المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ يستحب لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه عقوبة ونكالا لأمثاله - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٤

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌ نماذج من الأصول الخطية

- ‌مسائل من الفتاوى المصرية

- ‌ اعترافُ العبدِ بظلمِ نفسِه ليس من خصائص الصدِّيقين

- ‌هذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير

- ‌ لا يخلو أحدٌ عن ترك بعضِ الحقوق أو تعدِّي بعضِ الحدود

- ‌ أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ:

- ‌الصدِّيقون يجوز عليهم جميعُ الذنوب

- ‌منزلةُ الصديقِ والفاروقِ

- ‌ ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة

- ‌الشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر

- ‌ فسادُ استدلال الجهمي من وجوه:

- ‌ الجمعُ بين حديثِ أنسٍ وهذه الأحاديث من وجهين:

- ‌ من ظنَ أن النبي صلى الله عليه وسلم في الرفع المعتدل جعلَ ظهرَ كفَّيْه إلى السماء فقد أخطأ

- ‌ تاركُ الصلاة يجبُ أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلا عُوقِبَ

- ‌إن أصَرَّتْ على تركِ الصلاةِ فعليه أن يُطَلِّقها

- ‌ مَن بَلَغَ من الرجال والنساءِ فالصلاة فريضة عليه

- ‌الصلاة واجبة على كل عاقلٍ بالغ إلاّ الحائض والنفَسَاء

- ‌ إذا قيل عنه إنه تاركُ الصلاة وكان تاركَها فهذا جائز

- ‌ يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه

- ‌ هو مأمور باتفاق المسلمين أن يُصلِّي مع الجماعة

- ‌الصلاةُ في الجماعة من أوكدِ ما شرعَه الله ورسولُه

- ‌ تاركَ الصلاة شرٌّ من السارق والزاني باتفاق العلماء

- ‌ الوقوفُ بالميتِ ليقرأَ القُرّاءُ مما يُنْهَى عنه

- ‌القراءةُ على الجنازة بدعة مكروهة

- ‌ القبور ثلاثة أقسام:

- ‌منها: ما هو حقّ لا ريبَ فيه

- ‌القبورُ المختلَفُ فيها كثيرة

- ‌ ينبغي أن يُسعَى في خروج الجنين من فَرْجها

- ‌ الصدقةُ عن الميتِ أفضلُ من عمل ختمةٍ

- ‌الاستئجارُ على نفس التلاوة غيرُ جائز

- ‌ يُجزِئُها غسلُ الميت عن الأمرين

- ‌ يجوزُ تغسيلُه

- ‌يجوز أن يُصلِّي على الميت إذا كان يَحفظُ الفاتحة والصلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء للميت

- ‌تجوز الصلاة عليه، ويُصلَّى على قبرِه إلى شهر

- ‌ الأنبياءُ أحياء في قبورهم، وقد يُصلُّون

- ‌ لا يجوز أن يُدفَن أحدٌ في المسجد

- ‌أما اكتراءُ قوم يقرأون القرآنَ ويُهْدُون ذلكَ للميتِ فهذه بدعةٌ

- ‌ يُكرَه دفُن اثنين في قبرٍ واحدٍ إلاّ لحاجةٍ

- ‌ غِسْلُه طاهر عند جماهير العلماء

- ‌من ظنَّ أن إعداد القبر وبناءه وتعظيمَه وتحسينَه ينفعُه فقد تمنَّى على الله الأماني الكاذبةَ

- ‌ ليس لأهل الذمة دَفْنُ موتاهم في شيء من مقابرٍ المسلمين

- ‌أما إدريس فقد رُوِي أنه ماتَ في السماء

- ‌ ذهب إليه طائفة من المتأخرين

- ‌الدعاء مشروع من الأدنى للأعلى، ومن الأعلى للأدنى

- ‌ليس فيها ما يُعتمَد عليها في إثبات الأحكام الشرعية

- ‌ كل مخلوق فهو محتاج إلى الله مفتقر إليه

- ‌على العبد أن يلاحظ التوحيد والإنعام

- ‌من شبه الله بخلقه فقد كفر

- ‌الناس في هذه المسألة طرفانِ ووسطٌ:

- ‌لا يجب على أحدٍ أن يتَّبع واحدًا بعينه في كلّ ما يقوله

- ‌مسائل وردت من الصلت

- ‌مسائل متفرقة

- ‌ مسألة الضمان

- ‌رسالة في الرد على بعض أتباعِ سعد الدين ابن حمويه

- ‌ الثانيقوله: "يحقِّقوا أن الحقَّ كان ولم يكن معه شيء، هو في كان كأنه يتجلى لنفسِه بوحدتِه الذاتية عالمًا بنفسه وبما يَصدُر منه

- ‌ الله لا يَعرِض نفسَه على شيء، ولا يتجلى لكل شيء

- ‌ مذهب المسلمين وسائر أهل الملل

الفصل: ‌ يستحب لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه عقوبة ونكالا لأمثاله

مسألة

في رجلٍ ماتَ، وكان لا يُزكَي ولا يُصَلِّي إلاّ إن كان في رمضانَ، فيَجِبُ لنا أن نُصَلِّي على مثلِ هذا؟

الجواب

مثلُ هذا‌

‌ يُستَحبُّ لأهل العلم والدين أن يَدَعُوا الصلاةَ عليه عقوبةً ونكالاً لأمثالِه

، كما تركَ النبي صلى الله عليه وسلم الصلاةَ على قاتلِ نفسِه، وعلى الغالِّ، وعلى المَدِيْنِ الذي لا وفاءَ له. وإن كان منافقَا فمَنْ عُلِمَ نِفاقُه لم يُصلَّ عليه، ومن لم يُعْلَم نِفاقُه فله أن يُصَلِّيَ عليه.

ص: 124

مسألة

في أقوامٍ لم يُصلوا ولم يَصومُوا، والذي يصوم منهم لم يُصَل، ومالُهم حرام، ويأخذون أموالَ الناس، ويُكرِمون الجارَ والضيفَ، ولم يُعرَفوا لهم مذهبٌ

(1)

وهم مسلمون.

الجواب

الحمد لله رب العالمين، هؤلاء إن كانوا تحت حكمِ وُلاةِ الأمور فإنهم يَجبُ أن يأمروهم بإقامة الصلاة ويُعاقِبوا على تركها باتفاق المسلمينَ، وكذلك الصيامُ. فإن أقرُّوا بوجوبِ الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان والزكاة المفروضة، وإلا فمن لم يُقِرَّ بذلك فهو كافر، وإن أقرُّوا بوجوب الصلاة وامتنعوا من إقامتِها عُوقِبوا حتى يُقِيموها.

ويَجبُ قتلُ كل من لم يُصَلِّ إذا كان عاقلاً بالغًا عند جماهير العلماء كَمالك والشافعي وأحمد، وكذلك يُقام عليهم الحدودُ، وإن كانوا طائفةً ممتنعةً ذاتَ شوكةٍ فإنه يَجبُ قتالهم حتى يَلتزِمُوا أداءَ الواجبات الظاهرة والمتواترة كالصلواَت والصيام والزكاة، وتركَ

(1)

كذا في الأصل.

ص: 125

المحرماتِ كالزنا والربا وقطع الطريق ونحو ذلك. ومن لم يُقِر بوجوبِ الصلاة والزكاة فإنه كافَرٌ يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِل. ومن لم يُؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر والجنة والنار فهو كافرٌ أكفرُ من اليهود والنصارى. وعقوقُ الوالدين من الكبائر الموجِبة للنار.

ص: 126

مسألة

فيمن قال: صلاة الجماعة ليستْ بواجبة، وإنما كانت واجبةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه فقط.

قيل له: فقد قال بعضُ العلماء: إن من تركَ الجماعة وصلى في بيته فهو منافق، فقال: مَن قال هذا هو المنافقُ، وقال: إنه لا يُوجَد اليومَ منافق، وإنما كان النفاقُ في زمنِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، لكن يُقالُ اليومَ: زنديق، ولا يقال: منافق.

فهل ما قاله هذا الرجلُ صحيحٌ أم لا؟

أجاب

الحمد لله، أما من قال إن صلاة الجماعة كانت واجبةً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومعه فقط، فهذا القولُ مخالف لأقوال الأئمة الأربعة وسائرِ أئمة الدين، بل ما نَعْلَمُ إماما قال هذا، وإنما قال هذا بعضُ العلماء في صلاة الخوف خاصةً، زعمَ أنها كانت تُصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وجمهورُ الأئمة على خلاف ذلك. وأما الجماعة المعروفة فالأئمة متفقون فيها على خلاف قول هذا القائل، فمنهم من يقول: هي واجبة على الأعيان على عصر النبي صلى الله عليه وسلم وسائرِ الأعصار على من يُصلي خلفَه ومن يُصلّي خلفَ غيره. ومنهم من

ص: 127

يقول: هي واجبة على الكفاية على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيره، ومنهم من يقول: هي سنة مؤكدة على عصره وعصر غيره خلفَه وخلفَ غيرِه. وأما وجوبُها في عصره معه فقط، فهذا قول مخالف لأقوال أئمة الإسلام، وما سمعتُ عالمًا قال هذا.

وقد كانت الجماعة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم تُقامُ خلفَه وخلفَ غيرِه من أئمة القبائل، وكان في كل دارٍ من دار الأنصار مسجد، أي في كلِّ قبيلةٍ من قبائل الأنصار مسجد، وكان لهم إمام راتب يُصلُّون خلفَه، كما كان معاذ بن جبل يُصلي بأهل قُباء، وكان غَسان بن مالك يُصلِّي بقومِه وكذلك غيرهما من الأئمة. وأما الجمعة فلم تكن تُقام إلا في مسجده، فمن قال: إن الصحابة كلهم كان يجب عليهم أن يُصلوا خلفَه الجماعةَ كما كان يجب عليهم أن يصلّوا خلفه الجمعةَ فقد أخطأ خطأً بينًا، وقال قولاً معلومَ الفساد بالتواتر والإجماع.

وأما إطلاقُ النفاقِ على من تخلَّف عن الجماعة أو الجمعة، فهذا إنما يكون إذا كان بغير تأويلٍ شرعي، فأما من تخلَّف لعذرٍ شرعي، أو مَن اعتقد أنّ ذلك ليس بواجب عليه، فتخلَّف لأجل هذا الاعتقاد فإنه قد يكون مؤمنًا غيرَ منافق، سواء كان مصيبًا في اعتقاده أو مخطئًا.

وقد ثبت في صحيح مسلم

(1)

عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله شرَعَ لنبيِّه سننَ الهدى، وإنكم لو صلَّيتم في بيوتكم كما

(1)

برقم (654).

ص: 128

يُصلِّي هذا المتخلفُ في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنةَ نبيكم لضلَلْتم، ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاّ منافقٌ معلومُ النفاق. فقد أخبر ابن مسعود أنَّ الجماعة لم يكن يتخلَّفُ عنها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ منافق معلومُ النفاق، وهذا مما يَستدِلُّ به من يُوجبها، لأنه إذا لم يكن يَتركُها حينئذٍ إلاّ منافق معلومُ النفاق عُلِمَ أنها كانت واجبةً إذ لو كانت مستحبةً كقيام الليل وصيام يوم الاثنين والخميس وسنةِ الظهر والمغرب لكان قد يتركها المؤمن، ولم يكن في تركها يُقال: إنه منافق، فإنه قد ثبتَ في الصحيحين

(1)

أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ما فرض الله من الصلاة والصيام والزكاة ونحو ذلك لرجلٍ، فقال: والذي بعثكَ بالحق لا أزيد على هذا ولا أَنقصُ منه، فقال:"أفلحَ إن صَدَق". فإذا كان من أدَّى الفرائضَ يكون مُفلحًا وإن لم يأتِ المستحبات، وكانت الجماعة لا يتخلَّف عنها عندهم إلا منافقٌ، عُلِمَ أنها كانت عندهم من الواجبات، ولكن هذا كان لعلمِ الصحابةِ بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ومعاني كلامِه، وأنه لم يكن بينهم نزاع على عهده ولا شبهة ولا اختلاف، لظهور العلم والإيمان ومعرفتهم بوجوبِها وتوكيدِ النبي صلى الله عليه وسلم لها. حتى قال:"لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتُقامَ، ثم أَنطلِقُ معي برجالٍ معهم حُزُمُ الحَطَب إلى قوم لا يَشهدون الصلاةَ، فأحُرِّقَ عليهم بيوتَهم بالنار"

(2)

.َ ومعلومٌ أنَّ التحريقَ بالنار لا يكون إلاّ عن كفرٍ أو كبيرةٍ عظيمة.

(1)

البخاري (46 ومواضع أخرى) ومسلم (11) عن طلحة بن عبيد الله.

(2)

أخرجه البخاري (644، 657، 2420، 7224) ومسلم (651) عن أبي هريرة.

ص: 129

وفي رواية

(1)

: "لولا ما في البيوت من النساء والذزيّة"، وفي رواية لأبي داود

(2)

: "ثم أنطلق إلى رجالي يُصلُّون في بيوتهم، فأحرق بيوتهم بالنار". فلما عَلِمَ الصحابةُ هذا الوعيدَ والتهديدَ كان المؤمنون يطيعون الله ورسولَه، والمنافقون يتخلفون عن الجماعة، فأما اليومَ فقد قل العلمُ والإيمانُ، وكثير من العلماء يخفَى عليه بعضُ السنة فضلاً عن غيرهم، فلهذا صارَ يَتْرُكُها مَن ليس بمنافق معلومِ النفاق، لكن هؤلاء يتشبهون بالمنافقين، إذا لم يكونوا منافقين، وهم تاركونَ للسنة المؤكدة باتفاق المسلمين، وإذا أصرُّوا على ذلك رُدَّتْ شهادتُهم، بل يُقاتَلُون في أحد القولين، وهذا عند من لا يقول بوجوبها.

فأما من قال بوجوبها فإنه يُقاتِلُ تاركَها، ويُفَسقُ المصرِّينَ على تركها إذا قامتْ عليهم الحجةُ التي تُبِيْحُ القتالَ والتفسيقَ، كما يُقاتَل أهلُ البغي بعد إزالةِ الشبهة ورَفْع المَظْلمة، بل العلماءُ قد يُعاقِبون مَن تركَ واجبًا أو فَعَل محرما وإن كان متأولا، كما قال مالك والشافعي وأحمد في شارب النبيذ المتأول أنه يُجلَد وإن كان متأولاً، والشافعي لا يردُّ شهادتَه بذلك، ومالك يردُّها، وعن أحمد روايتان. وكذلك البُغاةُ المتأولون إذا قاتلوا، كما قاتلَ علي بن أبي طالب لأهل الجمل وصفين، فإنهم عند الأئمة الأربعة لا يُفَسَّقون بذلك البغي، لأنهم كانوا فيه متأولين وإن قُوتلوا.

(1)

لأحمد (2/ 367).

(2)

برقم (548، 549).

ص: 130

وهكذا كل ما ثبتَ تحريمُه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خفي ذلك على بعضِ العلماء، فإنه يذكر تحريمه وما ورد فيه من التغليظ والوعيد، وإن كان المتأول المعذور من العلماء لا يَلحقُه الوعيدُ، بل يغفر الله له لأنه اجتهد فأخطأ، وقد قال تعالى:(رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)

(1)

، وفي الصحيح

(2)

أن الله تعالى قال: "قد فعلتُ".

وهكذا ما يَتنازعُ فيه الأئمة من واجبات الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك، إذا تركه التاركُ متأولاً مع قيامِه بالواجبات وتركه للمحرمات لم يكن بذلك فاسقًا بل ولا آثمًا، بل الله يَغفِر له خطأه.

ومع هذا فمن يقول بوجوبه يُبين وجوبَه، ويَذكر ما جاء فيه من الأدلة الشرعية لبيان العلم وإظهارِ السنة، وليتبينَ خطأُ القول المخالفِ للسنة وصوابُ القول الموافق لها، وإن كان المخالفُ مجتهدًا معذورًا، بل يكون المجتهد من أولياء الله المتقين، وعبادِه الله الصالحين، ومن أئمة الدين، والله يَغفِر له خطأه ويَغفِر له ما هو فوقَ الخطأ من الذنوب، إذ لا معصومَ من أن يُقَر على خطأٍ أو ذنبٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان صديقًا أو شهيدًا أو صالحًا، لكن يكونون كما قال تعالى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16))

(3)

.

ووجوبُ الجماعة من هذا الباب، فإن دلائلَ وجوبِها في

(1)

سورة البقرة: 286.

(2)

مسلم (126) عن ابن عباس.

(3)

سورة الأحقاف: 16.

ص: 131

الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ظاهر بين، لا يَسترِيبُ فيه بعد معرفتِه ومعرفةِ ما قيل في ذلك عالم منصفٌ، ولكنّ طائفة من العلماء ظنّوا أنّ الوعيد كان في الجمعة خاصةً، والنصوصُ صريحة ثابتة بأنها كانت في الجماعة أيضًا. ومنهم من ظنَّ أن العقوبة إنما كانت للنفاقِ خاصةً لا لتركِ الجماعة، وهذا أيضًا خطأٌ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يُعاقِبُ أحدًا على ما أسرَّه من النفاقِ، وإنما يُعاقِبُه بما أظهره من ترك واجب أو فِعْلِ محرَّم. وأيضًا فإذا [كان] تركُها علامة النفاق، فالدليلُ يَستلزمُ المدلولَ، عُلِمَ أن كلَّ من تركَها كان منافقًا، وهذا دليل الوجوب.

وأيضًا فإنه قد ثبتَ في الصحيح

(1)

أن ابنَ أم مكتوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرخصَ له في تركها، فقال:"هل تسمع النداء؟ "، قال: نعم. قال: "فأجَبْ". وفي روايةٍ في السنن

(2)

: فقال: "لا أجدُ لكَ رخصة". وابنَ أم مكتوم مؤمنٌ باتفاق المسلمين، وهو الأعمى الذي ذكره الله بقوله:(عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2))

(3)

، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَستخلِفُه على المدينة، وكان يؤذِّن للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فلم يَأذَنْ له في التخلف عن الجماعة، فعُلِمَ أنها واجبة على من عُلِمَ إيمانُه.

ومن ادَّعَى أنَّ هذا الحديث منسوخ أو مخالف للإجماع فقد

(1)

مسلم (653) عن أبي هريرة.

(2)

لأبي داود (552) عن ابن أم مكتوم.

(3)

سورة عبس: 1 - 2.

ص: 132

غَلِطَ، فإن العمل عليه عند من يُوجب الجماعةَ، يُوجبُها على الأعمى كما يُوجبُ عليه الجمعة، فإذَا أمكنه الخروج إليَها وَجَبَتْ عليه وإن لم يكن له قائد، إذ الأعمى قد يذهب إلى السوق وغيرِه من حوائجه بلا قائدٍ، فكذلك يذهب إلى الجماعة.

فصل

وأما من قال: لا يوجد اليومَ منافقٌ، إنما كان النفاقُ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا مخطئ بإجماع المسلمين، بل قد قال حذيفة بن اليمان بعد موتِ النبي صلى الله عليه وسلم: إن النفاق اليومَ أكثرُ منه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. والمنافقُ هو الذي يُبْطِنُ الكفرَ ويُظهِرُ الإسلامَ، وهذا موجودٌ في سائرِ الأعصار، بل إذا كان مع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وآياتِه وسَماعِ كلامِه يكون المنافقون موجودين فبعدَه أولى وأحرى.

وأما قوله: إنه يقال زنديق، ولا يقال منافق، فهذا جهلٌ منه، فإن لفظ "زنديق" لفظٌ معرَّبٌ لم يَنطِقْ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابُه، ولكن نَطقتْ به الفُرسُ، فأخذَتْه العربُ فعرَّبَتْه. ومعنى الزنديق الذي تنازع الفقهاء في قبول توبته هو معنى المنافق الذي يُظهِر الإسلامَ ويُبطِن الكفرَ، ولهذا قال الفقهاء: إن الزنديق هو المنافق، وتنازعوا في قبول توبته. واحتجَّ الشافعي وغيرُه ممن يَرى قبولَ توبةِ الزنديق بأن المنافقين الذي كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم يَقْبَلُ علانيتَهم ويَكِلُ سَرائِرَهم إلى الله. وكذلك تكلم

ص: 133

الفقهاءُ من الطوائف الأربعة وغيرهم في أحكام الزنديق، مثل ميراثِه، ووجوب إعادة ما فعلَه من العبادات، وأمثال ذلك، وكلهم يحتجُّ على ذلك بأحكام النبي صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين كانوا على عهده، وذلك لعلم الأئمة أن الزنديق هو المنافق، وكل زنديق يُظهِر الإسلام ويُبْطِنُ الكفر فإنه منافق، يُسمَّى منافقًا، ويَدخُل في المنافقين المذكورين في القرآن، ومَن أنكر هذا فإنه يُستَتاب، فإن تاب وإلا قُتِلَ.

واسم النفاق والكفر ونحوهما قد يُعبر به عن بعض شُعَبِ الكفر والنفاق، وهذا هو النفاق الأصغر وهو الذي خافَتْه الصحابةُ على أنفسهم، كما في صحيح مسلم

(1)

أن حَنْظَلَة الكاتب لَقِيَ أبا بكر الصديق فقال: نافقَ حنظلةُ، نافقَ حنظلةُ.

وذكر البخاري

(2)

عن ابن أبي مُليكة قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخافُ النفاقَ على نفسه. وقد صنَّف جعفر بن محمد الفِرْيابي الحافظ كتابًا في صفة المنافق

(3)

، ذكر فيه من الأحاديث والآثار ما لا يَتسِعُ له هذا الموضعُ، وقد قال ابن عباس وغيره في قوله تعالى:(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)(فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)(فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45))

(4)

،

(1)

برقم (2750).

(2)

1/ 109 (مع "الفتح").

(3)

هو مطبوع.

(4)

سورة المائدة: 44، 45، 47.

ص: 134

قال: كفرٌ دون كفر، وفسوقٌ دون فسوق، وظلمٌ دون ظلم

(1)

. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشِّركُ في هذه الأمة أخفَى من دبيب النَّمْلِ، والرياءُ شرك"

(2)

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ: الطعنُ في الأنساب والاستسقاءُ بالأنواء"

(3)

. وفي حديث آخر: "لا تَرغَبوا عن آبائِكم، فإن كفرًا بكم أن تَرغَبوا عن آبائكم"

(4)

. ونظائر ذلك كثيرة، والله أعلم.

(1)

انظر تفسير الطبري (6/ 165 - 166).

(2)

أخرجه أحمد (4/ 403) عن أبي موسى الأشعري.

(3)

أخرجه مسلم (67) عن أبي هريرة، وفيه:"والنياحة على الميت" بدلاً من "الاستسقاء بالنجوم".

(4)

أخرجه البخاري (6830 ومواضع أخرى) عن عمر بن الخطاب.

ص: 135