الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلى ربوبيته فقال: {إني أنا ربك فاخلع نعليك} (طه: 12) فقال له موسى في دعواهم: صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه إلى ربوبيته مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم، فما فرق بين موسى وفرعون في الكفر إذاً؟ فأي كفر أوضح من هذا؟ وقال الله تبارك وتعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) .
وقال هؤلاء: ما قال لشيء قط - قولاً وكلاماً - كن فكان، ولا يقوله أبداً، ولم يخرج منه كلام قط، ولا يخرج، ولا هو يقدر على الكلام في دعواهم، فالصنم في دعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام) .
عود إلى كتاب النقض على المريسي
وقال أيضاً في كتاب النقض على المريسي: (وادعيت أيها المريسي في قول الله عز وجل: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} (الأنعام: 210) وفي قوله: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك} (الأنعام: 158) فادعيت أن هذا ليس منه بإتيان، لما أنه غير متحرك عندك،
ولكن يأتي بالقيامة بزعمك، وقوله:{يأتيهم الله في ظلل من الغمام} : يأتي الله بأمره في ظلل من الغمام، ولا يأتي هو بنفسه.
ثم زعمت أن معناه كمعنى قوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} (سورة النحل: 26){فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} (الحشر: 2) .
فيقال لهذا المريسي: قاتلك الله! ما أجراك على الله وعلى كتابه بلا علم ولا بصر! أنبأك الله أنه إتيان، وتقول: ليس بإتيان، إنما هو كقوله:{فأتى الله بنيانهم من القواعد} (النحل: 26) .
لقد ميزت بين ما جمع الله، وجمعت بين ما ميز الله، ولا يجمع بين هذين التأويلين إلا كل جاهل بالكتاب والسنة، لأن تأويل كل واحد منهما مقرون به في سياق القراءة، لا يجهلة إلا مثلك.
وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه، فوق سماواته، وأنه لا ينزل قبل يوم القيامة لعقوبة أحد من خلقه، ولم يشكوا أنه ينزل يوم القيامة ليفصل بين عباده ويحاسبهم ويثيبهم، وتشقق السماوات يومئذ لنزوله، وتنزل الملائكة تنزيلاً، ويحمل عرش ربك
فوقهم يومئذ ثمانية، كما قال الله ورسوله.
فلما لم يشك المسلمون أنا الله لا ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة لشيء من أمور الدنيا، علموا يقيناً أن ما يأتي الناس من العقوبات إنما هو من أمره وعذابه.
فقوله: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} يعني مكره من قبل قواعد بنيانهم {فخر عليهم السقف من فوقهم} (النحل: 26) فتفسير هذا الإتيان خرور السقف عليهم من فوقهم، وقوله:{فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} مكر بهم {وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} (الحشر: 2) ، وهم بنو النضير، فتفسير الإتيانين مقرون بهما، فخرور السقف والرعب، وتفسير إتيان الله يوم القيامة منصوص في الكتاب مفسر.
قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} (الحاقة: 13 - 18) إلى قوله تعالى: {هلك عني سلطانيه} (الحاقة: 29) ، فقد فسر الله المعنيين تفسيراً لا لبس فيه
ولا يشتبه على ذي عقل، فقال فيما يصيب به من العقوبات في الدنيا:{أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس} (يونس: 24) فحين قال: {أتاها أمرنا} علم أهل العلم أن أمره ينزل من عنده من السماء وهو على عرشه، فلما قال:{فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} (الحاقة: 13) الآيات التي ذكرناها، وقال أيضاً:{ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا} (الفرقان: 25) و {يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور} (البقرة: 210) و {دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 21- 22) علم بما نص عليه الله من الدليل وبما حد لنزول الملائكة يومئذ: (أن هذا إتيان الله بنفسه يوم القيامة، ليلي محاسبة خلقه بنفسه، لا يلي ذلك أحد غيره، وأن معناه مخالف لمعنى إتيان القواعد، لا ختلاف القضيتين) .
إلى أن قال: (وقد كفانا رسول الله صلى عليه وسلم
وأصحابه تفسير هذا الإتيان، حتى لا نحتاج منك له إلى تفسير) وذكر حديث أبي هريرة الذي في الصحيحين في تجليه يوم القيامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال:«فيقول المؤمنون: هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه» وذكر حديث ابن عباس من وجهين موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه «ثم يأتي الرب تعالى في الكروبيين، وهم أكثر من أهل السماوات والأرض» رواه الحاكم في صحيحه، وذكر (عن أنس بن مالك أنه قال: وتلا هذه الآية: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} قال: يبدلها الله يوم القيامة بأرض من فضة لم تعمل عليها الخطايا، ينزل عليها الجبار) .
ثم قال: (ومن يلتفت أيها المريسي إلى تفسيرك المحال في إتيان
الله يوم القيامة ويدع تفسير رسول الله صلى الله عيه وسلم وأصحابه إلا كل جاهل مجنون خاسر مغبون؟ لما أنك مفتون في الدين مأفون، وعلى تفسير كتاب الله غير مأمون، ويلك! أيأتي الله بالقيامة ويتغيب هو بنفسه؟ فمن يحاسب الناس يومئذ؟ لقد خشيت على من ذهب مذهبك هذا لأنه لا يؤمن بيوم الحساب.
وادعيت أيها المريسي في قول الله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة: 255) ، وادعيت أن تفسير القيوم عندك لا يزول، يعني الذي لا ينزل ولا يتحرك ولا يقبض ولا يبسط، وأسندت ذلك عن بعض أصحابك غير مسمى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: القيوم الذي لا يزول، ومع روايتك هذه عن ابن عباس دلائل وشواهد أنها باطلة:
إحداها: أنك رويتها وأنت المتهم في توحيد الله.
والثانية: أنك رويته عن بعض أصحابك غير مسمى، وأصحابك مثلك في الظنة والتهمة.
والثالثة: أنه عن الكلبي، وقد أجمع أهل العلم بالأثر على أن لا يحتجوا بالكلبي في أدنى حلال ولا حرام، فكيف في تفسير توحيد الله وتفسير كتابه؟ وكذلك أبو صالح.
ولو قد صحت روايتك عن ابن عباس أنه قال: (القيوم: الذي لا يزول) لم نستنكره، وكان معناه مفهوماً واضحاً عند العلماء وعند أهل البصر بالعربية أن معنى لا يزول لا يفنى ولا يبيد، لا أنه لا يتحرك ولا يزول من مكان إلى مكان إذا شاء، كما كان يقال للشيء الفاني: هو زائل، كما قال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
…
وكل نعيم لا محالة زائل
يعني فان، لا أنه متحرك، فإن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، وما لا يتحرك فهو ميت لا يوصف بحياة كما لا توصف الأصنام الميتة، قال الله تعالى:{والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون} {أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون} (النحل: 20 - 21) فالله الحي القيوم القابض الباسط يتحرك إذا شاء،
وينزل إذا شاء، ويفعل ما يشاء، بخلاف الأصنام الميتة التي لا تزول حتى تزال.
واحتججت أيها المريسي في نفي التحرك عن الله والزوال بحجج الصبيان، فزعمت أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين رأى كوكباً وشمساً وقمراً قال:{هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الأفلين} (الأنعام: 76)، ثم قلت: فنفى إبراهيم المحبة عن كل إله زائل، يعني أن الله إذا نزل من سماء إلى سماء، أو نزل يوم القيامة لمحاسبة العباد، فقد أفل وزال، كما أفل الشمس والقمر، فتنصل من ربوبيتهما إبراهيم، فلو قاس هذا القياس تركي طمطماني أو رومي عجمي ما زاد على ما قست قبحاً وسماجة، ويلك! من خلق الله: إن الله إذا نزل أو تحرك - أو نزل ليوم الحساب - أفل في شيء كما تأفل الشمس في عين حمئة؟ إن الله لا يأفل في شيء سواه إذا نزل أو ارتفع كما تأفل الشمس والقمر والكواكب، بل هوالعالي على كل شيء، المحيط بكل شيء في جميع أحواله من نزوله وارتفاعه، وهو الفعال لما يريد، لا يأفل في شيء، بل الأشياء كلها تخشع له وتتواضع، والشمس والقمر والكواكب خلائق مخلوقة، إذا قلت أفلت أفلت في مخلوق في عين حمئة كما قال الله تعالى، والله أعلى وأجل، لا يحيط به شيء، ولا يحتوي عليه شيء.