المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ليس فيها ما يعتمد عليها في إثبات الأحكام الشرعية - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ نماذج من الأصول الخطية

- ‌مسائل من الفتاوى المصرية

- ‌ اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين

- ‌هذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير

- ‌ لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود

- ‌ أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ:

- ‌الصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب

- ‌منزلةُ الصديقِ والفاروقِ

- ‌ ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة

- ‌الشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر

- ‌ فسادُ استدلال الجهمي من وجوه:

- ‌ الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين:

- ‌ من ظنَ أن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ

- ‌ تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ

- ‌إن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها

- ‌ مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه

- ‌الصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء

- ‌ إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز

- ‌ يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه

- ‌ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة

- ‌الصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه

- ‌ تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء

- ‌ الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه

- ‌القراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة

- ‌ القبور ثلاثة أقسام:

- ‌منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه

- ‌القبورُ المختلَفُ فيها كثيرة

- ‌ ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها

- ‌ الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ

- ‌الاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز

- ‌ يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين

- ‌ يجوزُ تغسيلُه

- ‌يجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت

- ‌تجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر

- ‌ الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون

- ‌ لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد

- ‌أما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ

- ‌ يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ

- ‌ غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء

- ‌من ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ

- ‌ ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين

- ‌أما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء

- ‌ ذهب إليه طائفة من المتأخرين

- ‌الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى

- ‌ليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية

- ‌ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه

- ‌على العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام

- ‌من شبه الله بخلقه فقد كفر

- ‌الناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ:

- ‌لا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله

- ‌مسائل وردت من الصلت

- ‌مسائل متفرقة

- ‌ مسألة الضمان

- ‌رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه

- ‌ الثانيقوله: "يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه

- ‌ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء

- ‌ مذهب المسلمين وسائر أهل الملل

الفصل: ‌ليس فيها ما يعتمد عليها في إثبات الأحكام الشرعية

أبي إسحاق الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك: الحديث الذي جاء في البر بعد البر أن تُصلِّيَ لأبويك مع صلاتك، وتصوم لهما مع صيامك، قال فقال عبد الله: يا أبا إسحاق! عمن هذا؟ قلت له من حديث شهاب بن خِراشٍ، قال ثقة، قال: عمن؟ قلت: عن الحجاج بن دينار، قال: ثقة، عمن؟ قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا أبا إسحاق! إنَّ بين الحجاج بن دينار ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوزَ تَنقطعُ فيها أعناق المَطِيِّ. وليس في الصدقة خلاف.

ولو احتجّ في هذا الباب بحديث عمرو لكان أقوى، كما في مسند أحمد

(1)

عن عبد الله بن عمرو أنَّ العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن يذبح مائة بَدَنةٍ، وأن هشام بن العاص نحرَ حصتَه خمسين، وأن عمرًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"أما أبوك فلو أقرَّ بالتوحيد فصمتَ أو تصدقتَ عنه نفعه ذلك". وقد رواه أبو داود

(2)

، ولفظه:"لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه نفعَه ذلك". وهذا اللفظ إنما فيه الأعمال المالية.

وقد احتجّ بعض المتأخرين من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما بأحاديثَ رُوِيتْ فيمن مرَّ على القبور فقرأ كذا وكذا، و‌

‌ليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية

. وقد قدَّمنا أنه ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارضَ لها أن الوليَّ يصومُ عن الميتِ الصومَ الذي نذره كما يحجُّ عنه، وقد جاء ذكرهما في حديث صحيح

(1)

2/ 181.

(2)

برقم (2883).

ص: 258

رواه مسلم

(1)

وغيره عن بُريدةَ بن الحُصَيب أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفيُجزئ أو يقضي أن أصوم عنها؟ قال:"نعم"، وفي رواية: وعليها صوم، أفأصوم عنها؟ قال:"صومي عنها"، قالت: يا رسول الله! إنها لم تحجَّ، فقال؟ "حُجِّي عنها".

ولا يقال: هذا مختصّ بالولد، ففي الصحيحين

(2)

عن ابن عباس: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أختي ماتت، وعليها صوم شهرين متتابعين، قال:"أرأيتِ لو كان على أختِكِ دَين أكنتِ تقضيه؟ " قالت: نعم، قال:"فحقُّ الله أحقُّ". وفي رواية

(3)

: أن امرأة ركبتْ في البحر، فنذرتْ إن نَجَّاها الله أن تصوم شهرًا، فأنجاها الله، فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرتْ ذلك، فقال:"صومي عنها".

وأيضًا فقوله في الحديث الصحيح: "صام عنه وليُّه" يتناول الولد وغيره ممن يكون وليا للميت، فلا يجوز أن يقال: الحكم مختص بالولد.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح

(4)

: "إذا مات ابن آدم

(1)

برقم (1149). وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 349، 351، 359، 361) وأبو داود (1656، 2877، 3309) والترمذي (667، 929) وابن ماجه (1759، 2394).

(2)

البخاري (1953) ومسلم (1148).

(3)

لأحمد (1/ 216).

(4)

مسلم (1631) عن أبي هريرة.

ص: 259

انقطع عملُه إلاّ من ثلاثٍ: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له". فهنا خصّ الولد بالذكر لأنه استثناه من عمل الميت، وولُده من كَسْبِه، كما قال تعالى:(مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2))

(1)

وإن ولده من كَسْبه. وقد قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له: إن أبي أراد أن يجتاحَ مالي، فقال:"أنت ومالك لأبيك"

(2)

. وقد قال تعالى: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49))

(3)

، فَجعل الولد موهوباً للوالد، فجعل بيت الولد بيت الرجل في قوله تعالى:(وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ)

(4)

ولم يذكر بيوت الأولاد، لأن بيت ولدك بيتك، وهذا الحكم مختص بالأب فإنه المولود له، كما قال تعالى:(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)

(5)

.

فلما كان الولد من كسب الوالد استثناه من عملِه المنقطع، كما استثنى ما ينفق من الصدقة والعلم النافع، وهذا مما احتج به من يقول: إن مال الابن للوالد بمنزلة المباح، فيُهْلِكُ منه ما لا يضرُّ بولده. وهذا الحديث لا يدل على أن غير الولد لا ينفع دعاؤه

(1)

سورة المسد: 2.

(2)

أخرجه، ماجه (2291) عن جابر بن عبد الله، وفي الباب عن جماعة من الصحابة خرَّج أحاديثهم وتكلَّم عليها الألباني في "إرواء الغليل"(838) وصحَّحها.

(3)

سورة الشورى: 49.

(4)

سورة النور: 61.

(5)

سورة البقرة: 233.

ص: 260

للميت، فإن هذا خلاف إجماع المسلمين. إذ هم متفقون على أن الدعاء والصلاة على الميت ينتفع بها، سواء كانت من ولده أو من غير ولده، فهذا بيان أن الحكم لا يختص بالولد أن ذلك لوجوب حقهما، فلا حاجةَ إلى تعليل ذلك بوجوب حقهما.

وأما جوابه لمن قال له: "النبيُّ قد دعا إلى كل خير، فله أجر من اتبعه " بأنّ الواحديَّهَ لله حق ثابت، وكل شيء له، ونحن نتقرب إليه بشِقِّ تمرة -فهذا مثلٌ ضعيف، وذلك أن الأشياء كلها لته ملكٌ له، إذ هو خالقها وربّها ومليكها، وله أسلمَ من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا، وهذا الملك لا يتعلق به ثوابُ العباد ولا عقابُهم ولا وعدُهم ولا وعيدُهم، فإن هذا حكم ربوبيته الشاملة وقدرته الكاملة، التي تتناول المؤمن والكافر والبرّ والفاجر، وأما تقربُ العباد إليه فهو بالفعل الذي يحبه ويرضاه لهم، وهذا مما افترقوا فيه. فبعض العباد آمنَ به وعبدَه وأطاعَه وفعلَ ما يحبه ويرضاه، وبعضهم كفرَ به وفسقَ وعصى، وكلاهما يتناوله حكم ربوبيته وقضائِه وقدرِه، والذي يتقرب إليه بشقِّ تمرة إذا أقرضَه قرضًا حسنًا لم يدخل في ملكه ما لم يكن فيه، بل جميع ما بذله بل هو وفعله وقدرته داخل في ملك الرّب وقدرته، سواء كان المبذول من رضاه أو سخطه، لكن بِبذلِه في الجهة التي يُحِبُّها ويرضاها صار العبد مستوجبًا لما وعده في تلك الجهة، كما أن حركات بدنه هي مخلوقة له على كل حال، فإن كانت حركة يحبها ويرضاها أثابه عليها، وإن كانت حركة يكرهها ويسخطها عاقبه عليها، وهذا يتعلق بحكم إلهيته وأمره الديني الشرعي الذي هو

ص: 261

الفارق بين أوليائه وأعدائه. قال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35))

(1)

، وقال تعالى:(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21))

(2)

، وقال تعالى:(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28))

(3)

. والأول يتعلق بحكم ربوبيته وأمره الكوني الشامل لوليه وعدوه، كما قال:(مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56))

(4)

.

وقد بسطنا الكلام على هذا المقام الذي ضلَّت فيه أممٌ من الأنام، وبينا الفرقَ بين كلماته الدينية والكونية، وإرادته الكونية والدينية، وإذنه الكوني والديني، وكذلك حكمه، وأمره، وتحريمه، وبعثه، وإرساله، والفرق بين الحقيقة الكونية التي يُقِرُّ بها المشركون وهي الحقيقة القدرية، وبين الحقيقة الدينية الحَي يختص بها المؤمنون، وكيف اشتبه على كثير من الخائضين في الحقيقة هذا الباب بهذا الباب، حتى لم يفرقوا بين الهدى والضلال، والرشاد والغي، والخطأ والصواب، بل آل الأمر بكثير منهم إلى أنهم لم يفرقوا بين الخالق والمخلوق، حتى دخلوا في الحلول والاتحاد الذي هو من أعظم الكفر وأكبر الالحاد، فالأشياء

(1)

سورة القلم: 35.

(2)

سورة الجاثية: 21.

(3)

سورة ص: 28.

(4)

سورة هود: 56.

ص: 262

التي هي لله إذا جعلناها له وتقربنا بها إليه بحكم ربوبيته، فليست هذه الإضافة تلك الإضافة، فإن تلك الإضافة إضافتهٌ بحكم ربوبيته، وهذه إضافة إليه بحكم ألوهيته، كما أن لفظ العبد يعني به المعبَّد، فجميع الخلق عباد الله بهذا الاعتبار حتى الكفار والفجار، قال تعالى:(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93))

(1)

، وقد يعني به العابد، فيَختص به المؤمنين الأبرار، كما قال تعالى:(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)

(2)

، وقال الشيطان:(وَلَأُغْوِيَنَهُم أَجمعِينَ (39) إِلَّا عبادَكَ مِنهُمُ اَلمُخلَصِينَ (40))

(3)

، وقال:(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)

(4)

، وقال:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)

(5)

، وقال:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)

(6)

، وقال:(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10))

(7)

.

وبهذا يظهر الفرق بين قوله: (وَطَهِّر بَيتِيَ)

(8)

وقوله: (نَاقَةَ الله وَسُقياهَا (13))

(9)

، وبين سائر البيوت والنُّوقِ، فإن سائر البيوت

(1)

سورة مريم: 93.

(2)

سورة الحجر: 42.

(3)

سورة الحجر: 39 - 40.

(4)

سورة الإنسان: 6.

(5)

سورة الفرقان: 63.

(6)

سورة الإسراء: 1.

(7)

سورة النجم: 10.

(8)

سورة الحج: 26.

(9)

سورة الشمس: 13.

ص: 263

والنوق وإن كانت ملكًا لله لكن ليست محلَّ عبادتِه وطاعته والصلاة عليه، كالمساجد التي هي بيوت عبادته، لا سيما المسجد الحرام الذي هو بيت الطواف ببيته والعكوف وتضعيف [الأجر فيه]، فالإضافة العامة بحكم الربوبية الخلقية، وهذه الإضافة الخاصة بحكم الألوهية الأمرية. وكذلك الناقة التي جعلها آية له وجعلها من شعائره وحرماته التي يجب تعظيمها، فالفرق بين هذا البيت وبيت الكنيسة مثلاً كالفرق بين المؤمن الذي هو عبد الله والكافر الذي هو خلقه، وهو معبَّدٌ له وإن كان لا يعبده، وكذلك قوله عز وجل:(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)

(1)

، وقوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)

(2)

، فإضافةُ الأنفال والخمس إليه كالإضافة العامة الثابتة لكل مخلوق، كقوله:(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)

(3)

. بل هذه الإضافةُ بحكم أمره ودينِه الذي بعث به رسوله، ولهذا قَرنَ هذا بالرسول، فإنّ أمْرَه الذي أمرَ به ما يُحبُّه ويَرضاه هو ما جاء به الرسول، وهذه الأموال الشرعية التي يحكم بها بأمر الله ورسوله ليست كالأموال التي ملكها لعباده.

ولهم أن يفعلوا فيها ما أحبوا إذا لم يكن محرمًا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"إني والله لا أعطي أحدًا ولا أمنع أحدًا، وإنما أنا قاسمٌ أَضَع حيثُ أُمِرْتُ"

(4)

.

(1)

سورة الأنفال: 1.

(2)

سورة الأنفال: 41.

(3)

في مواضع كثيرة من القرآن.

(4)

أخرجه البخاري (71 ومواضع أخرى) ومسلم (1037) عن معاوية.

ص: 264

وهذا باب قد نبهنا على أصله، وبينا الفرقَ بين النوعين، وإذا كان كذلك ظهر ضعف القياس الذي قاسَه، وتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عمل المؤمن من أمته عملاً فله مثل أجره، فإذا أهدى له ثوابه فإنما أهدى له مثل ما حصل للرسول سواء بسواء، وهما من جنس واحد ومقدار واحد، وإنما ملكه الرب لعباده إذا أنفقوه في طاعته، فليس كونه أنفق حيث يحبه ويرضاه مثل كونه مملوكًا ملكًا قدره وقضاه.

يُبيِّن هذا أن الله سبحانه هو يملك الأموالَ المحرمة في الشريعة، فالظالم والغاضب إذا أخذ مالاً فالله هو أيضًا مالكه، وقد ملَّكَه إياه قدرًا لا شرعًا ودينًا، ولو أنفقَ منه لم يتقبل الله منه، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يتقبل صلاةً بغير طهورٍ ولا صدقةً من غلولٍ" رواه مسلم

(1)

وغيره، فالنفقة المقبولة لابد أن تكون من مال أُذِنَ في إنفاقه شرعًا، لا يكفي الإذن القدري الكوني، واسم الرزق في كتاب الله يُرادُ به ما مُلِكَ شرعًا ويراد به ما يتنعَّم به الحيُّ، فالأول يختص بالحلال، والثاني يتناول كل ما ينتفع به الحيوان وإن [كان] مما لا يملك كالبهائم، وإن كان حرامًا، فالأول كقوله (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3))

(2)

، والثاني كقوله:(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)

(3)

. والقدرية منعوا أن يكون الحرام مرزوقًا

(1)

برقم (224) عن ابن عمر. وأخرجه أيضًا أحمد (2/ 19، 39، 51، 57، 73) والترمذي (1) وابن ماجه (272).

(2)

سورة البقرة: 3.

(3)

سورة هود: 6.

ص: 265

بناءً على أصلهم في أن الله لم يخلق أفعال العباد، فتناول العبد له ليس عندهم مقدورًا لله، ولا هو ملكه إياه، وهو قول باطل.

فإن قيل ما ذكره المعترض عليه -من كون النبي صلى الله عليه وسلم له مثل

أجور أمته، فلا حاجةَ إلى الإهداء- ضعيف من وجهين:

أحدهما: أن الابن من كَسْبِ أبيه، ودعاؤه مستثنى من عمله المنقطع، ومع هذا فالابن يتصدق عن أبيه بالسنة والإجماع، وكذلك يحج عنه، بل ويصوم عنه، بالسنة الصحيحة.

الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حصل له مثل أجر العالم من أبيه أمكن أن يحصل له مثل ذلك أيضًا بطريق الإهداء إليه، فلا منافاةَ بين الأمرين.

قيل عن الأول من وجهين:

أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للأب مثلَ عملِ جميع أمته، ولا يعلم دليلاً على ذلك، وإنما جعل ما يدعوه الابن له من عمله الذي لا ينقطع، بخلاف الداعي إلى هدى كان له، حصل له مثل أجر المدعوّ، وهذا الفرق ظاهر، وهو أن الداعي إلى هدى أراد إرادة جازمة فعلَ ذلك الهدى بحسب قدرته، وهو لم يقدر إلا على الأمر به والدعاء إليه، ومن أراد عملاً إرادةً جازمة وعمل منه ما يقدر عليه كان بمنزلة العامل له، كما قد بسطنا هذه المسألة في غير هذا الموضع، وبينا فصلَ الخطاب فيما تنازع الناس فيه من الإرادة ونحوها من أعمال القلوب إذا لم يدربه من عمل الجوارح، هل

ص: 266

يترتب عليه عقاب أم لا؟ فمن الناس من جزم بالأول، ومنهم من جزم بالثاني، وقد يحكى ذلك إجماعًا.

واحتجّ هؤلاء بأحاديث الهمِّ

(1)

ونحوها، وهؤلاء بقوله؟ "إنه أراد قتلَ صاحبه"

(2)

، وقوله:"فهما في الأجر سواءٌ"

(3)

ونحوهما.

وقد بينا أن الإرادة الجازمة لابد أن يدربها من عمل الجوارح ما يَقدر عليه العبد، وحينئذٍ فيترتب عليها العقاب، كالذي يَهُمُّ بالذي يتمنى وينظر، ويفعل بعض المحرمات ويترك الباقي عجزًا، كالذي أراد قتل أخيه بذل مقدوره في قتله حتى قتل، بخلاف من هَمَّ ولم يفعل مقدورَه كالذي همَّ بسيئةٍ ولم يفعلها أصلاً، فهذا لا تكون إرادته جازمةً. وكذلك قوله:"فهما في الأجر سواء، وهما في الوزر سواء"، لأن كلاًّ منهما قال بلسانه: لو أن لي مثلَ ما لفلانٍ لفعلتُ فيه مثلَ ما فعل، فلما أراد إرادة جازمة وفعل مقدوره صار كالفاعل.

والله تعالى في كتابه ذكر الفعلَ، وذكر ما يتولَّد عنه، وجعله من عملِ العبد، كما في قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ

(1)

منها حديثا أبي هريرة وابن عباس في الصحيحين، انظر صحيح البخاري (42، 6491) وصحيح مسلم (128 - 131).

(2)

أخرجه البخاري (31، 6875، 7983) ومسلم (2888) عن أبي بكرة.

(3)

أخرجه أحمد (4/ 230، 231) والترمذي (2325) وابن ماجه (4228) عن أبي كبشة.

ص: 267

الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

(1)

، فهذه الأمور لم يفعلوها، ثم قال:(وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ)

(2)

، فالإنفاقُ وقطع الوادي نفس عملهم، فكتب، وما تقدم أثر عملهم الصالح، فكتب لهم به عمل صالح، كدعاء الولد فإنه أثر عمل الوالد، وإن كان الوالد لم يقصد دعاءه، كما لم يقصد هؤلاء ما حصل من الظمأ والمخمصة والنصب، وأما الداعي إلى الهدى فهو قصد هدى المدعوين ولم يفعلوا ما أمرهم به، وبذل مقدوره في فعلهم، فصار قاصدًا للفعل عاملاً ما يقدر عليه في حصوله، فله أجر الفاعل، وكذلك من سَنَّ سنةً حسنةً ومن سَنَّ سنة سيئةً، والبيان للفعل الذي هو رَسَمَه ليُحتَذَى، فهو يقصد أن يُتَّبع فيه.

فإن قيل: فقد ثبت في الصحيحين

(3)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تُقتَل نفسٌ ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها، لأنه أول من سنَّ القتلَ". وهو لم يقصد أن يقتل كل قاتل.

قيل: هو صلى الله عليه وسلم لم يقل هنا إنَّ عليه مثلَ ألمِ كل قاتل، بل قال:"عليه كِفلٌ من دمها"، لأن ذلك من أثر فعلِه، كما كتب ابتداءً بهذا الفعل، وقد قال تعالى في حق أئمة الكفر: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ

(1)

سورة التوبة: 120.

(2)

سورة التوبة: 121.

(3)

البخاري (3335، 6867، 7321) ومسلم (1677) عن ابن مسعود.

ص: 268

مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13))

(1)

، وقال:(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ)

(2)

. فما تولد عن فعل العبد يحصل له منه ثواب وعقاب وإن لم يقصده، ولكن حصول مثل أجر العامل فرع أخص من ذلك.

الجواب الثاني، وهو من الوجه الثاني بأن يقال: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحصل له مثل أجر العامل، فأهدى له العامل عملاً، فلابدَّ أن يُثابَ العاملُ على إهدائه، فيكون للنبي صلى الله عليه وسلم بمثل إهداء الثواب أيضًا، فإهداءُ هذا الثواب إن جُوِّزَ لزم التسلسلُ، وإن لم يُجوَّزْ فما الفرق بين عمل وعمل؟ بَخلاف الولد إذا بَرَّ والدَه بدعاءٍ أو صدقةٍ عنه أو نحو ذلك، فإن الله يُثيب الولدَ على ذلك، ولا يلزم أن يحصل للوالد مثل أجر الابن وإحسانه إلى أبيه، لأن الأب لم يدعه إلى هذا الإحسان. ولا يلزم من صلَّى منا أو سلَّم عليه بأن الله يصلّي على المصلِّي عشرًا، ويُسلِّم على المسلم عشرًا، ويحصلُ للرسول مثلُ ذلك لدعائه إلى هذا الهدى، ولا يُفضِي إلى هذا التسلسل، فإن هذا الأجر ليس من عمل المصلي، بخلاف ما إذا أهدى الثواب، فإن إهداء الثواب عمل فيلزم أن يحصل له مثلُه، فإن جوزنا أن يهدى ثواب الإهداء لزم التسلسل. فنحن بين أمرين: إما أن نقول: يُهدَى إليه عملٌ، فيلزم أن يُهدَى إليه ثواب الإهداء،

(1)

سورة العنكبوت: 12.

(2)

سورة النحل: 25.

ص: 269

وهلم جرًّا، [وهذا] يلزم التسلسل. أو نقول: لا يُهدى إليه، بل ما حصل له من الأجر المساوي لأجر العامل هو غاية المقصود، وعلى هذا لا يحصل التسلسل. وعلى هذا فيقال: لا يُهدى إلى من له مثل ثواب العامل كالنبي صلى الله عليه وسلم وكالمعلم للخير من الشيوخ ونحو ذلك، وهذا موافق لطريقة السلف في كونهم لم يكونوا يُهدُون لمثل هؤلاء لا ثواب العباداتِ البدنية ولا المالية.

وأما تضحية علي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن صحَّ ذلك فإنه كان بإذنه، كما لو وصَّى بصدقة وغيرها فإنها تنفذُ باتفاق المسلمين، فإن الوصي بمنزلة الوكيل في ذلك، والمُوصِيْ هو العامل لذلك في الحقيقة، كالمستنيب في إيتاء الزكاة وفي ذبح الأضحية وغير ذلك، فليس هذا من هذا، وإنما كانوا يدعون لهم.

ولكن يقال: هَبْ أن هذا مستقيم فيما يعمله الإنسان لنفسه من الفرائض والنوافل، فإذا أنشأ عملاً آخر ليجعل ثوابه لهم فما المانع من ذلك من العبادات البدنية والمالية؟ وهلَاّ كان السلف يتصدقون ويحجون ويعتمرون ويذبحون عن أئمتهم الذين علّموهم الدين؟

وسيد هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين.

فيقال: الجواب عن هذا هو الجواب عن الأول، وذلك أنهم إذا أَهْدَوا لهم ثوابَ عملٍ وجب أن يكون لهؤلاء أجرٌ على هذا الإهداء، وأن يكون لمن دعاهم إلى هذا الخير وعلَّمهم إياه مثل أجرهم كلى ذلك، وهذا الداعي إلى الخير عَنَى أن يهدى إليه ثواب

ص: 270

العمل، فلم يبق في الإهداء فائدة، بل فيه إخراج العامل الثوابَ عن نفسه من غير فائدة تحصل لغيره، إذِ العامل يثيبه الله على عمله، ويعطي من دعاه إليه مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئًا، فإذا أهداه وبَذَل ثوابه لغيره فإن لم يثب على هذا الإهداء بمثل ثواب العمل كان ذلك ضررًا في حقه، من غير منفعة حصلت للمهدى إليه، لأن هذا العامل فاته ثواب العمل أو كمال الثواب، وذلك المهدى إليه كان قد حصل له مثل هذا الثواب، فلم يحتج إليه. ولو قدرنا أنه يحصل له ثوابه مرتين فلا ثواب يبقى لهذا، فالله تعالى لا يأمر بمثل هذا ولا يشرعه، ولا يأمر أحدًا أن ينفع غيره في الآخرة بغير منفعةٍ تحصل له لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل الله تعالى إنما يأمر بالإحسان لأنه يجزي المحسنين على إحسانهم، والجزاء من جنس العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح

(1)

: "من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومن يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن سَتَر مسلمًا سَتَره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"، وقال

(2)

: "من صلى عليّ مرةً صلى الله عليه عشرا"، وقال

(3)

: "ما من مؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلاّ وكَّلَ الله به مَلَكًا، كلَّما دعا لأخيه بدعوة قال

(1)

أخرجه مسلم (2699) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه مسلم (408) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (2732) عن أبي الدرداء.

ص: 271

الملك الموكل: آمين، ولك بمثل". والأحاديث في ذلك كثيرة.

وإن قيل: إنه يثَاب على هذا الإهداء مثل ثواب العمل لزم أن يكون لمعلمه مثل ذلك ولزم التسلسل، فصار الأمر دائرًا بين ضرر العامل -والله لا يأمر به- وبين التسلسل في الجزاء على العمل الواحد، وهو ممتنع، فلهذا لم يشرع مثل ذلك.

فإن قيل: فهذا ينقض بدعائه لمن دعاه وعلَّمه ونحو ذلك.

قيل: هذا ونحوه من باب المكافأة، كما في الحديث

(1)

: "من أَسْدَى إليكم معروفًا فكافِئُوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه". وقد قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ (60))

(2)

. وهم إذا كافأوا المحسنَ بالدعاء انتفع بدعائهم له، وحصل لهم ثوابُ المكافأة، فحصل له مثل ثوابهم على المكافأة التي دعاهم إليها فلم يتضرر، وإن لم يتسلسل الأمر بل يكون فعلهم المكافأة له لفعله المكافأة لغيره وسائر ما يعملونه من العدل والإحسان الذي دعاهم إليه.

ولهذا جاءت الشريعة في حق نبينا صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه والتسليم وسؤال الوسيلة له صلى الله عليه وسلم تسليما، فنحن إذا صلينا عليه أُثِبْنَا على صلاتنا عليه، وله مثل ذلك الأجر لكونه هدانا إلى ذلك، وذلك من

(1)

أخرجه أحمد (2/ 68، 99، 127) والبخاري في الأدب المفرد (216) وأبو داود (1672، 5109) والنسائي (5/ 82) عن ابن عمر.

(2)

سورة الرحمن: 60.

ص: 272

المنفعة التي حصلت له بالدعاء. وبهذا تزول شبه تعرض في هذا الموضع، فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"من صلى عليّ مرة صلّى الله عليه عشرا" يوهم أنه يحصل للمصلي أكثر ما يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم مثلها، من جهة كونه دعاه إلى هذا الخير لا من جهة صلاة العبد، ويحصل بصلاة العبد أيضًا ما جعله الله لذلك.

فقد ظهر الفرق بين هذا وبين إهدائه لوالديه ونحوهم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة بالصدقة عن أمه ولم يكن واجبًا عليها، إذًا ثبت بالسنة أنه يفعل عن الوالد الواجب وغير الواجب، فقد ظهر الفرق من وجهين:

أحدهما: أنه لم يثبت أن كل عمل يعمله الولد يكون لأمه أو لأبيه مثل أجره، وإنما قال صلى الله عليه وسلم:"إذا ماتَ ابنُ آدم انقطع عملُه إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له"

(1)

. وفي الحديث الآخر: "إن الرجل إذا قرأ القرآن فإنه يُكسَى والداهُ من حُلَلِ الجنة"

(2)

، ويقال: بأخْذِ ولدِكما القرآن"، ونحو ذلك مما فيه أن الوالد يحصل له نفع وثواب بعمل ولده، لكن لا يجب أن يكون مثله، ولو كان لكل والد من عمل أولاده لكان لآدم

(1)

أخرجه مسلم (1631) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(20/ 72، 73) والبيهقي في "الشعب"(4/ 556، 557) عن معاذ بن جبل. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(7/ 160): فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك، وأثنى عليه هشيم خيرًا، وبقية رجاله ثقات.

ص: 273

من أعمال الأنبياء من ذريته، وكذلك نوح وغيره، وليس كذلك، بخلاف الداعي إلى الخير كنبينا صلى الله عليه وسلم، فإن له مثل أعمال أمته التي دعاهم إليها، فأجر المعلم الداعي للخير مثل أجر المدعوِّ العامِل، بخلاف الوالد والولد، ولهذا حقّ النبي وخلفائه في دعوته على المدعوين والمعلمين أعظم من حقوق الآباء، كما قال تعالى:(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)

(1)

، وفي القراءة الأخرى:"وهو أب لهم"

(2)

.

وقد تكلم الناس في هذا المقام بكلام كثير، قالوا: هذا هو الأب الروحاني، وهذا هو الأب الجثماني، وهذا هو سببٌ للسعادة الأبدية من الدار الآخرة، وهذا سببٌ لوجوده في الدنيا. وبالجملة فالداعي إلى الخير قصد أن يعمل المدعوُّ ذلك الخير، وسعى في ذلك بحسب وُسْعِه، فهو قد قصد العمل الصالح الذي فعله المدعو، أو قصد نفع المدعو، وأما الوالد فقد يقصد هذا وقد لا يقصدهُ، ولو قصده بالدعوة إلى حصول المدعو أقرب من نفس وجود الولد إلى حصول سعادته، فإنها هي السبب القريب ووجود السبب البعيد، ومعلوم أن الإنسان يجب عليه إن يطع معلِّمَه الذي يدعوه إلى الخير ويأمره بما أمره الله به ورسوله، ولا يجوز له أن يطيع أباه في مخالفة هذا الداعي، بل طاعة هذا الداعي طاعة لله ورسوله، وطاعة الوالد لمخالفة هذا الداعي طاعة

(1)

سورة الأحزاب: 6.

(2)

انظر تفسير القرطبي (14/ 123).

ص: 274

للشيطان، قال تعالى:(وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

(1)

، فوصاه سبحانه بوالديه، ثم نهاه عن طاعتهما إذا جَاهَداه على الشرك، فكان في هذا بيان أنهما لا يطاعان في ذلك وإن جاهداه، وأمرَ مع ذلك فصاحِبْهما في الدنيا معروفًا، وأمره باتباع سبيل من أناب إليه، وسبيلُ أهل الإنابة هي سبيل المؤمنين المتقين، أهل طاعة الله ورسوله. فالداعي إلى هذا السبيل هو أمر بما أمره الله به، فيجب عليه طاعته، فإذا أطاعه كان للداعي بمثل أجره. أما الوالد فيصاحبه في الدنيا معروفًا ويُحسِن إليه، وإن من يجب عليك طاعته إلي من تؤمر بمعاشرته بالمعروف والإحسان إليه وتُنهى عن طاعته إذا خالف الأول، فهذا المعلم فأجره أعظم وطاعته أوجب. وأما الوالد فلا يستحق مثل أجر الولد إذا لم يدعه إلى ما عمله، فيكون في الإهداء إليه تحصيل أجر لم يحصل له مثله.

وظهر الفرق الثاني، وهو أنه إذا لم يستحق مثل أجره أمكن أن يهدي إليه الثواب، ويثاب الولد على بِرِّهما بذلك، فيكون له مثل أجر بره لهما، فلا يُفضِي ذلك إلى التسلسل في ثواب العمل الواحد، ولا إلى تضرُّرِ الولد، فلهذا كان مشروعًا مسنونًا، ولو قُدِّر أن المعلم كان والدًا، وعلَّم ولدَه الخيرَ كلَّه، كان له مثلُ أجر عمل

(1)

سورة لقمان: 14.

ص: 275

الولد من حيث هو معلم، وله أجر بعمله الصالح، وإن لم يكن مثل أجر الوالد، والولد إذا تصدّق عن هذا من حيث هو والده كان هذا أيضًا مشروعًا لما تقدم.

وتبين بهذا الجوابُ عن الوجه الثاني، وهو قوله "يمكن حصول الثواب للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين" بوجهين أيضًا، أحدهما: أن ذلك يُفضِيْ إلى التسلسل، إذا كان للعامل بإهدائه مثل أجره وإن لم يكن له أجر، فقد تبين بما ذكرناه ما يعلم به جواب السؤال.

وقول القائل "حق النبي صلى الله عليه وسلم أوجب من حق الوالد" كلام صحيح، إذ حقه بوجوب طاعته، فله بمثل أجرها بخلاف الوالد كما تقدم.

وأما أزواجه أمهات المؤمنين فلهن من الاحترام ما ليس لأم الوالدة، ويحرم نكاحهن كما يحرم نكاح أم الولادة، لكن أم الولادة ذات محرم يجوز الخلوة بها والنظر إليها والسفر معها، كما يجوز لسائر ذوات المحارم. وأما أمهات المؤمنين فلا يجوز ذلك في حقهن إذ هن أمهات في الحرمة لا في المحرمية.

وأما قول القائل: "هلا فعل ذلك أبو بكر وعمر" فكلام صحيح، وأما قول الآخر "وما يُدرِيك قد فعلَه عليٌّ حينَ ضحَّى عنه" فليس بجواب صحيح، فإنا نعلم أنه لم يكن يفعل ذلك لا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وتضحية عليّ إن صحَّ الحديثُ فيها فإنما فعله بإذنه كما تقدم، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه من باب النيابة عن الوصي، وقد تقدم أن نفس حديث التضحية ما

ص: 276

يدل على أنه لا يفعل هذا وأمثاله بغير إذنه، فإن في الحديث أن حنش الصنعاني قال: رأيتُ عليًّا يضحِّي بكبشين، فقلت له: ما هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاني أن أضحي عنه، فأنا أضحي عنه. فسؤال حنش لعلي دليل على أنه لم يكن من المعروف عندهم أن تُفعَل العباداتُ البدنيةُ أو الماليةُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وجوابُ علي له بقوله "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاني أن أضحِّي عنه" دليل على أنه إنما فعل ذلك لأجل الوصية، وأنه لو لم يُوصِّه لم يفعل ذلك. ولو كان هذا ونحوه مما يُفعَل بوصية وبغير وصية لكان عليّ يجيب بهذا الجواب أيضًا، فإنه يكون أعم فائدة وأقطع لسؤال السائل، لأنه هو الذي نقل أنه وصاه، وأما كون ذلك يفعل عنه فدليل هذا يشترك فيه عليٌّ غيرَه، ثم كان ينتفع بذلك في جميع العبادات أو في العبادات المالية.

وأما قول القائل: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الناس إلى الهدى والخير كله، وله أجر كل من اتبعه" فكلام صحيح كما تقدم، لكن قد تقدم فساد هذا القياس وبطلان هذا، وتبين أن كونه سبحانه وتعالى مالكًا لكل شيء وربّه وخالقه لا يستلزم وجود الإيمان والعمل الصالح من العبد إلا بأمره بذلك وبهديه إليه، فإنه سبحانه رب المؤمن والكافر والبر والفاجر، وله الدنيا والآخرة، وهذه الربوبية العامة الشاملة لكل شيء يشترك فيها أولياؤه وأعداؤه، وأهل جنته وناره، وإنما يفترقون في توحيد إلهيته، وهي عبادته وحده لا شريك له وطاعته وطاعة رسوله، فمن قام بهذا التوحيد والطاعة كان مؤمنًا سعيدًا، ومن لم يقم بها كان كافرًا شقيا، وأنه

ص: 277

ربُّ هذا وهذا: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20))

(1)

.

وقد بسطنا الكلام على هذا الأصل العظيم في مواضع كثيرة، وبيّنا ما وقع من غلط الغالطين الذين لم يفرقوا بين الحقائق الكونية المتعلقة بمشيئته، وبين الحقائق الدينية المتعلقة برضاه ومحبته وإلهيته، فإن الحقيقة الكونية أقرَّ بها اليهود والنصارى بل المشركونِ عُبَّادُ الأصنام، كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)

(2)

، وقال تعالى:(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (85) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89))

(3)

.

وكثير من أهل السلوك يشهدون هذه الحقيقة وتوحيد الربوبية، فيظنون أنهم وصلوا إلى الغاية المطلوبة من أهل التحقيق والمعرفة والتوحيد، حتى إن منهم من يكون في الباطن من المعاونين للكفار والفسَّاق بحاله، ويظن أنه متصرف بأمر لمشاهدته الحقيقة الكونية،

(1)

سورة الإسراء: 18 - 20.

(2)

سورة لقمان: 25، سورة الزمر:38.

(3)

سورة المؤمنون: 84 - 89.

ص: 278

ومنهم من يظن أنه من وصل إلى مشاهدة هذه الحقيقة سقط عنه الأمر والنهي الشرعيان، ومنهم من قد يتوهم أن وجود الخالق هو المخلوق فيقع في وحدة الوجود، فيكون في أول أمره يقول

(1)

:

الربُّ حقّ والعبد حقّ يا ليتَ شِعْرِيْ مَنِ المكلَّفْ

إن قلتُ عبدٌ فذاك ربٌّ أو قلت ربّ أنَّى يُكَلَّفْ

وفي آخر أمره يقول: فالآمر الخالق المخلوق، والآمر المخلوق الخالق، والعلم والعالم هويته وصورته، وهو الموصوف بكل مدح وذم وكل جمال وكل نقص، وأمثال ذلك مما قد عُرِفَ من كلام هؤلاء الملحدين الذين يقولون من الكفر ما لم يقله اليهود ولا النصارى ولا عُبَّاد الأصنام، ويدَّعون أن هذا تحقيق وعرفان وتوحيد.

وأصل ذلك عدم الفرق بين ما يحبه ويرضاه وما لا يحبه ولا يرضاه، وإن كان قد قدَّره وقضاه، فيجعلون المخلوقات متساوية، ثم يسوُّون بين الخالق والمخلوق، ويجعلونه إياه، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، ولهذا يُفرق بين عباد الله: بين العبد الذي عبد الله بقدرته ومشيئته وربوبيته، وبين العابد الذي عبد الله فعبده وحده لا يشرك به شيئا، وأطاع أمره الشرعي الديني، فالأول كقوله تعالى:(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93)

(1)

انظر الكلام على البيتين وبيان ما فيهما من الإلحاد في "مجموع الفتاوى"(2/ 111 - 120).

ص: 279

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94))

(1)

، والثاني كقوله:(إِنَ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عَلَيهِم سُلْطَان)

(2)

، وقوله:(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)

(3)

، وقوله:(عَينًا يشرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجرُونَهَا تَفْجِيرًا (6))

(4)

، وقوله:(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً)

(5)

، (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ)

(6)

، (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)

(7)

، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10))

(8)

.

وقد بسطنا في غير هذا الموضع الكلام في الفرق بين الإرادة الكونية والدينية، كقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)

(9)

، وقوله:(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً)

(10)

، وبين الأمر الكوني والديني، والإذن الكوني والديني، والبعث الكوني والديني، والإرسال الكوني والديني، وكذلك القضاء والحكم والكتاب والتحريم وغير ذلك مما يفرق به بين الحقائق الدينية الإيمانية

(1)

سورة مريم: 93 - 94.

(2)

سورة الحجر: 42، سورة الإسراء:65.

(3)

سورة الفرقان: 63.

(4)

سورة الإنسان: 6.

(5)

سورة الإسراء: 1.

(6)

سورة الجن: 19.

(7)

سورة البقرة: 23.

(8)

سورة النجم:10.

(9)

سورة البقرة: 185.

(10)

سورة الأنعام: 125.

ص: 280

القرآنية النبوية الشرعية الإلهية الفارقة بين أولياء الله وأعدائه، والحقائق الكونية الوجودية الخلقية القدرية الملكية.

فإذا عُرِف هذا فتَقرُّبُ العباد بفعلِ ما أمرهم من صلاة وصدقة وغير ذلك مما يحصل لهم من الإيمان والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه ما يحصل ويستحقون به الثواب في الدنيا والآخرة، وليس بحاصل من مجرد كون الأشياء مخلوقة له، بل إنما يحصل من جهةِ أمره لما يحبه ويرضاه، وإرساله الرسل بذلك وإنزاله الكتب، ودعوتهم للعباد إلى ذلك، ثم هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم.

والتقرب إلى الله بالأعمال وطاعته منها ليس من جنس طاعة المخلوق المملوك لمالكه من وجوه كثيرة، أحدها أن الأمر كما قال قتادة: إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به حاجةً إليه ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلاً به، وإنما أمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عما فيه فسادهم. وأما السيد والملك فهو يأمر عبده وجنوده بما هو محتاج إليه. وفي الحديث الصحيح الإلهي

(1)

يقول الله: "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني". وفيه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسَه".

وقد قال سبحانه وتعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا)

(2)

،

(1)

أخرجه مسلم (2577) عن أبي ذر.

(2)

سورة فصلت: 46، سورة الجاثية:15.

ص: 281

وقال: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا)

(1)

، قال لقمان:(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)

(2)

، وقال:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97))

(3)

.

فهو سبحانه يبين غناه عن أعمال خلقه، وأنهم إنما يعملون لأنفسهم، وإنما هو سبحانه لكمال إحسانه وإنعامه على عباده المؤمنين أمرهم بالجهاد، وأمرهم بالصدقة، وأخبر أن ذلك نَصْرٌ له، وإقراضٌ منه، فقال تعالى:(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)

(4)

، وقال تعالى:(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً)

(5)

، وهم إنما يجاهدون ويتصدقون بإعانته لهم، وهو المحسن بالأمر إليهم، وهو المحسن بالإعانة لهم، وهو المحسن بالجزاء لهم، وقد قال تعالى (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)

(6)

.

وكذلك لو شاء أن يغني الفقراء فلا يقترض لهم من الأغنياء ما يثابون عليه إذا أعطوه لهم، وهذا النصر له والقرض بحكم إلهيته المتضمنة لعبادته وحده لا شريك له وطاعته طاعة رسوله، ثم الذي هو يخلق ذلك ويُبَشِّره بحكم ربوبيته، فله الحمد في الأولى

(1)

سورة الإسراء: 7.

(2)

سورة لقمان: 12.

(3)

سورة آل عمران: 97.

(4)

سورة محمد: 7.

(5)

سورة البقرة: 245، سورة الحديد:11.

(6)

سورة محمد: 4.

ص: 282

والآخرة، وله الحكم وإليه يرجعون. لا رب غيره ولا إله إلا هو، كما أنه هو المنعم بالنعمة، والمنعم بالشكر عليها، والمنعم بجزاء الشاكرين. ولهذا التوحيد أسرار علويةٌ مذكورة في غير هذا الموضع، تتعلق بتحقيق مسائل الصفات والشرع والقدر ليس هذا موضعها، قد نبهنا إليها في غير هذا الموضع.

فمن سوى بين

(1)

كان من جنس الذين قال فيهم (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ)

(2)

، فإن هؤلاء المجادلين جعلوا اقتراضه كاقتراض المخلوق من المخلوق لحاجته، وكيف يقترض من هو خالق المقترض والمقرض وخالق أعيان ذلك وصفاته وأفعاله، فمن جهة الربوبية العامة الشاملة للبر والفاجر جمع المقرض، ولكن تصح من جهة الألوهية التي أقر بها أهل التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا هو، وأنه المستحق للعبادة والطاعة دون من سواه، فيكونون عابدين له بالجهاد، ولهذا كان الكفار رحمة في حق المؤمنين الذين جاهدوهم فنالوا بجهادهم أعلى الدرجات، وكذلك وجود الفجار في حق من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر حتى ينال أعلى الدرجات. وكذلك وجود الفقراء في حق الأغنياء الذين بهم حصل لهم ثواب الصدقات، والله قد ابتلى بعضنا ببعض، فمن أعانه على أن أطاعه في الابتلاء كان الابتلاء رحمة في

(1)

بياض في الأصل بقدر كلمة.

(2)

سورة آل عمران: 181.

ص: 283

حقه، بخلاف من خذله فعصاه. ويشهد لهذا الحديثُ الذي في صحيح مسلم

(1)

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن بقضاءٍ إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سَرَّاء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء فصبر كان خيرًا له". فالمؤمن الذي منّ الله عليه بالشكر والصبر يكون جميع القضاء خيرًا له، بخلاف من لم يشكر ولم يصبر.

الوجه الثاني من الفرق: أن الله إذا أمر العباد بأمر فهو الذي يعينهم على طاعته فيه، فهو الآمر، وهو الخالق للمأمور والمأمور به لذاته وصفاته وأفعاله، فله الحمد في خلقه وأمره، والعبد إذا أمر العبد كأمر السيد عبده فهو محتاج إلى ما أمره به، وليس هو خالق أفعاله، بل إنما يفعله العبد بإعانة الله له، ولكن على السيد نفقته وكسوته بالمعروف، فالأمر بينهما فيه معاوضة. وكذلك معاملة المخلوق للمخلوق فيها معاوضة من الطرفين، هذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، وهذا يعين هذا بما لا يقدر عليه هذا، حتى تتم مصلحتها في الدنيا والآخرة، والخالق تعالى هو المعين للجميع، الخالق المحسن إلى الجميع، وأعظم نعمته عليهم أن أمرهم بالإيمان وهداهم إليه، فهؤلاء همِ أهل النعمة المطلقة المذكوريِن في قوله:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (7))

(2)

، كما قال تعالى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ

(1)

برقم (2999) عن صهيب، مع اختلاف في اللفظ.

(2)

سورة الفاتحة: 6 - 7.

ص: 284