا يكون إلاّ حادثًا، ولذلك قلتَ:"فعند ذلك قارنَ الألفُ النون فعبر عنها". والقديم ليس له ظرف زمانٍ يتحوَّل فيه، فإنه لم يزل، وإن قلت: إن هذا مُحدَث بَطَلَ قولك بعد هذا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من الأزل إلى الأبد.

وأيضًا فقولك "يَعرِض نفسَه على الحقائق الكونية المعدومةِ في نفسها المشهودةِ أعيانُها في علمه" كلام باطل، فإنّ‌

‌ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء

، وإنما يتجلى لأوليائه يومَ القيامة في الجنة كما جاءت الآثار الصحيحة، ويتجلى أيضًا لعبادِه في عرصاتِ القيامة. وقد قيل: إن محمدًا رآه ليلةَ أُسرِيَ، وأما من سِوى محمد صلى الله عليه وسلم فلا يراه بعينه في الدنيا، كما ثبت في صحيح

ص: 405

مسلم

(1)

عن النواس بن سمعان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الدجَّال قال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربَّه حتى يموت". وكذلك رُوِي في حديث عبادة ومعاوية وغيرهما: "واعلموا أنكم لن تَرَوا ربَّكم حتى تموتوا"

(2)

. ومن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلةَ المعراج فإنه لا يقول: إنه تجلَّى له، فإن التجلي كمال الظهور، ولم يكن الأمر كذلك، بل قد روى مسلم في صحيحه

(3)

عن عبد الله بن شقيق قال: قلتُ لأبي ذر: لو رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم لسألتُه، قال: عمَّا كنتَ تسألُه؟ قال: كنتُ أسألُه هل رأيتَ ربَّك؟ فقال: قد سألتُه فقال: "نور أنَّى أراه"! وفي رواية: "رأيتُ نورًا". فهذا من يثبت الرؤيةَ يقول: أراد نفي العين، لأن نوره أعشى بصرَه، ومن ينفيها يحتجُّ به على نفيها، فقد اختلف أهل السنة -واختلفت الرواية عن الإمام أحمد- هل يقال: رآه بعينَي رأسه أو بعينَي قلبه، أو يقال: رآه ولا يُقَيِّد؟ على ثلاثة أقوال هي ثلاث روايات عند أحمد.

فأما رؤية القلب -وهو شهود أهل المعرفة- فهذا موجود في الدنيا لغير النبي صلى الله عليه وسلم كلما ولي، وكذلك رؤية المنام، لكنه سبحانَه يُرى في صُوَرٍ بحسب حال الرائي، فإنَّ رؤية المنام تقتضي ذلك. وأما الأحاديث التي فيها: "رأيتُ ربّي في صورة كذا وكذا، فوضعَ

(1)

برقم (2937).

(2)

أخرجه أبو داود (4320) عن عبادة.

(3)

برقم (178).

ص: 406

يدَه بين كتفي حتى وجدتُ بَرْدَ أناملِه على صدري"

(1)

فهذه كانت في المنام، فإن هذه لم تكن ليلةَ المعراج لأنها كانت بالمدينة، فإنّ فيها أنه احتبسَ عنهم في صلاة الفجر، ورواها معاذ بن جبل وأم الطُّفيل وغيرهما ممن لم يُصلِّ خلفَه إلاّ في المدينة، والمعراجُ كان بمكة بنصِّ القرآن وبالسنة المتواترة والإجماع، ولم يقل أحدٌ: إنه رآه بالمدينة.

فأما الأحاديث التي رُوِي فيها أنه رآه في سِكَكِ المدينة أو في الطواف أو في عرفةَ فكلُّها موضوعة مكذوبة

(2)

.

والغرض هنا أنه لم يقل قطُّ مسلمٌ: إن الله عَرَضَ نفسَه على معلوماتِه أو مخلوقاتِه، ولا إنه تجلَّى لمعلوماتِه أو لجميع مخلوقاتِه، بل موسى قد سألَ الرؤيةَ فقال:(لَنْ تَرَانِي)

(3)

، وقال:(وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا)

(4)

. فإذا كان موسى عليه السلام عجزَ عن

(1)

أخرجه أحمد (4/ 66، 5/ 378) عن عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا مطولا. وأخرجه أحمد (5/ 243) والترمذي (3235) عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يخامر أن معاذ بن جبل قال، فذكره بطوله. وصححه الترمذي والبخاري. وأخرجه أحمد (1/ 368) والترمذي (3233، 3234) عن ابن عباس.

(2)

انظر "الموضوعات" لابن الجوزي (1/ 124 - 125) و"اللآلئ المصنوعة"(1/ 27 - 30).

(3)

سورة الأعراف: 143.

(4)

سورة الأعراف: 143.

ص: 407

رؤيتِه في هذه الدار، والجبل جعلَه دَكًّا لما تجلى له، وقوله (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) يدلُّ على أنه لم يكن متجليًا له قبل ذلك= فكيف يقال: إنه عرضَ نفسَه أو تجلَّى للكلاب والخنازير والقرود والديدان والكفار والمنافقين والجنّ والشياطين؟ كما قال: "عرضَ نفسَه على الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة أعيانُها في علمه"، فإن علمه محيطٌ بكل شيء مما ذكر ومما لم يذكر، فإن كان قد عرض نفسه على ذلك كلّه فقد لَزِمَ ما ذكر من الكفر الفاحش وما هو أفحش منه.

ثمّ وأيضًا فإنّ المعلوم قبل وجودِه ليس هو سببًا موجودًا ثابتًا يُعرَضُ فيه شيءٌ أو يتجلى له شيءٌ أصلاً، فإن الله يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالجمل الشرطية المعلقة بشرط معدوم مثل قوله:(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ)

(1)

، وقوله:(وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ)

(2)

، وقوله:(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا)

(3)

، وقوله:(وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)

(4)

، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82))

(5)

، (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)

(6)

ونظائره متعددة.

(1)

سورة الأنفال: 23.

(2)

سورة الأنعام: 28.

(3)

سورة التوبة: 47.

(4)

سورة السجدة: 13.

(5)

سورة النساء: 82.

(6)

سورة الأنبياء: 22.

ص: 408

بل قد يُعلِمُ اللهُ بعضَ عبادِه ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فإنّا نعلم ما مضَى من القرون والأحوال، ونعلم أن القيامة ستقوم، وأنه سيدخلُ قومٌ الجنّةَ وقومٌ النارَ، وقومٌ ما أخبر الله به من أن أهل النار لو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه.

ثم إذا علمنا الحوادث المستقبلة لم يكن أعيانُها الحقيقي الخارجية موجودةً في علمنا، بل وكذلك الماضية، فإن نفس السماوات والأرض ليست في نفوسها، فكيف يتصور أن يعرض نفسَه أو يتجلى لشيء ما وُجدَ بعدُ ولا صارَ له حقيقة؟ ولكن علم أن سيُوجَد. فإذا علم الله أَنه سيُولَد وُلِدَ بعدَ حولٍ، فهل يتصوَّر قبلَ أن تَحْبَل به أمُّه أن يعرض عليه شيئًا أو يتجلى له شيء من الحقائق؟ وهل يتصور أن يكون المعدوم -وإن عُلِمَ أن سيُوجَد- هل يتصور أن يكون عليمًا تجلتْ له الحقائق؟ فضلاً عن أن يعرض نفسه عليه.

وأيضًا "نَزَلتِ الحلية الإلهية من حقيقةِ كَانِه إلى سرّ شأنِه" فيه أوّلاً لفظه "كانه" كما استعملتْ أولاً، وهذا خطأ، فإن الفعل لا يُضَاف، ولا يُقال:"كانه وصاره وأصبحه"، وإن كان أبو الحكم ابن برجان يستعمل هذا اللفظ في "شرح الأسماء الحسنى"، وهو كتاب جليل كثير الفوائد، لكن هذا اللفظ خطأ.

ثم ما هذا "الشأن" الذي نزلَ إلى سرِّه؟ أهو شيء منفصل عنه أم متصلٌ به؟ فإن كان منفصلاً عنه فكيف يكون شيء منفصلاً عنه قبلَ أن يخلق شيئًا؟ لا سيما على أصلهم الإلحادي أنه ما ثم شيءٌ

ص: 409

منفصلٌ عنه. وإن كان متصلاً به فكيفَ ينزل مِن كانه إلى متصلٍ به وقائم به؟ وهل كان قبل هذا النزول في غير شأنِه ثم نزلَ إلى شأنه؟ أم لم يزل في شأنه؟

ثمّ عندكم هو الآن على ما هو عليه كان ليس معه شيء، فهذا الشأنُ الذي نزلَ إليه مِن كانِه الأوّل هو شيءٌ أم لا؟ إن كان شيئًا فقد صارَ معه شيءٌ آخر لم يكن معه، وإن لم يكن شيئًا فلم ينزل إلى شيء، فلم يَزل في كانِه ولم يتجدَّد شيء، فما الذي بدا مما بدا؟

هؤلاء قوم تخيَّلُوا خيالاتٍ فاسدةٍ، وسمعوا ألفاظًا، فوضعوها على غير مواضعها بحسب تلك الخيالات، فإذا حُقِّقَتْ معانيها جاء الحقُّ وزهقَ الباطل، إن الباطل كان زهوقا. (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17))

(1)

.

سمعوا قوله (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29))

(2)

مع قوله "كان ولا شيء معه"، وقولُ الله ورسولي حق، فإن الله كان ولا شيء معه، وهو في كل يوم في شأنٍ من شئونه، وهو أفعالُه كما جاء في الحديث:"يَغفِرُ ذنبًا ويفرج كَرْبًا ويرفعُ قومًا ويَضعُ آخرين". ليس في هذا نزول عن كانه إلى شأنِه، وإنما هو خالق خلقَ وأبدعَ وفَطَر وأنشأ، ويُحدِث الله من أمرِه ما يشاء.

(1)

سورة الرعد: 17.

(2)

سورة الرحمن: 29.

ص: 410

وأيضًا "فعندَ ذلك قارنَ الألفُ النونَ، فعبّر عنها بـ"أنا"، وعند ذلك ظهرت نقطة سُميت عقدة "حقيقة النبوة"، يقال له: أين كانت الألف والنون قبل ذلك حتى تقارنا حينئذ؟ وما الذي أوجبَ اقترانهما بعد افتراقهما؟ وإن حَدَثا حينئذ فما الموجِب للحدوث؟ وقوله "عبّر عنها بأنا" فقبلَ ذلك ما كان يقال له أنا لما كان ولا شيء معه، لم يكن يستحق أن يقول أنا ولم يقل أنا، ولم يستحق أن يقول أنا حتى نزلَ هذا النزولَ الذي ليس له حقيقة ولا معقول.

وكذلك هذه النقطة التي ظهرت، ما الموجب لظهورها؟ وأين ظهرت هذه النقطة؟ ثم أغربُ من هذا كلِّه تسمية هذه النقطة عقدة حقيقة النبوة، ياليتَ شعري مَن الذي سمى هذه النقطة بهذا الاسم؟ هل أنزل الله بهذا الاسم من سلطان؟ أم هي أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان؟

قد علمنا وتحققنا أن هذا الاسم المفترَى ليس له وجود في شيء من الكتب المنزلة من السماء، ولا هو مأثورٌ عن أحدٍ من الأنبياء، ولا تكْلم به أحد السلف القدماء ولا من المشايخ والعلماء إلاّ هؤلاء المقاربون لدولة التتار الذين بشؤم الكفر به استولى الكفار والفجار، وجاسوا خلال الديار، حيث ألحدوا في أسماء الله وآياته، وغيَّروا ما بعثَ الله [به] رسوله من الهدى ودين الحق الذي وَعَدَ أن يُظهِرَه على الدين كلّه.

ثم هذه النقطة العجيبة التي سميتموها عقدة حقيقة النبوة أهي من الأعيان التي تقوم بنفسها من غير محل؟ أم هي من الصفات

ص: 411

التي لابُدَّ لها من محلّ؟ فإن كانت عينًا قائمةً بنفسها فإما أن تكون هي الحقّ أو غيره، فإن كانت الحق فلم يتجدد شيء، وإن كانت غيره فقد حدث غير الربّ، فقد جعل الحقّ يظهر فيه وسماه الرحمن، فيكون الرحمن اسمًا لغير الله. وإن كانت صفةً من الصفات، وليس هنا ما يقوم به إلاّ الربّ، فتكون هذه النقطة صفة له، أفهي حادثة أم قديمة؟ فإن كانت قديمة فلم يتجدد شيء، وإن كانت حادثة وهي صورة علم الحق فقد تجدد له علمٌ لم يكن له قبل ذلك، وهذا مع أنه كفرٌ لا يقولون به، لأنه تقدم أنه كان عالمًا بنفسه وبسائر المعلومات.

ومقصوده بهذه الكلمات أن الحق صار معلومًا متجليًّا لمعلوماتِه بعد أن كان عالمًا بها وهي متجلية له، وقد قدّمنا أنه لا يتجلَّى لجميعها إلاّ أن يُعنَى بتجليه لها دلالتُها عليه أو علمُها به، كما قيل في قوله:(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)

(1)

. ففي الجملة كون الحقّ يصير معلومًا لبعض الخلق أو كلَهم هذا معنى صحيح، لكن كيف يعلمونه قبل أن يخلقهم.

فإن قيل: لأنهم في علمه.

قلنا: وهم في علمه عالمون به، فإنه يعلم الأشياء على ما عليه، فيعلم المؤمن مؤمنًا والكافرَ كافرًا، والعالم عالمًا والجاهل جاهلاً، وأيّ حالٍ تجدَّد للشيء فانه يعلمه عليه في علمه قبل أن

(1)

سورة الإسراء: 44.

ص: 412

يكون، كما يعلم نفس الشيء قبل أن يكون، فلا يتصور أن تصير المخلوقات عالمةً في الخارج إلاّ بعد وجودِها في الخارج، كما لا يُعلم أنها عالمة إلاّ إذا علمتْ هي، فإن ثبوت الصفة بدون الموصوف في الخارج أو العلم محال.

فهذا التقسيم والتحقيق يكشف ما أبدَوه من الزخرف والتزويق، فإن هذه الحقيقة إن كانت صفةً لله ليعلم بها نفسَه ومعلوماتِه، فالله علم بذلك قبل ظهور هذه الحقيقة؛ وإن كانت صفةً لغيرِه فلا يتصوَّر وجودُها قبل وجود ذلك الغير.

وقوله "ظهرتْ نقطة" لفظ مجمل، أيَعني حدثَتْ؟ فالمحدَث لابدّ له من محدِث، ولابد للصفة من محل، أم يعني انكشفَتْ وتجلت؟ فلمن تجلَّتْ "وما ثَمَّ إذ ذاك إلاّ الله؟ وهو عالمٌ بنفسِه ومعلوماتِه، فأيُّ شيء انكشف له وتجلَّى بهذه النقطة العجيبة الشأن؟ ما أشبهَ هذه النقطةَ بالكلمة التي تعبدها النصارى وتَزعُم أنها دخَلَتِ الناسوتَ، فيقول لهم المسلمون: هذه الصفة صفة هي كلامٌ لله، فإن كان كذلك لم يكن إلهًا يخلق ويرزق ويُعبَد، ولا يحل المسيح دون الموصوف، وإن كان جوهرًا خالقًا فإنما يتقدم بنفسه، فهي الأب أو غيره؟ إن كانت الأب فيكون الأب هو الحال، وإن كان غيره فيكون جوهرانِ منفصلانِ إلهان. فالنصارى في ضلالة وحيرة حيث أثبتوا ثلاثة آلهة وقالوا: هي إلهٌ واحد.

وهؤلاء أثبتوا هذه النقطة العالمة العارفة محلاًّ ولم يجعلوا لها محلاًّ، فالشأن كل الشأن في تحقيق هذه النقطة التي هي عقدة

ص: 413

حقيقة النبوة، فهو "صورة علم الحق بنفسِه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصورة المعلومية التي صارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة التي ظهر الحق فيه بصورة وصفة، واصفًا يصف نفسه ويحيط به، فالأول هو الموصوف، والثاني هو الواصف، والأول هو المسمَّى باسم الله، والثاني هو المسمَّى باسم الرحمن".

فيقال: قد عُلِمَ أن هذان اسمانِ من أسماء الله، ليسا اسمين لشيء من صفاته كالعزة والقدرة والحكمة، ولا اسمين لشيء سواه، وأسماء الله تعالى كلُّها متفقة في دلالتها على نفسه المقدسة، ولكل اسمٍ خاصَّةٌ ينفرد بها عن الاسم الآخر، فللرحمن الرحمة، وللحكيم الحكمة، وللقدير القدرة. وهكذا أسماء الرسول وأسماء القرآن، ليست هذه الأسماء مترادفة، ولا هي أيضًا متباينةٌ من كل وجه، بل هي باعتبار الذات مترادفة، وباعتبار الصفات غير مترادفة بل كالمتباينة، ولهذا يُسمى هذا النوع المتكافئة. وكلُّ اسمٍ فإنه يدلُّ على ذاتِ الله وعلى خصوصِ وصفهِ بالمطابقة، ويدلُّ على أحدهما بالتضمن، ويدلُّ على الصفة التي للاسم الآخر بالالتزام، فإنه يدلُّ على الذات المستلزمة للصفة الأخرى، فبين كل اسمينِ اجتماعٌ وامتيازٌ إلاّ اسم "الله"، ففيه قولان. ولهذا هل يدخل في الأسماء؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما أنه لا يدخل في هذه الأسماء، بل هو متضمنٌ للجميع، وهذا يطابق قول من يقول: ليس بمشتق. والثاني: أنه من الأسماء، وهذا يطابق قول من يقول: إنه مشتق.

ص: 414

والصواب أنه فيه الاشتقاق وعدم الاشتقاق، ففيه الاشتقاق الأصلي لا الوضعي، فليس في الاستعمال مشتقًّا كاشتقاق سائر الأسماء التي هي اشتقاقها اشتقاق الصفات. وأما في الأصل فإنه مشتق، وهذا يُسمَّى الاشتقاق الوضعي، وذاك يُسمَّى الاشتقاق الوصفي.

والأسماء جميعها هي أسماءٌ لله رب العالمين، وأما صاحب "الفصوص" وأصحابه الاتحادية فعندهم أسماء الله نِسَب وإضافات بين الوجود ليس موجودة، فهو يقول: إضافة بين الوجود الذي هو الله عنده وبين الثبوت؛ وغيرُه يقول: نسبةٌ بين أجزاء الوجود وجزئياته. وهؤلاء أعظم الناس إلحادًا في أسماء الله.

إذا عُرِف هذا فالفرق بين اسم الله والاسم الرحمن أن الرحمن متضمن للرحمة المتعلقة بالخلق، والاسم الله متضمن للعموم أو لخصوص الإلهية التي هي استحقاق العبادة. فأما كون هذا واصفًا والآخر موصوفا فهذا شيء ليس له دخولٌ في معنى اسم الله والاسم الرحمن.

ثم يُقال لهم: فهل كان اللهُ في كانِه قبلَ نزولِه إلى سِرِّ شأنِه مستحقٌّ لهذه الأسماء أم لا؟ فإن قالوا: لا، فهذا كفرٌ، وإن قالوا: نعم، قيل: فأنتم قد جعلتم الرحمن متأخرا عن نزوله إلى سرِّ شأنه!

ص: 415