الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل
اعلم أن قول هؤلاء المنتسبين إلى ابن حمويه مضطربٌ مخبط، فإنه ليس توحيدًا محضًا، ولا إلحادًا محضًا، وإنما يظهر بظهور مذهب أهل التوحيد من المسلمين وسائر أهل الملل، وبظهور مذهب الملحدة الاتحادية مثل أصحاب ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، ثمّ يتبينُ قولُ هؤلاء، فنقول:
أما
مذهب المسلمين وسائر أهل الملل
من اليهود والنصارى بل وسائر المقرِّين بالصانع فهو أن الله سبحانه حق موجود بنفسه، متميز عما سواه، وهو ربّ العالمين وخالق الخلق، وأنه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاتِه شيء من ذاته، وأن جميع الكائنات عبادٌ لله فقراءُ إليه، وهو مالكهم وربهم وخالقُهم.
والقرآن من أوّله إلى آخره يذكر هذا التوحيد ويُبيّنه.
ومع هذا فلله أسماءٌ وصفاتٌ وصف بها نفسه ووصفَه بها رسولُه، ومن الجهمية من يُنكِرها أو بعضَها، ويَصِف الله بصفاتٍ سلبية تنافي ما جاءت به الرسل، وتكون تلك الصفات مستلزمة للتعطيل، لكن النفاة لا يُقِرُّون أو لا يعتقدون أنها تستلزم التعطيل.
والفلاسفة الصابئة القائلون بقِدَم العالم يقولون بواجب الوجود وبأنه ليس هو العالَم ولا جزءًا منه، لكن يُحكَى عن فريقٍ من الدهرية إنكارُ الصانع، وهذا هو الذي ذكره الله في القرآن عن فرعون أنه
أنكر ربّ العالمين، ولكن كان هو وقومه كما قال الله:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14))
(1)
، قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ 0 وقال له موسى:(لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)
(2)
.
وكان قدماء الجهمية الذين ينكرون أن يكون الله فوقَ عرشه يقولون: إنه بذاته في كلّ مكانٍ، وإنه حالٌ في كل مكانٍ، وهو رأيَ طائفةٍ من متصوفة الجهمية مثل الديلمي ونحوه، وأما علماء الجهمية وفضلاؤهم فلا يصفونه إلاّ بالسلب، ليس داخلَ العالم ولا خارجَ العالم، ولا هو فوقَ العرش ولا في العالم ونحو ذلك. وكان السلف وأئمة الدين يعلمون أن هذا القول يستلزم نفيَ ذاته، ويقولون: إنما يدورون على التعطيل.
وهذا هو الذي أوقعَ هؤلاء الملاحدة الاتحادية في زعمهم أنه هو هذا الوجود، فإن العابد لا يَقدِر أن يَعبُد إلاّ شيئًا موجودًا، فإن الإرادة والقصد لا يتعلق بمعدوم، بخلاف الوصف والكلام، فإنه يتعلق بموجود وبمعدوم. فالمتكلمون بالنفي إذا لم يُثبتوا وجودًا تكون قلوبهم خالية من تحقيق العبادة، لأن ذلك ليس هو مطلوبهم ومقصودهم، ولهذا يَغلِب عليهم القسوة والإعراض عن العبادة لله ولغيره، وأما أهل الإرادة والعبادة من الصوفية والعامة ونحوهم إذا لم يتوجهوا بقلوبهم إلى رب العالمين الذي وصفتْه رسلُه
(1)
سورة النمل: 14.
(2)
سورة الإسراء: 102.
لمحمد صلى الله عليه وسلم: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)
(1)
، الذي هو فوق السماوات، فلابُدَّ أن تتعلق قلوبهم بموجودٍ ما، فتارةً يتعلقون بأنه بذاته في كلّ مكان، وتارةً تتعلق بحلوله أو اتحادِه ببعض الأشخاص كالمسيح وعُزَير وغير ذلك، وتارةً يتعلقون بعبادة الملائكة أو الكواكب والأصنام ليتقربوا بها إليه، فإنه لابُدَّ للقلب من صَمَد يُقْصَد إليه بالعبادة حق موجودٍ.
والصفات السلبية لا يتعلق بها القلبُ ولا يطمئن، فإنّ قصدَ العدم كعدمِ القصد، وعبادة المعدوم كعدمِ العبادة.
فهذا الجهل والضلال بصفات ربّهم هي التي أوقعتْهم في عبادة ما سواه. ثم إنه يحصل من أحدهم توجُّهٌ إلى الله وعباد له، فيشهد بقلبه الوجود القائم بأمره، ويرى أن حكم الله وسلطانَه سارِي في جميع الكائنات، فيعتقد أن ذلك هو الله الخالق، مثل من رأى شعاع الشمس فاعتقد أنه رأى الشمس وإنما رأى أثرها، وهكذا هؤلاء ما شهدوا بقلوبهم إلاّ صُنْعَ الخالق وخَلْقَه وملكَه وسلطانه، ولهذا تارةً يجعلون الربّ في ذلك كالروح في الجسد، وتارةً كالماء في الصوفة، وهذا قولٌ بالحلول، والربُّ -كما قال عبد الله بن المبارك والإمام أحمد وسائر أئمة السنة والمعرفةِ- فوقَ سماواته على عرشِه، بائنٌ من خلقِه. فجاء هؤلاء الاتحادية المستأخرون جعلوه نفسَ الموجودات لم يُخلوه منها، وجعلوا الوجود المخلوق
(1)
سورة الحديد: 4.
المصنوع هو الوجود الخالق. ثُمَّ قد علموا أنّ ثَمَّ خالقًا ومخلوقًا، فاضطربوا هنا:
فأما صاحب "الفصوص" فإنه يقول: أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كما يقول من يقول من المعتزلة والشيعة: إن المعدوم شيء، ويقول: إن نفسَ وجود الحقّ فاضَ عليها وظهرَ فيها، فوجودُها هو وجود الحقّ، وذاتها ليست ذات الحق، ويقول: ما كنتَ به في ثبوتك ظهرتَ به في وجودك، وإنّ الله ما أحسن إلى أحدٍ ولا أنعمَ على أحد، وإنما الذوات الثابتة في العدم هي المحسنة المسيئة بما قبلتْه في فيض وجود الحق عليها. ويجعل أسماء الله هي النسبة بين وجوده وبين ثبوت الممكنات.
وهذا القول كفرٌ، وهو باطلٌ من وجهين:
من جهة أنه جعلَ المعدومَ شيئًا ثابتًا، وفرَّق بين الثبوت والوجود، فإن هذا قول باطل وفرق فاسد، وشبهتُه ثبوتُها في علم الحقّ، ولا يلزم من علم الحقّ بها ثبوتُها في نفسها ولا وجودُها.
الوجه الثاني: أنه لو فُرِض أن الأعيان ثابتة فليس وجودها وجودُ الحقّ، بل الِربُّ أبدعَ وجودَها وخلقها، كما قال تعالى:(أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50))
(1)
، وقال:(خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)
(2)
.
وهكذا يقول من يقول بأن المعدوم شيء من المعتزلة وغيرهم،
(1)
سورة طه: 50.
(2)
في مواضع كثيرة من القرآن.
يقولون: إنه خلقَ وجودَه، لا يقولون: إن وجوده هو نفس وجود الحق.
وأما سائر الاتحادية فلا يفرقون بين الوجود والثبوت، ولا يقولون: إن المعدوم شيء، بل منهم من يفرِّق بين الوجود المطلق والمعين، كالقونوي فإنه يقول: الحق هو الوجود المطلق، فإذا تعيَّن لم يكن هو الحقّ. وعلى قول هذا ليس لله وجودٌ إلاّ ما يقوم بالمخلوقات، فلو زالت لزال وجودُها. وهو أيضًا جَحْدٌ لربّ العالمين في الحقيقة، وإثباتٌ للوجود الذي أقرَّ به فرعون.
وأصحاب هذا القول والذي قبلَه يُفرِّقون بين المظاهر والمراتب والمجالي وبين الظاهر المتجلِّي، فيقولون: ظهرَ وجودُه في أعيان الممكنات -على رأي صاحبه "الفصوص"، أو ظهرَ الوجودُ المطلقُ في المتعينات- على رأي صاحبه الرومي.
وأما التلمساني وغيرُه فعندهم ما ثمَّ غيرٌ ولا سِوى بوجهٍ من الوجوه، ولا يُفرّقون بين المطلق والمعيّن والوجود والثبوت، بل هو الله عندهم كالبحر وأمواجه. وهم تارةً يُشبِّهون الله بالشمع والفضّة الذي يظهر في صورٍ مختلفة وهو هو.
ثم يقول الرومي: هو المادة المشتركة المطلقة، وأما أعيان الصور فليس هو. وأما ابن العربي فيشبهه بظهور النور في الزجاج، يظهر في كل زجاجة بحسب لونها، وهو واحدٌ في نفسه. وأما التلمساني ونحوه فأبلغ من هؤلاء.
وأما هذا الكلام المذكور المضاف إلى سعد الدين بن حمويه فهو مركَب من مذهب المسلمين وسائر أهل الملل الذي جاءت به الرسلُ عن الله، ومن مذهب هؤلاء الاتحادية، وهو إلى الاتحادية أقرب، وما فيه من الإلحاد فهو يُشبِه قولَ صاحب "الفصوص" من وجهٍ، وقولَ صاحبِه الرومي من وجهٍ، وليس مَثلَهما. وذلك أنه جعل ثبوتَ الحقائق في علم الله بمنزلة ثبوتها في الخارج ليجعل التجلي عليها، وثبوتُ الحقائق في علم الله صحيح، لكن يمتنع أن يحصل التجلّي على شيء عُلِمَ قبلَ أن يُوجَد. ثم جعل تجلِّيَ الحقّ لها بمنزلة ظهور وجودِه في الأعيان الممكنة.
فهذا القول أقل كفرًا، لكنّه أظهرُ تناقضًا، فإنه لم يُصرِّح بأنّ وجودَها عينُ وجودِه، ولا صرّح بثبوتِ ذواتها، لكنّه زعم أن تجلّيه لأعيانها الثابتة في علمه، مثلَ ما ذكرَ صاحبُ "الفصوص" أنه حصولُ وجودِ الحقّ في أعيانِ الممكنات. وتكلّم في التعيّن بكلامٍ قاربَ مذهبَ القونوي، كما سنذكره إن شاء الله.
وهذا التفصيل الذي نذكره نحن لمذاهب هؤلاء أكثرُهم لا يفهمونه، ولعل فاضلَهم يَفهم بعضَ مذهبَ نفسِه فقط، لأنها أقوال هي في نفسِها متناقضة، فاضطربوا فيها كما اضطربت النصارى في الأقانيم وفي الحلول والاتحاد. وهذا شأن الباطل، كما قال تعالى.
(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9))
(1)
، وكما قال تعالى.
(1)
سورة الذاريات: 8 - 9.
(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82))
(1)
.
فصاحبُ هذا القول يقول: "هو في كانه يتجلَّى لنفسه بوحدتِه الذاتية، يشهد نفسه ويشهد الحقائق الكونية المعدومة في نفسها المشهودة له، فلما أراد أن يعرض نفسه على تلك الحقائق نزل التجلي من كانه إلى شأنه التي يظهر فيه الحقائق الكونية، فظهر هو في تلك الحقائق".
وهنا يضطرب أمرُه، فلم يُصرِّح بأن وجودَه قامَ بالأعيان الممكنة كما صرَّح ابن العربي، فيكون اتحاديًّا محضًا، ولا اكتفَى بمجرَّد كونِه يَعلم أن تلك الحقائق أو بعضها ستعلمه كما هو الواقع، فإن الله إذا عَلِم الأشياء وعَلِمَ أنها ستعلمه لتكن حينئذٍ قد صارت موجودةً عالمةً حتى توجد. بل استعملَ اللفظ المشترك كما فعلَه في عين الحقّ، فجعل ثبوتها في علمه بمنزلة ثبوتها في الخارج، وظهوره لها علمًا بمنزلة ظهور وجودِه في ذواتها.
فتدبَّر هذا، فإنه يُبين حقيقةَ مطلوب هذا، ومعلومٌ أن وجودَه الذاتي إن ظهر في الأعيان فأول ما يظهر باسم "أنا"، لأنه على زعمهم في وحدته الذاتية لا يتعين، ولا يكون له اسمٌ إلاّ إذا ظهر في أعيان الحقائق المعلومة، عند هذا وعند ذاك ظهرت، وهذا التعيين هو النقطة الذي قد سماها عقدة حقيقة النبوة، وهو صورة علم الحق بنفسه الواقعة بصورة العمل المطابقة للصفة المعلومة،
(1)
سورة النساء: 82.
وذلك لأن الحق كان متجليًا نفسه لنفسه، ثم لما نزلت الحلية من كانه إلى شأنه تجلَّى للأعيان المشهودة له، وأعظمها حقيقة النبوة التي هي الإنباء والإخبار عن الوجود المطلق الذي كان في كانه.
فهذه النقطة هي في مشهوداته مطابقة لعلمه بذاته. ولهذا كانت صورة علم الحق بنفسه المطابقة للصفة المعلومية لأنه كان يعلم نفسه، وتجلَّى لهذه النقطة كما تجلَّى لنفسه، فصار شهودُها له مطابقًا لشهوده لنفسِه، ولهذا قال: فصارت مرآةً لانعكاس الوجود المطلق محلاًّ لتميّز صفاته القديمة.
لأن الذي كان في كانه من تجليه لنفسه بوحدته المطلقة ليس فيه عندهم صفات متميزة ولا أسماء، وهذا متفق عليه بين الاتحادية أنه الحق عندهم في نفسه، ليس له اسم ولا صفةٌ أصلاً. وهذا وإن كان مطابقًا لقوله غالية الصابئة الفلاسفة والباطنية الذين يقولون: الحق الأول ليس له اسمٌ ولا صفةٌ، ولا يقولون: هو عالم ولا قادر ولا موجود، ولا يقولون: يعلم ولا يقدر ولا غير ذلك، فأولئك إذا حكى عنهم أنه يجعلونه عينَ مخلوقاته، فإن كان أولئك يجعلونه ساريًا في المخلوقات فقولهم هو قول هؤلاء الملاحدة. وهذا صحيح، فإني وقفتُ على مقالة غلاةِ الإسماعيلية والنصيرية في كتبهم التي يَضنُّون بها إلاّ على خواصّ أكابرهم، فرأيتهم يصرِّحون فيها بنفي الصانع الخالق وجحوده بالكلية، كالمذهب الذي ذكره الله عن فرعون وحِزبِه، وعن الذي حاجَّ إبراهيم في ربّه. وهكذا حكى عنهم من وقف على سرّ دعوتهم، كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني والقاضي أبي يعلى والقاضي أبي بكر ابن العربي، وقد ذكر كلامهم
والردّ عليهم أبو عبد الله البصري وأبو الوفاء ابن عقيل وأبو حامد الغزالي وأبو القاسم الشهرستاني وغيرهم.
وأما غالبُ الخلق فإنما ينقلون عنهم ما يظهره لهم من دون هؤلاء، وهو نفي الأسماء والصفات عن ذاتِه، كما يُظهِره هؤلاء الاتحادية، ليظنّ الجهال أن هذا تحقيق عظيم وتوحيد تائمٌ، وليقربوا بذلك من الصابئة الفلاسفة الذين يقولون:[ليس] له إلاّ صفة سلبية أو إضافية.
وقريبٌ منه مذهب الجهمية النافية للصفات، فإن هؤلاء لا ينفون الأسماء ولا الأحكام التي هي الصفات القولية الخبرية، وهو الإخبار عنه بأنه يخلق ويرزق، وإنما ينفون المعاني التي يستحقها بنفسه. وقد قَرَّرتُ فسادَ مذاهب هؤلاء في مواضع، وبيّنتُ في مخالفتَها للكتاب والسنة والإجمَاع ولفطرة الله التي فطر الناس عليها، وفسادها بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة.
وقد رأيتُ هؤلاءِ الغالية من الإسماعيلية الباطنية قالوا في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي هو الدرجة السابعة، وهو آخر المراتب عندهم، وهو جحود الصانع بالكلية وجحودُ النبوات والشرائع والجزاء في الآخرة، قالوا: إن أقرب الطوائف إليهم هم المتفلسفة الصابئة، قالوا: لكن ليس بيننا وبينهم خلافٌ إلاّ في واجب الوجود، يعنون الذي صدرتْ عنه الممكنات، فإنهم يُثبتونه ونحن لا نُثبته.
وهكذا حدثني بعض أكابر مشايخ هؤلاء الاتحادية، وكنتُ لما بينتُ له حقائقَ أمرِهم يتعجبُ من ذلك ويستعظمه ويقول: هؤلاء الفقهاء لا يفهمون هذا، صُمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون، حدثني أن
سعد الدين ابن حمويه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلاّ فرقٌ لطيف. وهذا حقيقة هذا القول المحكيّ عنه، فإن الإلحاد المحض نفي الصانع بالكلية، وأن هذا العالم الموجود ليس له صانع، فإذا قال القائل: إن هذا العالم الموجود هو الصانع، وهو الصانع المصنوع، فقوله مثل قول الملحدة المحضة في جحود ربّ العالمين. لكن ذاك لا يحتاج أن يقول: ظهرَ فيه صانعُه، وهذا يقول: هو صانعُه وما هو غير صانعه، لكن الصانع له ذات، وهو الوجود المطلق المرئي الذي له اسم ولا صفة، وله أسماءٌ وصفات، وهي نسبةُ ذلك الوجود إلى مظاهرِه ومجاليه أو نحو هذه العبارات التي ليس لها حقيقة في الخارج، وإنما كلّ منهم يتخيَّلُ نوعًا من الكفر ويقوله، ويقول: إنه غاية التحقيق ونهاية التوحيد وحقيقة النبوة، فيحتاج أهل العلم والإيمان إلى مجاهدتهم بالقلب واليد واللسان، فيحتاجون إلى شرح مقاصدهم -لتتبيَّنَ أنواع كفرهم، ولئلاّ يحسب الجهّال بهم أنَّ تحتَها حقائق إيمانية، فيؤمنون بالجبت والطاغوت مجملاً أو مفصَّلا، لأنهم منتسبون إلى الإسلام ومدَّعون أنهم سادات العالم وأفاضل الخلق، حتى قد يتفضلوا على الأنبياء -كاحتياج موسى إلى جهادِ فرعون، وإبراهيم الخليل إلى مناظرة الذي حاجَّه في ربّه، واحتياج المؤمنين إلى جهاد القرامطة الباطنية، فالله يفتح بين أهل العلم والإيمان
(1)
.
(1)
انتهى ما في الأصل. وكتب بعده فيه: "بياض كبير".