الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موقف الرازي في مسألة القرآن وأفعال الله
والمقصود هنا: أن أبا عبد الله الرازي في أكثر كتبه، لم يبن مسألة القرآن على الطريقة المعروفة لـ الأشعري، وهو أنه يمتنع أن يحدث في نفسه كلام، لكونه ليس محلاً للحوادث، وذلك لأنه قد ضعف هذا الأصل، فلم يمكنه أن يبني عليه، بل أثبت ذلك بإجماع مركب، فقرر بأن الكلام له معنى غير العلم والإرادة، خلافاً للمعتزلة ونحوهم.
وإذا كان كذلك فكل من قال بذلك قال: إنه معنى واحد قديم قائم بذات الله تعالى، فلو لم يقل بذلك لكان خلاف الإجماع.
فهذا هو العمدة التي اعتمد عليها في نهاية العقول وهو ضعيف، فإن الإقوال في المسألة متعددة قول غير المعتزلة والكلابية.
وكان من الممكن أن يقال له: إن ثبت أنه لا يقوم بالله ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن أن يجعل كلام الله قديماً بالطريقة المعروفة، فإنه يمتنع أن يحدثه قائماً في نفسه أو في محل آخر، فإذا أمتنع حدوثها في نفسه تعين قدمه.
وإن لم يثبت ذلك، بل أمكن أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته أمكن هنا قول الكرامية وقول أهل الحديث الذين يقولون: إنه قول السلف والأئمة، فلم يتعين قول الكلابية، فذكر في نهاية العقول ما جرت عادته وعادة غيره بذكره، وهو أن معنى الكلام: إما أن يكون هو الإرادة والعلم، وإما أن يكون الطلب مغايراً للإرادة، والحكم الذهني مغايراً للعلم.
والأول باطل، لأن
الإنسان في الشاهد قد يخبر بما يعلمه ولا يعتقده، وقد يأمر بأمر لا يريده، كالسيد إذا كان قصده امتحان العبد.
قال: (وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب، لانعقاد الإجماع على أن ماهية الخبر لا تختلف في الشاهد والغائب) .
قال: (فثبت أن أمر الله ونهيه وخبره صفات حقيقية، قائمة بذاته، مغايره لذاته وعلمه، وأن الألفاظ الواردة في الكتب الإلهية دالة عليها.
وإذا ثبت ذلك وجب القطع بقدمها، لأن الأمة علىقولين في هذه المسألة: منهم من نفى كون الله موصوفاً بالأمر والنهي والخبر بهذا المعنى، ومنهم من أثبت ذلك.
وكل من أثبته موصوفاً بهذه الصفات زعم أن هذه الصفات قديمة.
فلو أثبتنا كونه تعالى موصوفاً بهذه الصفات، ثم حكمنا بحدوث هذه الصفات، كان ذلك قولاً ثالثاً خارقاً للإجماع، وهو باطل) .
وأورد على نفسه أسئلة: فمنها قول القائل: (لم قلتم إن تلك المعاني قديمة.
قولكم: كل من أثبت تلك المعاني أثبتها قديمة؟ قلنا: القول في إثباتها مسألة، والقول في قدمها مسألة أخرى، فلو لزم من ثبوت إحدى المسألتين ثبوت الأخرى، لزم من أثبات كونه تعالى عالماً بعلم قديم، إثبات كونه تعالى متكلماً بكلام قديم، وإن سلمنا أن هذا النوع من الإجماع يقتضي قدم كلام الله، لكنه معارض بنوع آخر من الإجماع، وهو أن أحداً من الأمة لم يثبت قدم كلام الله بالطريق الذي ذكرتموه، فيكون التمسك بما ذكرتموه خرقاً لإجماع) .
وذكر في جواب ذلك (قوله: لو لزم من إثبات هذه الصفة إثبات قدمها - لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - لزم من القول بإثبات العلم القديم إثبات الكلام القديم، لأن كل من قال بالأول قال بالثاني - قلنا: الفرق بين الموضعين مذكور في المحصول
فإن المعتزلة يساعدوننا على الفرق بين الموضعين، فلا نطول قوله: إثبات قدم كلام الله بهذه الطريق على خلاف الإجماع.
قلنا: قد بينا في كتاب المحصول أن إحداث دليل لم يذكره أهل الإجماع لا يكون خرقاً للإجماع) .
قلت: المقصود أن يعرف أنه عدل عن الطريقة المشهورة، وهو أنه لو أحدثه في نفسه لكان محلاً للحوادث - مع أنه عمدة ابن كلاب والأشعري ومن اتبعهما - لضعف هذا الأصل عنده، ولو أعتقد صحته لكان ذلك كافياً مغنياً له عن هذه الطريقة التي أحدثها.
وليس المقصود هنا الكلام في مسألة القرآن، فإن هذا مبسوط في مواضعه، وإنما الغرض التنبيه على اعتراف الفضلاء بأن هذا الأصل ضعيف.
وأما ضعف ما اعتمده في مسألة القرآن: فمبين في موضع آخر، فإن إثبات المقدمة الأولى فيها كلام ليس هذا موضعه، إذ كانت العمدة فيه على أمر الممتحن وخبر الكاذب.
والمنازع يقول: هذا إظهار للأمر والخبر، وإلا فهو في نفس الأمر لم يدل الخبر هنا على معنى في النفس.
ولهذا يقول الله تعالى عن الكاذبين إنهم: {يقولون
بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} (الفتح: 11) فهم ينازعون في أن الكاذب قام بنفسه حكم أو دل لفظه على معنى في نفسه، بل أظهر الدلالة على معنى في نفسه كذباً.
وأما المقدمة الثانية فضعيفة.
وذلك أنه يقال: هب أن هذا ثبت، لكن لم لا يجوز أن يتكلم بحروف ومعان قائمة في ذاته حادثة؟ وهذا القول قول طوائف من المسلمين، فليس هو خلاف الإجماع، فإن أبطل هذا بقوله:(ليس هو محلاً للحوادث) .
قيل: فهذا - إن صح - فهو دليل كاف، كما سلكه من سلكه من الناس، وإن لم يصح بطلت الدلالة، فتبين أنه لا بد في إثبات قدمه من هذه المقدمة.
وأما قوله: (كل من أثبت اتصاف الله بهذه المعاني فإنه يقول بقدمها) فليس الأمر كذلك.
بل كثير من أهل الحديث وأهل الكلام يثبتونها ولا يقولون بقدمها.
وأما الفرق الذي ذكره في المحصول فهو أن الأمة إذا اختلفت في مسألتين على قولين: فإن كان مأخذهما واحداً - كتنازعهم في الرد وذوي الأرحام - لم يكن لمن بعدهم إحداث موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة.
وإن كان المأخذ مختلفاً - كتنازعهم في الشفعة وميراث ذوي الأرحام - جاز موافقة هؤلاء في مسألة وهؤلاء في مسألة، فظن أن قدم
الكلام مع إثبات هذه المعاني من هذا الباب، وليس الأمر كذلك، فإن مأخذ إثبات هذه المعاني ليس هو مأخذ القدم، فإن القدم مبني على مسألة الصفات، وعلى أنه: هل يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته؟ وأما إثبات هذه المعاني فمسألة أخرى.
والناس لهم في مسمى (الكلام) أربعة أقوال: أحدهما: أنه اللفظ الدال على المعنى، والثاني أنه المعنى المدلول عليه باللفظ، والثالث: أنه مقول بالاشتراك على كل منهما، والرابع: أنه اسم لمجموعهما، وإن كان مع القرينة يراد به أحدهما، وهذا قول الأئمة وجمهور الناس، وحينئذ فمن أثبت هذه المعاني وقال: إن اسم (الكلام) يتناولهما بالعموم أو الأشتراك يمكنه إثبات قيام اللفظ والمعنى جميعاً بالذات.
ثم من جوز تعلق ذلك بمشيئته وقدرته يمكنه أن لا يقول بالقدم، أو لا يقول بالقدم في الكلام المعين وإن قال بالقدم في نوع الكلام، ومن لم يجوز ذلك فمنهم طائفة يقولون بقدم الحروف، وطائف تقول بقدم المعاني دون الحروف، وما به يستدل أولئك على حدوث الحروف كالتعاقب والمحل يعارضونهم بمثله في المعاني، فإنه بالنسبة إلينا متعاقبة، ولها محل لا يليق بالله تعالى.
فإن
جاز أن تجعل فينا متعددة مع اتحادها في حق الله تعالى، وأن محلها منه ليس كمحلها منا: أمكن أن يقال في الحروف كذلك: إنها وإن تعددت فينا فهي متحدة هناك، وليس المحل كالمحل.
وإذا قيل: (هي مرتبة فينا) قيل: فكذلك المعاني مرتبة فينا.
فترتيب أحدهما كترتيب الآخر.
وإذا قيل: (دعوى أتحادهما مخالف لصريح العقل) .
قيل: وكذلك دعوى اتحاد المعاني، فكلام هؤلاء من جنس كلام هؤلاء.
والمقصود هنا: الكلام على هذا الأصل، وهي مسألة الصفات الاختيارية كالأفعال ونحوها مما يقوم به، ويتعلق بمشيئته وقدرته.
وأما قول القائل: (الجمهور على خلاف ذلك، وإنما الخلاف فيه مع الكرامية) فهذا قول من ظن أن طوائف المسلمين منحصرة في المعتزلة والكلابية والكرامية، بل أكثر طوائف المسلمين يجوزون ذلك: من أهل الكلام وأهل الحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم.
وأما أئمة أهل الحديث والسنة فكالمجمعين على ذلك، فكلام من يعرف كلامه في
ذلك صريح فيه، والباقون معظمون لمن قال ذلك، شاهدون له بأنه إمام في السنة والحديث، لا ينسبونه إلى بدعة.
وأما متأخرو أهل الحديث فلهم فيها قولان، ولأصحاب أحمد قولان، ولأصحاب الشافعي قولان، ولأصحاب مالك قولان، ولأصحاب أبي حنيفة قولان، وللصوفية قولان، وجمهور أهل التفسير على الإثبات.
وأما أهل الكلام فقد ذكر الأشعري هذا في كتاب المقالات عن غير واحد من أئمة الكلام غير الكرامية، ولم يذكر للكرامية شيئاً انفردوا به إلا قولهم في الإيمان، بل ذكر عن هشام بن الحكم وغيره من الشيعة أنهم يصفونه بالحركة والسكون ونحو ذلك، وأن عامة القدماء من الشيعة كانوا يقولون بالتجسيم أعظم من قول الكرامية، وأن المتأخرين منهم هم الذين قالوا في التوحيد بقول المعتزلة، بل ذكر عنهم تجدد الصفات من العلم والسمع والبصر، والناس قد حكوا عن هشام والجهم أنهما يقولان بحدوث العلم، وهذا رأس المعطلة وهذا رأس الشيعة، لكن جهم كان يقول بحدوث العلم في غير ذاته، وهشام يقول بحدوثها في ذاته، وحكى الأشعري تجدد العلم له عن جمهور
الإمامية.
وحكى عنهم إثبات الحركة به، وأن كلهم يقولون بذلك إلا شرذمة منهم، وذكر عن هشام بن الحكم وهشام بن الجواليقي وأبي مالك الحضرمي وعلي بن ميثم وغيرهم أنهم يقولون إرادته حركة، وهل يقال: إنها غيره أم لا؟ على قولين لهم، وذكر عن طائفة أنهم يقولون: يعلم الأشياء قبل كونها، إلا أعمال العباد، فإنه لا يعلمها إلا في حال كونها، وهذا قول غلاة القدرية، كمعبد الجهني وأمثاله، وهو أحد قولي عمروبن عبيد.
وذكر عن زهير الأثري أنه كان يقول: إن الله ليس بجسم ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول والمماسة، ويزعم أن الله تعالى يجيء يوم القيامة كما قال
تعالى: {وجاء ربك والملك صفا صفا} (الفجر: 22) ، ويزعم أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق) .
قال: (وكان أبو معاذ التومني يوافق زهيراً في أكثر قوله، ويخالفه في القرآن، ويزعم أن كلام الله: حدث غير محدث ولا مخلوق، وهو قائم بالله لا في مكان، وكذلك قوله في محبته وإرادته أيضاً) .
قال زهير: كلام الله حدث وليس بمحدث، وفعل وليس بمفعول، وامتنع أن يزعم أنه خلق، ويقول: ليس بخلق ولا مخلوق، وإنه قائم بالله، ومحال أن يتكلم بالله بكلام قائم بغيره، كما يستحيل أن يتحرك بحركة قائمة بغيره، وكذلك يقول في إرادة الله ومحبته وبغضه: إن ذلك أجمع قائم بالله.
قال الأشعري: (وبلغني عن بعض المتفقهة أنه كان يقول: إن الله لم يزل متكلماً، بمعنى أنه يزل قادراً على الكلام، ويقول: إن كلام الله محدث غير مخلوق) .
قال: (وهذا قول داود الأصبهاني) .
قال: (وكل القائلين بأن القرآن غير مخلوق، كنحو عبد الله بن كلاب،
ومن قال إنه محدث كنحو زهير، ومن قال: إنه حدث كنحو أبي معاذ التومني - يقولون: إن القرآن ليس بجسم ولا عرض) .
وأما الحجة التي احتج بها الرازي للنفاة فهي أيضاً ضعيفة من وجوه.
أحدها: أن المقدمة التي اعتمد عليها فيه قوله: (إن الخالي عن الكمال الذي يمكن الاتصاف به ناقص) .
فيقال: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، فإن ما كان وجوده مشروطاً بحادث سابق له امتنع إمكان وجوده قبل وجود شرطه، وعلى هذا: فالخلو عن هذه في الأزل لا يكون خلواً عما يمكن الاتصاف به، والخالي عما لا يمكن اتصافه به ليس بناقص.
الوجه الثاني: أن يقال: هو لم يثبت امتناع ما ذكره من النقص بدليل عقلي، ولا ينص كتاب ولا سنة، بل إنما أثبته بما ادعاه من الإجماع.
وهذه طريقته وطريقة أبي المعالي قبله ومن وافقهم، يقولون: إن امتناع النقص على الله تعالى إنما علم بالإجماع، لا بالنص ولا بالعقل، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع، فكيف يحتج بالإجماع في مسائل النزاع؟
فإن قال: هؤلاء وافقونا على امتناع النقص عليه، وإنما نازعونا في كون ذلك نقصاً.
قيل له: إما أن يكونوا وافقوا على إطلاق اللفظ، وإما أن يكونوا وافقوا على معانية.
فإن وافقوا على إطلاق القول بأنه سبحانه منزه عن النقص، وقالوا: ليس هذا من النقص، لم يكن مورد النزاع داخلاً فيما عنوه بلفظ النقص، ومعلوم إن الإجماع حينئذ لا يكون حاصلاً على المعنى المتنازع فيه، ولكن على لفظ لم يدخل فيه هذا المعنى عند بعض أهل الإجماع، ومثل هذا لا يكون حجة في المعنى، ولكن غايته - إذا قام الدليل على أن هذا يسمى في اللغة نقصاً -: أن يكونوا لم يعبروا باللفظ اللغوي، وهذا بتقدير أن لا يكون له مساغ في اللغة: إنما فيه خطأ لغوي، فكيف إذا كانت هذه المقدمات غير مسلمة لهم في اللغة أيضاً؟ ومثل هذا ليس بحجة على المعاني المتنازع فيه، وإنما يكون حجة لفظية، لو صحت مقدماته، فلا يحصل بها المقصود.
وإن كانوا وافقوا على نفي المعاني التي يعبر عنها بلفظ النقص: فمعلوم أن المعنى المتنازع فيه لم يوافقهم عليه، فتبين أن مورد النزاع لا إجماع على نفيه قطعاً، فلا يجوز الإحتجاج على نفيه بالإجماع.
الوجه الثالث: أن يقال: إن قول القائل: (إن الأمة اجتمعت على تنزه الله تعالى عن النقص، وقوله: أجتمعت على تنزيه الله تعالى عن العيب والآفة ونحو ذلك) .
وهذا القدر ليس بمنقول اللفظ عن كل واحد من الأمة، لكن نحن نعلم أن كل مسلم فهو ينزه الله تعالى عن النقص والعيب، بل العقلاء كلهم متفقون على ذلك، فإنه ما من احد ممن يعظم الصانع سبحانه وتعالى وصف الله بصفة وهو يعتقد أنها آفة وعيب ونقص في حقه، وإن كان بعض الملحدين يصفه بما يعتقده هو نقصاً وعيباً، فهذا من جنس نفاة الصانع تعالى، ولهذا كان نفاة الصفات إنما نفوها وهم يعتقدون أن إثباته يقتضي النقص كالحدوث والإمكان ومشابهة الأحياء، مثبتوها إنما اثبتوها لاعتقادهم أن إثباتها يوجب الكمال.
وعدمها يستلزم النقص والعدم ومشابهة الجمادات، وكذلك مثبتة القدر ونفاته، بل بعض نفاة النبوة زعموا أنهم نفوها تعظمياً لله أن يكون رسوله من البشر، وأهل الشرك أشركوا تعظيماً لله أن يعبد بلا وساطة تكون بينه وبين خلقه.
فإذا كان كذلك فمن المعلوم:
أن الإنسان لو احتج بإجماع المسملين على نفي النقص والعيب عن الله تعالى على من يثبت الصفات، مدعياً أن إثباتها نقص وعيب أو بالعكس، لقال له المثبتة: نحن لم نوافقك على نفي هذا المعنى الذي سميته أنت نقصاً وعيباً، فلا تحتج علينا بالموافقة على لفظ لم نوافقك على معناه، وأمكنهم حينئذ أن يقولون: نحن ننازعك في هذا المعنى وإن سميته أنت نقصاً وعيباً، فلا يكون حجة ثابتة، إلا أن يقوم دليل على انتفاء ذلك غير الإجماع المشروط بموافقتهم.
الوجه الرابع: أن يقال له: قولك: (إجماع الأمة على أن صفاته كلها صفات كمال) إن عنيت بذلك صفاته كلها اللازمة له لم يكن في هذا حجة لك، وإن عنيت ما يحدث بقدرته ومشيئته لم يكن هذا إجماعاً، فإنك أنت وغيرك من أهل الكلام تقولون: إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص، والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفاً، فكونه خالقاً ومبدعاً وعادلاً ومحسناً ونحو ذلك عندك أمور حادثة متجددة، وليست صفة مدح ولا كمال، وإن قلت (المفعولات ليست قائمة به، بخلاف ما يقوم به) .
قيل لك: هب أن الأمر كذلك، لكن ما يحدث بقدرته ومشيئته إما أن يقال: هو متصف به أولا يقال: هو متصف به، فإن قيل (ليس
متصفاً لا بهذا ولا بهذا، وإن قيل (هو متصف به) كان متصفاً بهذا وهذا.
ومعلوم أن المشهور عند أهل الكلام من عامة الطوائف أنهم يقسمون الصفات إلى صفات فعلية وغير فعلية، مع قول من يقول منهم: إن الأفعال لا تقوم به، فيجعلونه موصوفاً بالأفعال، كما يقولون: إنه موصوف بأنه خالق ورازق، وعندهم هذه أمور كائنة بعد أن لم تكن، ولما قال لهم من يقول بتسلسل الحوادث من الفلاسفة وغيرهم:(الفعل إن كان صفة كمال لزم اتصافه به في الأزل، وإن كان صفة نقص امتنع اتصافه به في الأبد) أجابوا عن ذلك بأن الفعل ليس صفة كمال ولا نقص.
الوجه الخامس: احتجاجه بقوله: (إن الأمة مجمعة على أن
صفاته لا تكون إلا صفة كمال) أضعف من احتجاجه بإجماعهم على تنزيه عن صفة النقص، فإن كونه منزهاً عن صفات النقص مشهور في كلام الناس، وأما كون صفاته لا تكون إلا صفات كمال، فليس هذا اللفظ مشهوراً معروفاً عن الأئمة، ومن اطلق ذلك منهم فإنما يطلقه على سبيل الإجمال، لما استقر بالقلوب من ان الله موصوف بالكمال دون النقص.
وهذه الإطلاقات لا تدل على دق المسائل، ولوقيل لمطلق هذا:(كونه يفعل أفعالاً بنفسه يقدر عليها ويشاؤها هو صفة نقص أو كمال) ؟ لكان إلى أن يدخل ذلك في صفات الكمال أو يقف عن الجواب أقرب منه إلى أن يجعل ذلك من صفات النقص.
الوجه السادس: أن هذا الإجماع حجة عليهم، فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاماً وفعلاً يقوم به والآخر لا يمكنه ذلك بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور له ولا مراد، أو يكون بائناً عنه - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل موجودين وكذلك إذا عرضنا على العقول
موجودين من المخلوقين، أو موجودين مطلقاً، أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء والتصرف بنفسه، والآخر لا يمكنه ذلك - لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني، كما أنا إذا عرضنا على العقل موجودين من المخلوقين أو موجودين مطلقاً، أحدهما حي عليم قدير، والآخر لا حياة له ولا علم ولا قدرة، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل من الثاني.
فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والعلم والقدرة صفة كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به.
التي بها يفعل المفعولات المباينة، صفة كمال.
والعقلاء متفقون على أن الأعيان المتحركة، أو التي تقبل الحركة.
أكمل من الأعيان التي لا تقبل الحركة، كما أنهم متفقون على أن الأعيان الموصوفة بالعلم والقدرة والسمع والبصر، أو التي تقبل الاتصاف بذلك أكمل من الأعيان التي لا تتصف بذلك ولا تقبل الاتصاف به.
وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات، وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم، فقد عبد رباً ناقصاً معيباً مؤوفاً، ويثبتون أن هذه صفات كمال، فالخالي عنه ناقص.
ومن المعلوم أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه يثبت للمخلوق، فالخالق أحق له، وكل نقص تنزه عنه مخلوق، فالخالق سبحانه أحق بتنزيه عنه.
ولما أورد من أورد من الملاحدة نفاة الصفات بأن عدم هذه الصفات إنما يكون نقصاً إذا كان المحل قابلاً لها، وإنما يكون عدم البصر عمى، وعدم الكلام خرساً، وعدم السمع صمماً: إذا كان المحل قابلاً لذلك كالحيوان، فأما ما لا يقبل ذلك كالجماد، فإنه لا يوصف بهذا ولا بهذا - أجيبوا عن هذا بأن ما لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا أعظم نقصاً مما يقبلهما ويتصف بأحدهما، وإن اتصف بالنقص، فالجماد الذي لا يقبل الحياة والسمع والبصر الكلام أعظم نقصاً من الحيوان الذي يقبل ذلك، وإن كان أعمى أصم أبكم.
فمن نفى الصفات جعله كالأعمى الأصم الأبكم، ومن قال: إنه لا يقبل لا هذا ولا هذا جعله كالجماد الذي هو دون الحيوان الأعمى الأصم الأبكم، وهذا بعينه موجود في الأفعال، فإن الحركة بالذات مستلزمة للحياة وملزومة لها، بخلاف الحركة بالعرض كالحركة القسرية التابعة للقاسر، والحركة الطبيعية التي تطلب بها العين العود إلى مركزها لخروجها عن المركز، فإن تلك حركة بالعرض.
والعقلاء متفقون على ما كان من