الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومع هذا فيقال له: تقدير كون الحركة المعينة في الأزل ومسبوقة بأخرى جمع بين النقيضين، فهو ممتنع لذاته، والممتنع لذاته يلزمه حكم ممتنع، فلا يضر ما لزم على هذا التقدير.
وأما على التقدير الآخر - وهو حصول شيء منها في الأزل مع كونه مسبوقاً - فقد أجابوا الأرموي: بأن وجود الحركة المعينة في الأزل محال أيضاً، وإذا كان ذلك ممتنعاً جاز أن يلزمه حكم ممتنع، وهو كون الأزلي مسبوقاً بالغير، وإنما الأزلي هو الجنس، وليس مسبوقاً بالغير.
وقد اعترض بعضهم على هذا الاعتراض بأن قال: فحيئنذ ليس شيء من الحركات حاصلاً في الأزل، إذ لو حصل في الأزل لا متنع زواله، وما هذا شأنه يمتنع كوناً أزلياً.
وجواب هذا الاعتراض أن يقال: ليس شيء من الحركات المعينة في الأزل، إذ ليس شيء منها لا أول له، بل كل واحد منها له أول، لكن جنسها: هل له أول؟ وهذا غير ذلك، والمنازع يسلم أن ليس شيء من الحركات المعينة أزلياً، وإنما نزاعه في غير ذلك، كما أنه يسلم أنه ليس شيء من الحركات المعينة أبدياً، مع أنه يقول: جنسها أبدي.
الرابع والتعليق عليه
قال الرازي: الوجه الرابع: (كلما تحرك زحل دورة
تحركت الشمس ثلاثين فعدد دورات زحل أقل من عدد دورات الشمس، والاقل من غير متناه، والزائد على المتناهي بالمتناهي متناه، فعددهما متناه) .
قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: تضعيف الواحد إلى غير النهاية أقل من تضعيف الاثنين كذلك مع كونهما غير متناهيين)
قلت: هذا الذي ذكره الأرموي معارضة ليس فيه منع شيء من مقدمات الدليل، ولا حل له، ثم قد يقول المستدل: الفرق بين مراتب الأعداد وأعداد الدورات من وجهين.
أحدهما: أن مراتب الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج، وإنما يقدرها الذهن تقديراً، كما يقدر الأشكال المجردة يقدر شكلاً مستديراً وشكلاً أكبر منه وشكلاً أكبر من الآخر وهلم جراً، وتلك الأشكال التي يقدرها الذهن لا وجود لها في الخارج، وكذلك الأعداد المجردة لا وجود لها في الخارج، فالكم المتصل أو المنفصل إذا أخذ مجرداً عن الموصوف به لم يكن إلا في الذهن، وكذلك الجسم التعليمي - وهو أن يقدر طول وعرض وعمق مجرد عن الموصوف به - وإذا كان كذلك لم يلزم من إمكان تقدير ذلك في الذهن إمكان وجوده في الخارج، فإن الذهن تقر فيه الممتنعات، كاجتماع النقيضين والضدين، فيقدر فيه كون الشيء موجوداً معدوماً، وكون الشيء متحركاً ساكناً، ويقدر فيه
أن كون الشيء لا موجوداً ولا معدوماً، ولا واجباً ولا ممكناً ولا ممتنعاً، إلا غير ذلك من التقديرات الذهنية التي لا تسلتزم إمكان ذلك في الخارج، ولهذا يمكن تقدير خط لا يتناهى وسطح لا يتناهى، وتقدير أشكال بعضها أكبر من بعض بلا نهاية وأبعاد لا نهاية لها، ولا يلزم من إمكان تقدير ما لا نهاية له في الذهن إمكان ذلك في الخارج، والمنازعون يسلمون امتناع أجسام لا يتناهى قدرها وأبعاد لا تتناهى وعلل ومعلولات لا تتناهى، مع إمكان تقدير ذلك في الذهن.
فإذا قيل لهم: كذلك تقدير أعداد لا تتناهى، أو تقدير مراتب أعداد لا تتناهى بعضها أفضل من بعض، إذا قدر في الذهن لم يدل ذلك على إمكان وجوده في الخارج - بطلت معارضتهم، وكان من عارض تقدير الأعداد التي لا تتناهى بتقدير الأشكال التي لا تتناهى وتقدير التفاضل في هذا كالتفاضل في هذا: أولى ممن عارض تفاضل الدورات بتفاضل مراتب الأعداد، فإنه إذا قيل: تضعيف الواحد إلى غير نهاية أقل من تضعيف الاثنين.
قيل: وإذا فرض خط عرضه بقدر الكف لا يتناهى طولاً وخط عرضه بقدر الذراع لا يتناهى، فالذي بقدر الكف أقل، وإذا فرض أجسام مستديرة كل منها بقدر رأس الإنسان لا تتناهى، وأخرى كل منها بقدر الفلك لا
تتناهى، كانت مقادير تلك أصغر، مع أن الجميع لا يتناهى، كان معلوماً أن هذه المعارضة أعدل وأولى بالقبول من تلك المعارضة.
الوجه الثاني: إن كان تضعيف الأعداد ومراتبها وسائر المقادير إلى غير نهاية كان هذا التضعيف إنما هو في الذهن، فكل ما يتصوره الذهن من ذلك ويقدره فهو يتناهى، والذهن لا يزال يضعف حتى يعجز، وهكذا أذا نطق بأسماء الأعداد أو بألفاظ فلا يزال ينطق حتى يعجز، وإن قدر أنه لا يعجز بل لا يزال الذهن يقدر اللسان ينطق فإن جميع ذلك داخل في الوجود الذهني واللفظي والجناني واللساني، وكل ما يدخل من ذلك في الوجود فهو متناه وله مبدأ محدود، فله أول ابتدء منه، وهو من ذهن الإنسان ولفظه، وكل ما يوجد منه متعاقباً فإنه منتهاه، لكن هذا يدل على جواز ما لا نهاية له في المستقبل، وأن الشيء قد يكون له بداية ولا يكون له نهاية، فإن ما يخطر بالأذهان وينطق به اللسان له بداية، ويمكن وجود ما لا يتناهى منه، ومن هذا الباب أنفاس أهل الجنة وألفاظهم وحركاتهم، فإنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ومن هذا الباب تسبيح الملائكة دائماً.
فهذا المذكور من تضعيف الأعداد ذهناً ولفظا يدل على وجود ما لا يتناهى في المستقبل إذا كان له بداية محدودة، وأما التفاضل فيه - سواء أريد به تضعيف الذهن، أو اللسان، أو جميعهما - فمعلوم أنه إذا قيل: ضعف الواحد وضعف ضعفه وضعف ضعف ضعفه وهلم جراً،
وقيل: ضعف الاثنين وضعف ضعفهما وضعف ضعف الضعف وهلم جرا، فإن أريد بكون تضعيف الواحد أقل من تضعيف الاثنين، أن ما وجد من نطق اللسان بالتضعيف أو ما يخطر بالقلب من التضعيف أقل، فهذا ممنوع إذا قدر التساوي في المبدأ والحركة، وإن قدر التفاضل فأكثرهما أسبقهما مبدأ وأقواهما حركة، وحينئذ فقد يكون تضعيف الواحد هو الأكثر.
وإن أريد بذلك أن مسمى أحد اللفظين أكثر مما في كل مرتبة من مراتب التضعيف، فإذا ضعف الواحد خمس مرات كان اثنين وثلاثين، وإذا ضعف الاثنان خمس مرات كان أربعاً وستين مرة، فهذه الأربع والستون ليست معدوداً موجوداً في الخارج ولا في الذهن حتى يقال: وجد التفاضل فيما لا يتناهى، وإنما نطق بلفظ أعداد متناهية، والمعدودات ليست موجودة لا في الذهن ولا في الخارج، فلو قدر وجود ألفاظ الأعداد من هذه المرتبة ومن هذه المرتبة في الذهن واللسان لم يلزم إذا قدر أنهما غير متناهيين أن يكونا متفاضلين مع استوائهما في المبدأ والحركة.
وإن أراد أن مسمى هذا لو وجد لكان أكبر من مسمى هذا.
فيقال: نعم، ولكن لم قلت: إن وجود ذلك المسمى ممكن؟ وهذا كما لو قال القائل: (ما لا يتناهى أقدره في ذهني وأتكلم بلفظه) لم يكن في ذلك ما يقتضي أنه يمكن وجوده في الخارج، كما يقدر ذهناً ولساناً ما لا يتناهى من الأجسام والأبعاد والأشكال، فهذا هذا، فهذا مما يجيب به المستدل عن المعارضة بمراتب الأعداد.
وهذا الفرق - وإن كما قد أوردناه - فقد ذكره غير واحد من النظار المفرقين بين العدد والحركات من متكلمي المسلمين وغيرهم، وذكر هؤلاء هذا الفرق المعروف عند من يوافق المستدل على هذا النقض هو أن تضعيف العدد ليس أمراً موجوداً، بل مقدراً، بخلاف ما وجد من الحركات.
وهكذا فرق من فرق بين الماضي والمستقبل، بأن الماضي قد وجد، بخلاف المستقبل، والممتنع وجود ما لا يتناهى، لا تقدير ما لا يتناهى.
ومن يوافق المعترض يقول: الماضي أيضاً قد عدم، فليست أفراده موجودة معاً والمحذور وجود ما لا يتناهى فيما كان مجتمعاً، بل مجتمعاً منتظما بعضه ببعض، بحيث يكون له ترتيب طبيعي أو وضعي.
وهذا فرق ابن سينا وأتباعه من المتفلسفة، ولكن ابن رشد
يقول: إن مذهب الفلاسفة الفرق بين المجتمع وغير المجتمع، سواء كان المجتمع له ترتيب أو ليس له ترتيب، وإنما النزاع بينهم في النفوس البشرية المفارقة: هل هي موجودات متميزة غير متناهية أم لا؟
ويقول هؤلاء: لا نسلم أن ما كان وعدم، أو ما سيكون، إذا قدر أن بعضه أقل من بعض يجب أن يكون متناهياً، والمؤمنون بأن نعيم الجنة دائم لا ينقضي من المسلمين وأهل الكتاب يسلمون ذلك، ولم ينازع فيه من أهل الكلام إلا الجهم ومن وافقه على فناء النعيم، وأبو الهذيل القائل بفناء الحركات، وهما قولان شاذان قد اتفق السلف والأئمة وجماهير المسلمين على تضليل القائلين بهما، ومن أعظم ما أنكروه السلف والأئمة على الجهمية: قولهم بفناء الجنة.
وقال الأشعري في كتاب المقالات: وأختلفوا أيضاً في معلومات الله عز وجل ومقدوراته: هل لها كل، أو لا كل لها؟ على مقالتين، فقال أبو الهذيل: إن لمعلومات الله كلاً وجميعاً، ولما يقدر الله عليه: كل وجميع، وإن أهل الجنة تنقطع حركاتهم
يسكنون سكوناً دائماً.
وقال أكثر أهل الإسلام: ليس لمعلومات الله، ولا لما يقدر عليه كل ولا غاية.
واختلفوا أيضاً: هل لأفعال الله سبحانه آخر، أم لا آخر لها؟ على مقالتين، فقال الجهم بن صفوان: إن لمعلومات الله ومقدوراته غاية ونهاية، ولأفعاله آخر، وإن الجنة والنار تفنيان ويفنى أهلهما، حتى يكون الله آخر، وإنهما لا تزالان باقيتين، وكذلك أهل الجنة لا يزالون في الجنة يتنعمون، وأهل النار في النار يعذبون، ليس لذلك آخر، ولا لمعلومات الله ومقدوراته غاية ولا نهاية.
وقد ذكر بعض الناس بين الماضي والمستقبل فرقاً بمثال ذكره، كما ذكره صاحب الإرشاد وغيره، وهو أن المستقبل بمنزلة ما إذا قال قائل: لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك بعده درهماً، وهذا كلام صحيح، والماضي بمنزلة لا أعطيك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، وهذا كلام متناقض.
لكن هذا المثال ليس بمطابق، لأن قوله:(لا أعطيك) نفي للحاضر والمستقبل، ليس نفياً للماضي، فإذا قال (لا أعطيك هذه الساعة أو بعدها شيئاً إلا أعطيتك قبله شيئاً) اقتضى أن لا يحدث فعلاً الآن حتى يحدث فعلاً في الزمن الماضي، وهذا ممتنع.
أو بمنزلة أن يقول: (لا أفعل حتى أفعل) وهذا جمع بين النقيضين.
وإنما مثاله أن يقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، فكلاهما ماض.
فإذا قال القائل: (ما يحدث شيء إلا ويحدث بعده شيء) كان مثاله أن يقول: ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء، لا يقول لا يحدث بعده شيء) كان مثاله أن يقول: ما حدث شيء إلا حدث قبله شيء، لا يقول (لا يحدث في المستقبل شيء إلا حدث قبله شيء) وكل ما له ابتداد وانتهاء كعمر العبد، يمتنع أن يكون فيه عطاء لا انتهاء له، أو عطاء لا ابتداء له، وإنما الكلام فيما لم يزل ولا يزال.
والناس لهم في إمكان وجود ما لا يتناهى أقوال:
أحدها: امتناع ذلك مطلقاً، في الماضي والمستقبل والحاضر، في كل شيء، وهذا قول الجهم وأبي الهذيل.
والثاني: جواز ذلك، حتى في الأبعاد التي لا تتناهى، وهو قول طائفة من فلاسفة الهند وطائفة من نظار أهل الملة وغيرهم، يقولون: إن الرب له قدر لا يتناهى.
ثم من هؤلاء من يقول: لا يتناهى من
جميع الجهات، ومنهم من يقول: يتناهى من جهة العرش فقط، وأما من سائر الجهات فإنه لا يتناهى.
وقد ذكر الأشعري في المقالات هذه الأقوال وغيرها عن طوائف، وممن ذكر ذلك: الكرامية، وطائفة من أتباع الأئمة، كـ القاضي أبي يعلى وغيره، وهؤلاء منهم من يقول بتناهي الحوادث في الماضي، مع قوله بوجود ما لا يتناهى من المقدار في الحاضر.
وكذلك معمر وأتباعه من أصحاب المعاني، يقولون بوجود معان لا تتناهى في آن واحد، مع قولهم بامتناع حوادث لا أول لها، فصار بعض الناس يقول بجواز التناهي في الحوادث الماضية والأبعاد، ومنهم من يقول بجواز ذلك في الأبعاد دون الحوادث، فهذه ثلاثة أقوال.
الرابع: قول من يقول: لا يجوز ذلك فيما دخل في الوجود، لا في الماضي ولا في الحاضر، ويجوز فيما لم يوجد بعد، وهو المستقبلات، وهذا قول كثير من النظار.
الخامس: قول من يقول: يجوز ذلك في الماضي ولامستقبل، ولا يجوز فيما يوجد في آن واحد، لا في الأبعاد ولا الأنفس ولا المعاني، وهو قول ابن رشد، وحكاه عن الفلاسفة.
وزعم أن النفوس البشرية واحدة بعد المفارقة، كما زعم أنها كانت كذلك قبل المفارقة.
السادس: قول من يقول: ما كان مجتمعاً مترتباً فإنه يجب تناهيه كالعلل والأجسام، فتلك لها ترتيب طبيعي، وهذه لها ترتيب وضعي، وكلها موجودة في آن واحد.
وأما ما لم يكن له ترتيب - كالأنفس - أو كان له ترتيب ولكن يوجد متعاقباً - كالحركات - فلا يمتنع فيه وجود ما لا يتناهى، وهذا قول ابن سينا، وهو المحكي عندهم عن أرسطو وأتباعه، لكن ابن رشد ذكر أن هذا القول لم يقله أحد من الفلاسفة إلا ابن سينا.
وأما وجود علل ومعلولات لا تتناهى: فهذا مما لم يجوزه أحد من العقلاء.
إذا عرف هذا تكلمنا على الاحتجاج بتفاضل الدورات التي لا تتناهى، فإن الشمس تقطع الفلك في السنة مرة، والقمر اثنتي عشرة مرة، وهذا مشهود، والمشتري في كل اثنتي عشرة سنة مرة، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة، فتكون دورات القمر بقدر دورات زحل ثلاثمائة وستين مرة، ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة، فتكون دورات هذا أضعاف دورات هذا، وكلاهما لا يتناهى عند القائلين بذلك، والأقل من غير المتناهي متنهاه، والزائد على المتناهي متناه، وقد عرف أن المعارضة بالعدد باطلة.
وقد يقال: هذا من جنس تطبيق الحوادث الماضية إلى اليوم بالحوادث الماضية إلى أمس، فإن كلاهما لا يتناهى مع التفاضل.
وهو الوجه الخامس الذي سيأتي.
لكن بينهما فروق مؤثرة:
منها: أنه هناك هذه الحوادث هي تلك بعينها، لكن زادت حوادث اليوم، فغاية تلك: أن يكون ما لا إبتداء له من الحوادث لا يزال في زيادة شيئاً بعد شيء، وأما هنا: فهذه الدورات ليست تلك.
ومنها: أنه هناك فرض انطباق اليوم على الأمس، مع اشتراكهما في عدم البداية، وهذا التطبيق ممتنع.
فإن حقيقته: أنا نقدر تماثلهما وتفاضلهما، فإنه إذا طبق أحدهما على الآخر لزم التماثل مع التفاضل، لأنهما استويا في عدم البداية وفي حد النهاية، وهما متفاضلان، وهذا تقدير ممتنع، بخلاف الدورتين، فإنهما هنا مشتركان في عدم البداية، وفي حد النهاية، فالتفاضل هنا حاصل مع الاشتراك في عدم النهاية عند هؤلاء، فهذا لا يحتاج إلى فرض وتقدير، حتى يقال: هو تقدير ممتنع، بخلاف ذلك.
ولكن التقابل يوافق ذلك التقابل في أن كليهما قد عدمت فيه الحوادث الماضية، ويوافقه في أن كليهما قد قدر فيه انتهاء الحوادث من أحد الجانبين، فهما متفقان من هذين الوجهين، مفترقان من ذينك الوجهين.
وحينئذ فيقال: الدهرية يزعمون أن حركات الفلك لا بداية لها ولا نهاية، لا يجعلون لها آخراً تنتهي إليه فلا يصح اعتمادهم على أن هذه الحوادث متناهية من أحد الجانبين، بل يلزمهم قطعاً أن تكون الحركة الفلكية التي زعموا أنها لم تزل ولا تزال متفاضلةً، فدورات زحل عنهم لم تزل ولا تزال، وكذلك دورات الشمس والقمر، مع أن دورات القمر دورات بقدر دورات الشمس اثنتي عشرة مرة، ودورات الشمس بقدر دورات زحل ثلاثين مرة، فكل من هذين لا يتناهى في الماضي والمستقبل، وهذا أقل من هذا بقدر متناه، وهذا أزيد من هذا بقدر متناه، فإذا كان الأقول من غيره متناهياً لزم أن يكون كل من الدورات متناهياً.
وهذا الوجه لا يرد على من قال من أئمة الإسلام وأهل الملل بجواز حوادث لا تتناهى، فإن أولئك يقولون بأن حركة الفلك لها ابتداء ولها انتهاء، وأنه محدث مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وأنه ينشق وينفطر، فتبطل حركة الشمس والقمر، وكل واحد من دورات الفلك وكواكبه وشمسه وقمره له عندهم بداية ونهاية.
وهذا الدليل إنما يدل على أن حركته يمتنع أن تكون غير متناهية، ولا يلزم إذا وجب تناهي حركة جسم معين أن يجب تناهي جنس الحوادث، إلا إذا كان الدليل الذي دل على تناهي حرك المعين يدل
على تناهي الجنس، وليس الأمر، فإن هذا الدليل لا يتناول إلا الفلك، وهو دليل على حدوثه، وامتناع أن تكون حركته بلا بداية ولا نهاية، فهو يدل على فساد مذهب أرسطو وابن سينا، وأمثالهما ممن يقول بأن الفلك قديم أزلي.
فهذا حق متفق عليه بين أهل الملل وعامة العقلاء.
وهو قول جمهور الفلاسفة، ولم يخالف في ذلك إلا شرمذة قليلة، ولهذا كان الدليل على حدوثه قوياً، والاعتراض الذي اعترض به الأرموي ضعيفاً، بخلاف الوجوه الدالة على امتناع جنس دوام الحوادث، فإن أدلتها ضعيفة، واعتراضات غيره عليها قوية.
وهذا مما يبين أن ما جاءت به الرسل هو الحق، وأن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه، كالذين جعلوا من السمع: أن الرب لم يزل معطلاً عن الكلام والفعل، لا يتكلم بمشيئته، ولا يفعل بمشيئته، بل ولا يمكنه عندهم أنه لا يزال يتكلم بمشيئته ويفعل بمشيئته.
فجعل هؤلاء هذا قول الرسل، وليس هو قولهم، وجعل هؤلاء من المعقول: أنه يمتنع دوام كونه قادراً على الكلام والفعل بمشيئته.
وعارضهم آخرون: فادعوا أن الواحد من مخلوقاته كالفلك أزلي معه، وأنه لم يزل ولا تزال حوادثه غير متناهية، فهذه الدورات لا تتناهى، وهذه لا تتناهى، مع أن هذه بقدر هذه مرات متناهية، وكون الشيئين لا يتناهيان أزلاً وأبداً، مع كون أحدهما بقدر الآخر مرات، مع