الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا لا ينافي ما ذكره من أنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة، وأن الفعل صفة، والله يقدر عليه، ولا يمنعه منه مانع، وأنه أحدث الأشياء بأمره وقوله عن قدرته، ونحو ذلك، فإن هذا الفعل والقول المقدور الذي ليس هو مخلوقاً منفصلاً عنه ليس جنسه محدثاً عنده، وإن كان الواحد من آحاده يكون بعد أن لم يمكن.
فالجنس لا يقال له حادث ولا محدث، بل لم يزل الله موصوفاً بذلك عنده.
ولهذا قال: (ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء إذا خلقه) فإن ما كان جنسه محدثاً كان قد زادت به الذات، وقد عرف أن المخلوق عنده: ما كان مسبوقاً بفعله الذي خلق به وقوله وقدرته، وأن المخلوق لا يكون إلا منفصلاً عنه.
فهذا الذي قاله عبد العزيز فيه رد على الكرامية ومن وافقهم في أنهم جوزوا عليه أن يحدث له جنس الكلام ونحوه مما لم يكن موجوداً فيه قبل ذلك، وجوزوا أن يحدث له جنس صفات الكمال، ومتى قيل:(إنه لم يكن موصوفاً بجنس من أجناس صفات الكمال حتى حدث له) لزم أن يكون قبل ذلك ناقصاً عن صفة من صفات الكمال، فلا يكون متكلماً، بل يكون موصوفاً قبل ذلك بعدم الكلام، وهذا الذي قاله عبد العزيز هو نظير قول الإمام أحمد وغيره من الأئمة.
رأي أحمد بن حنبل في مسألة أفعال الله
قال أحمد في (رده على الجهمية) : باب ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى: - (فقلنا: لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: إن الله
لم يتكلم، ولا يتكلم، وإنما كون شيئاً فعبر عن الله، وخلق صوتاً فأسمع، وزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف ولسان وشفتين.
فقلنا: هل يجوز لمكون أوغير الله أن يقول: {يا موسى * إني أنا ربك} (طه: 12) أويقول: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} (طه: 14) ؟ فمن قال ذلك زعم أن غير الله ادعى الربوبية، ولو كان كما زعم الجهمي: أن الله كون شيئاً كان يقول ذلك المكون: {يا موسى إني أنا الله رب العالمين} (القصص: 30) وقد قال جل ثناؤه {وكلم الله موسى تكليما} (النساء: 164)، وقال تعالى:{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف: 143)، وقال تعالى:{إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (الأعراف: 144) هذا منصوص القرآن.
فأما ما قالوا: (إن الله لا يتكلم) فكيف يصنعون بحديث الأعمش عن خثيمة عن عدي بن حاتم الطائي قال: «قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان» .
وأما قولهم: إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان وأدوات، فقد قال تعالى:{وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} (الأنبياء: 79) أتراها أنها يسبحن بجوف وفم ولسان وشفتين، والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا:{لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء} فصلت: 21) أتراها أنها نطقت بجوف وفم ولسان؟ ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله يتكلم كيف شاء، من غير أن نقول: بجوف ولا فم ولا شفتين ولا لسان.
فلما خنقته الحجج قال: إ: ن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره، فقلنا: وغيره مخلوق؟ قالوا: نعم، قلنا: مثل قولكم الأول، إلا أنكم
فقد ذكر أحمد في هذا الكلام: أن الله تعالى يتكلم كيف شاء، وذكر فيما استشهد به من الأثر (أن الله كلم موسى عليه السلام بقوة عشرة آلاف لسان) وأن له قوة الألسن كلها، وهو أقوى من ذلك، وأنه إنما كلم موسى على قدر ما يطيق، ولو كلمه بأكثر من ذلك لمات.
وهذا بيان منه لكون تكلم الله متعلقاً بمشيئته وقدرته كما ذكر عبد العزيز.
وهو خلاف قول من يجعله كالحياة القديمة اللازمة للذات، التي
لا تتعلق بمشيئة ولا قدرة.
وبين أيضاً في كلامه أنه سبحانه تكلم وسيتكلم رداً على الجهمية وأستدل على أنه تكلم بالحديث الذي في الصحيحين عن عدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه» وجعل قوله: «سيكلمه ربه» دليلاً على أنه سيتكلم، فبين أن التكلم عنده مستلزم للتكليم متضمن للتكلم، ليس هو مجرد خلق إدراك في المستدل.
وقال الإمام أحمد: (وقلنا للجهمية: من القائل يوم القيامة: {يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} (المائدة: 116) أليس الله هو القائل؟ قالوا: يكون الله شيئاً فيعبر عن الله، كما كون شيئاً فعبر لموسى، قلنا: فمن القائل {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين * فلنقصن عليهم بعلم} (الأعراف: 6 - 7) أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون شيء فيعبر عن الله، فقلنا: قد أعظمتم على الله الفرية حين زعمتم أنه لا يتكلم، فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله، لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك، ولا تزول من مكان إلى مكان.
فلما
ظهرت عليه الحجة قال: إن الله قد يتكلم، ولكن كلامه مخلوق.
قلنا: وكذلك بنوا آدم كلامهم مخلوق، فقد شبهتم الله بخلقه حين زعمتم أن كلامه مخلوق، ففي مذهبكم: قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاماً، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه، فتعالى الله عن هذه الصفة! بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إن كان ولا يتكلم حتى خلق كلاماً، ولا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه كان ولا قدرة حتى خلق لنفسه قدرة، ولا نقول: إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه
نوراً، ولا نقول: إنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة) .
فقد بين أحمد في هذا الكلام الإنكار على النفاة الذي شبهوه بالجمادات التي لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول من مكان إلى مكان، مثل الأصنام المعبودة من دون الله، والإنكار على من زعم أنه كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق الكلام.
فشبهه بالآدمي الذي كان
لا يتكلم حتى خلق الله له كلاماً.
فأنكر تشبيهه الجماد الذي لا يتكلم، وبالإنسان الذي كان قادر على الكلام حتى خلق الله له الكلام، فكان قادراً على الكلام في وقت دون وقت.
وبين أن من وصف الله ذلك فقد جمع بين الكفر - حيث سلب ربه صفة الكلام وهي من أعظم صفات الكمال، وجحد ما أخبرت به النصوص - وبين التشبيه.
ثم قال أحمد: (بل نقول: إن الله لم يزل متكلماً إذا شاء، ولا نقول: إنه كان ولا يتكلم حتى خلق..) فبين أن الكلام يتعلق بمشيئته وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء فرد قول من لا يجعل الكلام متعلقاً بالمشيئة، كقول الكلابية ومن وافقهم، ومن يقول:(كان ولا يتكلم حتى حدث له الكلام) كقول الكرامية ونحوهم، وقال:(لا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما، لا نقول: إنه قد كان لا يعلم حتى خلق علماً فعلم، ولا نقول: إنه كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسة قدرة، ولا نقول: إنه قد كان له ولا نور له حتى خلق لنفسه نوراً، ولا نقول: إنه كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه عظمة) فنزهه سبحانه عن سلب صفات الكمال في وقت من الأوقات، وإنا لا نقول: تجددت له صفات الكمال، بل لم يزل موصوفاً بصفات الكمال، ومن صفات الكمال: إنه لم يزل متكلماً إذا شاء، لا أن يكون الكلام خارجا عن قدرته ومشيئته، ولهذا لم يقل: لم يزل عالماً إذا شاء، ولا قال: يعلم كيف شاء، وقد قال في موضع آخر فيما رواه عنه حنبل:(لم يزل الله عالماً متكلماً غفوراً) .
وكلام أحمد وغيره من الأئمة في هذا الأصل كثير ليس هذا موضع بسطه، مثل ما ذكره البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد والرد على الجهمية قال: باب ما جاء في تخليق السماوات والأرض وغيرهما من الخلائق، وهو فعل الرب وأمره، فالرب تعالى بصفاته وفعله وأمره - وفي نسخه (وكلامه) - هو الخالق المكون، غير
مخلوق، وما كان يفعله وأمره وتخليقه وتكوينه فهو مفعول مكون مخلوق) .
وقال بعد ذلك: باب قول الله تعالى: {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له} إلى قوله {ماذا قال ربكم قالوا الحق} (سبأ: 23) ولم يقولوا ماذا خلق ربكم.
قال عز وجل: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} (البقرة: 255)، وقال مسروق عن أبن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئاً، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ونادوا:{ماذا قال ربكم قالوا الحق} (سبأ: 23) ويذكر عن جابر بن عبد الله بن أنيس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان» .
وذكر حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟
قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير» وذكر حديث أبي سعيد الخدري قال:«قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك! فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار» والحديث فيه طول، استوفاه في موضع آخر.
وقال بعد ذلك: باب ما جاء في قول الله تعالى: {كل يوم هو في شأن} (الرحمن: 29) وقال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} (الأنبياء: 2) وقوله تعالى: {لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} (الطلاق: 1) ، وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين، لقوله تعال:{ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (الشورى: 11) وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث: أن لا تكلموا في الصلاة» وقول ابن
عباس: كتابكم أحدث الأخبار بالرحمن عهداً، محضاً لم يشب.
ومن تدبر كلام أئمة السنة المشاهير في هذا الباب علم أنهم كانوا أدق الناس نظراً، وأعلم الناس في هذا الباب بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأن أقوالهم هي الموافقة للمنصوص والمعقول، ولهذا تأتلف ولا تختلف، وتتوافق ولا تتناقض، والذين خالفوهم لم يفهموا حقيقة أقوال السلف والأئمة، فلم يعرفوا حقيقة المنصوص والمعقول، فتشعبت بهم الطرق، وصاروا مختلفين في الكتاب، مخالفين للكتاب وقد قال تعالى:{وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد} (البقرة: 176) .
ولهذا قال الإمام أحمد في أول خطبته فيما أخرجه في الرد على الزنادقة والجهمية (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصيرون منهم على
الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ذال تائه قد هدوه؟ فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم!.
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مخالفون للكتاب، مختلفون في الكتاب، مجموعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين) .
ومن أعظم أصول التفريق بينهم في هذه المسألة - مسألة أفعال الله تعالى وكلام الله ونحوه ذلك مما يقوم بنفسه ويتعلق بمشيئته وقدرته - فإن هذا الأصل لما أنكره من أنكره من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وظنوا أنه لا يمكن إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع إلا إثبات حدوث الجسم، ولا يمكن إثبات حدوثه إلا بإثبات حدوث ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعاقبة، ألجأهم ذلك إلى أن ينفوا عن الله صفاته وأفعاله القائمة به المتعلقة بمشيئته وقدرته، أو ينفوا بعض ذلك، وظنوا أن الإسلام لا يقوم إلا بهذا النفي، وأن الدهرية من
الفلاسفة وغيرهم لا يبطل قولهم إلا بهذا الطريق، وأخطأوا في هذا وهذا.
أما الفلاسفة الدهرية فإن هذه الطريقة زادتهم إغراء، وأوجبت لهم حجة عجز هؤلاء عن دفعها إلا بالمكابرة التي لا تزيد الخصم إلا قوة وإغراء، فقالو لهم: كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث؟ وكيف تكون الذات حالها وفعلها وجميع ماينسب إليها واحداً من الأزل إلى الأبد؟ والعالم يصدر عنها في وقت دون وقت من غير فعل يقوم به ولا سبب حدث؟.
فكان ما جعلوه أصل للدين وشرطاً في معرفة الله تعالى منافياً للدين ومانعاً من كمال معرفة الله، وكان ما أحتجوا به من الحجج العقلية هي في الحقيقة على نقيض مطلوبهم أدل، فالحوادث لا تحدث إلا بشرط جعلوه مانعا من الحدوث.
وأما أمور الإسلام: فإن هذا الأصل اضطرهم إلى نفي صفات الله تعالى لئلا تنتقض الحجة، ومن لم ينف الصفات نفى الأفعال القائمة به وغيرها مما يتعلق بمشيئته وقدرته.
فلزمهم من عدم الإيمان ببعض ما جاء به الرسول ومن جحد بعض ما يستحقه الله تعالى من أسمائه وصفاته، ما أوجب له من من التناقض والإرتياب ما تبين لأولى الألباب.
فلم يعطوا الإيمان بالله ورسوله حقه،