الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل الكلام، فقالوا: الموجب التام للعالم إن كان ثابتاً في الأزل لزم قدمه، وإلا لزم ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، وإن لم يكن ثابتاً في الأزل احتاج في حدوث تمامه إلى مرجح، والقول فيه كالقول في الأول، ويلزم التسلسل.
وعظم شأن هذه الحجة على هؤلاء المتكلمين، لأنهم يقولون ببطلان التسلسل، وبحدوث الحوادث من غير سبب حادث، ويقولون بأن المرجح التام لايستلزم أثره، بل القادر أو المريد يرجح أحد مقدوريه أو أحد مراديه على الآخر بلا مرجح، فصاروا بين أمرين: إما إثبات الترجيح بلا مرجح، وإما التزام التسلسل، وكلامهما مناقض لأصولهم، ولهذا عدل من عدل في جوابها إلى الإلزام والمعارضة بالحوادث اليومية.
جواب على الفلاسفة في مسألة التسلسل
ونحن قد بينا جوابها من وجوه:
منها أن يقال: التسلسل يراد به أمور، أحدها: التسلسل في المؤثرات والفاعلين والعلل، وهذا باطل بصريح العقل، واتفاق العقلاء، ومنها: التسلسل في تمام كون المؤثر مؤثراً، وهذا كالذي قبله باطل بصريح العقل، وقول جمهور العقلاء.
ومنها: التسلسل الذي في معنى الدور، مثل أن يقال: لا يحدث حادث أصلاً حتى يحدث حادث، وهذا أيضاً باطل بضرورة العقل واتفاق العقلاء.
ومنها: التسلسل في الآثار المتعاقبة، وتمام التأثير في الشيء المعين، مثل أن يقال: لا يحدث هذا حتى يحدث قبله، ولا يحدث هذا إلا ويحدث بعده، وهلم جراً، وهذا فيه نزاع مشهور بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف، فمن المسلمين وغيرهم من جوزه في المستقبل دون الماضي.
وإذا عرفت هذه الأنواع قالوا: إذا لم يكن المؤثر تاماً في الأزل لم يحدث عنه شيء حتى يحدث حادث به يتم كونه مؤثراً، إذ القول في ذلك الحادث كالقول في غيره، فيكون حقيقة الكلام: أنه لا يحدث شيء ما حتى يحدث شيء، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء.
لكن هذا الدليل إن طلبوا به أنه لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء فهذا يناقض قولهم، وهو حجة عليهم، وإن أرادوا أنه كان في الأزل مؤثراً تاماً في الأزل لم تتجدد مؤثريته، لزم من ذلك أنه لا يحدث عنه شيء بعد أن لم يكن حادثا، فيلزم أن لا يحدث في العالم
شيء.
ولهذا عارضهم الناس بالحوادث اليومية.
وهذا لازم لا محيد لهم عنه، وهو يستلزم فساد حجتهم.
وإن أرادوا أنه مؤثر في شيء فالحجة لا تدل على ذلك، وهو أيضاً باطل من وجوه، كما قد بسط في موضع آخر.
فالمؤثر التام يراد به المؤثر في كل شيء، والمؤثر في شيء معين، والمؤثر تأثيراً مطلقاً في شيء بعد شيء: فالأول هو الذي يجعلونه موجب حجتهم، وهو يستلزم أن لا يحدث شيء، فعلم بطلان دلالة الحجة على ذلك.
ويراد به التأثير في شيء بعد شيء، فهذا هو موجب الحجة، وهو يستلزم فساد قولهم، وأنه ليس في العالم شيء قديم، بل لا قديم إلا الرب رب العالمين.
ويراد به التأثير في شيء معين، فالحجة لا تدل على هذا، فلم يحصل مطلوبهم بذلك، بل هذا باطل من وجوه أخرى.
فبهذا التقسيم ينكشف ما في هذا الباب من الإجمال والاشتباه.
فكل حادث معين فيقال: هذا الحادث المعين إن كان مؤثره التام موجوداً في الأزل لزم جواز تأخير الأثر عن مؤثره التام، فبطل قولهم.
وإن قيل: بل لا بد أن يحدث تمام مؤثره عند حدوثه، فالقول في حدوث ذلك التمام كالقول في حدوث تمام الأول.
وذلك يستلزم التسلسل في حدوث تمام التأثير.
وهو باطل بصريح العقل، فيلزم على قولهم حدوث الحوادث بغير سبب حادث.
وهذا أعظم مما أنكروه على المتكلمين من التسلسل.
فإن قيل: فما الفرق بين هذا التسلسل وبين التسلسل في تمام تأثير معين بعد معين.
قيل: الفرقف بينهما من وجوه:
أحدها: أن هؤلاء قد قالوا إنه مؤثر تام في الأزل، والمؤثر التام مستلزم أثره معه، فيلزمكم أن لا يحدث عنه شيء، بل تكون جميع الممكنات قديمة أزلية، وهذا باطل بالحس والمشاهدة.
فادعوا أمرين باطلين: أحدها: أنه كان مؤثراً تاماً في الأزل، وأن المؤثر التام يكون أثره معه في الزمان حتى يكون الأثر مقارناً للمؤثر في الزمان.
فإن قيل: إنه يتقدم عليه بالعلية، وهذا بخلاف قول من قال: لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء، فهذا لم يقل إنه كان مؤثراً في الأزل في شيء قط، ولم يكن مؤثراً تاماً في الأزل قط.
الثاني: أنهم إن قالوا: إن الأثر يجب أن يقارنه أثره في الزمان لزم أن لا يحدث شيء.
وإن قالوا: بل الأثر عقب المؤثر في الزمان لزم أن لا يكون معه قديم، وحينئذ فمن قال بهذا قال: إنه لم يزل مؤثراً في شيء بعد شيء، وكل ما سواه حادث مسبوق بالعدم.
الثالث: أن هؤلاء يقولون: كل حادث معين لا بد أن يحدث تمام تأثيره فيكون هو حادثا عقب تمام التأثير، فأي شيء كونه الله كان عقب
تكوين الرب له، كأجزاء الزمان والحركة التي توجد شيئاً فشيئاً، فقوله تعالى:{إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82) ، فيكون الحادث عقب تكوين الرب له، كما يكون الانكسار عقب التكسر، والطلاق عقب التطليق، فيلزم على هذا حوادث متعاقبة شيئاً بعد شيء.
وهذا غير ممتنع عند من يقول بهذا من أئمة أهل الملل، ومن الفلاسفة، بخلف قول المتفلسفة ومن وافقهم على أن الأثر يكون مع المؤثر في الزمان، كما قالوا: الفلك قديم بقدم علته، وهو معه في الزمان.
فهؤلاء إن قالوا بحدوث الحوادث بدون سبب حادث لزمهم المحذور الذي فروا منه.
وإن قالوا: بل عند كل حادث يحدث مع زمن حدوثه وحدوث تمام مؤثره لزم حدوث حوادث لا تتناهى في آن واحد من غير تجدد شيء عن المؤثر الأزلي.
فلزمهم التسلسل في تمام أصل التأثير، لا في تأثير معين، وهو ممتنع مع قولهم بحوادث لا تتناهى في آن واحد.
وهم وسائر العقلاء يسلمون بطلان هذا، وإنما نازع فيه معمر صاحب المعاني، وقد ظهر بطلان ذلك، فإنه تسلسل في أصل التأثير، لا في تأثير المعينات، فلزمهم المحال الذي لزم أصحاب معمر، ويلزمهم المحال والتناقض الذي اختصوا به؟، وهو قولهم بأن المؤثر مع
مؤثره في الزمان، مع كون الرب مؤثراً تاماً في الأزل، فيلزمهم أن لا يحدث في العالم شيء.
ومنها أن يقال: التسلسل جائز في أصلكم، فلا تكون الحجة برهانية، بل تكون جدلية، وهي تلزمنا بتقدير صحتها أحد أمرين: إما القول بالترجيح بلا مرجح، وإما القول بالتسلسل، وإلا كنا قد تناقضنا في نفي هذا وهذا، ولكن جواز التناقض علينا يقتضي بطلان أحد قولينا، فلم قلتم: إن قولنا الباطل هو نفي الترجيح بلا مرجح، مع اتفاقنا على بطلانه؟ فقد يكون قولنا الباطل: هو نفي التسلسل في الآثار الذي نازعنا فيه من نازعنا من إخواننا المسلمين مع منازعتكم لنا في ذلك، وإذا كان كذلك فالتزامنا لقول نوافق فيه إخواننا المسلمين وتوافقوننا أنتم عليه وتبطل به حجتكم على قدم العالم، أولى أن نلتزمه من قول يخالفنا فيه هؤلاء وهؤلاء، وتقوم به حجتكم على قدم العالم.
الجواب الثالث: الجواب المركب، وهو أن يقال: إن كان التسلسل في تمام التأثير ممكناً بطلت الحجة، فإنه يمكن حينئذ أن يحدث