الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه
بسم الله الرحمن الرحيم
.......... أهدابُ الجَفْن التحتاني، والتفرقة الملكية في العُلْوِيَّات أهدابُ الجَفْنِ الفوقاني، والنفسُ الكلّيةُ سوادُها، والروح الأعظم بياضُها، والله تعالى نورُها. وإنما قلنا: إنّ العُلْوِياتِ والسفْلِيّاتِ أجفانُ العين، لأنهما يُحافظان على ظهور النُّور، فلو قُطِعَتْ أجفانُ عينِ الإنسان لتفرق نورُ عينه وانتشرَ، بحيث لا يَرى شيئًا أصلاً، فكذلك العُلْوِيَّات والسفليات لو ارتفعتْ لانْبَسَط، بحيث لا يظهر فيه شيءٌ أصلاً ورأسا. ونَعنِي بعينِ اللهِ ما يَتعيَّنُ الله فيه. هذا هو الحق الصريح المتبع، لا كما يرى المنحرفُ عن منهاج الإسلام ودِينه، المتحيِّر في مبدأ ضلالتِه وجهلِه.
فنقول: هذا الكلام لولا أني علمتُ مقصودَ الشيخِ به وأنه عنده كلامٌ عظيمٌ فيه كشفُ حقيقةِ الأمر، وأن مقصودَ الشيخ إنما هو المعرفةُ والهداية، لكُنا نُقابلُه بما يستحقُّه، على حدِّ ما توجبُه الشريعةُ على من قامت عليَه الحجة، لكنّ الله يقول:(وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15))
(1)
، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله رفيقٌ يُحب الرفقَ في الأمر كله"
(2)
، وقال: "إن الله رفيقٌ يُحِب الرفق، ويُعطي
(1)
سورة الإسراء: 15.
(2)
أخرجه البخاري (6927) ومسلم (2165) عن عائشة.
على الرفق ما لا يُعطي على العنف "
(1)
، وقال:"ما كان الرفق في شيء إلاّ زانَه، ولا كان العنف في شئ إلاّ شانَه"
(2)
. وقد قال لموسى وهارون: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44))
(3)
.
فهذا الكلام وأمثالُه الذي فيه من الكفر ما تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخزُ الجبال هدًّا، إذ هو أعظم من قول الذين قالوا: اتخذ الله ولدًا، إذا صَدَرَ من قومٍ يظنّون ويظنّ بهم مشايخ الإسلام أهل التحقيق والعرفان، احتاج المخاطب لهم إلى شيئين: قوة عظيمة، وغضبٍ لله، وسلطان حجهٍ، وقدرة يدفع بها شَتْمَ الله وسَبَّه والكُفْرَ به؛ ورفقٍ ولينٍ يُوصِل به إلى المخاطبين حقيقةَ البيان. والرفقُ في الجهاد باليد واللسان إنما يكون بالنسبة إلى العنف في الجهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّ الله كتبَ الإحسان على [كلّ] شيء، فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذَبَحتم فأحسنوا الذِّبحةَ"
(4)
.
فلابدّ من القتل الشرعي، ولكن الإحسان فيه يكون بأن يقتل أحسن القتلات، وكذلك دفعُ الكفرِ والفريةِ على الله والإلحادِ في
(1)
أخرجه أحمد (4/ 87) والبخاري في "الأدب المفرد"(472) وأبو داود (4807) عن عبد الله بن مغفل. وفي الباب عن عليّ أخرجه أحمد (1/ 112)، وعن أبي هريرة أخرجه ابن ماجه (3688).
(2)
أخرجه مسلم (2594) عن عائشة.
(3)
سورة طه: 44.
(4)
أخرجه مسلم (1955) عن شداد بن أوس.
أسمائه وآياتِه وجحودِ ذاتِه وصفاتِه، لا يكون الإحسان والرفق في دفعه إلاّ بأحسن وجوه ذلك، كما قال الله:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)
(1)
، وقال:(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)
(2)
. فمن ظلم وظَهرَ عنادُه عُوقِبَ حينئذ عقوبة مثله، بالقتل المشروع إن إستحقَّ ذلك، وإلاّ فيما دونَه على حسب الأفعال والأحوال وما يتعلق بذلك.
ولا شكَّ أن طريق الله عظيم، وتحقيق الإيمان هو غاية مطلوب الإنسان، وهؤلاء المتكلمون في هذا الباب من حين ظهور دولة التتار قد خَلَّطوا في هذا الباب تخليطًا عظيمًا، وخلطوا التوحيد بالإلحاد، بل منهم من جَرَّد الإلحاد تجريدًا، فيغترُ بإضلالهم خلق كثير معتقدين أنهم على غاية الهدايةِ والحق الصريح، فإذا وضحَ الحقُّ الذي أنزلَ الله به كتبه وبعثَ به رُسُلَه، قامت الحجةُ على من بلغه ذلك. فمن خرج عنه حينئذٍ استوجبَ ما أمر الله به في مثله.
وعلمتُ أن الشيخ لما وقفَ على الذي كتبَه إليَ الشيخ نصرٌ في الاتحادية، ظنَ مَن ظنَ أنه قد يَرُدُّ عليهم مَن لم يفهم حقيقة قولهم، فأراد الشيخُ أن يُبيِّن ذلك، ولم يَعلَم أن مثلَ هذا الكلام وأمثالَه قد صار مَضْحَكة عند الصبيان ومُكفِّرةً عند ذوي العلم والإيمان، وأنهم قد علموا من هذا الكلام وأمثاله ما لم يَعلَمْه غيرُهم، وهم أعرف بمذهب كلِّ واحدٍ من هؤلاء من أصحابه، بل من نفسِه. فإن الواحدَ من
(1)
سورة النحل: 12.
(2)
سورة العنكبوت: 46.
هؤلاء يتناقض في كلامِه ولا يدري أنه يتناقض، لأن أصلهم فاسد في العقل والدين.
ولا ريبَ أن الشيخَ إنما استمدَّ هذا الكلام من كلام الشيخ سعد الدين ابن حمويه، وقد قيل: إذا أردتَ أن تعرفَ خطأ شيخك فاجلس إلى غيرِه. وقد كان من الواجب على من خاطَبَنا في هذا المقام أن يتأمَّلَ مع كلام سعد الدين كلامَ ابن العربي في "الفصوص" وفي كتاب "الهُو" و"الجَلالة"، وفي مواضعَ من "الفتوحات" وفي غير ذلك؟ ويتأمل كلامَ القونوي في كتاب "مفتاح غيب الجمع والوجود"؛ ويتأمَّلَ كلامَ ابن سَبعين في "البُدّ" و"الإحاطة" وغيرهما؛ ويتأمل كلامَ التلمساني في "شرح الأسماء"؛ ويتأمَّلَ آخر قصيدة ابن الفارض التي هي "نظم السلوك"، مثل قوله:
(1)
لها صَلَواتي بالمقامِ أُقِيمُها وأشهدُ فيها أنها ليَ صفَتِ
كلانا مُصلٍّ واحد ساجد إلى حقيقتِه بالجمع في كلِّ سَجْدةِ
وما كان لي صلَّى سِوايَ ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل سجدتي
ومثل قول ابن إسرائيل
(2)
:
(1)
ديوانه: (ص 34).
(2)
هو محمد بن سوار بن إسرائيل، نجم الدين الشيباني الدمشقي، شاعر حذا في بعض شعره حذوَ ابن الفارض. توفي سنة 677. له "ديوان شعر" مخطوط. ترجمته في "فوات الوفيات"(3/ 383 وما بعدها)، وهذا البيت فيه (3/ 384).
وما أنتَ غير الكون بل أنتَ عينُه ويَفهمُ هذا السر من هو ذائقُ
وقوله:
وقلقل أن مرَّتْ على جَسدِي يَدي لأنيَ في التحقيقِ لستُ سِواكُمُ
إلى أنواع من هذه المنظومات والمنثورات.
ثمَّ يتأمَّل بنور الإسلام: هل هذا القول يرضاهُ اليهود والنصارى والمشركون، أم هو شرٌّ من مقالات هؤلاء؟ ويَعرِض ما قاله هو على كتاب الله الذي أنزلَه من السماء وسنةِ رسولي خاتم الأنبياء وما اتفق عليهَ أهل العلم والإيمان، فإن ذلك هو سلطان الله ونوره وهداه وبرهانه، ثمّ بعد هذا يتكلم.
ونحن فلم نكن أدخلنا سعدَ الدين ابن حمويه في هؤلاء، لأنه كان قد صحبَ الشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا الشيخ نجم الدين هو من أجلِّ شيوخ تلك البلاد وأصحِّهم إسلامًا وأبعدِهم عما يخالف الكتاب والسنة. وكان الشيخ سعد الدين أخذ منه طريقة صحيحةً، لكنّه أيضًا مَزَجَها بشيء من طريقة هؤلاء. وذلك لأن شيوخ سعد الدين أربعة:
عمه صدر الدين، وإليه تنسب خِرقتُه، فإن بني حمويه بيتٌ قديم معروف بالمشيخة والتصوف.
والشيخ نجم الدين الكبرى، وهذا شيخ جليل من أعظم شيوخ تلك البلاد قدرًا وأصحّهم طريقة، وله أصحاب كبار: كالشيخ مجد الدين البغدادي، والشيخ علي لالا، والشيخ سيف الدين
الباجوري وغيرهم.
والثالث: الشيخ شهاب الدين السهروردي، وهو أيضًا من أجِلَاّءِ المشايخ، وأكثرِهم حِرصًا على متابعة السنة في أعمالِهم.
وأما الرابع فهو الملقَّب بمحيي الدين ابن العربي، ومن هذا الشيخ دخل في كلام سعد الدين الاتحادُ.
وقد قَدِم علينا أكبر مشايخ تلك البلاد من السعدية حسام الدين الكرماني حاجًّا، وخاطبتُه في حالِ هؤلاء، وبيّنتُ له من كلام ابن العربي وغيرِه ما كان طالبًا له، حتى رَجَعَ عن تعظيم هؤلاء، وكَفَر بما يقوله ابن العربي من الكفريات، وقال: ما كُنّا نَعرِف حقيقةَ حالِ هؤلاء، ولا نعرف أن كلامَهم مشتمل على هذا كله. مع أنه كان من أكثر المشايخ تعظيمًا لابن العربي، وهو من الغلاة في سعد الدين. وجَرَتْ لنا معه فصول أظهرَ اللهُ بها الحقَّ وبيَّنَ حالَ التوحيد وتلبيسَ هؤلاء المنافقين.
وحدَّثني هذا الشيخ عن شيخه عزّ الدين الطاوسي أنه سمعَ الشيخ سعد الدين- وقد سئِل عن ابن العربي وعن الشيخ شهاب الدين، فقال:- أما ابن العربي فبحر لا ساحلَ له، ولكن نور متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في جبين الشيخ شهاب الدين شيء آخر.
وهدْا كلام صحيح، فإن شهاب الدين شيخ مسلم محبّ لسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعتِه، سالك طريقةَ أمثالِه من المشايخ أهلِ المعرفة والدين، عظيمُ القدر في وقتِه، رضي الله عنه.
وأما قوله عن ابن العربي: "بحرٌ لا ساحلَ له" فلعَمري إنه بحرٌ، لكن مِلحٌ أُجاجٌ، فإنه كثير الخوض في أحوال العالم وطبقات الكائنات، واسع الخيال، قادر على الكلام، وهو في باطلِه أشدُّ تمكُّنًا من الشيخ شهاب الدين في حقّه، فلهذا جعله سعد الدين أوسعَ، وإن كان شهاب الدين أقومَ، لكن الشيخ شهاب الدين من خيار أمة محمد، وإن كان غيرُه من المشايخ الكبار- كالشيخ عبد القادر- الواصلين إلى حقائق التوحيد النبوي الذي بعثَ الله به رسولَه، وما اشتمل عليه من أسماء الله وصفاتِه، التي بها يقتدرون على قَمْع هؤلاء الملاحدة ودَفْع الجهمية وضروبهم؛ أرفعُ درجةً، وأعظمُ عَلمًا وإيمانًا، وأعظمُ جَهادًا ممن ليس مثلهم، ممن يكون معرفته وتوحيده فيه نوع إجمال، لا يتميز فيه أهلُ المعرفة والسنة المحمدية ممن خَرَج عن بعض ذلك من أهل النكرة والبدعة. فهم في ذلك بمنزلة ملوك المسلمين الذين ضَعُفَ إيمانُهم وجهادُهم عن مقاومة جنكسخان ونحوه، بخلاف المؤيَّدين بكمال العلم والإيمان والجهاد، المتبعين لسيرة الخلفاء الراشدين كالأئمة والمشايخ الكبار، فهؤلاء لا يقوم معهم لأهل الضلال والبدع قائمة.
فسعد الدين- مع ما فيه من الإسلام والمتابعة- فيه تخليط كثير، فإنه أحيانًا يتكلم بكلام الاتحادية؟ وأحيانًا يُجرد الاتحادَ تجريدَهم، بل يَسلُك لنفسِه مسلكًا أبلقَ لا أبيضَ ولا أسودَ؛ وأحيانًا يتكلم بكلام أهل الإسلام الموافق للكتاب والسنة؛ وأحيانًا يحتج بأحاديث موضوعة لا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما صاحبُه الطاوسي ففي كلامه من الكذب على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والباطلِ شيء كثير جدا. وتكلم في الحروفَ والدوائر بكلامٍ انفرد به، لا يُشبه كلام أبي الحسن الحَرَالّي ولا كلام أبي العباس البُوني، وهو كلام فيه أشياء حسنة مناسبة، وفيه أشياء لا فائدة فيها، وفيه أشياء ضعيفة بل باطلة من جنس كلام سائر الناس، وفيه أشياء من الهذيان والباطل التي لا يقولُها عاقل. والله تعالى يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا يجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا.
وإذ قد ابتدأ الشيخُ بدعوى أن هذا هو الحق الصريح، فنحنُ نذكرُ ما تبيّن به حقيقتُه. أوّل ما في هذا الكلام أنه دعوى مجردة بلا حجة ولا دليلٍ، وإذا كان من تكلَّم في مسألة من مسائل الاستنجاء أو الإجارة لم يُقبَل منه إلاّ بالحجة والدليل، فمن تكلم في خالقِ الخلق وربّ العالمين بكلامٍ لا يوجَد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا قاله أحدٌ من السلف ولا شيخ من المشايخ الذين لهم لسان صدقٍ في عمومه، بل جميعُ أهل العلم والإيمان والمشايخ المقبولون يُكفرون من يقوله، ولم يأتِ عليه لا بحجةٍ ولا دليلٍ، كيف يُقبَل منه؟
ثمّ إن هذا الباب كيف يجوز لمؤمنٍ بالته ورسوله أن يتكلم فيه بغير الكتاب والسنةِ؟) ألم يَسمع الله يقول: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)
(1)
، ألم يسمع الله
(1)
سورة النساء: 171.
يقول: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33))
(1)
.
ونحن ننبه على بعض حقيقة هذا الكلام، وذلك من وجوه:
الأول
قوله في صدر الكلام: "كان الله ولا شيءَ معه"، فهذه الكلمة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
. ثم قال في آخره: "وهو الآن على ما عليه كان"، فهذه الكلمة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُؤثَر عن أحد من أئمة الدين المقبولين عند عموم الأمة، ولا لها ذِكر في شيء من كتب الحديث. وقد اعترفَ بذلك ابن عربي وغيره، فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولا شيءَ معه"، قال: وزاد العلماء "وهو الآن على ما عليه كان".
وأكثر هؤلاء الاتحادية يجعلون هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ويجعلون هذه الكلمة أُسَّ زندقتهم، وغرضُهم أنه لم يكن معه غير، وهو الآن ليس معه غير ولا سِوى، بل الوجودُ هو عينُه ونفسُه، فلا الأصنام والأوثان والجن والشياطين والنجاسات والأقذار غيره ولا سواه، فإنه كان وليس معه غيرُه، وهو الآن ليس معه غيرُه.
(1)
سورة الأعراف: 33.
(2)
أخرجه البخاري (3191، 7418) بلفظين آخرين عن عمران بن حصين.
وهذا اللفظ في غير رواية البخاري، انظر "الفتح"(6/ 289).
فإذا عُرِف أن هذه الكلمة لا أصلَ لها في الشريعة انهدمتْ قاعدتُهم. ولفظُ الحديث الذي في البخاري
(1)
عن عمران بن حصين قال: جاء وفدُ بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"اقبلوا البشرى يا بني تميم! "، فقالوا: بشَّرتَنا فأعطِنا، فجاء أهل اليمن فقال:"اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم"، فقالوا: جئناك نسألكَ عن أول هذا الأمر، فقال:"كان الله ولا شيءَ قبلَه، وكان عرشُه على الماء، وكتبَ في الذكر كلَّ شيء". قال: وجاء رجل فقال: أَدرِكْ ناقتك، فخرجتُ فإذا السراب ينقطع دونها، فودِدتُ أني كنتُ تركتُها ولم أَقُمْ.
والذي ذكره الله في كتابه أنه لا يجوِز أن نجعلَ مع الله إلهًا آخر، فقال تعالى:(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22))
(2)
، وقال تعالى:(وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39))
(3)
، وقال:(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ)
(4)
. لم يَقُلْ: لا تجعل مع الله مخلوقًا ولا مصنوعًا، أو لا تجعل مع الله عبدًا ولا مملوكًا، أو لا تجعل مع الله عبادًا له مخلصين، بل صرَّح بأنه مع عباده عمومًا وخصوصًا، فقال:(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)
(5)
، وقال
(1)
برقم (7418).
(2)
سورة الإسراء: 22.
(3)
سورة الإسراء: 39.
(4)
سورة الحجر: 96.
(5)
سورة المجادلة: 7.
لموسى وهارون: (إننى معكما أسمع وأرى (46))
(1)
، وقال:(إنا معكم مستمعون (15))
(2)
، وقال:(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا (40))
(3)
،َ وقال:(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128))
(4)
، وقال:(واصبروا عن الله مع الصابرين (46))
(5)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهمَّ أنتَ الصاحبُ في السفر والخليفةُ في الأهل، اللهمَّ اصحَبْنا في سفرنا واخْلُفنا في أهلِنا"
(6)
. وقال "أفضلُ الإيمان أن تعلمَ أنّ الله معك حيثما كنتَ"
(7)
. وفي حديث: اللبيب في الجنة فيفرح الله ومعه النبيون والصديقون والشهداء
(8)
.
فإذا كان ما ثمَّ غيره، ولا معه الآن شيء من الخلق، بل الأمر كما كان قبل أن يخلق الخلق، فمع من يكون ولمن يصحب؟ بل قوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ)
(9)
يقتضي أنه ثمَ شيء غيرُه، شيء لا يجوز أن نجعلَه إلهًا، ولكن يجوز أن نجعله غيرَ إله عبدًا ومملوكًا.
(1)
سورة طه: 46.
(2)
سورة الشعراء: 15.
(3)
سورة التوبة: 40.
(4)
سورة النحل: 128.
(5)
سورة الأنفال: 46.
(6)
أخرجه مسلم (1342) عن ابن عمر.
(7)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 124) من حديث عبادة بن الصامت، وضعّفه الألباني في "الضعيفة"(2589).
(8)
لم أجده.
(9)
سورة الإسراء: 39.
وعلى رأي هؤلاء: أي جعلته إلهًا فما جعلتَ معه إلهًا، إذ ما ثَمَّ غيرُه، فيجوز عندهم أن يُجعل كل شيء إلفا وما يكون قد جعل معه إلهًا، إذ ما ثمّ معه شيء آخر. فهؤلاء يجوزون عبادة الأصنام، كما صرَّح به صاحب "الفصوص"، وقال في فمن الحكمة النوحية:(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22))
(1)
لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، كأنّه ما عُدِم في البداية، فيُدعَى إلى الغاية ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر، وقالوا في مكرهم:(لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23))
(2)
لأنهم لو تركوهم لجهلوا من الحق بقدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبودٍ وجها، يَعرِفه من عرفَه ويَجهله من جَهله. كما قال في المحمديين:(*وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)
(3)
، وما قضَى الله بشيء إلاّ وقعَ. فالعارف يعرف من عبد، وفي أيّ صورة ظهر حتى عبد، وإن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، والقوى المعنوية في الصورة الروحانية، فما عبد عبد الله في كل معبود.
ولهم مثل هذا الكلام كثير. فمن كان قوله: إن عُباد الأصنام ما عبدوا إلاّ الله، وإنه لا يتصور أن يُعبَد إلاّ الله، وإن العابد هو المعبود، وإن الوجود هو عين الله= كيف يؤمن بقوله (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ)؟ وكيف يتصوَّر عنده أن يُنهَى أحدٌ عن أن يَجعل مع
(1)
سورة نوح: 22.
(2)
سورة نوح: 23.
(3)
سورة الإسراء: 23.