الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نِقْمتِك، وجميعِ سَخَطِك".
وفي الصحيح
(1)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يَدعو دعاءً إلَاّ خَتَمه بقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)). وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العباسَ وغيره أن يسأل العافيةَ في الدنيا والآخرة
(2)
، وعلَّم رجلاً أن يَدعُوَ فيقول:"اللهمَّ اغفر في وارحمني واهدني وعافني وارزقني"
(3)
، ومثل هذا كثير.
والعبد إذا اشتكى إلى ربِّه ما نَزل به من الضِّرِّ وسألَه إزالتَه لم يكن مذمومًا على ذلك باتفاق المسلمين، و
الشكوى إلى الله لا تُنافِي الصبر
، بل الشكوى إلى الخلقِ قد تُنافِي الصبرَ، فإنَّ يعقوبَ عليه السلام قال:(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)
(4)
، وقال:(قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ)
(5)
. وكان عمر بن الخطاب يقرأ في الفجر بسورة هود ويوسف ونحو ذلك، فلما وصل إلى قوله:(قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) فسُمِعَ نَشِيْجُه من أواخر الصفوف.
وهذا مما يدل على كَذِبَ الحكاية، فإن يعقوب عليه السلام اشتكى إلى الله ما أصابه بفراقِ ولدِه من البثّ والحُزْن، ولم يكن
(1)
البخاري (4522،6389) ومسلم (2690) عن أنس. والآية من سورة البقرة: 201.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 3،8،11) من طرق عن أبي بكر الصديق.
(3)
أخرجه مسلم (2697) عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه.
(4)
سورة يوسف: 83.
(5)
سورة يوسف: 86.
مذمومًا بذلك، وكذلك أيوب عليه السلام قال:(أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)) قال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84))
(1)
.
وقد قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88))
(2)
. وقال تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76))
(3)
.
فهؤلاء الأنبياء قد اشتكَوا إلى الله، وأزالَ ما اشتكَوا منه من الضرِّ والغمِّ والحزنِ ونحوِ ذلك، فكيف يُمحَى [نبيٌّ من] الأنبياء إذا اشتكى من ضُرِّ القمل وغيره؟ أم كيف يمحوه من ديوان النبوة إذا اختلج ذلك في سِرِّه؟ وأكثر ما يُقال: إنّ العبد ينبغي له أن يَرضَى بالقضاء. لكن جواب هذا من وجوه:
أحدها: أن الرضا ليس بواجب في أصح قولي العلماء بل يُستحبُّ، وإنما الواجبُ الصبرُ، والصبر لا يُنافي الشكوى.
الثاني: أن الرضا لا يُنافي القضاءَ مطلقًا، بل يَرضَى في الحاضر، ويسأل الله في المستقبل أمرًا آخر، فإن الرضا إنما يكون
(1)
سورة الأنبياء: 83 - 84.
(2)
سورة الأنبياء: 87 - 88.
(3)
سورة الشعراء: 75 - 76.
بعد القضاء، والدعاءُ إنما يكون بطلب مستقبل أو دفعِه، فالرضا بما مضى لا يُنافي طلبَ زوالِ المستقبل. وقد يخاف العبد أنه لا يدومُ الرضا، فيسألُ اللهَ زوالَ الشدَّة التي يَخافُ معها زوالَ رضاه، فالداعي قد يكون راضيًا وغيرَ راضٍ، كما أن الراضيَ قد يكونُ داعيًا وغيرَ داع.
الثالث: أن اختلاجَ المصيبةِ في السر لا يُنافي الرضا باتفاق العقلاء، ولا يدخل هذا في التكليف، فضلاً عن أن يكون ذنبًا، أو أن يستحق صاحبُه زوالَ نبوته.
وبالجملة فهذه الحكايات المخالفة لشريعةِ محمد صلى الله عليه وسلم لا تخلو عن وجهين: إما أن تكون كذبًا، وإمّا أن تكونَ غيرَ مشروعةٍ لنا في دين الإسلام، فلا يحلُّ لأحدِ أن يحكيَها لمن يتبعُها، ولا أن يستحسنَ العملَ بها في ديننا، ولا يمدحَ على ذلك.
مسألة
في قوله تعالى: (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)
(1)
، هل "من" هاهنا للتبعيض؟ فيكون الحكم بالعداوة على البعض؛ أو تكون "من" زائدة؟ فيُحكَم على كلِّ واحدٍ ولدٍ وكل زوج بالعداوة.
فإن قلتم: إنها للتبعيض فما حكمكُم على من يعتقد زيادتَها؟
ويزعم أنه يستدل على الحديث والقرآن بكلام العرب، وهل من دليلٍ على ذلك فيما ذكر من القرآن والحديث وكلام العرب؟ فبيِّنُوه، أم ليس الأمر كذلك؟
الجواب
الحمد لله. بل "من" هُنا للتبعيض باتفاق الناس، والمعنى أن من الأزواج والأولاد عدوًّا، وليس المراد أنّ كل زوجٍ وولدٍ عدوٌّ
(2)
. فإنّ هذا ليس هو مدلولَ اللفظ، وهو باطل في نفسِه، فإن سبحانَه قد قال عن عباد الرحمن: إنهم يقولون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
(1)
سورة التغابن: 14.
(2)
في الأصل: "عدوا".
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ)
(1)
، فسألوا اللهَ أن يَهَبَ لهم من أزواجهم وأولادِهم قرةَ أعين، فلو كان كل زوج وولدٍ عدوًّا
(2)
لم يكن فيهم قرةُ أعين، فإن العدوَّ لا يكون قرةَ عين بل سُخْنَةَ عين، وأيضًا فإنه من المعلوم أن مثلَ إسماعيل وإسحاق ابْنَي إبراهيم، ومثلَ يحيى بن زكريا وأمثالَهم ليسوا أعداءً.
وقول من قال: إنها هنا زائدة، غلط لوجوه:
أحدها: أن مذهب سيبويه وجمهور أئمة النحاة أنها لا تُزاد في الإثبات، وإنما تُزاد في النفي تحقيقًا لعموم النفي
(3)
كقوله: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)
(4)
، وقوله (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)
(5)
ونحو ذلك، فإنه لولا "من" لكان الكلام ظاهرًا في العموم، فإنه يجوز أن تقول: ما رأيتُ رجلاً بل رجلين، فإذا أدخلتَ "من" فقلتَ: ما رأيتُ من رجلٍ كان نصًّا في العموم، فلا يجوز أن يقال: ما رأيتُ من رجلٍ بل رجلين، مع أن النكرة في سياق النفي للعموم مطلقًا، لكن قد يكون نصًّا وقد يكون ظاهرًا، فإذا كانت ظاهرًا احتملت نفيَ الواحد من الجنس بخلاف النص، وهذا الموضعُ إثبات لا نفي، فلا تُزادُ فيه.
(1)
سورة الفرقان: 74.
(2)
في الأصل: "عدو".
(3)
انظر "مغني اللبيب"(ص 358 وما بعدها).
(4)
سورة المائدة: 73.
(5)
سورة هود: 6.
الثاني: أنّ من جوَّز زيادتَها في الإثبات - كالأخفش - لا يُجوَّزه إلاّ إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه، وإلاّ فلو قال قائل: إن من هؤلاء القوم مسلمين، وأرادَ أنَّ جمعَهم مسلمون، لم يجزْ ذلك بالاتفاق.
الثالث: أنه إذا قيل بزيادتها كان المعنى باطلاً.
الرابع: الزيادة على خلاف الأصل، فلا يجوز ادّعاؤها بغير دليلٍ، والله أعلم.
مسألة
فيمن استدل بتحويل النبي صلى الله عليه وسلم رِداءَه في الاستسقاء، وجَعْلِ أعلاه أسفلَه، ورَفْعِ ظاهرِ كفيْه إلى السماء، وجَعْلِ باطنِها إلى الأرض= على أن الله ليس فوقَ السماوات على العرش بائن من الخلق، وأنه بذاتِه لا يختصُّ بجهةِ العُلُوّ، هل هو مصيبٌ في ذلك الاستدلال أم لا؟ وما معنى الحديث؟ وهل لقولِ طائفةٍ من الفقهاء إنه يُستحب لمن هو في شدةٍ أن يَرفعَ ظاهرَ كفَّيهِ إلى السماء دون باطنِها وجهٌ؟ ولو فُرِضَ أن الحديث يدل على ذلك ولو على بُعْدٍ، فهل مثلُ ذلك مع ما يزعمونه أدلةً عقلية دلَّتْ على استحالة ذلك يُعارِض ما ثبتَ بالكتاب والسنة من أن الله تعالى مستوٍ على عرشه بائنٌ من خلقِه فوقَ كل شيء وعالٍ على كل شيء أم لا؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين. استدلالُ المستدلِّ بهذا وإن سبقَه إلى نحو منه من المتجهمةِ المنتسبةِ إلى الحديث، فإنه يدلُّ على غايةِ الجهل بما فعله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء، وغايةِ الجهلَ في الاستدلال بذلك على نفي علوِّ الله، إذْ ما فعلَه يدل على نقيضِ مطلوبِ هذا المستدلِّ الجاهل. ونحن نبيّن ذلك بالكلام على ما
فعلَه من تحويل الرداء، ومن رَفْعِ يديه في الاستسقاء.
أما الفصل الأول - وهو تحويلُ الرداء - فما علمتُ أحدًا يستدلُّ به على نفي العلوِّ، ولا فيه شبهةٌ تَقتضي ذلك، وإنما المعروف عن بعضهم أنه يستدل برفع اليدين، فهذا هو الذي يَعترض به بعضُ الناس، فأما الرداء فلا، ولكن نتكلم على الفصلين.
أما الأول فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل أعلاه أسفلَه كما قاله هذا المستدل، وإنما جَعلِ الأيمنَ على الأيسر والأيسَرَ على الأيمن، وقَلَبَه فجعلَ باطنَه ظاهرًا وظاهرَه باطنًا، كما جاء مفسَّرًا في الأحاديث المعروفة في الباب، فإن في الصحيحين
(1)
عن عبد الله بن زيد قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى، فاستسقى، واستقبلَ القبلة، وقَلَبَ رداءه، وصلى ركعتين. وفي لفظ: استقبل القبلة، وحوَّل رداءه. فلفظُ الحديث جاء بلفظ القلب وبلفظ التحويل، ورواه البخاري من وجوهٍ بلفظ التحويل
(2)
، وذكر عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال
(3)
: جعلَ اليمينَ على الشمال.
ورواه أبو داود
(4)
من حديث عبد الله بن زيد أيضًا، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يَستسقي، قال: فحوَّل رداءَه، وجعلَ عطافَه الأيمنَ
(1)
البخاري (1012 ومواضع أخرى) ومسلم (894).
(2)
بأرقام (1005،1012،1023،1024،1025،1028)، وبلفظ القلب، في (1011،1026،1027،6343).
(3)
برقم (1027).
(4)
برقم (1163).
على عاتقِه الأيسر، وجعلَ عطافَه الأيسرَ على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله عز وجل.
ورواه مالك
(1)
وأحمد
(2)
أيضًا - واللفظ له - من حديث عبد الله ابن زيد قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استسقى لنا أطالَ الدعاء وأكثر المسألةَ، قال: ثم تحوَّلَ إلى القبلة وحوَّلَ رِداءَه فقلبَه ظهرًا لبطنٍ.
ورواه الدارقطني
(3)
أيضًا من حديث عبد الله بن زيد قال: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلَّى يستسقي، فاستقبلَ القبلةَ، فقَلَبَ رداءَه وصلَّى ركعتين. قال سفيان: جعلَ اليمينَ على الشمال والشمالَ على اليمين.
ورواه أحمد
(4)
وأبو داود
(5)
أيضًا عنه قال: استسقى النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعليه خميصة سوداءُ، فأرادَ أن يأخذَ أسفلَها فيجعلَه أعلاها، فثَقُلتْ عليه، فَقَلَبَها الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ] على الأيمن.
فهذا فيه أيضًا ما في سائر الأحاديث أنه قلبَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن، لكن فيه ذكر الراوي أنه همَّ بجَعْلِ أسفلها أعلاها، فهذا ليس فيه أنه فعلَ ذلك، وإنما فيه أن الراوي ظن أنه أراد فِعْلَه، والظن قد يُصيب وقد يُخطئ.
(1)
الموطأ (1/ 190).
(2)
4/ 41.
(3)
2/ 66.
(4)
4/ 41.
(5)
برقم (1164).
فهذه أحاديث عبد الله بن زيد، وحديثه أشهر حديثٍ في تحويل الرداء وفي صلاة الاستسقاء، وأصحُّ الأحاديث في ذلك، فيها تارةً متصلاً بالحديث وتارةً من تفسير الرواة أنه جعلَ الأيمنَ على الأيسر [والأيسرَ على الأيمن]، وفيها تصريح بأنه لم يفعل الأعلى أسفل ولا الأسفلَ أعلى. وكذلك غيره من الحديث مثل حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد
(1)
وابن ماجه
(2)
، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا يَستسقي، فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبَنَا ودعا الله عز وجل، وحوَّلَ وجهَه نحو القبلةِ رافعًا يَدَيْه، ثم قلَبَ رداءَه، فجعلَ الأيمنَ على الأيسر والأيسرَ على الأيمن.
وكذلك رواه الدارقطني
(3)
من حديث ابن عباس قال: سنة الاستسقاء سنةُ الصلاة في العيدين، إلاّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَبَ رداءَه، فجعل يمينَه على يسارِه ويسارَه على يمينه، وذكر تمامَه.
وفي إسناده مقال يَصلُح للاعتضاد
(4)
والاستشهاد.
وتحويلُ الرداء في دعاء الاستسقاء سنةٌ عند فقهاء الحجاز وفقهاءِ الحديثِ كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وهو قولُ صاحبَي أبي حنيفةَ
(1)
2/ 326.
(2)
برقم (1268).
(3)
2/ 66.
(4)
في الأصل: "للاقتصاد" تحريف. وفي إسناد الحديث محمد بن عبد العزيز، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث.