الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباطل المحدث المخالف للشرع والعقل هو: ترتيب الأصول في تكذيب الرسول، ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول، ولولا أن هؤلاء القوم جعلوا هذا علماً مقولاً وديناً مقبولاً، يردون به نصوص الكتاب والسنة، ويقولون: إن هذا هو الحق الذي يجب قبوله، دون ما عارضه من النصوص الإلهية والأخبار النبوية، ويتبعهم على ذلك من طوائف أهل العلم والدين ما لا يحصيه إلا الله: لاعتقادهم أن هؤلاء أحذق منهم وأعظم تحقيقاً، لميكمن بنا حاجة إلى كشف هذه المقالات، مع أن الكلام هنا لا يحتمل إلا الاختصار.
قول الرازي في الأربعين
ومقصودنا بحكاية هذا الكلام: أن يعلم أن ما ذكره الرازي في هذه المسألة قد استوعب فيه جميع حجج النفاة، وبين فسادها.
وأما الحجة التي احتج بها فهي أضعف من غيرها كما سيأتي بيانه.
وقد ذكر أن هذه المسألة تلزم عامة الطوائف.
وذكر في كتاب الأربعين أنها تلزم أصحابه أيضاً، فقال في الأربعين: (المشهور أن الكرامية يجوزون ذلك، وينكرون سائر الطوائف، وقيل: أكثر العقلاء يقولون به، وإن أنكروه باللسان، فإن أبا علي وأبا هاشم من المعتزلة وأتباعهما قالوا: إنه يريد بإرادة حادثة،
لا في محل، ويكره بكراهة حادثة لا في محل، إلا أن صفة المريدية والكارهية محدثة في ذاته تعالى.
وإذا حضر المرئي والمسموع حدث في ذاته تعالى صفة السامعية والمبصرية، لكنهم إنما يطلقون لفظ التجدد دون الحدوث.
وأبو الحسين البصري يثبت في ذاته علوماً متجددة بحسب تجدد المعلومات.
والأشعرية يثبتون نسخ الحكم، مفسرين ذلك برفعه أو انتهائه، والارتفاع والانتهاء عدم بعد الوجود، ويقولون: إنه عالم بعلم واحد يتعلق قبل وقوع المعلوم بأنه يسقع، وبعده يزول ذلك التعلق ويتعلق بأنه وقع، ويقولون: بأن قدرته تتعلق بإجاد المعين، وإذا وجد انقطع ذلك التعلق، لامتناع إيجاد الموجود، وكذا تعلق الإرادة بترجيح المعين، وأيضاً
المعدوم لا يكوم مرئياً ولا مسموعاً، وعند الوجود يكون مرئياً ومسموعاً، فهذه التعلقات حادثة.
فإن التزام جاهل كون المعدوم مرئياً ومسموعاً، قلنا: الله تعالى يرى المعدوم معدوماً، لا موجوداً، وعند وجوده يراه موجوداً لا معدوماً، لأن رؤية الموجود معدوماً أو بالعكس غلط، وأنه يوجب ما ذكرنا، والفلاسفة - مع بعدهم عن هذا - يقولون بأن الإضافات - وهي القبلية والبعدية والمعية - موجودة في الأعين، فيكون الله مع كل حادث، وذلك الوصف الإضافي حدث في ذاته وأبو البركات من المتأخرين منهم صرح في المعتبر بإرادات محدثة، وعلوم محدثة في ذاته تعالى، زاعماً بأنه لا يمكن الاعتراف بكونه إلهاً لهذا العالم إلا مع هذا القول، ثم قال:(الإجلال من هذا الإجلال والتنزيه من هذا التنزيه واجب) .
قال الرازي: (واعلم أن الصفة إما حقيقية عارية عن الإضافة كالسواد والبياض، أو حقيقة تلزمها إضافة كالعلم والقدرة، فإنه يلزمها تعلق بالمعلوم والمقدور، وهو إضافة مخصوصة بينهما، وإما إضافة محضة ككون الشيء قبل غيره وبعده ويمينه ويساره، فإن تغير هذه الأشياء لا يوجب تغيراً في الذات، ولا في صفة حقيقية منها.
فنقول: تغير الإضافات لا محيص عنه، وأما تغير الصفات الحقيقية: فالكرامية يثبتونه، وغيرهم ينكرونه، فظهر الفرق بين مذهب الكرامية وغيرهم.
لا نسمي ذلك صفة، ولا نقول: إن ذلك تغير في الصفات الحقيقية، كما تقدم) .
ثم استدل الرازي بثلاثة أوجه:
(أحدها: أن صفاته صفات كمال، فحدوثها يوجب
نقصانه، يعني قبل حدوثها، والإضافات لا وجود لها في الأعيان، دفعاً للتسلسل، فلا يرد نقصاً) .
ولقائل أن يقل: هذا الدليل قد تقدم الكلام عليه، والمنازع لا يسمي ذلك صفة، وإن وصف الموصوف بنوع ذلك، فليس لك فرد من الأفراد صفة كمال مستحقة القدم، يحيث يكون عدمها في الأزل نقصاً، وما اقتضت الحكمة حدوثه في وقت لم يكن عدمه قبل ذلك نقصاً، بل الكمال عدمه حيث لا تقتضي الحكمة وجود حدوثه، ووجوده حيث اقتضت الحكمة وجوده، كالحوداث المنفصلة، فليس عدم كل شيء نقصاً عما عدم منه.
وأيضاً فالحوادث لا يمكن وجودها إلا متعاقبة، وقدمها ممتنع وكان ممتنع الوجود لم يكن عدمه نقصاً، والتسلسل المذكور هو التسلسل في الآثار والشروط ونحوها، وهذا فيه قولان مشهوران، فالمنازع قد يختار جوازه، لا سيما من يقول: إن الرب لم يزل فاعلاً متكلماً إذا شاء.
(الثاني: لو كانت ذاته قابلة للحوادث لكانت تلك القابلية من
لوازمها، وأزلية القابلية توجب صحة وجود المقبول أزلاً، لأن قابلية الشيء للغير نسبة بينهما، والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما، لكن وجود الحوادث في الأزل محال، ولا يلزم علينا القدرة الأزلية، لأن تقدم القدرة على المقدور واجب، دون تقدم القابل على المقبول) .
قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: ما ذكرتم بتقدير التسليم يقتضي أزلية صحة وجود الحوادث، لا صحة أزلية وجود الحوادث، وقد عرفت الفرق بينهما في مسألة الحدوث، والفرق المذكور - إن صح - أغنى عن الدليل السابق، وإلا نفى النقص، وأيضاً إذا صح الفرق، مع أن الدليل المذكور ينفيه، لزم بطلان الدليل) .
قلت: فقد ذكر الأرموي في بطلان هذا الدليل ثلاثة أوجه:
أحدها: الفرق بين صحة أزلية الحدوث وأزلية صحة الحدوث، وسيأتي إن شاء الله الكلام فيه، وبيان أنه فرق فاسد.
لكن يقال: إن صح هذا الفرق بطل الدليل، وإن لم يصح لزم إمكان الحوادث في الأزل، ولزم إمكان وجود المقدور والمقبول في الأزل، وكلاهما يبطل
الدليل، أو يقال: ما كان جواباً لكم عن المقدور كان جواباً لنا عن المقبول، أو يقال: إن صح هذا الفرق بطل الدليل، وإن لم يصح هذا الفرق فاللازم أحد أمرين: إما إمكان دوام الحوادث وإما امتناع دوامها، فإن كان اللازم هو الأول لزم إمكان وجود جنس الحوادث المقبولة في الأزل وبطل الدليل، وإن كان اللازم هو الثاني كان وجودها في الأزل ممتنعاً.
وحينئذ فإذا جاز أن يقال: هو قادر عليها مع امتناع وجود المقدور أمكن أن يقال: هو قابل لها مع امتناع وجود المقبول.
وقول الأرموي: والفرق المذكور إن صح أغنى عن الدليل السابق وإلا بقي النقص.
قد يقال: أراد به الفرق بين أزلية الصحة وصحة الأزلية.
وقد يقال: عنى به الفرق بين القادر والقابل، فإن أراد الأول كان معنى كلامه: إن صح الفرق أمكن أن يكون قابلاً لها في الأزل وتكون صحتها أزلية، أي لم تزل ممكنة صحيحة، مع امتناع صحة أزلية الحوادث كما يقولون، إذ لم تزل الحوادث ممكنة صحيحة جائزة مع امتناع كون الحادث أزلياً، ويقولون: صحة الجواز وإمكانها أزلي لا متناع انقلابها من الامتناع إلى الإمكان من غير سبب حادث مع امتناع وجودها في الأزل وامتناع أزليتها.
وهذا الفرق ذكره الغزالي في تهافت الفلاسفة والرازي وغيرهما في جواب من قال بأن إمكان وجود المقدورات لا أصل له، فقالوا: نحن نقول: إمكان الحوادث لا بداية لها، ونقول الشيء المعين بشرط كونه
حادثاً لا بداية لأزليته، ولا يلزم من ذلك إمكان وجود شيء من الحوادث في الأزل، لأن كونه حادثاً مع كونه أزلياً ممتنع.
وهذا الفرق عند التحقيق باطل، فإنه مسلتلزم للجمع بين النقيضين، فإن الحادث يجب أن يكون مسبوقاً بالعدم.
فإذا قيل بأن الحادث لم يزل ممكناً، وأن صحته وإمكانه أزليته، كان معناه أن ما كان مسبوقاً بالعدم يمكن أن يكون أزلياً، والأزلي لا يكون مسبوقاً بالعدم، فكان معناه أن ما يجب أن يكون حادثاً يمكن أن يكون قديماً، وما يجب كونه مسبوقاً بالعدم يجوز أن يكون أزلياً غير مسبوق بالعدم، وهذا جمع بين النقيضين.
فإذا قيل: الحادث المعين إمكانه هل هو أزلي أو حادث؟
قيل: بل هو حادث، فإن كون الحادث المعين في الأزل ممتنع لذاته، وهذا الممتنع لا يكون قط، ولكن حدثت أسباب أوجبت إمكان حدوثه، فكان إمكان حدوثه ممكناً، كوجود الولد المشروط بوجود والده، فإن كونه ابن فلان يستلزم وجود فلان، ويمتنع أن يكون وجود ابن فلان موجوداً قبل وجود فلان، والممتنع لذاته لا يكون مقدوراً، وتجدد القادرية بتجدد إمكان المقدور ليس ممتنعاً، فإن الجميع حاصل بمسيئة الرب وقدرته، وهو سبحانه بما يحدث بمشيئته وقدرته يجعل المعدوم موجوداً، فيجعل ما لم يكن ممكناً مقدوراً يصير ممكناً مقدوراً، وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود شرح مراد الأرموي، فإذا أراد بالفرق الفرق بين صحة
الأزلية وأزلية الصحة، كان معنى كلامه: إن صح هذا الفرق بطل الدليل، فإنه يقول في الحوادث المقبولة ما يقال في الحوادث المنفصلة من الفرق بين صحة أزليتها وأزلية صحتها، لكن لو أراد بالفرق هذا لم يستقم قوله:(إن هذا الفرق إن صح إنى عن الدليل السابق) بل هذا الفرق إن صح بطل الدليل المذكور، فهذا يرجح أنه أراد بالفرق بين القادر والقابل، فيكون قد ذكر ثلاثة أجوبة، نقول إن صح الفرق بينهما بأن القابل يستلزم وجود المقبول في الأزل دون القادر، فهذا الفرق يغني عن الدليل، وإن لم يصح هذا الفرق انتقض الدليل بالقادر.
الوجه الثاني: أنه إن صح الفرق بين المقدور والمقبول بأن المقدور يجب تأخره عن القدرة، والمقبول لا يجب ذلك فيه، كان هذا وحده دليلاً على وجوب حصول الحادث في الأزل إذا كان قابلاً له، وحينئذ فلا حاجة إلى أن يستدل على ذلك بما ذكره من النسبة إن كان الفرق صحيحاً، وإن لم يكن صحيحاً صح النقض به.
الثالث: أن الدليل المذكور يوجب وجود المقدور في الأزل، لأن القادرية على الشيئين نسبة بينهما، والنسبة بين الشيئين متوقفة عليهما، فإن صح الفرق بين المقدور والمقبول - مع أن الدليل يتناولهما جميعاً وينفي
الفرق - لزم بطلان الدليل، فيلزم بطلان مقدمة الدليل أو انتفاضه، وكلاهما مبطل له، وهذا بين.
قال الرازي: (الثالث قول الخليل: {لا أحب الأفلين} (الأنعام: 67) يدل على أن المتغير لا يكون إلهاً) .
ولقائل أن يقول: إن كان الخليل صلى الله عليه وسلم احتج بالأفول على نفي كونه رب العالمين، لزم أنه لم يكن ينفي عنه حلول الحوادث، لأن الأفول هو المغيب والاحتجاب باتفاق أهل التفسير واللغة، وهو مما يعلم من اللغة اضطراراً، وهو حين بزغ قال:(هذا ربي) فإذا كان من حين يزوغه إلى حال أفوله لم ينف عنه الربوبية دل على أنه لم يجعل حركته منافية لذلك، وإنما جعل المنافي الأفول، وإن كان الخليل صلى الله عليه وسلم إنما احتج بالأفول على أنه لا يصلح أن يتخذ رباً يشرك به، ويدعى من دون الله، فليس فيه تعرض لأفعال الله تعالى، فقصة الخليل إما أن تكون حجة عليهم، أو لا لهم ولا عليهم.
قال الرازي: (واحتجوا بأن الدليل على أن الكلام والسمع
والبصر صفات حادثة، ولا بد لها من محل، وهو ذاته تعالى، ولأنه يصح قيام الصفات القديمة بذاته تعالى باتفاق منا ومن الأشعرية، والقدم لا يعتبر في المقتضى، فإنه عبارة عن نفس الأزلية وهو عدمي، فالمقتضى هو كونها صفات، والحوادث كذلك فليلزم قيامها به) .
قال: (والجواب عن الأول بالجواب عن أدلة حدوث تلك الصفات، وعن الثاني بأن تلك الصفات قد تكون مخالفة لهذه بالنوع، سلمنا أنه لا فارق سوى القدم فلم قلتم: إنه عدمي، فإنه عبارة عن نفي العدم السابق، ونفي النفي ثبوت؟)
قلت: ليس المقصود هنا ذكر أدلة المثبتة، فإن النصوص تدل على ذلك في مواضع لا تكاد تحصى إلا بكلفة، وإنما الغرض بيان: هل في العقل ما يعارض النصوص؟ ومن أراد تقرير ما احتجوا به من الدليل العقلي على الإثبات قدح فما يذكره النفاة من امتناع حدوث تلك الأمور.
وعمدة المانعين هو امتناع حلول الحوادث، وامتناع تسلسلها، فإذا كانوا لا ينفون حدوثها في ذاته إلا لامتناع حلول الحوادث: لم يجز أن يجيبوا عن أدلة الحدوث بمجرد دليل امتناع حلول الحوادث إن لم يجيبوا عن المعارض، لأن ذلك دور، فإذا قال القائل: الدليل على بطلان دليل المثبتة هو تدليل النفاة، قيل له: دليل النفاة لا يتم إلا ببطلان دليل المثبتة، فإذا لم تمكن المطالبة إلا بدليل المثبتة كان صحة دليل النفاة متوقفاً على صحته، وذلك دور، فإنه لا يتم نفي ذلك إلا بالجواب عن حجة المثبتين، فيكون قولهم بانتفاء حلول الحوادث مبيناً على انتفاء حلول الحوادث، فلا يكون لهم حجة على ذلك.
فالمثبتون معهم السمعيات الكثيرة المتواترة بخلاف النفاة، فإنه ليس معهم شيء من السمع، وإنما يدعون قيام الدليل العقلي على امتناع قيام الحوادث به، فإذا أراد بعض المثبتين أن يقيم دليلاً عقلياً على قيامها به أو إمكان قيامها به، احتاج إلى أن يجيب عن أدلة النفاة، والنفاة لا يتم دليلهم على النفي حتى يجيبوا على أدلة المثبتين، وإلا فلو قدر تعارض الأدلة العقلية من الجانبين فتكافأتا، وبقيت الأدلة السمعية خالية عن معارض يجب تقدمه عليها، فإذا احتج المثبتون بالآيات والأحاديث لم يمكن للنفاة أن يقولوا هذا يثبت قيام الحوادث به وذلك ممتنع، إلا إذا أقاموا الدليل العقلي على الامتناع، أجابوا عما يحتج به المثبتة من الدليل العقلي، فلا بد للنفاة من هذا وهذا، بخلاف المثبتة فإنه يمكنهم
أن يقولا السمع دل على ذلك، ولم يقيموا دليلاً عقلياً خالياً عن المعارض المقاوم ينفي ذلك، فلا يحتاج المثبتون إلى دليل عقلي يوافق السمع، يل يكفيهم إبطال ما يعارضه، وإذا أقاموا دليلاً عقلياً فعورضوا بأدلة النفاة لم يحتاجوا إلى إبطالها، بل تكفيهم المعارضة، فإذا أبطلوا كانوا قد سدوا على النفاة الأبواب.
فلهذا كان ما يحتاج إليه النفاة من إقامة دليل عقلي، وإبطال ما يعارضه، مما احتاج إليه المثبتة، بل يكفيهم منع مقدمات المعارض، فإن أبطلوها فقد زادوا، وتكفيهم الممعارضة بالعقليات، فإن بينوا رجحان عقلياتهم فقد زادوا، وإذا بينوا صحة عقلياتهم وبطلان عقليات النفاة ومعهم السمعيات، كانوا قد أثبتوا أن معهم السمع والعقل، وأن المنازغ ليس معه لا سمع ولا عقل.
وأما أدلة المثبتين فهو ما يذكرونه من الشرعيات والعقليات، وهم قد قدحوا في أدلة النفاة، فيتم كلامهم.
وأما التسلسل فالكرامية ومن وافقهم لا يجيزونه، كما لا يجيزه كثير من المعتزلة ومن وافقهم، وأما من يجوز التسلسل في الآثار من أهل الحديث والكلام والفلسلفة وغيرهم، فهؤلاء قد عرف طعنهم في أدلة النفاة، وطعن النفاة في أدلة بعض، حتى متكلمة أهل الإثبات
من الأشعرية وغيرهم متنازوعون في ذلك قد عرف.
وأيضاً فإن المثبتين يقلون: كونه قادراً على الفعل بنفسه صفه كمال، كما أن قدرته على المفعول المنفصل صفة كمال، فإنا إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الفعل القائم به والمنفصل عنه ومن لا يقدر على أحدهما علم أنا لأول أكمل، كما إذا عرضنا عليه من يعلم نفسه وغيره ومن لا يعلم إلا أحدهما، وأمثال ذلك، ويقول من يجوز دوام الحوادث وتسلسلها: إذا عرضنا على صريح العقل من يقدر على الأفعال المتعاقبة الدائمة ويفعلها دائمة متعاقبة، ومن لا يقدر على الدائمة المتعاقبة كان الأول أكمل.
وكذلك إذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها، ومن لا يفعل حادثاً أصلاً لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال، شهد صريح العقل بأن الأول أكمل، فإن الثاني ينفي قدرتهوفعله للجميع، لئلا يعدم البعض في الأزل، والأول يثبت قدرته وفعله للجميع مع عدم البعض في الأزل، فذاك ينفي الجميع حذراً من فوت البعض، والثاني يثبت ما يثبته من الكمال مع فوت البعض، ففوت البعض لازم على التقديرين، وامتاز الأول بإثبات كمال في قدرته وفعله لم يثبته الثاني.
وأيضاً فهم يقولون: كون الكلام لا يقوم بذاته يمنع أن يكون
كلامه، فإن ما قام به شيء من الصفات والأفعال عاد حكمه إليه، لا إلى غيره، فإذا خلق في محل علماً أو قدرة أو كلاماً كان ذلك صفة للمحل الذي خلق فيه، فذلك المحل هو العالم القادر المتكلم به، فإذا خلق كلاماً في محل كان ذلك الكلام المخلوق كلام ذلك المحل، لا كلامه، فإذا خلق في الشجرة:{إني أنا الله رب العالمين} (القصص: 30) ولم يقم هو به كلام كان ذلك كلاماً للشجرة، فتكون هي القائلة:(إني أنا الله رب العالمين) وهذا باطل، فيتعين أن يقوم به الكلام، وكونه لا يقدر أن يتكلم ولا يتكلم بما شاء، بل يلزمه الكلام كما تلزمه الحياة، مع كون تكليمه هو خلق مجرد الإدراك، يقتضي أن يكون القادر على الكلام الذي يتكلم باختياره أكمل منه، فإنا إذا عرضنا على العقل من يتكلم باختياره وقدرته ومن كلامه بغير اختياره وقدرته كان الأول أكمل، فتعين أن يكون متكلماً بقدرته ومشيئته كلاماً يقوم بذاته، وكذلك في مجيئة وإتيانه واستوائه وأمثال ذلك، إن قدرنا هذه أموراً منفصلة عنه: لزم أن لا يوصف بها، وإن قدرناها لازمة لذاته لا تكون بمشيئته وقدرته: لزم عجزه وتفضيل غيره عليه، فيجب أن يوصف بالقدرة على هذه الأفعال القائمة به، التي يفعلها بمشيئته وقدرته، وهذا هو الذي تعنيه النفاة بقولهم: لا تحله الحوادث، كما يعنون نفي العلم والقدرة ونحوهما بقولهم: لا تحله الأعراض.
وأيضاً فإن ما به تثبت الصفات القائمة به، تثبت الأفعال القائمة به
التي تحصل بقدرته واختياره، ونحو ذلك، وذلك أنه يقال: العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام ونحو ذلك صفات كمال، فلو لم يتصف الرب بها اتصف بنقائضها كالجهل والعجز والصمم والبكم والخرس، وهذه صفات نقص، والله منزه عن ذلك، فيجب اتصافه بصفات الكمال، ويقال: كل كمال يثبت لمخلوق من غير أن يكون فيه نقص بوجه من الوجوه فالخالق تعالى أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق فالخالق سبحانه أولى بتنزيهه عنه، بل كل كمال يكون للموجود لا يستلزم نقصاً فالواجب الوجود أولى به من كل موجود، وأمثال هذه الأدلة المبسوطة في غير هذا الموضع.
فإذا قال النفاة من الجهمية والمتفلسفة والباطنية: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، فلا يلزم من رفع أحدهما ثبوت الثاني، إلا أن يكون المحل قابلاً لهما، فأما ما لا يقبلهما كالجماد فلا يقال فيه حي ولا ميت، ولا أعمى ولا بصير.
أجيبوا عن ذلك بعدة أجوبة:
مثل أن يقال: هذا اصطلاح لكم، وإلا فاللغة العربية لا فرق فيها، والمعاني العقلية لا يعتبر فيها مجرد الاصطلاحات.
ومثل أن يقال: فما لا يقبل هذه الصفات كالجماد أنقص مما يقبلها
ويتصف بالناقص منها، فالحي الأعمى أكمل من الجماد الذي لا يوصف ببصر ولا عمى، وهذا بعينه يقال فيما يقوم به من الأفعال ونحوها التي يقدر عليها ويشاؤها، فإنه لو لم يتصف بالقدرة على هذه الأفعال لزم اتصافه بالعجز عنها، وذلك نقص ممتنع كما تقدم، والقادر على الفعل والكلام أكمل من العاجز عن ذلك.
فإذا قال النافي: (إنما يلزم اتصفاه بنقيض ذلك لو كان قيام الأفعال به ممكناً، فأما ما لا يقبل لك كالجدار فلا يقال: هو قادر على الحركة ولا عاجز عنها) .
فيقال: هذا نزاع لفظي كما تقدم، ويقال أيضاً: فما لا يقبل قيام الأفعال الاختيارية به والقدرة عليها كالجماد أنقص مما يقبل ذلك كالحيوان، فالحيوان الذي يقبل أن يتحرك بقدرته وإرادته إذا قدر عجزه هو أكمل مما لا يقبل الاتصاف بذلك كالجماد، فإذا وصفتموه بعدم قبول ذلك كان ذلك أنقص من أن تصفوه بالعجز عن ذلك، وإذا كان وصفه بالعجز عن ذلك صفة نقص، مع إمكان اتصافه بالقدرة على ذلك، فوصفه بعدم قبول الأفعال والقدرة عليها أعظم نقصاً.
فإن قال النافي: لو جاز ان يفعل أفعالاً تقوم به بإرادته وقدرته للزم أن يكون محلاً للحوادث، وما قبل الشيء لا يخل عنه وعن ضده، فيلزم تعاقبها، وما تعاقبت عليه الحوادث فهو حادث، لامتناع حوادث لا أول لها.
قيل لهم: هذا مبني على مقدمتين: على أن ما يقبل الشيء لا يخلو عنه وعن ضده، وعلى امتناع دوام الحوادث، وكل من المقدمتين قد بين فسادها كما تقدم.
ثم قبل العلم بفساده يعلم بصريح العقل أن ما ذكر في إثبات هذه الأفعال من الأدلة العقلية الموافقة للأدلة الشرعية أبين وأظهر وأصرح في العقل من امتناع دوام الحوادث وتعاقبها، فإن هذه المقدمة في غاية الخفاء والاشتباه، وأكثر العقلاء من جميع الأمم ينازعون فيها ويدفعونها، وهي أصل علم الكلام الذي ذمه السلف والأئمة، وبهذه المقدمة استطالت الدهرية على من احتج بها من متكلمة أهل الملل، وعجزوهم عن إثبات كون الله تعالى يحدث شيئاً لا العالم ولا غيره، والذين اعتقدوا صحة هذه المقدمة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم ظنوا أن حدوث العالم وإثبات الصانع لا يتم إلا بها، وفي حقيقة الأمر هي تنافي حدوث العالم وإثبات الصانع، بل لا يمكن القول بإحداث الله تعالى لشيء من الحوادث إلا بنقيضها، ولا يمكن إثبات خلق الله لما خلقه تصديق رسله فيما أخبروا به عنه إلا بنقيضها، فما جعلوه أصلاً ودليلاً على صحة المعقول والمنقول، هو مناف مناقض للمنقول والمعقول، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
وأيضاً فإن هؤلاء النفاة يقولون: لم يكن الرب تعالى قادراً على الفعل فصار قادراً، وكان الفعل ممتنعاً فصار ممكناً، من غير تجدد شيء أصلاً يوجب القدرة والإمكان، وهذا معنى قول القائل: إنه يلزم أن ينقلب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، وهذا مما تجزم العقول ببطلانه، مع ما فيه من وصف الله بالعجز وتجدد القدرة له من غير سبب.
ومن اعتذر منهم عن ذلك - مثل كثير منهم - قالوا: إن الممتنع هو القدرة على الفعل في الأزل، فنفس انتفاء الأزل يوجب إمكان الفعل والقدرة عليه.
قيل لهم: الأزل ليس هو شيئاً كان موجوداً فعدم، ولا معدوماً فوجد، حتى يقال: إنه تجدد أمر أوجب ذلك، بل الأزل كالأبد، فكما أن الأبد هو الدوام في المستقبل، فالأزل هو الدوام في الماضي، فكما أن الأبد لا يختص بوقت دون وقت، فالأزل لا يختص بوقت دون وقت، فالأزلي هو: الذي لم يزل كائناً، والأبدي هو: الذي لا يزال كائناً، وكونه لم يزل ولا يزال معناه دوامه وبقاؤه، الذي ليس له مبتدأ ولا منتهى، فقول القائل:(شرط قدرته انتفاء الأزل) كقول نظيره: (شرط قدرته انتفاء الأبد) .
فإذا كان سلف الأمة وأئمتها وجماهير الطوائف أنكروا قول الجهم في