الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا (30))
(1)
. والغُلاةُ فيه كذَّبوه وعَصَوه، فقالوا: ما هو عبدَ الله بل هو الله، وأشركوا به الشركَ الذي نهاهم عنه.
وكذلك الغاليةُ في عليّ وفي غيرهم
(2)
من أهل العلم والإيمان، وعليٌّ عليه السلام يقول:"لا أوْتَى بأحدٍ يُفَضلُني على أبي بكرِ وعُمَرَ إلا جَلَدتُه حد المفتري"
(3)
. وحرَّقَ الغاليةَ فيه بالنار، ويقول ما نُقِلَ عنه من نحو ثمانين وجهًا:"خيرُ هذه الأمةِ بعدَ نبيها أبو بكر ثم عمر"
(4)
، ويَذكُر ذلك لابنِه محمد بن الحنفية كما رواه البخاري في الصحيح
(5)
عنه، والشيعةُ تكذبُه وتُخالِفُه.
فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهودِ مع موسى. وكذلك
(6)
أَتباعُ الشيوخِ الصالحين المهتدين يَضِلُّون فيهم، ويتركون اتّباعَهم على الطريقة التي يُحِبها اللهُ ورسوله.
و
هذا بابٌ دخلَ فيه الشيطانُ على خلق كثير
فأضلَّهم، حتى يجعل أحدُهم قولَ الحق تنَقُّصًا له، فإذا قيل للنصارى في المسيح:
(1)
سورة مريم:30.
(2)
كذا في الأصل، والأولى "غيره".
(3)
أخرجه أحمد في "فضائل الصحابة"(1/ 83). وانظر "منهاج السنة"(1/ 308،6/ 138).
(4)
انظر: "منهاج السنة"(1/ 308) وذكر بعضها في هامشه (1/ 12).
(5)
برقم (3671).
(6)
في الأصل: "وأولئك"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية"(ص 106).
(مَّا اَلَمسيحُ ابن مَريَمَ إِلا رَسُول قَدْ خَلَتْ مِن قبلِهِ اَلرسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)
(1)
قالوا: هذا تنقيصٌ بالمسيح وسوءُ أدبٍ معه، وهم مع هذا يَشتُمون الله ويَسُبونه مَسَبَّةً ما سَبَّهُ إياها أحدٌ من البشر، كما كان معاذ بن جبل يقول في النصارى:"لا تَرحموهم، فلقد سَبُّوا الله مَسَبَّةً ما سَبَّه إياها أحدٌ من البشر".
وفي الصحيح
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: "شَتَمَنِيْ ابنُ آدمَ وما يَنبغي له ذلك، وكَذَّبَني ابنُ آدم وما ينبغي له ذلك، فأما شتْمُه إيّايَ فقوله إن لي ولدًا، وأنا الأحدُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأما تكذيبُه إيّايَ فقوله لن يُعِيْدَني كما بدأني، أَوَليس أَوَّلُ الخلقِ بأهونَ عليَّ من إعادتِه؟ ".
وهؤلاء الغاليةُ يَجمعُون بين شتم الربّ وتكذيبه، وهكذا الغالية المنتسبون إلى هذه الأمّة تجدُ أحدَهم يَغلُو في قُدوتِه، حتى يكرهُ أن يُوصَفَ بما هو فيه، ويُقالَ عليه الحقُّ، وهو مع هذا يقول في الله العظائمَ التي ما قالتْها فيه لا اليهودُ ولا النصارى، حتى يقول: إن الله موصوفٌ بكل ذَم وكل عيب كما هو موصوفٌ بكل حمدٍ وكل مدحٍ، وإنه هو إبليس وفرعون والأصنام، كما قالته النصارى في المسيح، والله سبحانَه عابَ على المشركين ما هو دون هذا، حيثُ قال: (وَجعلَوا للهِ مِمَا ذَرَأ َمِن الحرث والأَنعَام نَصِيبا فَقَالواْ هَذا لله بِزَعمِهِم وَهَذَا لِشرَكائنا فَمَا كانَ لشركائهم فَلَا
(1)
سورة المائدة: 75.
(2)
البخاري (3193،4974،4975) عن أبي هريرة.
يَصِلُ إلى اللهِ وَما كانَ للهِ فَهُو يَصلُ إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136))
(1)
،وقال:(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدوا بِغَيرِ عِلم)
(2)
.
وهؤلاء يرِيدون أن يُقالَ في أئمتِهم الحقُّ، ويقولون على الله الباطلَ، ويَرضوْن بأن يُسَبَّ الله ويُشْتَم، ولا يَرضَوْن بأن يُسَبَّ متبوعُ أحدِهم على ما افتراه على الله ورسوله، بل لا يَرضَون أن يُقال فيه الحقُّ أو أن يُضافَ إليه خطأٌ جائزٌ عليه وواقعٌ منه. وقال تعالى حكايةً عن الخليل عليه السلام:(وَكيفَ أَخَافُ مَاَ أشرَكتم وَلَا تَخَافُونَ أَنّكم أَشْرَكتُم بالله ما لَمْ ينُزل بِهِ عليكم سلطانا فأي الفريقين أَحَقُّ بالأَمن إِن كنُتم تعلَمون (81))
(3)
. قال تعالى: (الَذِينَ أمَنُواْ وَلَم يَلبِسُوَا إِيمَانَهُم بِظلم أُوْلئكَ لَهُمُ الأمنُ وَهُم مهْتَدُونَ (82))
(4)
.
كان المشركون يُخوَفون المؤمنين بآلِهَتِهم، ويقولون: إنكم إذا لم تتخذوها شُركاءَ وشُفعاءَ فإنها تَضرُكم، فأنكر الخليلُ عليه السلام وقِال:(وَكيفَ أَخَافُ مَا أَشرَكتُم وَلَا تَخَافُون أَنكّم أَشرَكتُم بالله مَا لم ينزِل بِهِ عَلَيكمْ سُلطانا)، أي كيف أخاف ما تدعونه من دون الله؟ وهو لا يَضرُّ ولا ينفع إلا بإذن الله، وأنتم لا تخافون اللهَ حيثُ أشركتم به فجعلتم له أندادًا، فأَعدلْتموهم به، تَدعُون من دونه
(1)
سورة الأنعام: 136.
(2)
سورة الأنعام: 108.
(3)
سورة الأنعام: 81.
(4)
سورة الأنعام: 82.
وتخافونَهم وترجونهم، وهو لم يُنزل بذلك عليكم سلطانًا، وهو الكتاب المنزَّل من السماء، (فأيُّ اَلفَرِيقَين أَحق بالأَمنِ إِن كنُتم تَعلَمُون (81)).
وفي الصحيحين
(1)
عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الذين أمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أَيُّنَا لم يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (إِنَّ الشركَ لَظلم عظيم (13))
(2)
".
وهذا بابٌ يَطول وصفُه، وإنما المقصود التنبيهُ عليه.
إذا عُرِفَ هذا فقد اتفقَ سلفُ الأمة وأئمتُها وجميعُ الطوائف الذين لهم قولٌ يُعتَبر أنَّ من سِوَى الأنبياءِ ليس بمعصوم، لا من الخطأ ولا من الذنوب، سواء كان صدِّيقًا أو لم يكن، ولا فرقَ بين أن يقول: هو معصوم من ذلك، أو محفوظٌ من ذلك، أو ممنوعٌ من ذلك.
قال الأئمة: كلُّ أحدٍ يُؤخَذ من قوله وْيترَك إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي أَوْجَب اللهُ على أهل الأرض الإيمانَ به وطاعتَه، بحيثُ يَجبُ عليهم أن يصدِّقوه بكل ما أخبرَ ويُطيعوه في كلِّ ما أمرَ.
وقد ذكرَ اللهُ طاعتَه واتباعَه في قريبٍ من أربعينَ موضعًا في
(1)
البخاري (32،3360 ومواضع أخرى) ومسلم (124).
(2)
سورة لقمان: 13.
القرآن، كما قال:(من يطع الرسول فقد أطاع الله)
(1)
، وقال:(وَمَا أَرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)
(2)
وقال تعالى: (فَلَا وَرَبكَ لَا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوكَ فيمَا شَجَر بينهم ثم لا يجدوا في أَنفسهم حرَجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65))
(3)
، وقال تعالى:(لَّا تَجْعَلُواْ دُعَاء اَلرَسُولِ بَينكم كَدُعاء بَعْضكم بَعْضا)، إلى قوله:(فليحذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أمره أَن تُصيبَهُم فِتنَة أَؤ يُصِيبَهُم عَذَاب أَليم (63))
(4)
، وقال تعالى:(وَاللهُ وَرَسُولُهُ أحق أَن يُرضوُه)
(5)
، وقال تعالى:(قُل إن كنتُم تُحِبونَ اللهَ فَاَتَّبِعوني يحْببِكمُ اللهُ)
(6)
،وقال تعالى:(فَإِن تَناَزعتُم في شَئ فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)
(7)
، وقال تعالى:(وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسولَ فَأوْلَئكَ مع اَلَّذِينَ أَنعَمَ اللهَُ عَليهِم مِّنَ النِّبينَ وَالصِّدِيقِين وَالشُهَداءً وَالصّالِحِينَ)
(8)
.
وطاعةُ الله والرسول هي عبادةُ اللهِ التي خُلِقَ لها الجنّ والإنس، فهي غايتُهم التي يُحِبُّها اللهُ ورسوله ويرضاها ويأمرهم بها، وإن كان قد شاءَ من بعضِهم ما هو بخلاف ذلك وخَلَقَهم له، فتلك غايةٌ
(1)
سورة النساء: 80.
(2)
سورة النساء: 64.
(3)
سورة النساء: 65.
(4)
سورة النور: 63.
(5)
سورة التوبة: 62.
(6)
سورة آل عمران: 31.
(7)
سورة النساء: 59.
(8)
سورة النساء: 69.
شاءَها وقَدَّرَها، وهذه غاية يُحِبها ويأمرُ بها ويرضاها. والكلامُ على هذا مبسوط في غير هذا الموضع
(1)
.
والعبادة لله أن يجمع غاية الحب له بغايةِ الذل له، فكل خيرٍ وكلِ كمال ومقامٍ وحالٍ قَرَّبَ إليه ونحوُ ذلك مما يُحمَد من العبادِ ويُطْلب منهم ويُرضى لهم فهو داخلٌ في طاعة اللهِ ورسوله أو مستلزمٌ لذلك. ولهذا اتفقت الأمةُ على أنه معصوم فيما يُبلِّغُه عن ربه تبارك وتعالى، فإن مقصودَ الرسالة لا يَتِمُ إلاّ بذلك، وكلُّ ما دل على أنه رسولُ اللهِ من معجزة وغيرِ معجزةٍ فهو يدلُّ على ما قال صلى الله عليه وسلم:" فإنّي لَنْ أكذِبَ على الله"
(2)
.
وقد اتفقوا أنه لا يُقَرُّ على خَطَأٍ في ذلك، وكذلك لا يُقَرُّ على الذنوب لا صغائرِها ولا كبائرِها، ولكن تنازعوا: هل يقع منهم بعضُ الصغائرِ مع التوبة منها أو لا يَقَعُ بحالٍ؟
فقال كثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلين وبعض متكلمي أهل الحديث: لا يَقَع منهم الصغيرةُ بحالٍ، وزادت الشيعةُ حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غيرُ خطأٍ.
وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من أصحابِ الأشعري وغيرهم فلم يَمنَعوا الوقوعَ إذا كانَ مع التوبة، كما دَلتْ عليه نصوصُ الكتابِ والسنة،
(1)
انظر مجموع الفتاوى (8/ 159 - 161، 187 - 190،197 - 200،440 - 442).
(2)
أخرجه مسلم (2361) عن طلحة.
فإن اللهَ يُحِبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهرين، وإذا ابْتَلَى بعضَ الأكابر بما يَتُوب منه فذاك لكمالِ النهاية، لا لنقصِ البدايةِ، كما قال بعضُهم: لو لم يكن التوبةُ أحبَّ الأشياءِ إليه لما ابتلَى بالذنب أكرمَ الخلق عليه. وفي الأثر
(1)
: "إنّ العبد لَيَعْمَل السيئةَ فيدخَلُ بها الجنةَ، وإنّ العبدَ لَيعملُ الحسنة فيدخلُ بها النارَ"، يعني أن السيئة يذكرُها ويتوبُ منها فيُدْخِلُه ذلك الجنةَ، والحسنةُ يُعْجَبُ بها ويَسْتكبرُ فيُدخِلُه ذلك النارَ.
وأيضًا فالحسنات والسيئات تَتنوَّعُ بحسبِ المقامات، كما يقال:"حسنات الأبرار سيئاتُ المقرَّبِين"، فمن فَهِمَ ما تَمحُوه التوبةُ وتَرفَعُ صاحبَها إليه من الدرجات وما يَتفاوتُ الناسُ فيه من الحسنات والسيئات زالتْ عنه الشبهةُ في هذا الباب، وأقرَّ الكتابَ والسنةَ على ما فيهما
(2)
من الهدى والصواب.
فإنّ الغُلاةَ يتوهمون أن الذنبَ إذا صدرَ من العبد كان نقصًا في حقّه لا يَنْجبرُ، حتى يجعلوا من فضلِ بعضِ الناس أنه لم يَسجدْ لصَنَم قطُّ. وهذا جهلٌ منهم، فإن المهاجرين والأنصار والذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضلُ من أولادِهم وغيرِ أولادِهم ممن وُلِدَ على الإسلام، وإن كانوا في أولِ الأمر كانوا كُفارًا يعبدون الأصنام، بل المنتقلُ من الضلال إلى الهدى ومن السيئات إلى
(1)
أخرجه أحمد في "الزهد"(ص 396،397) وابن المبارك في "الزهد"(162) عن الحسن مرسلاً، فهو ضعيف. انظر "الضعيفة"(2031).
(2)
في الأصل: "فيها"، والتصويب من "مختصر الفتاوى المصرية"(ص 107).
الحسنات يُضاعَفُ له الثوابُ، كما قال تعالى:(إِلًا مَن تَابَ وَآمَن وَعَمِلَ عملا صالِحًا فَأُوْلَئك يبَدِّلُ الله سيئاتِهِم حَسَنَات وَكاَنَ اللهُ غَفُورا رَّحِيمًا (70))
(1)
.
وقد ثبت في الصحيح
(2)
أن الله يومَ القيامة يَظهر لعبدِه فيقول: "إني قد أبدلتك مكانَ كل سيئةٍ حسنةً"، فحينئذٍ يَطلبُ كبائرَ ذُنوبِه.
وقد ثبت في الصحاح
(3)
من غير وجهٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الله أشدُ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من رجلٍ أضلَّ
(4)
راحلتَه بأرضٍ دَوِّيَّةٍ مَهلَكةٍ عليها طعامُه وشرابُه، فطلبَها فلم يجدْها، فنامَ تحت شجرةٍ يَنتظِرُ الموتَ، فلما استفاقَ إذا بدابَّتِه عليها طعامُه وشرابُه، فالله أشدُّ فَرَحًا بتوبة عبدِه مِن هذا براحلتِه.
وهذا أمرٌ عظيمٌ إلى الغاية. فإذا كانت التوبةُ بهذه المنزلةِ كيف لا يكون صاحبُها مَعظَّمًا عند اللهِ؟ وقد قال تعالى: (إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السماوات والأرض والجِبَالِ فَأَبَين أَن يحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَملَها الإنسانُ إِنَّه كانَ ظَلُوما جَهُولا (72) لِيَعُذبَ اللهُ اَلمُنافِقِينَ وَالمُناَفِقات وَالمشركين والمشركات ويتوب الله عَلَى اَلْمُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنات وكَاَنَ الله
(1)
سورة الفرقان: 70.
(2)
مسلم (190) عن أبي ذر.
(3)
البخاري (6308) ومسلم (2744) عن ابن مسعود، والبخاري (6309) ومسلم (2747) عن أنس. ورواه مسلم أيضًا (2745،2746) عن النعمان بن بشير والبراء بن عازب.
(4)
في الأصل: "أظل"، وهو خطأ.
غَفُورا رَّحيِما (73))
(1)
، فوصفَ الإنسانَ بالجهل والظلمِ، وجعلَ الفرقَ بين المؤمن والكافر والمنافق أن يتوبَ الله عليه، إذْ لم يكن له بُدٌّ من الجهل والظلم. ولهذا جاء في الحديث
(2)
: "كل ابنِ آدمَ خَطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابُون".
واعلم أن كثيرًا من الناس يَسبقُ إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقةُ ونحوُ ذلك، فيَسْتَعظمُ أن كريمًا يفَعل ذلك، ولا يعلم أن أكثر عُقَلاء بني آدم لا يَسرِقَون بل لا يزنون، حتى في جاهليتهم وكفرهم، فإن أبا بكر وغيره من الصحابة كانوا قبل الإسلام لا يَرْضَون
(3)
أن يفعلوا مثلَ هذه الأعمال، ولما بايعَ النبي صلى الله عليه وسلم هندًا بنتَ عُتبةَ بن ربيعة أمَّ معاوية بيعةَ النساء على أن لا يَسرقن ولا يزنين، قالت: أوَ تَزني الحُرَّةُ؟
(4)
فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلاّ للإماء. ولهذا قولهم "حُرَّة" تُرادُ به العفيفة، لأن الحرائرَ كن عَفائِفَ.
وأما اللواط فأكثر الأمم لم يكن يَعرفُه، ولم يكن هذا يُعرَفُ في العرب قطُ.
(1)
سورة الأحزاب: 72 - 73.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 198) والترمذى (2499) وابن ماجه (4251) عن أنس بن مالك. وحسنه الألباني في تعليقه على "المشكاة"(2341).
(3)
في الأصل: "لا يرضوا".
(4)
ذكره الطبري في "تاريخه"(3/ 61 - 62) بلاغًا ضمن قصة مشهورة. ونقل عنه ابن كثير في "البداية والنهاية"(6/ 616 - 618).
ولكن الذنوب التي هي في باب الضلال في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما يدخل في ذلك من البدع التي هي من جنس العُلُوِّ في الأرض والفخر والخُيَلَاء والحسد والكبر والرياء ونحو ذلك، هي في الناس الذين هم متعفِّفُون عن الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات، فإنّ الإخلاص لله والتوكل على الله والمحبة له ورجاء رحمة الله وخوف عذاب الله والصبر على حكم الله والتسليم لأمر الله= كل هذا من الواجبات، وكذلك الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك هو من فروض الكفايات، وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول تفصيلُه في هذا السؤال، حتى يفطن هذا ثم يفتح له الباب.
وقد ذكر الله الذين وعدَهم بالحسنى فلم يَنْفِ عنهم الذنوب، ولكن ذكرَ المغفرةَ والتكفيرَ فقال:(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35))
(1)
، وقال تعالى:(أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16))
(2)
.
وقد ثبت في الصحيح
(3)
عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لن يَدْخُلَ أحد منكم الجنةَ بعملِه"، قالوا: ولا أنت يا رسولَ الله؟ قال: "ولا أنا، إلاّ أن يَتَغَمَّدَني الله برحمته".
(1)
سورة الزمر: 33 - 35.
(2)
سورة الأحقاف: 16.
(3)
أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816) عن أبي هريرة.
فصل
إذا ثبتَ هذا فظلمُ العبدِ نَفسَه يكون بتركِ ما ينفعُها وهي محتاجة إليه، أو بفِعْلِ ما يَضُرُها، كما أن ظلم الغير كذلك يكون إما بمَنْع حقِّه أو التعدِّي. والنفسُ إنما تَحتاجُ من العبد إلى فعل ما أمرَ اللهُ به، وإنما يضرُّها فعلُ ما نهى الله عنه، فظلمُها لا يَخْرُج عن تركِ حسنة مأمورٍ بها أو فَعْلِ سيئةٍ منهيٍّ عنها، وما يُضْطَرُّ العبدُ إليه من أكلٍ وشرب ولباس وغير ذلك هو داخلٌ في هذا، فإن جميع ذلك هو من الواجبات المأمورِ بها، حتى أكلُ الميتةِ عند الضرورة يجب في المشهورِ من مذهب الأئمة الأربعة، قال مسروق: مَنِ اضْطُرَّ إلى الميتةِ ولم يأكل حتى ماتَ دخلَ النار.
وكذلك ما يَضرُّها من جنسِ العبادات، مثل الصوم الذي يزيد في مرضها أو يَقتُلها، أو الاغتسال بالماء البارد الذي يَقتُلها ونحو ذلك، هو من ظلمها المحظور، فالله تعالى أمرَ العبادَ بما ينفعُهم ونهاهم عما يَضرُّهم، كما قال قتادةُ: إن الله لم يأمر العبادَ بما أمرَهم به حاجة إليه، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بُخْلا به، ولكن أمرهم بما فيه صلاحُهم، ونهاهم عما فيه فسادُهم، ولهذا جاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد في غيرِ موضع.
والصلاح كلُّه في طاعة الله، والفسادُ كلُّه في معصيةِ الله، فالصلاح والطلاعة متلازمان، والمعصية والفساد متلازمان، كتلازُم الطيب والحِلّ، وكلُّ طيب حلال وكل حلالٍ طيّبٌ، وكل خبيثٍ
حرام وكل حرام خبيثٌ. والمعروفُ ملازمٌ مع الطاعةِ والصلاحِ، والمنكرُ ملازم مع المعصية والفساد، ولكن بعض الناس قد تبيَّنَ له اتصافُ الفعلِ ببعض هذه الصفات قبلَ بعض، كما يَعلم كثيرًا من العبادات ولا يعلم ما فيها من الصلاح، وكثيرًا من المحرَمات ولا يعلم ما فيها من الفساد، وكذلك قد يَرى مصالحَ كثيرةً ولا يعلم أمرَ الشارع بها.
والمؤمنُ يعلم أن الله يأمر بكل مصلحةٍ ويَنهى عن كل مفسدة، فإذا كان في بعض الأفعال رأى أنه مصلحة ولم يأمر به كان مخطئًا من أحد الوجهين: إما أن يكون في نفس الأمر مصلحة لما ترجح فيه من مفسدة لا يعلمها هو؛ وإِما أن يكون داخلاً فيما أمر الله به ولم يعلم.
ولهذا تنازعَ العلماء في المصالح المرسلة التي لم يُعلَم أن الشارع اعتبرها ولا أهدرها، فقيل: يُستدَلُّ بكونها مصلحة على أن الله اعتبرها، لأنه لا يُهمِلُ المصالح، وقيل: بل يُستدَلُّ بعدم اعتبارِ الشارع لها على أنها ليست مصلحةً، بل مضرتُها راجحة إذْ لوَ كانت مصلحتها راجحةً لاعتبرها الشارعُ. وتَتَفَاوَتُ فِطَنُ الناسِ في ذلك بحيث تَعرِفها بجهةِ الاعتبارِ والإهدارِ.
ومما يجب أن يُعرَف أنَ العبدَ قد يجب عليه أسبابُ أمورٍ لا تَجبُ عليه بدونها، فإن قام بها كان مصلحًا محسنًا إلى نفسِه، وإلاّ كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن تركُها ظلمًا في حق من لم يقبل تلك الأسبابِ، مثل من وَلِيَ ولايةً، ففي "المسند"
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
3/ 22،55 عن أبي سعيد الخدري. ورواه أيضًا الترمذي (1329). وضعّفه الألباني في "الضعيفة"(1156).