المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دلالة السمع على أفعال الله تعالى - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌دلالة السمع على أفعال الله تعالى

- ‌أقوال السلف في الأفعال الاختيارية بالله تعالى

- ‌كلام الخلال في كتاب السنة

- ‌قول الأشعري في كتابه المقالات

- ‌أقوال أهل السنة: لـ أبي عثمان الصابوني في رسالته

- ‌قول البيهقي في كتابه الأسماء والصفات

- ‌قول الخلال في كتاب السنة

- ‌قول عبد العزيز الماجشون

- ‌قول آخر لالخلال في السنة

- ‌قول البخاري في كتاب خلق أفعال العباد

- ‌كلام المحاسبي في فهم القرآن

- ‌كلام محمد بن الهيصم في جمل الكلام

- ‌كلام الدارمي في النقض على بشر المريسي

- ‌كلام الدارمي في الرد على الجهمية

- ‌عود إلى كتاب النقض على المريسي

- ‌قول أبي بكر عبد العزيز في المقنع

- ‌قول القاضي أبي يعلي في إيضاح البيان

- ‌قول عبد الله بن حامد في أصول الدين

- ‌قول أبي إسماعيل الأنصاري في مناقب أحمد بن حنبل

- ‌قول الأنصاري في ذم الكلام

- ‌قول السجزي في رسالته إلى أهل زبيد

- ‌قول السجزي في الإبانة

- ‌كلام أبي القاسم الأصبهاني في الحجة على تارك المحجة

- ‌كلام أبي الحسن الكرجي في الفصول في الأصول

- ‌كلام أبي حامد الإسفرايني في التعليق في أصول الفقه

- ‌كلام أبو محمد الجويني في عقيدة أصحاب الشافعي

- ‌دلالة القرآن على مسألة أفعال الله تعالى

- ‌دلالة السنة على أفعال الله تعالى

- ‌الناس في مسألة أفعال الله تعالى ثلاثة أقسام

- ‌أصل خطأ المبتدعة في هذه المسألة

- ‌كلام الرازي والآمدي عن أدلة النفاة

- ‌كلام ابن ملكا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للرازي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌أقوال الجويني في مسألة أفعال الله ورد ابن تيمية عليه

- ‌قول الرازي في الأربعين

- ‌الاستدلال على النفي والرد عليه

- ‌معارضة بعض المتكلمين للرازي

- ‌الرد عليهم من وجوه الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌طريقة الأئمة في مسألة القرآن

- ‌قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه

- ‌قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه

- ‌جواب على الفلاسفة في مسألة التسلسل

- ‌مراجعة تعليق عبد العزيز الكناني

- ‌رأي أحمد بن حنبل في مسألة أفعال الله

- ‌أقوال مختلفة في كلام الله تعالى

- ‌عدم ذكر مصنفي أصول الدين

- ‌عدم ذكر الشهرستاني لقول السلف في نهاية الإقدام

- ‌موقف الرازي في مسألة القرآن وأفعال الله

- ‌فصل

- ‌حجج الرازي على حدوث العالم ومعارضة الأموري له

- ‌البرهان الأول

- ‌امتناع حوادث لا أول لها من وجوه

- ‌الثاني والتعليق عليه

- ‌الثالث والتعليق عليه

- ‌الرابع والتعليق عليه

- ‌الخامس والتعليق عليه

- ‌السادس والتعليق عليه

الفصل: ‌دلالة السمع على أفعال الله تعالى

‌دلالة السمع على أفعال الله تعالى

ونحن ننبه عى دلالة السمع على أفعال اله تعالى الذي به تنقطع الفلاسفة الدهرية، ويتبين به مطابقة العقل للشرع.

ولا ريب أن دلالة ظاهر السمع ليس فيها نزاع، لكن الذين يخالفون دلالته يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة، والدلالة العقلية القاطعة خالفتها، فأصل الدلالة متفق عليه، فنقول:

معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية القائمة به، كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض، والطي، والإتيان، والمجيء، والنزول، ونحو ذلك.

بل والخلق، والإحياء، والإماتة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالإفعال اللازمة كالاستواء، وبالأفعال المتعدية كالخلق، والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم، فإن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعدياً إلى مفعول أو لم يكن.

والفاعل لا بد له من فعل، سواء كان فعله مقتصراً عليه أم متعدياً إلى

ص: 3

غيره.

والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله، إذ كان لا بد له من الفاعل.

وهذا معلوم سمعاً وعقلاً.

أما السمع فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن، بل وغيرها من اللغات، متفقون على أن الإنسان إذا قال:(قام فلان وقعد) وقال: (أكل فلان الطعام وشرب الشراب) فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول، فكما أنه في الفعل اللازم معنا فعل وفاعل ففي الجملة المتعدية معنا أيضاً فعل وفاعل وزيادة مفعول به.

ولو قال قائل: الجملة الثانية ليس فيها فعل قائم بالفاعل، كما في الجملة الأولى، بل الفعل الذي هو (أكل) و (شرب) نصب المفعول - من غير تعلق بالفاعل أولاً - لكان كلامه معلوم الفساد، بل يقال: هذا الفعل تعلق بالفاعل أولاً، كتعلق (قام وقعد) ، ثم تعدى إلى المفعول، ففيه ما في الفعل اللازم وزيادة التعدي، وهذا واضح لا يتنازع فيه اثنان من أهل اللسان.

ص: 4

فقوله تعالى: {هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} (الحديد: 4) تضمن فعلين: أولهما متعد إلى المفعول به، والثاني مقتصر لا يتعدى، فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى:{ثم استوى} - فعلاً متعلقاً بالفاعل، فقوله (خلق) كذلك بلا نزاع بين أهل العربية.

ولو قال قائل: (خلق) لم يتعلق بالفاعل، بل نصب المفعول به ابتداء، لكان جاهلاً، بل في (خلق) ضمير يعود إلى الفاعل كما في (استوى) .

وأما من جهة العقل: فمن جوز ان يقوم بذات الله تعالى فعل لازم به، كالمجيء والاستواء، ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق كالخلق والبعث والإماتة والإحياء.

كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير، كالعلم والقدرة والسمع والبصر، ولهذا لم يقل أحد من العقلاء بإثبات أحد الضربين دون الآخر، بل قد يثبت الأفعال المتعدية القائمة به كالتخليق من ينازع في الأفعال اللازمة.

كالمجيء والإتيان.

وأما العكس فما علمت به قائلاً.

وإذا كان كذلك كان حدوث ما يحدثه الله تعالى من المخلوقات تابعاً لما يفعله من أفعاله الاختيارية القائمة بنفسه، وهذه سبب الحدوث، والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفاً بأنه يتكلم بما يشاء.

فعال لما يشاء.

وهذا قد قاله العلماء الأكابر من أهل السنة والحديث.

ونقلوه عن السلف والأئمة، وهو قول طوائف كثيرة من أهل الكلام والفلسفة المتقدمين والمتأخرين، بل هو قول جمهور المتقدمين من الفلاسفة.

ص: 5

وعلى هذا فيزول الإشكال ويكون إثبات خلق السماوات والأرض إنما يتم بما جاء به الشرع، ولا يمكن القول بحدوث العالم على أصل نفاة الأفعال الذين يزعمون أن العقل قد دل على نفيها، ويقدمون هذا الذي هو عندهم دليل عقلي على ما جاء به الكتاب والسنة، والعقل عند التحقيق يبطل هذا القول ويوافق الشرع، فإنه إذا تبين أن القول بنفيها يمتنع معه القول بحدوث شيء من الحوادث: لا العالم ولا غيره، والحوادث مشهودة، كان العقل قد دل على صحة ما جاء به الشرع في ذلك، والله سبحانه موصوف بصفات الكمال، منزه عن النقائص، وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص فالخالق أحق به، وكل نقص نزه عنه المخلوق فالخالق أحق بأن ينزه عنه، والفعل صفة كمال لا صفة نقص، كالكلام والقدرة، وعدم الفعل صفة نقص، كعدم الكلام وعدم القدرة، فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع، وهو المطلوب.

وكان الناس قبل أبي محمد بن كلاب صنفين، فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها، والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا، فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها.

ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشهري وغيرهما، وأما الحارث المحاسبي فكان ينتسب إلى قول ابن كلاب، ولهذا أمر أحمد بهجره، وكان أحمد يحذر عن ابن كلاب وأتباعه، ثم قيل عن الحارث: إنه رجع عن قوله.

ص: 6

وقد ذكر الحارث في كتاب فهم القرآن عن أهل السنة في هذه المسألة قولين، ورجح قول ابن كلاب، وذكر ذلك في قول الله تعالى:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} [التوبة: 105] وأمثال ذلك، وأئمة السنة والحديث على إثبات النوعين، وهو الذي ذكره عنهم من نقل مذهبهم، كـ حرب الكرماني وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، بل صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كـ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد ين منصور.

وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم.

ص: 7

وطائفة أخرى من السلفية كـ نعيم بن حماد الخزاعي والبخاري صاحب الصحيح وأبي بكر بن خزيمة، وغيرهم كـ أبي عمر بن عبد البر وأمثاله: يثبتون المعنى الذي يثبته هؤلاء، ويسمون ذلك فعلاً ونحوه، ومن هؤلاء من يمتنع عن إطلاق لفظ الحركة لكونه غير مأثور.

وأصحاب أحمد منهم من يوافق هؤلاء، كـ أبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأمثالهما، ومنهم من يوافق الأولين، كـ أبي عبد الله بن حامد وأمثاله، ومنهم طائفة ثالثة - كالتميميين وابن الزاغوني غيرهم - يوافقون النفاة من أصحاب ابن كلاب وأمثالهم.

ولما كان الإثبات هو المعروف عند أهل السنة والحديث كـ البخاري

ص: 8

وأبي زرعة وأبي حاتم ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم من العلماء الذين أدركهم الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة، كان المستقر عنده ما تلقاه عن أئمته: من أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، وأنه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة.

وكان له أصحاب كـ أبي علي الثقفي وغيره تلقوا طريقة ابن كلاب، فقام بعض المعتزلة وألقى إلى ابن خزيمة سر قول هؤلاء، وهو أن الله لا يوصف بأنه يقدر على الكلام إذا شاء، ولا يتعلق ذلك بمشيئته، فوقع بين ابن خزيمة وغيره وبينهم في ذلك نزاع، حتى أظهروا موافقتهم له فيما لا نزاع فيه، وأمر ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له، وصار الناس حزبين، فالجمهور من أهل السنة وأهل الحديث معه، ومن وافق طريقة ابن كلاب معه، حتى صار بعده علماء نيسابور وغيرهم حزبين، فـ الحاكم أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن

ص: 9

السلمي وأبو عثمان النيسابوري وغيرهم معه وكذلك يحيى بن عمار السجستاني وأبو عبد الله بن منده وأبو نصر السجزي وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهم معه، وأما أبو ذر الهروي وأبو بكر البيهقي وطائفة أخرى فهم مع ابن كلاب.

وكذلك النزاع كان بين طوائف الفقهاء والصوفية والمفسرين وأهل الكلام والفلسفة وهذه المسألة كانت المعتزلة تلقبها بمسألة (حلول الحوادث) وكانت المعتزلة تقول: إن الله منزه عن الأعراض والأبعاض والحوادث والحدود، ومقصودهم نفي الصفات ونفي الأفعال، ونفي

ص: 10

مباينته للخلق وعلوه على العرش، وكانوا يعبرون عن مذاهب أهل الإثبات أهل السنة بالعبادات المجملة التي تشعر الناس بفساد المذهب، فإنهم إذا قالوا (إن الله منزه عن الأعراض) لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما ينكر، لأن الناس يفهمون من ذلك أنه منزه عن الاستحالة والفساد كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام، ولا ريب أن الله منزه عن ذلك، ولكن مقصودهم أنه ليس له علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام قائم به، ولا غير ذلك من الصفات التي يسمونها هم أعراضاً.

وكذلك إذا قالوا: (إن الله منزه عن الحدود والأحياز والجهات) أوهموا الناس أن مقصودهم بذلك أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنىصحيح، ومقصودهم: أنه ليس مبايناً للخلق ولا منفصلاً عنه، وأنه ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يعرج به إليه، ولم ينزل منه شيء، ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه شيء، ولا يتقرب إلى شيء، ولا ترفع إليه الأيدي في الدعاء ولا غيره، ونحو ذلك من معاني الجهمية.

وإذا قالوا: (إنه ليس بجسم) أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات، ولا مثل أبدان الخلق، وهذا المعنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه لا يرى ولا يتكلم بنفسه، ولا يقوم به صفة، ولا هو مباين للخلق، وأمثال ذلك.

ص: 11

وإذا قالوا: (لا تحله الحوادث) أوهموا الناس أن مرادهم أنه لا يكون محلاً للتغيرات والاستحالات ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين فتحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح، ولكن مقصودهم بذلك أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام ولا فعل يقوم به يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يقدر على استواء أو نزول أو إتيان أو مجيء، وأن المخلوقات التي خلقها لم يكن منه عند خلقها فعل أصلاً، بل عين المخلوقات هي الفعل، ليس هناك فعل ومفعول، وخلق ومخلوق، بل المخلوق عين الخلق، والمفعول عين الفعل، ونحو ذلك.

وابن كلاب ومن اتبعه وافقوهم على هذا وخالفوهم في إثبات الصفات، وكان ابن كلاب والحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وغيرهم يثبتون مباينة الخالق للمخلوق وعلوه بنفسه فوق المخلوقات، وكان ابن كلاب وأتباعه يقولون: إن العلو على المخلوقات صفة عقلية تعلم بالعقل، وأما استواؤه على العرش فهو من الصفات السمعية الخبرية التي لا تعلم إلا بالخبر، وكذلك الأشعري يثبت الصفات بالشرع تارة وبالعقل أخرى، ولهذا يثبت العلو ونحوه مما تنفيه المعتزلة، وثبت الاستواء على العرش، ويرد على من تأوله بالاستيلاء ونحوه مما لا يختص بالعرش، بخلاف أتباع صاحب الإرشاد فإنهم سلكوا طريقة المعتزلة فلم يثبتوا الصفات إلا بالعقل، وكان الأشعري وأئمة أصحابه

ص: 12

يقولون: إنهم يحتجون بالعقل لما عرف ثبوته بالسمع، فالشرع هو الذي يعتمد عليه في أصول الدين والعقل عاضد له معاون.

فصار هؤلاء يسلكون ما يسلكه من سلكه من أهل الكلام المعتزلة ونحوهم فيقولون: إن الشرع لا يعتمد عليه فيما وصف الله به وما لا يوصف، وإنما يعتمد في ذلك عندهم على عقلهم، ثم ما لم يثبته إما أن ينفوه وإما أن يقفوا فيه.

ومن هنا طمع فيهم المعتزلة، وطمعت الفلاسفة في الطائفتين، بإعراض قلوبهم عما جاء به الرسول وعن طلب الهدى من جهته، وجعل هؤلاء يعارضون بين العقل والشرع كفعل المعتزلة والفلاسفة، ولم يكن الأشعري وأئمة أصحابه على هذا، بل كانوا موافقين لسائر أهل السنة في وجوب تصديق ماء جاء به الشرع مطلقاً، والقدح فيما يعارضه، ولم يكونوا يقولون:(إنه لا يرجح إلى السمع في الصفات) ولا يقولون: (الأدلة السمعية لا تفيد اليقين) بل كل هذا مما أحدثه المتأخرون الذين مالوا إلى الاعتزال والفلسفة من أتباعهم، وذلك لأن الأشعري صرح بأن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم ليس موقوفاً على دليل الأعراض، وأن الاستدلال به على حدوث العالم من البدع المحرمة في دين الرسل، وكذلك غيره ممن يوافقه على نفي الأفعال القائمة به قد يقول: إن هذا

ص: 13

الدليل دليل الأعراض صحيح، لكن الاستدلال به بدعة، ولا حاجة إليه، فهؤلاء لا يقولون: إن دلالة السمع موقوفة عليه، لكن المعتزلة القائلون بأن دلالة السمع موقوفة على صحته صرحوا بأنه لا يستدل بأقوال الرسول على ما يجب ويمتنع من الصفات، بل ولا الأفعال، وصرحوا بأنه لا يجوز الاحتجاج على ذلك بالكتاب والسنة، وإن وافق العقل، فكيف إذا خالفه؟

وهذه الطريقة هي التي سلكها من وافق المعتزلة في ذلك كصاحب الإرشاد وأتباعه، وهؤلاء يردون دلالة الكتاب والسنة، تارة يصرحون بأنا وإن علمنا مراد الرسول فليس قوله مما يجوز أن يحتج به في مسائل الصفات، لأن قوله إنما يدل بعد ثبوت صدقه الموقوف على مسائل الصفات، وتارة يقولون: إنما لم يدل لأنا لا نعلم مراده لتطرق الاحتمالات إلى الأدلة السمعية، وتارة يطعنون في الأخبار.

فهذه الطرق الثلاث التي وافقوا فيها الجهمية ونحوهم من المبتدعة: أسقطوا بها حرمة الكتاب والرسول عندهم، وحرمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حتى يقولون: إنهم لم يحققوا أصول الدين كما حققناها، وربما اعتذروا عنهم بأنهم كانوا مشتغلين بالجهاد، ولهم من جنس هذا

ص: 14

الكلام الذي يوافقون به الرافضة ونحوهم من أهل البدع، ويخالفون به الكتاب والسنة والإجماع، مما ليس هذا موضع بسطه، وإنما نبهنا على أصول دينهم وحقائق أقوالهم، وغايتهم أنهم يدعون في أصول الدين المخالفة للكتاب والسنة: المعقول والكلام، وكلامهم فيه من التناقض والفساد ما ضارعوا به أهل الإلحاد، فهم من جنس الرافضة: لا عقل صريح ولا نقل صحيح، بل منتهاهم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، وهذا منتهى كل مبتدع خالف شيئاً من الكتاب والسنة، حتى في المسائل العملية والقضايا الفقهية.

ص: 15

ومع ذلك فهم لا يحتاجون من العقليات في أصول الدين إلى ما يحتاج إليه المعتزلة، فإن المعتزلة يزعمون أن النبوة لا تتم إلا بقولهم في التوحيد والعدل، فيجعلون التكذيب بالقدر من أصولهم العقلية، وكذلك نفي الصفات.

وأما هؤلاء فالمشهور عندهم أنه إذا رؤيت المعجزة المعتبرة علم بالضرورة أنه تصديق للرسول، وإثبات الصانع أيضاً معلوم بالضرورة أو بمقدمات ضرورية، فالعقليات التي يعلم بها صحة السمع مقدمات قليلة ضرورية، بخلاف المعتزلة فإنهم طولوا المقدمات وجعلوها نظرية، فهم خير من المعتزلة في أصول الدين من وجوه كثيرة، وإن كان المعتزلة خيراً منهم من بعض الوجوه.

وأبو الحسن الأشعري لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، ومال إلى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الإمام أحمد، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها، كـ الإبانة والموجز والمقالات وغيرها، وكان مختلطاً بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم، بمنزلة ابن عقيل عند متأخريهم، لكن الأشعري وأئمة أصحابه أتبع لأصول الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة من مثل ابن عقيل في كثير من أحواله، وممن اتبع ابن عقيل كـ أبي الفرج ابن الجوزي في كثير من كتبه، وكان القدماء من أصحاب أحمد كـ أبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق ذكر الموافق للسنة في الجملة، ويذكرون ماذكره من تناقض المعتزلة، وكان بين التميميين

ص: 16

وبين القاضي أبي بكر وأمثاله من الأئتلاف والتواصل ما هو معروف، وكان القاضي أبو بكر يكتب أحياناً في أجوبته في المسائل محمد بن الطيب الحنبلي ويكتب أيضاً الأشعري، ولهذا توجد أقوال التميميين مقاربة لأقواله وأقوال أمثاله المتبعين لطريقة ابن كلاب، وعلى العقيدة التي صفنها أبو الفضل التميمي اعتمد أبو بكر البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب الإمام أحمد لما أراد أن يذكر عقيدته، وهذا بخلاف أبي بكر عبد العزيز وأبي عبد الله بن بطة وأبي عبد الله بن حامد وأمثالهم، فإنهم مخالفون لأصل قول الكلابية.

والأشعري وأئمة أصحابه، كـ أبي الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد الباهلي والقاضي أبي بكر.

متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليد، وإبطال تأويلها، وليس له في ذلك قولان أصلاً، ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين أصلاً، بل جميع من يحكي المقالات من أتباعه وغيرهم يذكر أن ذلك قوله، ولكن لأتباعه في ذلك قولان.

ص: 17