الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قالوا: وقال انكسيمانس نحو مقالة هذين، غير أنه يجوز لقائل أن يقول: إن الباري يتحرك بحركة فوق هذه الحركات.
كلام ابن ملكا
قلت: وكذلك أبو البركات في المعتبر حكى المقالتين عن غيره، بل عن القائلين بقدم العالم، فقال:(قال القائلون بالحدوث للقدميين: فإذا كان الله لم يزل جواداً خالقاً قديماً في الأزل، فالحوادث في العالم كيف وجدت؟ أعن القديم أم عن غيره؟ فإن قلتم: هو خالقها، وعنه صدر وجودها، فقد قلتم بأن القديم خلق المحدث، وأراد خلقه بعد أن لم يرد، وإن قلتم: إن غيره فعل الحوادث، فقد أشركتم بعد ما بالغتم في التوحيد لواجب الوجود بذاته) .
قال: (فقال القدميون: بل الخالق الأول الواحد القديم هو خالق المخلوقات بأسرها من قديم وحديث، وحده لا شريك له في
وجوده وخلقه وملكه وأمره، وتشعب رأيهم في ذلك إلى مذهبين: فمنهم من قال: إنه خلق الأشياء القديمة دائمة الوجود بدوام وجوده والحوادث شيئاً بعد شيء، أراد فخلق، وخلق فأراد، أوجب خلقه إرادته، وأوجب إرادته خلقه.
مثال ذلك: أنه أراد خلق آدم الذي هو الأب فخلقه وأوجده، وأراد بوجود الأب وجود الابن، أراد فجاد، وجاد فأراد، إرادة بعد إرادة لموجود بعد موجود، فإذا قلتم: لم أوجد؟ قيل: لأنه أراد فجاد، ولم أراد؟ قيل: لأنه أوجد، فوجود الحوادث يقتضي بعضها بعضاً من وجوده السابق واللاحق.
فإن قالوا: كيف تحدث له الإرادة؟ وكيف يكون له حال منتظرة تكون بعد أن لم تكن؟ وكيف يكون محل الحوادث؟ قيل: وكيف يكوم محلاً لغير الحوادث؟ أعني الإرادة القديمة.
فإن قيل: لإنها له منه.
قيل: والإرادات له منه.
فإن قيل: الإرادة القديمة له في قدمه.
قيل: والحديثة له في قدمه، لأن السابق من وجوده بالإرادة السابقة أوجب عنده إرادة لاحقة، فأحدث خلقاً بعد خلق بإرادة بعد إرادة وجبت في حكمته من خلقه بعد خلقه، فاللاحق من إرادته وجب عن سابق إرادته بتوسط مراداته، وهكذا هلم جراً) .
قال: (والتنزيه عن الإرادة الحادثة كالتنزيه عن الأرادة القديمة، في كونه محلاً لها، لكنه لا وجه لهذا التنزيه، كما سنتكلم عليه في فصل العلم، إذا قلنا في علمه: لم يعلم؟ وكيف يعلم؟.
قال: (فهذا أحد المذهبين) قال:، (وأما المذهب
الآخر: فإن أهله يقولون إن كل حادث يتجدد بعد عدمه، فله سبب يوجب حدوثه، وذلك السبب حادث أيضاً، حتى ترتقي أسباب الحوادث إلى الحركة الدائمة في المتحركات الدائمة) وساق تمام قول هؤلاء، وهو قول أرسطو وأتباعه.
وقد نقل غير واحد أن أول من قال بقدم العالم من الفلاسفة هو أرسطو، وأما أساطين الفلاسفة قبله فلم يكونوا يقولون بقدم صورة الفلك، وإن كان لهم في المادة أقوال أخر، وقد بسط الكلام على هذا الأصل في مسألة العلم وغيره لما رد على من زعم أنه لا يعلم الجزئيات، حذراً من التغير والتكثر في ذاته، وذكر حجة أرسطو وابن سينا ونقضها.
وقال: (فأما القول بإيجاب الغيرية فيه بإدراك الإغيار والكثرة بكثرة المدركات، فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثراً في ذاته، بل في إضافاته ومناسباته، وتلك مما لا يعيد الكثرة على هويته
وذاته، ولا الوحدة التي أوجبت وجوب وجوده بذاته ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه، وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا، وسلبنا عنه ما سلبنا، هي وحدة مدركاته ونسبه وإضافاته، بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته) .
قال: (ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته قيلت على طريق التنزيه، بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى ووجوب وجوده بذاته والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته، لا مدركاته وإضافاته، فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات فذلك أمر إضافي (لا معنى في نفس الذات، وذلك مما لم تطبله الحجة، ولم يمنعه البرهان، ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له، بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى) .
وتكلم على قول أرسطو، إذ قال: من المحال أن يكون كماله بعقل غيره، إذ كان جوهراً في الغاية من الإلهية والكرامة والعقل
فلا يتغير، والتغير فيه انتقال إلى الأنقص، وهذا هو حركة ما، فيكون هذا العقل ليس عقلاً بالفعل، لكن بالقوة، فقال أبو البركات:(ما قيل في منع التغير مطلقاً حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم: فهو غير لازم في التغير مطلقاً، بل هو غير لازم البتة، وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام، مثل الحرارة والبرودة، وفي بعض الأوقات، لا في كل حال ووقت، ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام، فإنه يقول: إن كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك التغير حركة مكانية) .
قال: (وهذا محال، فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم من غير أن تتحرك على المكان، على رأيه، فإنه لا يعتقد فيها أنها مما يكون في مكان البتة، فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض التغيرات والأحوال، كالتسخن والتبرد، ولا يلزم فيهما أبداً،
وإنما ذلك فيما يصعد بالبخار من الماء ويتدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك، والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر وإنما يتبخر منه بعض الأجزاء، ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة، لا قبلها: كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركات المكانية، وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض هو في مكانه لم يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها، فما لزم هذا في كل جسم، بل في بعض الأجسام، ولا في كل حال ووقت، بل في بعض الأحوال والأوقات، ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال، بل على طريق التبع، ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية، ولو لزم التغيرات النفسانية ايضاً لما لزم انتقال الحكم فيه إلى التغيرات في المعارف والعلوم والعزائم والإرادات، فالحكم الجزئي لا يلزم كلياً، ولا يتعدى من البعض إلى البعض، وإلا لكانت الأشياء على حالة واحدة) .
وبسط الكلام في مسألة العلم، وقال - لما ذكر القولين
المتقدمين -: (والقائلون بالحدوث قالوا: إنه لا يحتاج إلى هذا التمحل، وسموه على طريق المجادلة باسم التمحل للتشنيع والتسفيه، بل نقول: بأن المبدىء المعيد خلق العالم وأحدثها بإرادة قديمة أزلية أراد بها في القدم إحداث العالم حتى أحدثه) .
وقال: (وقيل في جوابهم: إن ذلك المبدأ لا يتغير ويتخصص في القدم إلا معقول يجعله مقصوداً في العلم القديم عند الإرادة القديمة، حيث أراده في مدة العدم السابق لحدوث العالم التي هي مدة غير متناهية البداية، وما لا يعقل ولا يتصور لا يعلم، وما لا يمكن أن يعلم لا يعلمه عالم، لا لأن الله لا يقدر على علمه، لكن لأنه في نفسه غير مقدرور عليه، ثم ما الذي يقولونه في حدوث العالم: من مشيئة الله وإرادته التي بها يقبل الدعاء من الداعي، ويحسن إلى المحسن، ويسيء إلى المسيء، ويقبل توبة التائب، ويغفر للمستغفر، هل يكون ذلك عنه أو لا يكون؟ فإن قالوا بأنه لا يكون أبطلوا بذلك