الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال أبو القاسم الأنصاري - شيخ الشهرستاني وتلميذ أبي المعالي - في شرح الإرشاد: (أجود ما يتمسك به في هذه المسألة تناقض الخصوم) .
أقوال الجويني في مسألة أفعال الله ورد ابن تيمية عليه
وهو كما قال: فإنه لم يجد لمن تقدمه في ذلك مسلكاً سديداً، لا عقلياً ولا سمعياً.
واعتبر ذلك بما ذكره أبو المعالي في كتابه الذي سماه: الإرشاد إلى قواطع الأدلة وقد ضمنه عيون الأدلة الكلامية التي يسلكها موافقوه، وقد تكلم على هذا الأصل في موضعين من كتابه:
أحدهما: في مسألة حدوث العالم، فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور، وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض، وما لا يخلو عنها فهو حادث، وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله، وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر، وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم، والدليل هو مبني على إثبات أربع مقدمات: الأعراض، وإثبات حدوثها، وأن الجسم لا يخلو منها، وإبطال حوادث لا أول لها، فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال: (وأما الأصل الثالث -
وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض - فالذي صار إليه أهل الحق: أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده، لا كان له أضداد.
وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين، وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه) .
قال: (وجوزت الملحدة خلو الجوهر عن جميع الاعراض، والجواهر في اصطلاحهم تسمى الهيولى والمادة، والأعراض تسمى الصورة) .
قال: (وجوز الصالحي العرو عن جملة الأعراض ابتداء، ومنع البصريون من المعتزلة من العرو عن جميع الأكوان، وجوزوا
الخلو عما عداها، وقال الكعبي ومتبعوه: يجوز الخلو عن الأكوان، ويمتنع العرو عن الألوان) .
قال: (وكل مخالف لنا يوافقنا على امتناع العرو عن الأعراض بعد قبول الجواهر لها، فيفرض الكلام على الملحدة في الأكوان، فإن القول فيها يستند إلى الضرورة، فإننا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة.
ومما يوضح ذلك: أنها إذا اجتمعت فيما لا يزال فلا يتقرر اجتماعها إلا عن افتراق سابق، إذا قدر لها الوجود قبل الاجتماع، وكذلك إذا طرأ الافتراق عليها اضطررنا إلا العلم بأن الافتراق مسبوق باجتماع، وغرضنا في ورم إثبات حدث العالم، يتضح بالأكوان) ،.
قلت: أثبات الأكوان بقبول الحركة والسكون هو الذي لا يمكن دفعه، فإن الجسم الباقي لا بد له من الحركة أو السكون، وأما الأجتماع والافتراق فهو مبني على إثبات الجوهر الفرد، والنزاع فيه كثير مشهور، فإن من ينفيه لا يقول: إن الجسم مركب منه، ولا إن الجوهر كانت متفرقة فاجتمعت، والذين يثبتونه أيضاً لا يمكنهم إثبات أن الجواهر كانت متفرقة فاجتمعت، فإنه لا دليل على أن السماوات كانت جواهر متفرقة فجمع بينها، ولهذا قال في الدليل:(فإنا ببديهة العقل نعلم أن الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق لا تعقل غير متماسة ولا متباينة) .
وهذا كلام صحيح، لكن الشأن في أثبات الجواهر القابلة للاجتماع والافتراق، فما ذكره من الدليل مبني على تقدير أنها كانت متفرقة فاجتمعت، وهذا التقدير غير معلوم، بل هو تقدير منتف في نفس الأمر عند جمهور العقلاء من المسملين وغيرهم.
ثم قال أبو المعالي: (وإن حاولنا رداً على المعتزلة فيما خالفونا فيه تمسكنا بنكتتين: إحداهما: الاستشهاد بالإجماع على امتناع العرو عن الأعراض بعد الاتصاف بها.
فنقول: كل عرض باق فإنه ينتفي عن محله بطريان ضده، ثم الضد إنما يطرأ في حال عدم المنتفى به
على زعمهم، فإذا انتفى البياض فهلا جاز أن لا يحدث بعد انتفائه لون، إن كان يجوز الخلو من الألوان، وتطرد هذه الطريقة في أجناس الأعراض) .
قلت: مضمون هذا أنه قاس ما بعد الاتصاف على ما قبله، وقد أجابه المنازعون عن هذا بأن الفرق بيهما: أن الضد لا يزول إلا بطريان ضده، فلهذا لم يخل منهما: فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطل القياس، وإلا منع الحكم في الأصل، وقيل: بل يجوز خلوه بعد الإتصاف إذا أمكن زوال الضد بدون طريان آخر، وما ذكره في السواد والبياض قضية جزيئية، فلا تثبت بها دعوى كلية، ومن أين يعلم أن كل طعم في الأجسام إذا زال فلا بد أن يخلفه طعم آخر؟ وكل ريح إذا زالت فلا بد أن يخلفها ريح آخر؟ وكذلك في الإرادة والكراهة ونحو ذلك، فمن أين يعلم أن المريد للشيء المحب له إذا زالت إرادته ومحبته فلا بد أن، يخلفه كراهية وبغضه؟ ولم لا يجوز خلو الحي عن حب المعين وبغضه وإردته وكراهته؟
قال: (ونقول أيضاً: الدال على استحالة قيام الحوادث بذات
الرب سبحانه وتعالى: أنها لو قامت به لم يخل عنها، وذلك يقضي بحدثه، فإذا جوز الخصم عرو الجوهر عن حوادث مع قبوله لها صحةً وجوزاً فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول البارىء للحوادث) .
قلت: فلقائل أن يقول: هذا غايته إلزام لهؤلاء المعتزلة: إنكم إذا جوزتم ذلك يكن لكم حجة على استحالة قبول الباري للحوادث.
فيقال: إما أن يكون هذا لازماً، وإما أن لا يكون لازماً: فإذا كان لازماً دل ذلك على أنه لا دليل للمعتزلة على ذلك، ولا دليل له أيضاً، فإن مجرد موافقة المعتزلة له لا يكون دليلاً لواحد منهما في شيء من المسائل التي لم نعلم فيها نزاعاً، فكيف مع ظهور النزاع؟ وإن لم يكن لازماً لهم لم يكن حجة عليهم.
فقد تبين أنه لم يذكر حجة على أن القابل للشيء لا يخلو منه ومن ضده.
الموضع الثاني - قال في أثناء الكتاب:
(فصل) مما يخالف فيه الجوهر حكم الإله: قبول الأعراض، وصحة الاتصاف بالحوادث، والرب يتقدس عن قبول الحوادث) .
قال: (وذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تقوم بذات الرب، ثم زعموا أنه لا يتصف بما يقوم به من الحوادث، وصاروا إلى جهالة لم يسبقوا إليها، فقالوا: القول الحادث يقوم بذات الرب، وهو غير قائل به، وإنما يقول بالقائلية، والقائلية عندهم القدرة على التكلم، وحقيقة أصلهم: أن أسماء الرب لا يجوز أن تتجدد، ولذلك وصفوه بكونه خالقاً في
الأزل، ولم يتحاشوا من قيام الحوادث به، وتنكبوا إثبات وصف جديد له ذكراً وقولاً) .
قال: (والدليل على بطلان ما قالوه: أنه لو قبل الحوادث لم يخل منها، لما سبق تقريره في الجواهر، حيث قضينا باستحالة تعريها عن الأعراض، ولو لم تخل عن الحوادث لم تسبقها، وينساق ذلك إلى الحكم بحدث الصانع) .
قال: (ولا يستقيم هذا الدليل على أصل المعتزلة،، مع مصيرهم إلى تجويز خلو الجوهر عن الأعراض، على تفصيل لهم أشرنا إليه، وإثباته أحكاماً متجددة لذات الرب تعالى من الإرادة المحدثة القائمة لا بمحل على زعمهم، ويصدهم أيضاً عن طرد دليل في هذه المسألة: إنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات من غير أن تدل على الحدث لم يبعد مثل ذلك في اعتوار نفس الأعراض على الذات) .
هذا كلامه، ولقائل أن يقول: قوله: (الدليل على بطلان ما قالوه: أنه لو قبلها لم يخل منها لما سبق تقريره في الجواهر) هو لم يذكر دليلاً هناك إلا قياس ما قبل الاتصاف على ما بعده، وهو ليس حجة علمية عقلية، بل غايته: احتجاج بموافقة منازعة في مسألة عظيمة عقلية ترد لأجلها نصوص الكتاب والنسة، وينبني عليها من مسائل الصفات والأفعال أمور عظيمة اضطرب فيها الناس، فمن الذي يجعل أصول الدين مجرد قول قالته طائفة من أهل الكلام وافق بعضهم بعضاً عليه من غير حجة عقلية ولا سمعية؟.
وقد أجابه المنازعون بجواب مركب، وهو إما الفرق - إن صح - وألا منع حكم الاصل.
وأيضا فأنه قد قرر هناك وهنا أن المعتزلة أئمة الكلام الذين أظهروا في الإسلام نفي الصفات والأفعال، وسموا ذلك تقديساً له عن الاعراض والحوادث، وقد ذكر أبوالمعالي أنه لا حجة لهم على استحالة اتصافه بالحوادث، وانه يلزمهم نقيض ذلك، أما الأول: فإن القابل للشيء عندهم يجوز أن يخلو عنه وعن ضده، وأما لزوم هذا القول لهم: فلإ ثباتهم أحكاما متجددة للرب، وأنه إذا لم يمتنع تجدد أحكام للذات
من غير أن يدل على الحدوث: لم يبعد مثل ذلك في اعتوار أنفس الأعراض، وكان ما ذكره الأستاذ أبو المعالي يقتضي أن القول بحلول الحوادث يلزم المعتزلة، وأنه لادليل لهم على نفي ذلك، وهو أيضاً لم يذكر دليلاً لموافقيه على نفي ذلك.
فأفاد ما ذكره أن أئمة النفاة لحلول الحوادث به القائلين بأنه لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا دليل لهم على ذلك، بل قولهم يستلزم قول أهل الإثبات لذلك.
قال: (ونقول للكرامية: مصيركم إلى إثبات قول حادث مع نفيكم اتصاف الباري به تناقض، إذ لو جاز قيام معنى بمحل من غير أن يتصف المحل بحكمه لجاز شاهداً قيام أقوال وعلوم وإرادات بمحال من غير أن تتصف المحال بأحكام موجبة عن المعاني، وذلك يخلط الحقائق ويجر إلى جهالات) .
قال: (ثم نقول لهم: إذا جوزتم قيام ضروب من الحوادث بذاته، فما المانع من تجويز قيام أكوان حادثة بذاته على التعاقب؟
وكذلك سبيل الإلزام فيما يوافقوننا على استحالة قيامه به من الحوادث.
ومما يلزمهم: تجويز قيام قدرة حادثة وعلم حادث بذاته، على حسب أصلهم في القول والإرادة الحادثين ولا يجدون بين ما جوزوه وامتنعوا عنه فصلاً) .
قال: (ونقول لهم: قد وصفتم الرب تعالى بكونه متحيزاً، وكل متحيز جسم وجرم، ولا يتقرر في المعقول خلو الأجرام من الأكوان، فما المانع من تجويز قيام الأكوان بذات الرب؟ ولا محيص لهم عن شيء مما ألزموه) .
قلت: ولقائل أن يقول: هذه الوجوه الأربعة التي ذكرها ليس فيها حجة تصلح لإثبات الظن في الفروع، فضلاً عن إثبات يقيني في أصول الدين يعارض به نصوص الكتاب والسنة، فإن غاية هذا الكلام - إن صح - أن الكرامية تناقضوا، وقالوا قولاً ولم يلتزموا بلوازمه.
فيقال: إن كان ما ذكره لازماً لزمهم الخطأ: إما في إثبات الملزوم، وإما في نفي اللزم، ولم يتعين الخطأ في أحدهما، فلم لا يجوز أن يكون خطؤهم في نفي اللوازم؟ فإن أقام على ذلك دليلاً عقلياً كان هو حجة كافية في المسألة وإلا استفدنا خطأ الكرامية في أحد قوليهم، وإن لم يكن ما ذكره لازماً لهم لم يفد لا إثبات تناقضهم ولا دليلاً في مورد النزاع.
ثم يقال: أما الوجه الأول فحاصله نزاع لفظي: هل يتصف بالحوادث أو لا يتصف؟ كالنزاع في أمثال ذلك، وإذا كان من أصلهم الفرق بين اللازم وغير اللازم، بحيث يسمون اللازم صفة دون العارض، كاصطلاح من يفرق بين الصفات والأفعال فلا يسمى الأفعال صفات وإن قامت بمحل كاصطلاح من يفرق بين الأقوال والأفعال، فلا يسمى ما يتكلم به الإنسان عملاً، وإن كان له فيه حركة ونحو ذلك - كانت هذه أموراً اصطلاحية لفظية لغوية، لا معاني عقلية، والمرجح في إطلاق الألفاظ - نفياً وإثباتاً - إلى ما جاءت به الشريعة، فقد يكون في إطلاق اللفظ مفسدة وإن كان المعنى صحيحاً.
وما ألزمهم إياه في الشاهد: فأكثر الناس يلتزمونه في الأفعال، فإن الناس تفرق في الإطلاقات بين صفات الإنسان وبين أفعاله، كالقيام
والقعود والذهاب والمجيء، فلا يسمون ذلك صفات، وإن قامت بالمحل.
وكذلك العلم الذي يعرض للعالم ويزول، والإرادة التي تعرض له وتزول، قد لا يسمون ذلك صفة له، وإنما يصفونه بما كان ثابتاً له كالخلق الثابت.
وبالجملة فهذه بحوث لفظية سمعية، لا عقلية، وليس هذا موضعها.
وأما قيام الأكوان به على التعاقب، وقيام ما أحالوا قيامه به، فهم يفرقون بين ما جوزوه ومنعوه بما يفرق به مثبتة الصفات بين ما توصفوه به وبين ما منعوه، فكما أنهم يصفونه بصفات الكمال فلا يلزمهم أن يصفوه بغيرها، فكذلك هؤلاء يقولون، فإن صح الفرق وإلا كانوا متناقضين.
ومن المعلوم أن الله تعالى لما وصف بالسمع والبصر - كما دلت عليه النصوص - ألزمت النفاة لأهل الإثبات إدراك الشم والذوق واللمس، فمن الناس من طرد القياس، ومنهم من فرق بين الثلاثة والاثنين، ومنهم من فرق بين إدراك اللمس، وإدراك الشم والذوق، لكون النصوص أثبتت الثلاثة دون الاثنين.
فإذا قال المعتزلة البصريون والقاضي أبو بكر وأبو المعالي وغيرهما ممن يصفه بالإدراكات الخمسة، لمن لم يصفه إلا باثنين أو ثلاثة: يلزمكم
طرد القياس، لزمهم إما الفرق وإلا كانوا متناقضين، ولم يكن هذا دليلاً على إبطال اتصافه بالسمع والبصر، كذلك إذا قال من جعل الإدراكات الخمسة تتعلق به، كما فعله هؤلاء ومن وافقهم، كـ القاضي أبي يعلى ونحوه لمن أثبت الرؤية: يلزمكم أن تصفوه بتعلق السمع والشم والذوق واللمس به، كما قلتم في الرؤية، كانوا أيضاً على طريقين: منهم من يذكر الفرق، ومنهم من يفرق بين اللمس وغيره، لمجيء النصوص بذلك دون غيره.
قال أبو المعالي في إرشاده: (فإن قيل: قد وصفتم الرب تعالى بكونه سميعاً بصيراً، والسمع والبصر إدراكان، ثم ثبت شاهداً إدراكات سواهما: إدراك يتعلق بقبيل الطعوم، وإدراك يتعلق بقبيل الروائح، وإدراك يتعلق بالحرارة والبرودة واللين والخشونة، فهل تصفون الرب تعالى بأحكام هذه الإدراكات أم تقتصرون على وصفة بكونه سميعاً بصيراً
قلنا: الصحيح المقطوع به عندنا: وجوب وصفه بأحكام الإدراك، إذ كل إدراك ينفيه ضد فهو آفة فما دل على وجوب
وصفه بحكم السمع والبصر، فهو دال على وجوب وصفه بأحكام الإدراك، ثم يتقدس الرب تعالى عن كونه شاماً ذائقاً لامساً: فإن هذه الصفات منبئة عن ضروب من الاتصالات، والرب يتعالى عنها، وهي لا تنبىء عن حقائق الإدراكات، فإن الإنسان يقول: شممت تفاحة فلم أدرك ريحها، ولو كان الشم دالاً على الإدراك لكان ذلك بمثابة قول القائل: أدركت ريحها، ولم أدركه، وكذلك القول في الذوق واللمس) .
قلت: ولا يلزم من تناقض هؤلاء - إن كانوا متناقضين - نفي الرؤية التي تواترت بها النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقلت: وأما تعاقب الحوادث: فهم نفوه، بناء على امتناع حوادث لا أول لها، فإن صح هذا الفرق وإلا لزمهم طرد الجواز، كما طرده غيرهم ممن لا يمنع ذلك.
وأما حدوث القدرة والعلم فنفوهما، لأن عدم ذلك يستلزم النقص، لعموم تعلق العلم والقدرة، بخلاف الإرادة والكلام، فإنه لا عموم لهما، فإنه سبحانه لا يتكلم إلا بالصدق، لا يتكلم بكل شيء، ولا يريد إلا مايسبق علمه به، لا يريد كل شيء، بخلاف العلم والقدرة، فإنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير.
وهذا كما فرقت المعتزلة بين هذا وهذا، فقالوا: إن له إرادة حادثة وكلاماً حادثاً، ولم يقولوا: له عالمية حادثة وقادرية حادثة، فالسؤال على الفريقين جميعاً.
فإن صح الفرق، وإلا كانوا متناقضين.
وقد أثبت غيرهم قيام علم بالموجود بعد وجوده، ولم يجعل ذلك عين العلم المتعلق به قبل وجوده، كما دل على ذلك ظاهر النصوص.
وقد أثبت ذلك من أهل الكلام والفلسفة طوائف، كـ أبي الحسين البصري وأبي البركات وغيرهم، وغير المتقدمين مثل هشام بن الحكم وأمثاله، ومثل جهم.
والمفرق - إن صح فرقه - وإلا لزم تناقضه.
وقيام الأكوان به نفوه، لأنها هي دليلهم على حدوث العالم كما استدلت بذلك المعتزلة، وهم يقولون: المتصف بالأكوان لا يخلو منها.
وهذا معلوم بالبديهة كما بينه الأستاذ أبو المعالي في أول كلامه، وقال: (نفرض الكلام في الأكوان، فإن القول فيها يستند
إلى الضرورة، فإذا كان من المعلوم بالضرورة: أن القابل للأكوان لا يخلو عنها، فلو وصفوه بالأكوان للزم أن لا يخلو عنها، وهم يقولون بامتناع تسلسل الحوادث، ويقولون: ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث، كما يوافقهم على ذلك أبو المعالي وأمثاله، فإن كان هذا الفرق صحيحاً بطل الإلزام وصح فرقهم، وإن لم يكن هذا الفرق صحيحاً لم يكن في ذلك حجة للمنازع لهم، بل يقول القائل: كلاكما مخطىء، حيث قلتم بامتناع دوام الحوادث وتسلسلها.
ومعلوم أن هذا كلام متين لا جواب عنه، فإن فرقهم بين الأكوان وغيرها هو العلم الضروري من الجميع بأن القابل للأكوان لا يخلو منها، فما قبل الحركة والسكون لم يخل من أحدهما، فهذا هو محيصهم عما ألزمهم به، فإن كانت الأكوان كغيرها في أن القابل للشيء لا يخلو عنه ضده فقد ثبت تناقضهم إذا كان قابلاً لها، وإن لم تكن مثل غيرها - كما تقوله المعتزلة - صح فرقهم.
وهم يدعون أنه ليس قابلاً لها، كما قد وافقهم على ذلك المعتزلة والأشعرية.
فإذا قال المعترض عليهم: يجب على أصلهم أن يكون قابلاً لها، لأنهم يصفونه بكونه متحيزاً، وكل متحيز جسم وجرم، قيل: هذا كما تقوله المعتزلة للأشعرية: يلزمكم إذا قلتم إن له حياة وعلماً وقدرة: أن يكون متحيزاً، لأنه لا يعقل قيام هذه الصفات إلا بمتحيز، ويقولون:
إنه لا يعقل موصوف بالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة إلا ما هو جسم، فإذا وصفتموه بهذه الصفات لزمكم أن يكون جسماً.
فإذا قال هؤلاء للمعتزلة: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه حي عليم قدير، وليس بمحيز ولا جسم، فإذا عقلنا موجوداً حياً عليماً قديراً ليس بجسم عقلنا حياة وعلماً وقدرة لا تقوم بجسم، قالوا: وأنتم وافقتمونا على أنه حي عليم قدير، وإثبات حي عليم قدير بلا حياة ولا علم ولا قدرة مكابرة للعقل واللغة والشرع.
قالت الكرامية لهؤلاء: قد اتفقنا نحن وأنتم على أنه موصوف بالحياة والعلم والقدرة ونحو ذلك من الصفات، مع اتفاقنا نحن وأنتم على أنه لا يتصف بالأكوان، فهكذا إذا جوزنا عليه أن يسمع أصوات عباده حين يدعونه، ويراهم بعد أن يخلقهم، ويغضب عليهم إذا عصوه، ويحب العبد إذا تقرب إليه بالنوافل، ويكلم موسى حين أتى الوادي، ويحاسب خلقه يوم القيامة، ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص، لم يلزمنا مع ذلك أن تجوز عليه حدوث الأكوان.
ومن تدبر كلام هؤلاء الطوائف - بعضهم مع بعض - تبين له أنهم لا يعتصمون فيما يخالفون به الكتاب والسنة إلا بحجة جدلية يسلمها بعضهم لبعض، وآخر منتهاهم: حجة يحتجون بها في إثبات حدوث العالم لقيام لاأكوان به أو الأعراض، ونحو ذلك من الحجج التي هي
أصل الكلام المحدث، الذي ذمه السلف والأئمة وقالوا: إنه جهل، وإن حكم أهله (أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام) ولكن من عرف حقائق ما انتهى إليه هؤلاء الفضلاء الأذكياء ازداد بصيرة وعلماً ويقيناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وبأن ما يعارضون به الكتاب والسنة من كلامهم الذي يسمونه عقليات: هي من هذا الجنس الذي لا ينفق إلا بما فيه من الألفاظ المجملة المشتبهة، مع من قلت معرفته بما جاء به الرسول وبطرق إثبات ذلك، ويتوهم أن يمثل هذا الكلام يثبت معرفة الله وصدق رسله، وأن الطع في ذلك طعن فيما به يصير العبد مؤمناً، فيتعجل رد كثير مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لظنه أنه بهذا الرد يصير مصدقاً للرسول في الباقي.
وإذا أنعم النظر تبين له أنه كلما ازداد تصديقاً لمثل هذا الكلام ازداد نفاقاً ورداً لما جاء به الرسول، وكلما ازداد معرفة بحقيقة هذا الكلام وفساده ازداد إيماناً وعلماً بحقيقة ما جاء به الرسول، ولهذا قال من قال من الأئمة:(قل أحد نظر في الكلام إلا تزندق وكان في قلبه غل على أهل الإسلام) بل قالوا: (علماء الكلام زنادقة) .
ولهذا قيل: إن حقيقة ما صنفه هؤلاء في كتبهم من الكلام