الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالضرورة، وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.
وكذلك من قال: (لا يتكلم إلا بأصوات قديمة أزلية ليست متعاقبة، وهو لا يقدر على التكلم بها، ولا له في ذلك مشيئة ولا فعل) من أهل الحديث والفقهاء والكلام المنتسبين إلى السنة، فجمهور العقلاء يقولون: إن قول هؤلاء أيضاً معلوم الفساد بالضرورة، وإنما ألجأهم إلى ذلك اعتقادهم أن الكلام لا يتعلق بمشيئة المتكلم وقدرته، مع علمهم بأن الكلام يتضمن حروفاً منظومة وصوتاً مسموعاً من المتكلم.
وأما من قال: (إن الصوت المسموع من القارىء قديم) أو: (يسمع منه صوت قديم ومحدث) فهذا أظهر فساداً من أن يحتاج إلى الكلام عليه.
وكلام السلف والأئمة والعلماء في هذا الأصل كثير منتشر، ليس هذا موضع استقصائه.
دلالة القرآن على مسألة أفعال الله تعالى
وأما دلالة الكتاب والسنة على هذا الأصل فأكثر من أن تحصر، وقد ذكر منها الإمام أحمد وغيره من العلماء في الرد على الجهمية ما جمعوه، كما ذكر الخلال في كتاب السنة، قال: (أخبرنا المروزي قال: هذا ما جمعه واحتج به أبو عبد الله على الجهمية من القرآن، وكتبه بخطه، وكتبته من كتابه، فذكر المروزي آيات كثيرة، دون ما ذكر الخضر بن أحمد بن عبد الله بن أحمد، وقال فيه: سمعت
أبا عبد الله يقول: في القرآن عليهم من الحجج في غير موضع - يعني الجهمية -.
قال الخلال: وأنبأنا الخضر بن أحمد المثنى الكندي سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: وجدت هذا الكتاب بخط أبي، فيما احتج به على الجهمية، وقد ألف الآيات إلى الآيات في السور، فذكر آيات كثيرةً تدل على هذا الأصل، مثل قوله تعالى:{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} (البقرة: 186) وقوله تعالى: {بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (البقرة: 117) وقوله {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة} (البقرة: 174) وقوله تعالى: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} (المجادلة: 1) وقوله تعالى: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء} (آل عمران: 181) وقوله تعالى: {إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم} إلى قوله تعالى - {كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (آل عمران 45 - 47) وقوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن
فيكون} (آل عمران: 59) وقول تعالى {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة} (آل عمران: 77) وقوله تعالى {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك} (الأنعام: 73) .
{وكلم الله موسى تكليما} (النساء: 164) وقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} (الأعراف: 143) .
{ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون} (يونس: 19) .
{ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب} (هود: 110) .
{ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم} (الشورى: 21)، {وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} (هود: 119) ، {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (يوسف: 3) ، وقوله:{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (الكهف: 109) .
وقال تعالى: {فلما أتاها نودي يا موسى * إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى * وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} (طه: 11 - 14) إلى
قوله: - {إنني معكما أسمع وأرى} (طه: 46)، {وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني} (طه: 39) .
{ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى} (طه: 129) .
{وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم} (الأنبياء: 83 - 84) .
وقوله: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} (الأنبياء: 87 - 88) .
قوله {وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه} (الأنبياء: 88 - 89) وقوله {الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا} (الفرقان: 59)، وقوله:{فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها} (النمل: 80) .
وقوله: {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} (القصص: 30) .
وقوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} (يس: 88) وقوله تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون}
(الصافات: 171 - 173) .
وقوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} (الزمر: 67) .
وقول تعالى: {هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} (غافر: 68) .
{وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60){ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} (الشورى: 14) .
{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} (الشورى: 51)، وقوله تعالى:{فلما آسفونا انتقمنا منهم} (الزخرف: 55) .
وقوله: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما} (المجادلة: 1) .
قلت: وفي القرآن مواضع كثيرة تدل على هذا الأصل، كقوله تعالى:{هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} (البقرة: 29)، وقوله:{قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين} إلى قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} (فصلت: 9 - 11)، وقوله:{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} (البقرة: 210) وقوله: {هل
ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} (الأنعام: 158)، وقوله:{وجاء ربك والملك صفا} (الفجر: 22)، وقوله تعالى:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} (التوبة: 105)، وقوله:{ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون} (يونس: 14)، وقوله تعالى:{إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} (الأعراف: 54) في غير موضع في القرآن، وقوله تعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل: 40) .
وقوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (الإسراء: 16)، وقوله تعالى:{وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} (الرعد: 11) .
وقوله تعالى: {كل يوم هو في شأن} (الرحمن: 29)، وقوله تعالى:{ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} (القصص: 65)، وقوه تعالى:{ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} (القصص: 62)، {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين} (الشعراء: 10) ، {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة} (الأعراف: 22) ، وقوله
تعالى: {قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} (الشعراء: 15)، وقوله:{سلام قولا من رب رحيم} (يس: 58) وقوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث} (الزمر: 23)، وقوله:{فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون} (الجاثية: 6)، وقوله:{فبأي حديث بعده يؤمنون} (المرسلات: 50)، وقوله:{ومن أصدق من الله حديثا} (النساء: 87) .
وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى، بل يدخل في ذلك عامة ما أخبر الله به من أفعاله، لا سيما المرتبة، كقوله تعالى:{ولسوف يعطيك ربك فترضى} (الضحى: 5)، وقوله:{فسنيسره لليسرى} (الليل: 10)، وقوله:{إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم} (الغاشية: 25 - 26)، وقوله:{إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} (القيامة: 17 - 19)، وقوله:{فسوف يحاسب حسابا يسيرا} (الانشقاق: 8)، وقوله:{أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا} (عبس: 25 - 26) .
وقوله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} (الروم: 27)، وقوله {ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين} (المرسلات: 16 - 17) ونحو ذلك.
لكن الاستدلال بمثل هذا مبني على أن الفعل ليس هو المفعول، والخلق ليس هو المخلوق، وهو قول جمهور الناس على اختلاف أصنافهم، وقد قرر هذا في غير هذا الموضع.
ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: إن الفعل قديم لازم للذات لا يتعلق بمشيئته وقدرته، ومنهم من يقول: يتعلق بمشيئته وقدرته، وإن قيل إن نوعه قديم، فهؤلاء يحتجون بما هو الظاهر المفهوم من النصوص.
وإذا تأول من ينازعهم أن المتجدد إنما هو المفعول المخلوق فقط من غير تجدد فعل، كان هذا بمنزلة من يتأول نصوص الإرادة والحب والبغض والرضا والسخط، على أن المتجدد ليس أيضاً إلا المخلوقات التي تراد وتحب وترضى وتسخط، وكذلك نصوص القول والكلام والحديث، ونحو ذلك: على أن المتجدد ليس إلا إدراك الخلق لذلك، وتأويل الإتيان والمجيء على أن المتجدد ليس إلا مخلوقاً من المخلوقات.
فهذه التأويلات كلها من نمط واحد، ولا نزاع بين الناس أنها خلاف المفهوم الظاهر الذي دل عليه القرآن والحديث.
ثم ملاحدة الباطنية يقولون: إن الرسل أرادو إفهام الناس ما يتخيلونه، وإن لم يكن مطابقاً للخارج، ويجعلون ذلك بمنزلة ما يراه النائم، فتفسير القرآن عندهم يشبه تعبير الرؤيا التي لا يفهم تعبيرها من ظاهرها، كرؤيا يوسف والملك، بخلاف الرؤيا التي يكون ظاهرها مطابقاً لباطنها.
وأما المسلمون من أهل الكلام النفاة فهم وإن كانوا يكفرون من يقول بهذا، فإما أن يتأولوا تأويلات يعلم بالضرورة أن الرسول لم يردها، وإما أن يقولوا: ما ندري ما أراد، فهم إما في جهل بسيط أو مركب، ومدار هؤلاء كلهم على أن العقل عارض ما دلت عليه النصوص.
وقد بين أهل الإثبات أن العقل مطابق موافق لما أخبرت به النصوص، ودلت عليه، لا معارض له، لكن المقصود هنا أن نبين أن القرآن والسنة فيهما من الدلالة على هذا الأصل ما لا يكاد يحصر، فمن له فهم في كتاب الله يستدل بما ذكر من النصوص على ما ترك، ومن عرف حقيقة قول النفاة علم أن القرآن مناقض لذلك مناقضةً لا حيلة لهم فيها، وأن القرآن يثبت ما يقدر الله عليه ويشاؤه من أفعاله التي ليست هي نفس المخلوقات وغير أفعاله.
ولولا ما وقع في كلام الناس من الالتباس والإجمال لما كان يحتاج أن يقال: الأفعال مفعول ليس هو