الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبي بكر بن العربي وغيرهم من أصحاب مالك.
وكأبي منصور الماتريدي وميمون النسفي وغيرهما من أصحاب أبي حنيفة، أنهم قالوا: لو كان القرآن مخلوقاً للزم أن يخلقه: إما في ذاته، أو في محل غيره، أو أن يكون قائماً بنفسه لا في ذاته ولا في محل آخر.
والأول: يستلزم أن يكون الله محلاً لحوادث، والثاني: يقتضي أن يكون الكلام كلام المحل الذي خلق فيه، فلا يكون ذلك الكلام كلام الله، كسائر الصفات إذا خلقها في محل، كالعلم والحياة والحركة واللون وغير ذلك، والثالث: يقتضي أن تقوم الصفة بنفسها، وهذا ممتنع.
فهذه الطريقة هي عمدة هؤلاء في مسألة القرآن.
وقد سبقهم عبد العزيز المكي صاحب الحيدة المشهورة إلى هذا التقسيم.
قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه
وقد يظن الظان أن كلامهم هو كلامه بعينه، وأنه كان يقول بقولهم، وأن الله لا يقوم بذاته ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وأن قوله من جنس قول ابن كلاب.
وليس الأمر كذلك، فإن عبد العزيز ـ هذا ـ له في الرد على الجهمية وغيرهم من الكلام ما لا يعرف فيه خروج عن مذهب السلف وأهل الحديث.
وذلك أنه قال بعد أن ذكر جوابه لبشر فيما احتج به بشر من النصوص مثل قوله تعالى {الله خالق كل شيء} [الزمر: 62]، وقوله تعالى:{إنا جعلناه قرآنا عربيا} [الزخرف: 3]، قال:(فقال بشر: يا أمير المؤمنين عندي أشياء كثيرة، إلا أنه يقول بنص التنزيل، وأنا أقول بالنظر والقياس، فليدع ما مطالبتي بنص التنزيل، ويناظرني بغيره؟، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقول بقولي ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال) .
وذكر عبد العزيز أنه طلب من بشر أن يناظره على وجه النظر والقياس ويدع مطالبته بنص التنزيل - إلى أن قال: (فقال عبد العزيز: يا بشر، تسألني أم أسألك؟ فقال بشر:
سل أنت، وطمع في، وجميع أصحابه! وتوهموا أني إذا خرجت عن نص التنزيل لم أحسن أن أتكلم بشيء غيره) .
قال عبد العزيز: (فقلت: يا بشر، تقول: إن كلام الله مخلوق؟ قال: أقول: إن كلام الله مخلوق) قال: (فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها: أن تقول: إن الله خلق القرآن - وهو عندي أناكلامه - في نفسه، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره، فقل ما عندك، قال بشر: أقول: إنه مخلوق، وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها.
قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، تركنا القرآن ونص التنزيل والسنن والأخبار عند هربه منها وذكر أنه يقيم الحجة، وأنا أقول معه بخلق القرأن، فقد رجع بشر إلى الحيدة عن الجواب، وانقطع عن الكلام، فإن كان يريد أن يناظرني على أنه يجيبني عما أسأله عنه، وإلا فأمير المؤمنين أعلى عيناً في صرفي، فإنما يريد بشر أن يقع
معه من لا يفهم، فيخدعه عن دينه، ويحتج عليه بما لا يعقله، فتظهر حجته عليه، فيبيح دمه.
قال: فأقبل عليه المأمون فقال: أجب عبد العزيز عما سألك عنه، فقد ترك قوله ومذهبه وناظرك على مذهبك وما ادعيت أنك تحسنه وتقيم الحجة به عليه، فقال بشر: قد أجبته، ولكنه يتعنت، فقال المأمون: يأبى عليك عبد العزيز إلا أن تقول واحدة من ثلاث، فقال: هذا أشد طلباً من مطالبته بنص التنزيل، ما عندي غير ما أجبته به.
قال: فأقبل على المأمون فقال: يا عبد العزيز، تكلم أنت في شرح هذه المسألة وبيانها ودع بشراً فقد انقطع عن الجواب من كل جهة.
فقلت: نعم، سألته عن كلام الله تعالى: أمخلوق هو؟ قال: نعم، فقلت له ما يلزمه في هذا القول، وهو واحدة من ثلاث لا بد منها: أن يقول إن الله خلق كلامه في نفسه، أو خلقه في غيره، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، فإن قال (إن الله خلق كلامه في نفسه) فهذا محال لا يجد سبيلاً إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول، لأن الله لا يكون مكاناً للحوادث، ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء إذا خلقه، تعالى الله عن ذلك عز وجل وتعظم!
وإن قال: (خلقه الله في غيره) فيلزمه في النظر والقياس أن كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله عز وجل، لا يقدر أن يفرق بينهما، فيجعل كلامه كلاماً لله، ويجعل قول الكفر والفحش وكل قول ذمه الله وذمه قائله: كلاماً لله عز وجل، وهذا محال لا يجد السبيل إليه ولا إلى القول به، لظهور الشناعة والفضيحة والكفر على قائله، تعالى الله عن ذلك!
وإن قال:
(خلقه قائماً بنفسه وذاته) فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد إلى القول به سبيلاً في قياس ولا نظر ولا معقول، لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا القدرة إلا من قدير، ولا يرى ولا رئي كلام قط قائم بنفسه يتكلم بذاته.
وهذا مما لا يعقل ولا يعرف، ولا يثبت في نظر ولا قياس ولا غير ذلك، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله، وصفات الله كلها غير مخلوقة، فبطل قول بشر.
فقال المأمون: أحسنت يا عبد العزيز، فقال بشر: سل عن غير هذه المسألة فلعله يخرج من بيننا شيء.
فقلت: أنا أدع هذه المسألة وأسأل عن غيرها، قال: سل،
قال عبد العزيز: فقلت لبشر: ألست تقول: إن الله كان ولا شيء، وكان ولما يفعل شيئاً ولما يخلق شيئاً؟ قال: بلى.
فقلت: فبأي شيء حدثت الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً؟ أهي أحدثت نفسها أم الله أحدثها؟ فقال: الله أحدثها، فقلت له: فبأي شيء حدثت الأشياء إذ أحدثها الله؟ قال: أحدثها بقدرته التي لم تزل.
قلت له: إنه أحدثها بقدرته كما ذكرت، أفليس تقول: إنه لم يزل قادراً؟ قال: بلى.
قلت له: فتقول: إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا.
قلت له: فلا بد أن يلزمك أن تقول: أنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة، وليس الفعل هو القدرة، لأن القدرة صفة لله.
ولا يقال لصفة الله هي الله ولا هي غير الله، فقال بشر: ويلزمك أنت أيضاً أن تقول: إن الله لم يزل يفعل ويخلق، وإذا قلت ذلك فقد ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله.
قال عبد العزيز: فقلت لبشر: ليس لك أن تحكم علي وتلزمني مالا يلزمني وتحكي عني ما لم أقل، إني لم أقل:
(إنه لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل) ليلزمني ما قلت.
وفي نسخة أخرى: (وإنما قلت إنه لم يزل الفاعل سيفعل، ولم يزل الخالق سيخلق، لأن الفعل صفة الله، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) قال بشر: أنا أقول إنه أحدث أشياء بقدرته، فقل ما شئت، فقال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد أقر بشر أن الله كان ولا شيء، وأنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً بقدرته، وقلت أنا: إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته، فلم يخل يا أمير المؤمنين أن يكون أول خلق خلقه الله خلق بقول قاله، أو بإرادة أرادها، أو بقدرة قدرها، فبأي ذلك كان فقد ثبت أن ههنا إرادة ومريداً ومراداً، وقولاً وقائلاً ومقولاً له، وقدرة وقادراً ومقدوراً عليه، وذلك كله متقدم قبل الخلق، وما كان قبل اللخق متقدماً فليس هو من الخلق في شيء.
فقد كسرت قول بشر بالكتاب والسنة واللغة العربية والنظر والمعقول) ثم ذكر حجة أخرى.
والمقصود هنا: أن عبد العزيز احتج بتقسيم حاصر معقول، فإن الله
تعالى إذا خلق شيئاً فإما أن يخلقه في نفسه، أو في غيره، أو يخلقه قائماً بنفسه، وقد أبطل الأقسام الثلاثة.
ولا ريب أن المعتزلة يقولون: إنه خلقه في غيره، فأبطل ذلك عبد العزيز بالحجة العقلية التي يتداولها أهل السنة، وهو أنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله، فإن كان مخلوقاً في محل آخر غيره لزم أن يكون كل كلام مخلوق في محل كلام الله، لتماثلهما بالنسبة إلى الله، ويلزم أن يكون ما يخلقه تعالى من كلام الجلود والأيدي والأرجل كلام الله، فإذا قالوا:{أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم} (فصلت: 21) ، كان الناطق هو المنطق، وبشر لم يكن من القدرية، بل كان ممن يقر بأن الله تعالى خالق أفعال العباد، فألزمه عبد العزيز أن يكون كلام كل مخلوق كلام الله، حتى قول الكفر والفحش، وهذا الإلزام صرح به حلولية الجهمية من الاتحادية ونحوهم كصاحب الفصوص والفتوحات المكية ونحوه، وقالوا:
وكل كلام في الوجود كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه
ولهذا قال من قال من السلف: من قال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا} (طه: 14) مخلوق، فقد جعل كلام الله بمنزلة قول فرعون، الذي قال:{أنا ربكم الأعلى} (النازعات: 24) لأن عنده هذا الكلام خلقه الله في الشجرة، وذلك خلقه في فرعون، فإذا كان هذا كلام الله كان هذا كلام الله.
كما قال سليمان بن داود الهاشمي - أحد أئمة الإسلام نظير الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي بكر بن أبي شيبة وأمثالهم - قال: (من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقاً كما زعموا فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار إذ قال:{أنا ربكم الأعلى} من هذا؟ وكلاهما عنده مخلوق، فأخبر بذلك أبو عبيد، فاستحسنه وأعجبه، ذكر ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد.
وكذلك ذكر نظير هذا عبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن سعيد القطان، وهذا مبني على أن الله خالق أفعال العباد، فإذا كان قد خلق في محل:(إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدوني) وخلق في محل: (أنا ربكم الأعلى) كان ذلك المحل الذي خلق فيه ذلك الكلام أولى بالعقاب من فرعون، وإذا كان ذلك كلام الله كان كلام فرعون كلام الله.
وأما كونه خلقه قائماً بنفسه فهو ظاهر البطلان أيضاً، لأن الصفات لا تقوم بنفسها، ولكن الجهمية تقول: خلق علماً لا في محل، والبصريون من المعتزلة يقولون: خلق إرادة وقدرة لا في محل، وطائفة منهم يقولون: خلق بخلق بعد خلق لا في محل، وهذه المقالات ونحوها مما يعلم فساده بصريح العقل.
وأما القسم الأول - وهو كونه سبحانه خلقه في نفسه - فأبطله عبد العزيز أيضاً لكن ما في نفس الله تعالى يحتمل نوعين:
أحدهما: أن يقال: أحدث في نفسه بقدرته كلاماً بعد أن لم يكن متكلماً.
وهذا قول الكرامية وغيرهم ممن يقولون: كلام الله حادث ومحدث في ذات الله تعالى، وأن الله تكلم بعد أن لم يكن يتكلم أصلاً، وأن الله يمتنع ان يقال في حقه: ما زال متكلماً، وهذا مما أنكره الإمام أحمد وغيره.
والثاني: أن يقال: لم يزل الله متكلماً إذا شاء كما قاله الأئمة، وكل من هاتين الطائفتين لا تقول:(إن ما في نفس الله مخلوق) بل المخلوق عندهم لا يكون إلا منفصلاً عن نفس الله تعالى، وما قام به من أفعاله وصفاته فليس بمخلوق.
ولا ريب أن بشراً وغيره من القائلين بخلق القرآن كانوا يقولون: إنه خلق منفصلاً عنه كما خلق غيره من المخلوقات، فأما نفس خلق الرب
عند من يقول الخلق غير المخلوق - وهم الأكثرون - فلا يقولون: إن الخلق مخلوق.
ومن قال بتجدد ما يقوم به من الأفعال أو الإرادات أو الإدراكات لم يقل: إن ذلك مخلوق، فإنه إذا كان ثم خلق وخالق ومخلوق لم يكن الخلق داخلا في المخلوق.
ولهذا كان من يقول: (إن كلام الله قائم بذاته) متفقين على أن كلام الله غير مخلوق، ثم هم بعد هذا متنازعون على عدة أقوال: هل يقال: إنه معنى واحد أو خمسة معان لم تزل قديمة، كما يقوله ابن كلاب والأشعري؟
أو أنه حروف وأصوات قديمة أزلية لم تزل قديمة، كما يذكره عن ابن سالم وطائفة.
أو يقال: بل هو حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلماً، كما يقوله ابن كرام وطائفة.
أو يقال: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء، وإنه إذا شاء تكلم بصوت يسمع وتكلم بالحروف، كما يذكر ذلك عن أهل الحديث والأئمة؟
والمقصود هنا أن ما قام بذاته لا يسميه أحد منهم مخلوقاً، سواء كان حادثاً أو قديماً.
وبهذا يظهر احتجاج عبد العزيز على بشر، فإن بشراً من أئمة الجهمية نفاة الصفات، وعنده لم يقم بذات الله تعالى صفة لا فعل
ولا قدرة ولا كلام ولا إرادة بل ما ثم عنده إلا الذات المجردة عن الصفات والمخلوقات المنفصلة عنها، كما تقول ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم، فاحتج عليه عبد العزيز بحجتين عقليتين:
إحداهما: أنه إذا كان كلام الله مخلوقاً ولم يخلقه في غيره ولا خلقه قائماً بنفسه: لزم أن يكون مخلوقاً في نفس الله، وهذا باطل.
الثانية: إن المخلوقات المنفصلة عن الله خلقها الله بما ليس من المخلوقات: إما القدرة - كما أقر به بشر - وإما فعله وأمره وإرادته - كما قاله عبد العزيز - وعلى التقديرين: ثبت أنه كان قبل المخلوقات من الصفات ما ليس بمخلوق، فبطل أصل قول بشر والجهمية: إنه ليس لله صفة، وإن كل ماسوى الذات المجردة فهو مخلوق.
وتبين أن الذات يقوم بها معان ليست مخلوقة.
وهذا حجة مثبتة الصفات القائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق على من نفى الصفات وقال بخلق القرآن، فإن كل من نفى الصفات لزمه القول بخلق القرآن.
يبقى كلام أهل الإثبات فيما يقوم بذاته: هل يجوز أن يتعلق شيء منه بمشيئته وقدرته أم لا؟ وهل عبد العزيز ممن يجوز ان يقوم بذاته ما يتعلق بمشئيته وقدرته، أو ممن يقول: لا يكون المراد المقدور إلا منفصلاً عنه مخلوقاً؟ ويجعل المقدور هو المخلوق، وهما في الأصل قولان معروفان ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره عن أهل السنة حسبما تقدم إيراده.
وهذا القول الثاني هو قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما من
أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وغيرهم.
والقول الأول: هو قول أئمة أهل الحديث والهشامية والكرامية وطوائف من أهل الكلام من المرجئة.
كأبي معاذ التومني وزهير الأثري وغيرهم ومن وافق هؤلاء من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
فقد يقول القائل: إن عبد العزيز موافق لابن كلاب، لأنه قال: إن الله لا يكون مكاناً للحوادث، ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء إذا خلقه، لكن إذا تدبر المتدبر سائر كلام عبد العزيز وجده من أهل القول الأول: قول أهل الحديث، لأنه قال بعد هذا لبشر: بأي شيء حدثت الأشياء؟ قال: أحدثها الله بقدرته التي لم تزل، قال عبد العزيز: فقلت له: إنه قد أحدثها بقدرته كما ذكرت، أفلست تقول: إنه لم يزل قادراً؟ قال: بلى، فقلت له: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا أقول هذا، قلت: فلا بد أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بلا قدرة، لأن القدرة صفة.
وقال
عبد العزيز بعد هذا: لم أقل لم يزل الخالق يخلق ولم يزل الفاعل يفعل، وإنما الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع.
وقد أثبت عبد العزيز فعلاً مقدوراً لله هوصفة له ليس من المخلوقات، وأنه به خلق المخلوقات، وهذا صريح في أنه يجعل الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، وأن الفعل صفة لله، مقدور لله، إذا شاء، ولا يمنعه منه مانع، وهذا خلاف قول الأشعري ومن وافقه.
يبقى أن يقال: هذا الخلق - الذي يسمى التكوين - من الناس من يجعله قديماً، ومنهم من يجعله مقدوراً مراداً، وعبد العزيز صرح بأن الفعل الذي به يخلق الخلق مقدور له، وهذا تصرح بأنه يقوم بذات الله عنده ما يتعلق بقدرته، وما كان موجوداً مقدوراً لله فهو مراد له بالضرورة واتفاق الناس.
وأيضاً فإنه قال: قد أقر بشر أن الله أحدث الأشياء بقدرته، وقلت أنا: إنه أحدثها بأمره وقوله عن قدرته، فقد صرح بأن القول يكون عن قدرته، فجعل قول الله مقدروراً له مع أنه صفة له عنده.
وهذا قول من يقول: إنه يقدر على التكلم، وإنه بمشيئته وقدرته، وليس هو قول من يقول: إن القول لازم له، لا يتعلق بقدرته ومشيئته.
فتبين أن عبد العزيز الكناني يثبت أنه يقوم بذات الله تعالى ما يتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لا يجعل كل واحد من ذلك قديماً، وإن كان النوع قد يكون قديماً، لأن بشراً لما قال له: أحدثها بقدرته التي لم تزل، قال له: أفليس تقول: لم يزل قادراً؟ قال: بلى، قال: فتقول إنه لم يزل يفعل؟ قال: لا، قال: فلا بد أن يلزمك أن تقول: إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة.
وهذا لأنه إذا كان لم يزل قادراً ولا مخلوقاً ثم وجد مخلوق، لم يكن قد وجد بقدرة بلا فعل، فإنه لو كان مجرد القدرة كافياً في وجوده بلا فعل للزم مقارنة المخلوق للقدرة القديمة.
وهذا المقام هو المقام المعروف، وهو أنه: هل يمكن وجود الحوادث بلا سبب حادث أم لا؟ فإن جمهور العقلاء يقولون: إن انتفاء هذا معلوم بالضرورة، وإن ذلك يقتضي الترجيح بلا مرجح، وهذا هو الذي ذكره عبد العزيز، بخلاف قول من يقول: إن نفس القادر يرجح أحد طرفي مقدروه بلا مرجح، كما يقوله أكثر المعتزلة والجهمية، أو بمجرد إرادة قديمة كما تقوله الكلابية والكرامية فإن هذا هو الذي ذكره بشر.
يبقى هنا السؤال على عبد العزيز، هو الذي ألزمه إياه بشر، حيث قال له: وأنت أيضاً يلزمك أن تقول: لم يزل يفعل ويخلق، وإذا كان كذلك ثبت أن المخلوق لم يزل مع الله، لأن الحادث إن لم يفتقر إلى سبب حادث كفت القدرة القديمة، وإن افتقر إلى سبب حادث فالقول في حدوث ذلك السبب كالقول في الذي حدث به، فيلزم تسلسل الحوادث، فيلزمك أنه لم يزل يفعل ويخلق، فيكون المخلوق معه، فأجابه عبد العزيز بأني لم أقل (لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل، ليلزمني ما قلت، وإنما الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) وفي النسخة الأخرى: (وإنما قلت: لم يزل الخالق سيخلق، والفاعل سيفعل، لأن الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع) .
ومضمون كلامه: أنني لم أقل إن الله لم يزل يخلق الأشياء المنفصلة ويفعلها، ولا يلزمني هذا كما لزمك، لأنك جعلت المخلوقات تحصل بالقدرة القديمة من غير فعل من القادر يقوم به، فإذا لم تتوقف المخلوقات على غير القدرة، والقدرة قديمة، لزم وجود المخلوقات معها، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، والحدوث بلا سبب، لأن القدرة دائمة أزلاً
وأبداً، ووجود المخلوقات ممكن، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا بمرجح، وعند وجود المرجح التام يجب وجوده، لأنه لو لم يجب لكان قابلا للوجود والعدم، فيبقى ممكناً كما كان، فلا يترجح إلا بمرجح تام.
فتبين أن وجود القدرة التي يمكن معها وجود المخلوقات لا يوجد المخلوق مع مجردها، بل لا بد من أمر آخر يفعله الرب.
قال عبد العزيز: وهذا الفعل صفة لله، ليس من المخلوقات المنفصلة عنه، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، فأما قول القائل:(إن ذلك الفعل الذي لم يكن ثم كان بالقدرة وهو صفة) فإنه يسأل عن سبب حدوثه، كما يسأل عن سبب حدوث المخلوق به.
فيجيب عنه عبد العزيز بأجوبة.
أحدها: الجواب المركب وهو أن يقول: تسلسل الآثار الحادثة إما أن يكون ممكناً وإما أن يكون ممتنعاً، فإن كان ممكناً فلا محذور في التزامه، وإن كان ممتنعاً لم يلزمني ذلك، ولا يلزم من بطلان التسلسل بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به، فإنا نعلم أن المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل، والمخلوق لا يكون إلا بخلق، قبل العلم بجواز التسلسل أو بطلانه، ولهذا كان كثير من الطوائف يقولون: الخلق غير المخلوق، والفعل غير المفعول، فيثبتون لك مع إبطال التسلسل، مثل كثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، ومن الصوفية
وأهل الحديث والكلام من الكرامية والمرجئة والشيعة وغيرهم، وهؤلاء منهم من يقول: الفعل الذي هو التكوين قديم، والمكون المنفصل حادث، كما يقولون مثل ذلك في الإرادة، ومنهم من يقول: بل ذلك حادث الجنس بعد أن لم يكن، وكلا الفرقين لا يقولون: إن ذلك مخلوق، بل يقولون: إن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة.
الجواب الثاني: أن يقول: ما ذكرته من التسلسل لازم لكل من قال: إن جنس الحوادث يكون بعد أن لم يكن، فهو لازم لك ولي إذا قلت بهذا، فلا أختص بجوابه، وأما وجود المفعول بدون فعل: فهذا لازم لك وحدك، وهو الذي احتججت به عليك، فحجتي عليك ثابتة تبطل قولك دون قولي.
والإلزام الذي ذكرته أنت مشترك بيني وبينك، فلا يخصني جوابه.
الجواب الثالث: أن يقول: أنا قلت: الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه، وإنما يجب أن يكون المخلوق معه في الأزل إذا ثبت أن الفعل يستلزم فعلاً قبله، وأن الفعل اللازم يستلزم ثبوت الفعل المتعدي إلى المخلوق، فإن ذك يستلزم ثبوت غير المخلوق.
وكل هذه المقدمات فيها ممانعات ومعارضات، وتحتاج إلى حجج لم
يذكر المريسي منها شيئاً، وعبد العزيز لم يلتزم شيئاً من ذلك، وإنما التزم أن الفعل صفة لله تعالى، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، وحجته يحصل بها المقصود.
وقوله في النسخة الأخرى - إن صح عنه: (إنما قلت لم يزل الفاعل سيفعل، والخالق سيخلق) قد نفى فيه ان يكون نفس الفعل قديماً، فضلاً عن أن يكون المفعول قديماً.
وقوله: (إن الفعل صفة لله، والله يقدر عليه، لا يمنعه منه مانع) يمنع قدم عين الفعل، لا يمنع قدم نوعه، إلا أن يثبت امتناع تسلسل الآثار، وليس في كلامه تعرض لنفي ذلك ولا إثباته.
وقوله: (لم يزل سيفعل) إن صح عنه يحتمل معنيين: أحدهما: أنه لم يزل موصوفاً بأنه سيفعل ما يفعله من جميع المفعولات أعيانها وأنواعها، كما يقوله من يقول بحدوث نوع الفعل القائم به كما يقوله من يقول بحدوث أنواع المنفصلات عنه.
والثاني: أنه لم يزل الفاعل سيفعل شيئاً بعد شيء، فهو متقدم على كل واحد واحد من أعيان المفعولات.
فعلى الأول يمتنع أن يكون شيء من أنواعها أو أعيانها قديماً، وعلى