الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فغيروه، وقالوا:(إن الكلام من الفؤاد) وزعموا أنه لهم حجة على مقالتهم في قول الله تعالى: {ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول} (المجادلة: 8)، وفي قول الله عز وجل:{فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم} (يوسف: 77) واحتجوا بقول العرب: (أرى في نفسك كلاماً، وفي وجهك كلاماً) فألجأهم الضيق مما دخل عليهم في مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت والنائم، ولهم في حال الخرس والسكوت والنوم كلام هم متكلمون به، ثم أفصحوا بأن الخرس والسكوت والآفات المانعة من النطق ليست بأضداد الكلام.
وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه، ومن علم منه خرق إجماع الكافة ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله لم يناظر، بل يجانب ويقمع) .
قول السجزي في الإبانة
وقال أبو نصر السجزي أيضاً في كتابه المسمى بالإبانة في مسألة القرآن: لما قيل له (إن القراءة عمل، والعمل لا يكون صفة لله، والدليل على أنها عمل أنك تقول: قرأ فلان يقرأ، وما حسن فيه ذكر المستقبل فهو عند العرب عمل) .
فقال: (هذا لا يلزم، لأنك تقول: (قال الله عز وجل و (يقول الله عز وجل والله تعالى قال: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} (البقرة: 35) وقال تعالى: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} (ق: 30) فقد حسن في القول ذكر المستقبل.
فإن ارتكبوا العظمى، وقالوا: كلام الله شيء واحد على أصلنا لا يتجزأ، وليس بلغة، والله سبحانه من الأزل إلا الأبد متكلم بكلام واحد لا أول له ولا آخر، فقال: ويقول إنما يرجع إلى العبارة لا إلا المعبر عنه.
قيل لهم: قد بينا مراراً كثيرة أن قولكم في هذا الباب فاسد، وأنه مخالف للعقليين والشرعيين جميعاً، وأن نص الكتاب والثابت من الأثر قد نطقا بفساده، قال الله تعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) ، فبين الله سبحانه أنه يقول للشيء كن إذا أراد كونه، فعلم بذلك أنه لم يقل للقيامة بعد كوني) .
وقال أيضاً في موضع آخر: ( «النبي صلى الله عليه وسلم قال: نبدأ بما بدأ الله به» ) ثم قرأ {إن الصفا والمروة من شعائر الله}
(البقرة: 158) والله تعالى قال: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} (آل عمران: 59)، وقال:{إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 82)، فبين جل جلاله أنه قال لآدم بعد أن خلقه من تراب: كن، وأنه إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون، ولم يقتض ذلك حدوثاً ولا خلقاً بعد حدوث نوع الكلام، لما قام من الدليل على انتفاء الخلق عن كلام الله تعالى) .
وقال أبو نصر السجزي أيضاً: (فأما الله تعالى فإنه متكلم فيما لم يزل، ولا يزال متكلماً بما شاء من الكلام، يسمع من يشاء من خلقه ما شاء من كلامه إذا شاء ذلك، ويكلم من شاء تكليمه بما يعرفه ولا يجهله، وهو سبحانه حي عليم متكلم لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، ليس بجسم، ولا في معنى جسم، ولا يوصف بأداة ولا جارحة وآلة، وكلامه
أحسن الكلام، وفيه سور وآي وكلمات، وكل ذلك حروف، وهو مسموع منه على الحقيقة سماعاً يعقله الخلق، ولا كيفية لتكلمه وتكليمه، وجائز وجود أعداد من المكلمين يكلمهم سبحانه في حال واحدة بما يريده من كل واحد منهم، من غير أن يشغله تكليم هذا عن تكليم هذا) .
قال: (ومنع كثير من أهل العلم إطلاق السكوت عليه، ومن أهل الأثر من جوز إطلاق السكوت عليه لوروده في الحديث، وقال: معناه تركه التوبيخ والتقرير والمحاسبة اليوم، وسيأتي يوم يقرر فيه ويحاسب ويوبخ، فذلك الترك بمعنى السكوت) .
قال: (والأصل الذي يجب أن يعلم: أن اتفاق التسميات لا يوجب اتفاق المسمين بها، فنحن إذا قلنا إن الله موجود رؤوف واحد حي عليم بصير متكلم، وقلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم كان موجوداً حياً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً لم يكن ذلك تشبيهاً، ولا خالفنا به أحداً من السلف والأئمة، بل الله موجود لم يزل، واحد حي قديم قيوم عالم سميع بصير متكلم فيما لم يزل، ولا يجوز أن يوصف بأضداد هذه الصفات، والموجود منا إنما وجد عن عدم، وحيي بمعنى
حله، ثم يصير ميتاً بزوال ذلك المعنى، وعلم بعد أن لم يعلم، وقد ينسى ما علم، وسمع وأبصر وتكلم بجوارح قد تلحقها الآفات، فلم يكن فيما أطلق للخلق تشبيه بما أطلق للخالق سبحانه وتعالى، وإن اتفقت مسميات هذه الصفات) .
وقال أبو نصر أيضاً: (خاطبني بعض الأشعرية يوماً في هذا الفصل، وقال: التجزؤ على القديم غير جائز، فقلت له: أتقر بأن الله أسمع موسى كلامه على الحقيقة بلا ترجمان؟ فقال: نعم - وهم يطلقون ذلك، ويموهون على من لم يخبر مذهبهم- وحقيقة سماع كلام الله من ذاته، على أصل الأشعري، محال، لأن سماع الخلق - على ما جبلوا عليه من البنية، وأجروا عليه من العادة - لا يكون البتة إلا لما هو صوت أو في معنى الصوت، وإذا لم يكن كذلك كان الواصل إلى معرفته بضرب من العلم والفهم، وهما يقومان في وقت مقام السماع، لحصول العلم بهما كما يحصل بالسماع، وربما سمي ذلك سماعاً على التجوز لقربه من معناه، فأما حقيقة السماع لما يخالف الصوت فلا يتأتى للخلق في العرف الجاري) .
قال: (فقلت لمخاطبي الأشعري: قد علمنا جميعاً أن حقيقة السماع لكلام الله منه على أصلكم محال، وليس ههنا من تتقيه وتخشى
تشنيعه، وإنما مذهبك أن الله يفهم من شاء كلامه بلطيفة منه، حتى يصير عالماً متيقناً بأن الذي فهمه كلام الله، والذي أريد أن ألزمك وارد على الفهم وروده على السماع، فدع التمويه، ودع المصانعة.
ما تقول في موسى عليه السلام حيث كلمه الله؟ أفهم كلام الله مطلقاً أم مقيداً؟ فتلكأ قليلاً، ثم قال: ما تريد بهذا؟ فقلت: دع إرادتي وأجب بما عندك، فأبى وقال: ما تريد بهذا؟ فقلت: أريد أنك إن قلت: إنه عليه السلام فهم كلام الله مطلقاً اقتضى أن لا يكون لله كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه موسى، وهذا يؤول إلى الكفر، فإن الله تعالى يقول:{ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} (البقرة: 255) ولو جاز ذلك لصار مم فهم كلام الله عالماً بالغيب وبما في نفس الله تعالى، وقد نفى الله تعالى ذلك بما أخبر به عن عيسى عليه السلام أنه يقول:{تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب} (المائدة: 116) ، وإذا لم يجز إطلاقه، وألجئت إلى أن تقول (أفهمه الله ما شاء من كلامه) دخلت في التبعيض الذي هربت منه، وكفرت من قال به، ويكون مخالفك أسعد منك، لأنه قال بما اقتضاه النص الوارد من قبل الله عز وجل ومن قبل رسول اله صلى الله عليه وسلم، وأنت أبيت أن تقبل
ذلك، وادعيت أن الواجب المصير إلى حكم العقل في هذا الباب، وقد ردك العقل إلى موافقة النص خاسئاً.
فقال: هذا يحتاج إلى تأمل، وقطع الكلام) .
وقال أبو نصر: (لم يزل الله متكلماً، لأن الكلام من صفات المدح للحي الفاعل، وضده من النقائص، والله منزه عنها) .
وذكر كلاماً كثيراً إلى أن قال: (وقد ثبت بما ذكرناه كون القرآن مفرقاً مفصلاً، ذا أجزاء وأبعاض وآي وكلمات وحروف، وأن ما كان بخلاف ذلك لم يكن القرآن المنزل الذي آمن به المسلمون وجحده الكفار، وأن المقروء سور وآي وكلمات وحروف، وكذلك المحفوظ والمكتوب والمتلو، وأنه عريبي مبين، نازل بلسان العرب، ولسان قريش، والمراد باللسان في هذا الباب اللغة، لا اللسان الذي هو لحم ودم وعروق، تعالى الله عن ذلك، وجل عن أن يوصف إلا بما وصف به نفسه، وتنزه عن الأشباه) .
قال: (ونحن نذكر عقب هذا الفصل فصلاً في ذكر حروف القرآن، وفصلاً بعد ذلك في الصوت وما ورد فيه من القرآن والحديث، وكل ذي لب صحيح يعرف بالحس والمشاهدة قبل الاستدلال أن القرآن العربي حروف، ولا فرق بين منكر ذلك ومنكر الحواس وأنها من مبادىء العلم وأسباب المدارك) .
قال: (وقد بين الله في كتابه ما لا إشكال بعده في هذا الفصل لما قال: {وإذ نادى ربك موسى} (الشعراء: 10) ، والعرب لا تعرف نداء إلا صوتاً، وقد جاء عن موسى تحقيق ذلك، فإن أنكروا الظاهر كفروا، وإن قالوا:(إن النداء غير صوت) خالفوا لغات العرب، وإن قالوا: نادى الأمير - إذا أمر غيره بالنداء - دفعوا فضيلة موسى عليه السلام المختصة به من تكليم الله إياه من غير واسطة ولا ترجمان، وليس في وجود الصوت من الله تعالى تشبيه بمن يوجد الصوت منه من الخلق، كما لم يكن في إثبات الكلام له تشبيه بمن له كلام من خلقه، وكيف وكلامه وكلام خلقه معاً عن الأشعري معنى قائم بذات المتكلم لا يختلف، فهو المشبه لا محالة) .
قال: (وأما نحن فنقول: كلام الله حرف وصوت بحكم النص)، قال: (وليس ذلك عن جارحة ولا آلة، وكلامنا حروف وأصوات، لا يوجد ذلك منا إلا بآلة، والله سبحانه وتعالى يتكلم بما شاء، لا يشغله شيء عن شيء، والمتكلم منا لا يتأتى منه أداء حرفين إلا بأن يفرغ من أحدهما ويبتدىء في الآخر، والقرآن لما كان كلاماً لله كان معجزاً، وكلام الخلق غير معجز، وفي كلام الله بيان ما كان وما سيكون