المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السادس والتعليق عليه - درء تعارض العقل والنقل - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌دلالة السمع على أفعال الله تعالى

- ‌أقوال السلف في الأفعال الاختيارية بالله تعالى

- ‌كلام الخلال في كتاب السنة

- ‌قول الأشعري في كتابه المقالات

- ‌أقوال أهل السنة: لـ أبي عثمان الصابوني في رسالته

- ‌قول البيهقي في كتابه الأسماء والصفات

- ‌قول الخلال في كتاب السنة

- ‌قول عبد العزيز الماجشون

- ‌قول آخر لالخلال في السنة

- ‌قول البخاري في كتاب خلق أفعال العباد

- ‌كلام المحاسبي في فهم القرآن

- ‌كلام محمد بن الهيصم في جمل الكلام

- ‌كلام الدارمي في النقض على بشر المريسي

- ‌كلام الدارمي في الرد على الجهمية

- ‌عود إلى كتاب النقض على المريسي

- ‌قول أبي بكر عبد العزيز في المقنع

- ‌قول القاضي أبي يعلي في إيضاح البيان

- ‌قول عبد الله بن حامد في أصول الدين

- ‌قول أبي إسماعيل الأنصاري في مناقب أحمد بن حنبل

- ‌قول الأنصاري في ذم الكلام

- ‌قول السجزي في رسالته إلى أهل زبيد

- ‌قول السجزي في الإبانة

- ‌كلام أبي القاسم الأصبهاني في الحجة على تارك المحجة

- ‌كلام أبي الحسن الكرجي في الفصول في الأصول

- ‌كلام أبي حامد الإسفرايني في التعليق في أصول الفقه

- ‌كلام أبو محمد الجويني في عقيدة أصحاب الشافعي

- ‌دلالة القرآن على مسألة أفعال الله تعالى

- ‌دلالة السنة على أفعال الله تعالى

- ‌الناس في مسألة أفعال الله تعالى ثلاثة أقسام

- ‌أصل خطأ المبتدعة في هذه المسألة

- ‌كلام الرازي والآمدي عن أدلة النفاة

- ‌كلام ابن ملكا

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌كلام آخر للرازي

- ‌تعليق ابن تيمية

- ‌أقوال الجويني في مسألة أفعال الله ورد ابن تيمية عليه

- ‌قول الرازي في الأربعين

- ‌الاستدلال على النفي والرد عليه

- ‌معارضة بعض المتكلمين للرازي

- ‌الرد عليهم من وجوه الوجه الأول

- ‌الوجه الثاني

- ‌الوجه الثالث

- ‌طريقة الأئمة في مسألة القرآن

- ‌قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه

- ‌قول عبد العزيز الكناني في مسألة القرآن وصفات الله والتعليق عليه

- ‌جواب على الفلاسفة في مسألة التسلسل

- ‌مراجعة تعليق عبد العزيز الكناني

- ‌رأي أحمد بن حنبل في مسألة أفعال الله

- ‌أقوال مختلفة في كلام الله تعالى

- ‌عدم ذكر مصنفي أصول الدين

- ‌عدم ذكر الشهرستاني لقول السلف في نهاية الإقدام

- ‌موقف الرازي في مسألة القرآن وأفعال الله

- ‌فصل

- ‌حجج الرازي على حدوث العالم ومعارضة الأموري له

- ‌البرهان الأول

- ‌امتناع حوادث لا أول لها من وجوه

- ‌الثاني والتعليق عليه

- ‌الثالث والتعليق عليه

- ‌الرابع والتعليق عليه

- ‌الخامس والتعليق عليه

- ‌السادس والتعليق عليه

الفصل: ‌السادس والتعليق عليه

الآخر؟ وهذا أول المسألة، والتفاضل وقع من الجانب المتناهي، لا من الجانب الذي ليس بمتناه، فلم يقع فيما لا يتناهى تفاضل.

‌السادس والتعليق عليه

قال الرازي: السادس: (لو كانت الأدوار الماضية غير المتناهية كان وجود اليوم موقوفاً على إنقضاء ما لا نهاية له، والموقوف على المحال محال) .

قال الأرموي: ولقائل أن يقول: انقضاء ما لا نهاية له محال، وأما انقضاء ما لا بداية له ففيه نزاع.

قلت: هنا نزاع لفظي ونزاع معنوي، أما اللفظي، فهو أنه إذا قدر تسلسل الحوادث في الماضي وعدم إنقطاعها وأنها لا أول لها، فهل يعبر عن هذا بأن يقال: لا نهاية لها، أو يقال: لا بداية لها، ولا يقال لا نهاية لها؟ فالمستدل عبر بأنه لا نهاية لها، والمعترض أنكر ذلك، وهذا نزاع لفظي.

وذلك أنه يقال: هذا غير متناه، بمعنى أنه ليس له حد محدود، وقد يقال:(غير متناه) بمعنى أنه لا آخر له، ويقال (هذا له نهاية) أي: له آخر، و (هذا لا نهاية له) أي: لا آخر له، والحوادث الماضية إذا قدر أنها لم تزل، فإنه يقال:(لا نهاية لها) بالمعنى الأول، وأما بالمعنى الثاني: فقد انقضت وانصرمت ولها آخر.

ص: 369

وهذه الحجة اعتمد عليها أكثر المتكلمين كـ أبي المعالي ومن قبله وبعده من المعتزلة والأشعرية، وذكروا أنه اعتمد عليها يحيى النحوي وغيره من المتقدمين، وظنوا أن ما لا يتناهى يمتنع أن يكون منقضياً منصرماً، فإن ما أنقضى وانصرم فقد تناهى، فكيف يقال: إنه لا نهاية له؟ واشتبه عليهم لفظ (النهاية) لما فيه من الإجمال والاشتباه) فإن الماضي له آخر انتهى إليه، فهو متناه بهذا الاعتبار، بلا نزاع وبهذا المعنى يقال: إنه انصرم وانقضى، وفرغ ونفد، وأما بالمعنى المتنازع فيه فهو أنه لا بداية له: أي لم تزل آحاده متعاقبة.

وأما النزاع المعنوي فهو أنه: هل يعقل انقضاء ما يقدر أنه لا بداية له ولا ينتهي مم جهة مبدئه أو لا؟ ولا ريب أن المستدل لم يذكر دليلاً على امتناع انقضاء ذلك، لكن أخذ لفظ (ما لا يتناهى) ولفظ (ما لا يتناهى) فيه إجمال، فقد يعني به ما لا يتناهى في المستقبل من جهة آخره، فإذا قيل:(إن هذا ينقضي) كان

ص: 370

ذلك جمعاً بين النقيضين، وقد يعني به ما لا بداية له، وهو ينازع في إمكان ذلك، لأنه حينئذ يكون له نهاية بلا بداية، وكأنه يقول: ما له نهاية فلا بد له من بداية، ومنازعوه يقولون: هذا مسلم في الأشخاص، فكل شخص ينتهي فلا بد له من مبدأ، إذ لو لم يكن له مبدأ لكان قديماً، وما وجب قدمه امتنع عدمه كما سيأتي، وينازعونه في النوع، ويقولون: يمكن أن يقال: إن الله لم يزل يفعل شيئاً بعد شيء.

وسيأتي إن شاء الله كلام الرازي على إفساد هذه الحجة التي ذكرها ههنا على تناهي الحوادث بكلام لم يذكر عنه جواباً.

قال الرازي: وإن كان الجسم في الأزل ساكناً كان ذلك ممتنعاً، (لأن) السكون وجودي، وكل وجودي أزلي فإنه يمتنع زواله.

والمنازع نازعه في كون السكون وجودياً، ولم ينازعه في أن الوجود الأزلي يمتنع زواله، وقد قرر ذلك الرازي بأن القديم إما واجب بذاته أو ممكن يكون مؤثرة بذاته، سواء كان تأثيره بنفسه أو بشرط لازم

ص: 371

له، ولا يحتاج إلى هذا، بل يقال: القديم إن كان واجباً بنفسه امتنع عدمه، وإن لم يكن كذلك فالمقتضى له - سواء سمى موجباً أو مختاراً - إما أن يتوقف اقتضاؤه له على شرط محدث أو لا، والثاني ممتنع، فإن القديم لا يتوقف على شرط محدث، إذ لو توقف عليه لكان القديم مع المحدث أو بعده، وإذا لم يتوقف على شرط محدث لزم ان يكون قد وجد المقتضى التام المستلزم له في الأزل، وحينئذ فيجب دوامه بدوام المقتضى التام، ثم كون القديم لا يكون مقتضية له اختيار: فيه كلام ونزاع ليس هذا موضعه، والمقصود هنا: أن منازعه نازعه في كون السكون وجودياً.

وقد احتج عليه الرازي بأن (تبدل حركة الجسم الواحد بالسكون وبالعكس، يقتضي كون أحدهما وجودياً، لأن رفع العدم ثبوت، فيكون الآخر وجودياً، لأن الحركة هي: الحصول في حيز مسبوقاً بالحصول في الآخر، والسكون هو: الحصول في حيز مسبوقاً بالحصول فيه، فاختلافهما إنما هو بالمسبوقية بالغير، وإنها وصف عرضي لا يمنع اتحاد الماهية، فيلزم كونهما وجوديين) .

ص: 372

قال الأرموي: (ولقائل أن يقول: الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين، أو تقابل العدم والملكة.

والبديهة حاكمة باختلاف الضدين في تمام الماهية، وكذا العدم والملكة، وايضاً المسبوقية وصف عرضي لما به الاشتراك، والوصف العرضي لما به الاشتراك يكون ذاتياً للماهية المركبة منهما) .

قلت: مضمون ذلك أن الرازي احتج بأن السكون من جنس الحركة، وإنما يختلفان في كون أحدهما مسبوقاً بالغير، وهذا اختلاف في وصف عرضي لا يمنع التماثل في الحقيقة، فمنعه الأرموي بمقدمتين، بل أبطل الأولى بأن المتقابلين تقابل الضدين - كالسواد والبياض، والحلاوة والمرارة، ونحو ذلك - هما مختلفان في الحقيقة، وكذا المتقابلان تقابل العدم والملكة - كالعمى والبصر، والحياة والموت، والعلم والجهل، ونحو ذلك - والحركة مع السكون: إما من هذا وإما من هذا، فكيف تجعل حقيقة أحدهما مماثلة لحقيقة الآخر، وأنهما لا يختلفان إلا بوصف عرضي؟

ص: 373

وإيضاح هذا: أن الحركة ليست من جنس الحصول المشترك بينها وبين السكون، فإن كون الشي في هذا الحيز وفي هذا الحيز معقول، مع قطع النظر عن كونه متحركاً، فإنه إذا قدر أنه سكن في الحيز الثاني كان هذا الحصول من جنس ذلك الحصول، وأما نفس حركته: فأمر زائد على مطلق الحصول المشترك، ومنع الثانية، وجعل سند منعه: أن قول القائل: (المسبوقية وصف عرضي) إن عنى أنها ليست ذاتية: فلا دليل على ذلك، وإن عنى أنه عرضية لما اشتركا فيه: فالعرض لما به الاشتراك قد يكون ذاتياً للحقيقة المركبة من المشترك والمميز، كالناطقية فإنها تعرض للحيوانية ليست ذاتية لها، ثم أنها ذاتية للإنسانية المركبة من الحيوانية والناطقية.

والرازي قد يمكنه أن يجيب عن هذا بأن كون هذا مسبوقاً بهذا إنما هو أمر إضافي، أي هو متأخر عنه، مثل هذا لا يكون من الصفات الذاتية، كالحركتين المتماثلتين الثانية مع الأولى، فإنهما إذا كانت متماثلتين لم يجز أن يجعل كون إحداهما مسبوقة بالغير دون الاخرى من الصفات الذاتية المفرقة بينهما.

ولقائل أن يقول: الحجة والاعتراض مبني على أن الصفات اللازمة للحقيقة تنقسم إلى ذاتي وعرضي، كما يقوله من يقوله من أهل المنطق، فإن تقسيم الصفات اللازمة للحقيقة إلى ما هو ذاتي داخل في الحقيقة، وما هو عرضي خارج عنها: قول لا يقوم عليه دليل، بل

ص: 374

الدليل يقوم على نقيضه، ولهذا لما لم يكن في نفس الأمر بينهما فرق لم يحدد المفرقون بينهما حداً بفصل بينهما، بل ما ذكروه من الضوابط منتقض، كما هو مبسوط في موضعه، وإذا كانت الصفتان متلازمتين في الوجود والعدم والثبوت والانتفاء، لا توجد هذه إلا مع هذه، وإذا انتفت هذه انتفت هذه: كان التفريق بجعل إحداهما مقومة والأخرى عرضية تحكماً.

ثم إذا قيل: الذات هي المركبة من الصفات الذاتية، والصفات الذاتية ما لا تتصور الذات إلا بها، لم تعرفه الذات إلا بالصفات الذاتية، ولا الصفات الذاتية إلا بالذات.

وأيضاً، فإن هذا مبني على أن وجود الشيء في الخارج زائد على حقيقته الموجودة في الخارج، وهو أيضاً قول باطل ضعيف.

وأيضاً، فالذات الموجودة في الخارج القائمة بنفسها كهذا والإنسان: إن قيل: (إنه مركب من عرضين) .

لزم كون الجوهر مركباً من عرضين، وإن يكونا سابقين له، وهذا ممتنع في البديهة، وإن قيل:(إنه ركب من جوهرين كل منهما يحمل عليه، كما يقال: هو حيوان ناطق) لزم أن يكون فيه جوهران، أحدهما: حيوان، والآخر: ناطق، وهذا مكابرة للحس والعقل، إذ هو حيوان واحد موصوف بأنه ناطق.

ص: 375

وإذا كان كذلك فكون الحصول الذي هو مسبوق بحصول آخر إذا كان ذلك لازماً له كان من الصفات اللازمة، وإذا افترق الشيئان في الصفات اللازمة لم يجب أن تكون حقيقة أحدهما مثل حقيقة الآخر.

فإن المتماثلين هما المشتركان فيما يجب ويجوز ويمتنع، فإذا وجب لأحدهما ما لا يجب للآخر لم يكن مثله.

وللأرموي أن يقول: قد تبين بطلان المقدمتين، سواء كان بطريقة المنطقيين، أو بطريقة سائر أهل النظر الذين أنكروا على المنطقيين ما ذكروه، كما أنكر سائر طوائف أهل النظر من المسلمين وغيرهم عليهم كثيراً مما ذكروه في الحدود وغيرها، كما هو معروف في كتب أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية والكرامية وطوائف الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، وليس المقصود هنا بسط ما يتعلق بهذا.

قال الرازي: (وإنما قلنا السكون لا يمتنع زواله، لأن الخصم يسلم جواز حركة كل جسم، ولأن المتحيز يجوز خروجه من حيزه، لأنه إن كان بسيطاً كانت طبائع جوانبه متساوية، فيجوز على كل منها ما يجوز على الآخر، وإن كان مركباً كان هذا لازماً لبسائطه، وخروجه

ص: 376

عن حيزه هو الحركة.

ولقائل أن يقول: هذا يقتضي إمكان كون نوع الجسم يقبل الحركة، فإذا قدر أن السكون وجودي وله موجب مستلزم له، كان امتناع الحركة لمعنى آخر يختص به الجسم المعين لم يوجد لغيره من الأجسام، فلا يلزم إذا قدر أنه موجود أزلي أنه يمكن زاواله، بل هذا جمع بين المتناقضين، فما قدر موجوداً أزلياً لا يمكن زواله بحال، ولا يمكن أن يجمع بين تقديرين متناقضين، وقبول كل جسم للحركة لا يحتاج إلى هذا.

فإذا قيل: (إن السكون عدم الحركة) أمكن مع كون السكون أزلياً من إثبات الحركة ما لا يمكن مع تقدير كونه وجودياً، وذلك أنه حينئذ لا تتوقف الحركة إلا على وجود مقتضيها وانتفاء مانعها، وليس هناك معنى وجودي أزلي يحتاج إلى زواله.

وقد أورد بعضهم على استدلاله على أن السكون أمر وجودي اعتراضاً بالغاً، فقال: هذا فيه نظر من جهة أن مقدمة الدليل مناقضة للمطلوب، لأن المطلوب كونهما وجوديين، ومقدمة الدليل أن أحدهما وجودي، ولا يمكن تقريره إلا بما سبق، وهو يقتضي أن يكون أحدهما عدمياً، فادعاء كونهما وجوديين بعد ذلك مناقض له.

ص: 377

قلت: وهذا كلام جيد، فإن الأمرين اللذين تبدل أحدهما بالأخر ورفعه: إن لزم أن يكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً لزم أن تكون الحركة والسكون أحدهما وجودياً والآخر عدمياً، وهو نقيض المطلوب، وإن جاز أن يكونا جميعاً وجوديين أو عدميين بطل الدليل - وهو قوله: لأن تبدل أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون أحدهما وجودياً، لان المرفوع إن كان وجودياً وإلا فالرافع وجودي، لأن رفع العدم ثبوت - فإنه على هذا التقدير يمكن رفع العدم بالعدم، والوجود بالوجود.

وإن قيل: بل يجب أن يكونا وجوديين، أو يكون أحدهما وجودياً، ولا يجوز أن يكونا عدميين، لأن العدم لا يرتفع بالعدم كما يرتفع الوجود بالوجود والعدم بالوجود، أو بالعكس.

قيل: بل العدمان قد يتضادان كما قد يتلازمان، فكما أن عدم الشرط مستلزم لعدم المشروط، فعدم الأمور الواجب واحد منها ينافي عدمها كلها، فإذا كان الجنس لا يوجد إلا بوجود نوع له فصل امتنع مع وجود الجنس عدم جميع الأنواع والفصول، فكان عدم بعضها ينافي عدمها كلها.

وهذا كما يقال في التقسيم، وهو الشرطي المنفصل: قد يكون مانعاً من الجمع والخلو، كقول القائل: العدد إما شفع وإما وتر، وقد يكون مانعاً من الجمع فقط، كقول القائل: الجسم إما أسود وإما أبيض، وقد يكون مانعاً من الخلو فقط، فما كان مانعاً من الخلو فقط

ص: 378

أو من الجمع: امتنع اجتماع العدمين فيه، فكما أن الشفعية تنافي الوترية في العدد فعدم الشفعية ينافي عدم الوترية، لا ثبوتها، فلا يحصل العدمان معاً، بل إذا ثبت أحد العدمين لم يثبت العدم الآخر، فيكون الدعم رافعاً للعدم.

وأيضاً فمطلوب المستدل: أن تكون الحركة والسكون وجوديين، فإذا قال:(تبدل الحركة بالسكون يقتضي كون أحدهما وجودياً، لأن رفع العدم ثبوت) كان إثبات كونهما وجوديين موقوفاً على تقدير كون أحدهما عدمياً، لأنه قال (لأن رفع العدم ثبوت) فإن لم يكن أحدهما عدمياً لم يصح هذا، وإذا كان المرفوع عدمياً امتنع أن يكونا وجوديين، والمطلوب كونهما وجوديين، فصار المطلوب مناقضاً لمقدمة الدليل، كما ذكره المعترض.

لكنه قال: فالأولى أن يقال في تقريره: إن الحركة وجودية إجماعاً، ولأنه مبصر، فوجب أن يكون السكون أيضاً وجودياً بالتقرير الذي سبق.

ثم ذكر اعتراض الأرموي فقال: وأورد بينهما إما تقابل التضاد أو العدم والملكة، والبديهة حاكمة باختلاف ماهية المتضادين والمتقابلين.

قال: وأجيب بان التضاد بين الشيئين إذا كان عارضاً لهما كما بين الأسود والأبيض لم يلزم ذلك، وما نحن فيه كذلك، فإن التضاد عارض لهما بسبب المسبوقية بالغير، وهي عدمية، فلم يجز أن تكون

ص: 379

جزءاً ولأنه ليس جعل السكون عبارة عن دعم الحركة أولى من العكس، فإما أن يكونا عدميين وهو باطل وفاقاً، وفتعين أن يكونا وجوديين.

ولقائل أن يقول: التضاد بين الحركة والسكون من جنس التضاد بين الحياة والموت، والعلم والجهل، والقدرة والعجز، والسواد والبياض، والعمى والبصر، والحلاوة والحموضة، ونحو ذلك من الصفات الثبوتية، أو التي بعضها ثبوتي وبعضها عدمي، ليس هو من جنس تضاد القائمين بأنفسهما، كالأسود والأبيض، فإن التضاد إنما يكون في المعتقبين اللذين يعتقبان على محل واحد، كما قال متكلمة أهل الإثبات: الضدان كل معنيين يستحيل اجتماعهما في محل واحد لذاتيهما من جهة واحدة، فما لم يكن المعنيان قائمين بمحل واحد فلا تضاد، والحركة والسكون يعتقبان على المحل الواحد إما تعاقب اللونين والطعمين وإما تعاقب العلم والبصر والسمع وعدم ذلك، فكيف يكون أحدها مثل الآخر لا يفارقه إلا بصفة عرضية؟ وفي الجملة: فالحركة والسكون هما إن كانا وجوديين فهما عرضان، وإن كان أحدهما وجودياً فأحدهما عرض والآخر عدم العرض، وعلى التقديرين: فليسا قائمين بأنفسهما، فلا يجوز تشبيهما بالأجسام، كالأسود والأبيض، والطويل والقصير، والعالم والجاهل، بل يجب تشبيههما بالاعراض وعدم كالسواد والبياض والعلم وعدم العلم ونحو ذلك.

ص: 380

فقول الأرموي: (إن الحركة والسكون متقابلان تقابل الضدين، أو تقابل العدم والملكة.

وعلى التقديرين: يجب اختلاف ماهيتها لا تماثلهما) كلام صحيح، وقول المعارض له: إن الاختلاف إذا كان لعارض كما بين الأسود والأبيض: لم يجب اختلاف الماهيتين، فإن ماهية الأسود من جنس ماهية الأبيض: كلام باطل، لأن الأسود والأبيض من باب الأجسام القائمة بأنفسهما، لا من باب الصفات والأعراض.

وأيضاً، فالأسود والأبيض لا يتقابلان تقابل الضدين، ولا تقابل العدم والملكة فليس من هذا الباب، اللهم إلا إذا مريد بذلك: أن الحيز الذي فيه الأسود لا يكون فيه الأبيض، وحينئذ فيكون تضاد الأبيض والأسود كتضاد الأسودين والأبيضين.

وأيضاً، فيقال: اختلاف الأسود والأبيض يراد به اختلاف عينهما، مع قطع النظر عن السواد والبياض، أوبشرط السواد والبياض، فإن أريد الأول فلا اختلاف بين ذاتيهما مع قطع النظر عن اللونين، فإن الجسم الذي هو الأسود قد يكون نفس الجسم الذي هو الأبيض وإن أريد بالاختلاف اختلافهما بشرط اللون المختلف، فحينئذ يكون اختلافهما كاختلاف السواد والبياض، فإن الشيء المشروط بالسواد مخالف للشيء المشروط بالبياض.

ولا يجوز أن يقال: إن الذاتين متماثلين إلا مع التجريد

ص: 381

عن الاختلاف، وإلا فإذا أخذت الذاتين مشروطتين بالاختلاف لم يكونا متماثلتين التماثل الذي لا يشترط فيه الاختلاف، كيف والتماثلان يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر؟ والشيء في حال سواده لا يجوز أن يكون أبيض، وهو في حال بياضه لا يكون أسود؟ فلا يكون الأسود حال كونه مشروطاً بالسواد يجوز عليه ما يجوز على الأبيض حال كونه مشروطاً بالبياض.

وقول القائل: (إن الإختلاف بين الحركة والسكون عارض بسبب المسبوقية بالغير) ليس بمسلم له، فإنه يعقل التضاد بينهما مع عدم خطور المسبوقية بالبال، كما يعقل التضاد بين العلم والجهل، والقدرة والعجز، والسواد والبياض.

وقول القائل: (ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة بأولى من العكس) دعوى مجردة، فلا نسلم انتفاء هذه الأولوية، بل هذه الدعوى بمنزلة قول القائل: ليس جعل العمى عدم البصر بأولى من العكس، وليس جعل الصمم عدم السمع بأولى من العكس، وليس جعل الجهل البسيط عدم العلم بأولى من العكس، وليس جعل المتقابلين عدماً والآخر وجوداً بأولى من العكس.

ومعلوم أن كل هذه دعاى مجردة بل باطلة، فإنا نعلم بالحس أن الحركة أمر وجودي، كما نعلم أن الحياة والعلم والقدرة، والسمع والبصر أمر وجودي، وأما كون ما يقابل ذلك هو ضد ما ينافيها أو

ص: 382

عدمها من محلها فهذا فيه نظر، ولهذا تنازع العقلاء في هذا دون الأول، وكثير من النزاع في ذلك يكون لفظياً، فإنه قد يكون عدم الشيء مستلزماً لأمر وجودي، مثل الحياة مثلاً، فإن عدم حياة البدن مثلاً مستلزماً لأعراض وجودية.

والناس تنازعوا في الموت: هل هو عدمي أو وجودي؟ ومن قال: (إنه وجودي) احتج بقوله تعالى: {خلق الموت والحياة} (الملك: 2) فأخبر أنه خلق الموت كما خلق الحياة، ومنازعه يقول: العدم الطارىء يخلق كما يخلق الوجود، أو يقول: الموت المخلوق هو الأمور الوجودية اللازمة لعدم الحياة، وحينئذ فالنزاع لفظي.

وكذلك تنازعوا في الظلمة: هل هي وجودية أو عدمية.

وهي عدم النور عما من شأنه قبوله، ومن قال:(إنها وجودية) يحتج بقوله تعالى: {وجعل الظلمات والنور} (الأنعام: 1) والآخر يقول: كل ما يتجدد ويحدث من الأمور الوجودية والعدمية، فالله سبحانه جاعله، أو يقول: عدم النور مستلزم لأمور وجودية، هي الظلمة المجعولة، وكون السكون وجودياً أبعد من كون الموت والظلمة ونحو ذلك وجودياً، والسكون قد يراد به قوة في الجسم تمنع حركته، كالطبيعة التي في الحجر التي توجب استقراره في الأرض، وهذا أمر وجودي، لكن من قال (إن السكون عدمي) لم يجعل تلك الطبيعة هي السكون، بل قد يسمون ذلك اعتماداً، ويفرقون بين السكون والاعتماد، لكن قد

ص: 383

يقال له: فالجسم إذا كان ساكناً، فإما أن يكون السكون وجودياً أو مستلزماً لأمر وجودي، وحينئذ فالمقتضى لذلك الأمر الوجودي: إما موجب بنفسه، ويساق الدليل إلى آخره، لكن من قال:(إن الجسم الأول كان ساكناً في الأزل ثم تحرك) يقول في هذا ما يقوله القائلون بحدوث الأجسام، فإنهم إذا قالوا:(حدثت هي وحركتها من غير سبب يقتضي حدوثها) قال لهم هذا المنازع: بل كان ما قدر قديماً من الأجسام ساكناً، ثم حدثت حركته من غير سبب يقتضي حركتها، وهذا يقوله من يقول: إن الأول جسم، وإنه يتجدد له الفعل بعد أن لم يكن له فاعلاً، ويقول: الكلام في حدوث الفعل القائم به كالكلام في حدوث المفعول المنفصل عنه.

وذلك أن أهل الكلام والنظر من أهل القبلة وغيرهم تنازعوا في ثبوت جسم قديم:

فطائفة قالت: بامتناع جسم قديم، وحدوث كل جسم، وتنازعوا في المحدث للجسم، هل أحدث بعد أن لم يكن محدثاً بدون سبب حادث أصلاً، أم لا بد من سبب حادث؟ وهل تقوم به أمور حادثة كإرادة حادثة، وتصور حادث، بل وفعل حادث؟ على قولين لهم.

ص: 384

وطائفة قالت بثبوت جسم قديم: ثم هؤلاء منهم من قال: لم يزل فاعلاً متحركاً، ومنهم من قال: بل تجدد له الفعل والحركة، فإذا احتج الأولون على هؤلاء بأن الجسم لو كان أزلياً لم يخل من الحركة والسكون، والحركة لا تكون أزلية، لامتناع دوام الحوادث وتسلسلها، والسكون لايكون أزلياً لأنه وجودي، فلو كان أزلياً لامتنع زواله، لأن الوجودي الأزلي يمتنع زواله، لأن المقتضي له إما موجب بنفسه أو لازم للموجب بنفسه، ثم نقول: والسكون يجوز زواله فلا يكون أزلياً.

أجابوهم عن جواز الحوادث بأجبوتهم المعروفة كما تقدم التنبيه على ذلك، وأجابوهم على السكون الأزلي بأن قالوا: ما ذكرتموه يناقض ما ذكرتموه في حدوث الأجسام.

وذلك أنكم إذا قلتم بحدوثها فلا يخلو: إما أن تقولون بجواز تسلسل الحوادث، وإما أن لا تقولوا بجواز ذلك.

فإن قلتم بجواز تسلسل الحوادث وأن الأجسام حدثت بشرط حوادث متعاقبة، كما قال ذلك من قاله من القائلين بحدوث الأجسام، كالأرموي والأبهري وغيرهما.

قالوا لهم: فإذا جوزتم تسلسل الحوادث بطل دليلكم على امتناع التسلسل في الآثار، وأمكن حينئذ أن يكون الجسم القديم لم يزل متحركاً، فبطل دليلكم على حدوث الجسم.

وإن قلتم لا يجوز تسلسل الحوادث والآثار، وقلتم بحدوث

ص: 385

الأجسام من غير سبب حادث - لزم أن لا يكون حدوث الحادثات متوقفاً على سبب حادث، بل كان الفاعل المختار يحدث ما يحدث من غير سبب حادث أصلاً، كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ومن وافقهم.

وحيئنذ فيقول لهم منازعوهم من الهشامية والكرامية وغيرهم: فيجوز حينئذ أن يكون الجسم القديم الازلي تحرك بعد أن كان ساكناً من غير سبب أوجب ذلك، بل بمحض المشيئة والقدرة، لأن القادر المختار يمكنه ترجيح احد طرفي الممكن بلا مرجح: يرجح السكون تارة والحركة أخرى.

فإن قالوا هم: نحن نقول: (يفعل بعد أن لم يكن فاعلاً، فإذا قلتم السكون أمر وجودي جعلتموه فاعلاً في الأزل لأمر وجودي.

والفعل في الأزل محال) .

قالوا لهم: نحن ليس لنا غرض في أن نجعل السكون أمراً وجودياً، ولا أن نجعله فاعلاً في الأزل لأمر وجودي، بل اتفقنا نحن وأنتم على أنه يفعل ما لم يكن فاعلاً له من غير سبب حادث، لكن نزاعنا في الفعل: هل يقوم به؟ وفي الفاعل: هل هو جسم؟ فإذا طالبتمونا بسبب فعله للحركة بعد السكون، قلنا لكم: هذا بمنزلة فعله لكل محدث بعد أن لم يكن فاعلاً، والفرق إنما يعود إلى محل الفعل لا إلا سببه

ص: 386

ومقتضيه.

وتلك مسألة أخرى قد تكلم عليها في غير هذا الموضع وإلا فمن جهة المطالبة بسبب الفعل الحادث لا فرق بيننا وبينكم، بل قولنا أقرب إلى المعقول من قولكم، فإن أحداث الأمور المنفصلة بدون حدوث فعل يقوم بالفاعل أمر غير معقول، بخلاف العكس.

فإذا قالوا لهم: السكون أمر وجودي، فإذا كان أزلياً كان له موجب قديم، فيمتنع زواله.

قالوا لهم: حدوث ما يحدث إما أن يقف على سبب حادث، وإما أن لا يقف، فإن وقف على أمر حادث بطل قولكم بحدوث الأجسام، وإن لم يقف فقد يقال: فرق بين حدوث حادث يزيل أمراً وجودياً وحدوث حادث يزيل أمراً عدمياً، فإن لم يقف بطل قولكم بحدوث الاجسام، وإن وقف فلا فرق بين حدوث حادث يزيل أمراً وجودياً، أو حدوث حادث لايزيل أمراً وجودياً.

وذلك أنه إن جوز على الفاعل أن يحدث ما يحدث من غير تجدد أمر فقد تغير الأمر الذي لم يزل بلا سبب اقتضى التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته، وحيئنذ فيجوز أن يتغير السكون الذي لم يزل بدون سبب يقتضي التغير إلا محض مشيئة الفاعل وقدرته.

وإذا كان الفاعل القادر المختار قادر على أن يحدث ما يحدث ويجعل المعدوم موجوداً بدون سبب حادث أصلاً لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، كان قادراً على أن يجعل

ص: 387

الساكن متحركاً بدون سبب حادث أصلاً، لأنه يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا إحداث الاجسام التي تكون ساكنة ومتحركة أعظم من إحداث نفس حركاتها، فإذا أمكنه إحداثها بدون سبب حادث فإحداث حركاتها أمكن وأمكن.

ويقال لهم: لو خلق الباري تعالى جسماً ساكناً ثم أراد تحريكه بدون سبب حادث: أكان ذلك ممكناً أو ممتنعاً؟

فإن قلتم: (يمتنع ذلك) بطل مذهبكم ودليلكم.

وإن قلتم: (يمكن ذلك) قيل لكم: فالقول في زوال ذلك السكون كالقول في زوال غيره.

فإنه يقال: السكون أمر وجودي، وذلك السكون الوجودي لا بد له من سبب.

وحيئنذ فتجيء مسألة زوال الضد: هل هو بإحداث ضد آخر، أو بإحداث عدمه، أو بخلق فناء، أو نفس الاعراض لا تبقى؟ فيقال في هذا ما يقال في ذلك.

ومن قال: (السكون الوجودي لا يبقى زمانين بل ينقضي شيئاً فشيئاً) .

قيل له: فكذلك إذا قدر السكون قديماً فإنه لا يبقى زمانين، بل يحدث شيئاً فشيئاً، وحينئذ فكل جزء من أجزاء السكون ليس هو قديماً بنفسه، كما قلتم في كل جزء من أجزاء الحركة: ليس هو قديماً بنفسه.

فإذا كان القائلون بأن السكون أمر وجودي يقولون: إنه يتجدد شيئاً فشيئاً كما يقولون مثل ذلك في الحركة.

ص: 388

قيل لهم: فيكون دليلكم على امتناع كون الازلي ساكناً من جنس دليلكم على امتناع كونه متحركاً، وهو تناهي الحوادث، وقد تقدم الكلام فيه.

فإذا قالوا: (السكون أمر وجودي فإذا كان قديماً امتنع زواله، لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه، لأن القديم إما أن يكون واجباً بنفسه أو من لوازم الواجب بنفسه) .

قيل لهم: هذا مثل أن يقال: عدم الفعل هو تركه، وترك الفعل أمر وجودي، فإذا كان قديماً امتنع عدمه، لأن ما وجب قدمه امتنع عدمه.

فإذا قالوا: (عدم الفعل ليس هو تركاً وجودياً) أمكن أن يقال: عدم الحركة ليس هو سكوناً وجودياً.

وقد ضعف الآمدي وغيره هذه الحجة: حجة الحركة والسكون، وهي فاسدة على أصول من يقول بان الأعراض لا تبقى زمانين من هذه الجهة، وهي في الأصل من حجج المعتزلة الذين يقولون بجواز بقاء الأعراض، لكن من ينازعهم من الهشامية والكرامية وغيرهم: ممن يقول بإثبات جسم قديم، وأنه قام به من الفعل ما لم يكن قائماً - سواء سموا ذلك حركة، كما يقر بعضهم بذلك، أو لم يسموه حركة كما يمتنع بعضهم من ذلك - فإن المقصود المعاني العقلية لا الإطلاقات اللفظية.

ص: 389

فإذا قال من قال من معتزلة البصرة: (إن إفناء الاجسام بإحداث فناء لا في محل، كما إن إحداثها بحدوث إرادة لا في محل) والتزموا حدوث عرض لا محل له، وحدوث الحوادث بلا سبب حادث، وأن من الحوادث ما يحدث بدون إرادة، وقالوا: لا يزوال الضد إلا بحدوث ضده.

قال لهم هؤلاء: فكذلك إذا قدرنا جسماً قديماً متحرك بعد أن كان ساكناً، كان زوال ذلك السكون بحدوث ضده من الحركة وحدوث ذلك بما به يحدث المنفصل، ومن قال:(العرض يعدم بإحداث إعدام) كما هو أحد القولين لمتكلمة أهل الإثبات من الأشعرية والكرامية وغيرهم، قالوا: ذلك السكون يعدم بإحداث إعدام والقول في سبب حدوث الإعدام كالقول في حدوث سبب الإحداث.

وإن قالوا: (إن السكون ينقضي شيئاً فشيئاً كما تنقضي الحركة شيئاً فشيئاً) كما قالوا مثل ذلك في سائر الأعراض - كما هو أحد قولي أهل الإثبات من الأشعرية وغيرهم - قالوا لهم: فالسكون إذن كالحركة، فكما أن الحركة متعاقبة الأجزاء فكذلك السكون.

ولا ريب أن هذه الأمور تلزم المستدلين بدليل الحركة والسكون لزوماً لا محيد عنه، وإنما التبس مثل هذا لأن الواحد من هؤلاء يبنى على المقدمة الصحيحة في موضع، ويلتزم ما يناقضها في موضع آخر، فيظهر

ص: 390

من تناقض أقوالهم ما يبين فسادها، لكن قد يكون ما أثبتوه في أحد الموضعين صحيحاً متفقاً عليه، فلا ينازعوهم الناس فيه ولا في مقدماته، وقد تكون المقدمات فيها ضعف، لكن لكون النتيجة صحيحة يتساهل الناس في تسليم مقدماتها.

وإنما يقع تحرير المقدمات والنزاع فيها إذا كانت النتيجة مورد نزاع.

والمسلمون متفقون على أن الله سبحانه وتعالى وصفاته اللازمة لذاته لايجوز عليها العدم، وقد اشتهر في اصطلاح المتكلمين تسميته بالقديم، بل غالب المعتزلة ومن سلك سبيلهم غالب ما يسمونه بالقديم، وإن كان من المعتزة وغيرهم من لايسميه بالقديم، وإن سماه بالأزلي، وأكثرهم يجعلون القدم أخص وصفه، كما أن الفلاسفة المتأخرين الإلهيين غالب ما يسمونه به (واجب الوجود) ، والمتقدمون منهم غالب ما يسمونه به (العلة الأولى) و (المبدأ الأول) .

فإذا قرر المقرر أن ما وجب قدمه امتنع عدمه كان من المعلوم أن الرب القديم الواجب الوجود يمتنع عدمه تعالى، وليس عند المسلمين قديم قائم بنفسه غيره، حتى يقال: إنه يمتنع عدمه، والمتفلسفة القائلون بقدم الأفلاك يقولون: إنه يمتنع عدمها، فهذه المقدمة وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يصلح أن يستدل بها من قال بما يناقضها أو بما يستلزم ما يناقضها، فإن نفس ما يستدل به عليها إذا ناقض قوله أمكن

ص: 391

معارضه أن يبطل حجته بالاعتراض المركب، لاسيما إذا اقتضى فساد قوله على التقديرين.

فمن كان من أصل قوله إن الفاعل المختار له أن يرجح أحد المقدورين على الآخر بلا مرجح أصلاً، بمجرد كونه قادراً، أو بمجرد إرادته القديمة، وقدر مع ذلك جسم قديم قادر مختار يقبل الحركة والسكون، كان تحركه بعد سكونه الدائم بمنزلة تحريكه لغيره، فإن أمكن تحركيه لغيره بمجرد كونه قادراً أو بمجرد إرادته أمكن ذلك في هذا الموضع، ولا يمتنع من ذلك إلا أن يقوم دليل على أن الجسم يمتنع قدمه، أو أن القديم يمتنع كونه يتحرك، لكن هؤلاء إذا لم يثبتوا حدوث الجسم أو امتناع تحريك القديم إلا بهذا الدليل لم يمكنهم أن يجعلوا من مقدمات الدليل حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم، بل إذا كان حدوث الجسم أو امتناع حركة القديم موقوفاً على هذا الدليل كانوا قد صادروا على المطلوب، وجعلوا المطلوب حجة في إثبات نفسه، لكن غيروا العبارات، وداروا الدورات، وهم من موضعهم لم يتغيروا، فلهذا كان من وافقهم وفهم كلامهم حائراً لم يفده علماً، ومن لم يفهمه ووافقهم كان جاهلاً مقلداً لأقوام جهال ضلال يظهرون أنهم من أعلم الناس بأصول الدين والكلام والعقليات.

ثم إن الرازي ذكر من جهة المنازعين بأن هذه الوجوه الستة في امتناع كون الجسم أزلياً متحركاً - التي تقدمت، وتقدم اعتراض

ص: 392

الأرموي عليها - معارضة: (بأن امتناع الحركة في الأزل إن كان لذاتها وجب أن لا توجد أصلاً، وإن كان لغيرها فذلك المانع إن كان واجباً لذاته فكذلك، وإن كان واجباً لغيره عاد الكلام فيه وتسلسل، أو ينتهي إلى واجب الوجود لذاته، ولزم امتناع زوال المانع.

فإن قلت: المانع هو مسمى الأزل، لأنه ينافي المسبوقية بالغير التي تقتضيها الحركة، وإنه زائل فيما لايزال.

قلت: الترديد المذكور عائد في مسمى الأزل أنه: هل هو واجب لذاته أو لغيره؟) .

وأجاب الرازي عن هذه المعارضة فقال: (قوله: صحة الحركة أزلية، قلنا: إنه لايلزم من أزلية الصحة صحة الأزلية) .

قلت: ولقائل أن يقول: ما تعني بقولك: صحة الحركة أزلية، أتعني به: أنه يصح وجود الحركة في الأزل؟ أم تعني به أنه في الأزل يصح الحكم عليها بالصحة فيما لا يزال؟ أما الأول:

ص: 393

فهو تسليم للمطلوب، وأما الثاني: فهو حكم علمي لا كلام فيه.

كالأحكام العقلية الذهنية فينا، فإنه يصح في الأزل الحكم بالامتناع على الممتنعات كما يصح الحكم بالجواز على الجائزات، ثم يقال: الحركة في الأزل إما ممتنعة الإمكان العام الذي يدخل فيه الواجب وإما ممكنة، فإن كانت ممتنعة فهو باطل كما تقدم، وإن كانت ممكنة كان الدليل على امتناعها باطلاً، فبطلت الوجوه الدالة على امتناع الحركة في الأزل.

ولم يرض أبو الحسن الآمدي هذا الجواب الذي ذكره الرازي، بل ذكر جواباً آخر، فقال:(وجوابه أن يقال: لا يلزم من امتناع الوجود الأزلي على الحركة لذاتها امتناع الوجود الذي ليس بأزلي، فإذاً ما هو ممتنع غير زائل، وهو الوجود الأزلي، وما هو الجائز لم يكن ممتنعاً) .

قلت: ولقائل أن يقول: هذا يستلزم انقلاب الشيء من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي من غير تجدد سبب يوجب هذا الانقلاب بما لا ينضبط لا في الوجود ولا في العقل، فإن الإمكان الذاتي ثابت بالضرورة والاتفاق، وما من وقت يقدر فيه الإمكان إلا والإمكان ثابت قبله، لا إلى غاية، فليس للإمكان ابتداء محدود.

يبين ذلك: أنه قد يقال: صحة الحركة إو إمكان الحركة أو جواز

ص: 394

الحركة، وصحة الفعل أو جواز أو إمكان الفعل إما أن يكون به ابتداء وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له ابتداء لزم أنها لم تزل جائزة ممكنة، فلا تكون ممتنعة، فتكون جائزة في الأزل.

وإن كان لجوازها ابتداء فمعلوم أنه ما من وقت يقدره الذهن إلا والجواز ثابت قبله، فكل ما يقدر فيه الجواز فالجواز ثابت قبله لا إلى غاية، فعلم أنه ليس للجواز بداية، فيكون جواز ثبوت الحركات دائماً لا ابتداء له، ويلزم من ثبوت الجواز عدم الامتناع.

وإذا قال القائل: إن مسمى الحركة ممتنع في الأزل، قيل: معنى هذا الكلام أن مسمى الحركة يمتنع أن يكون قبله حركة أخرى لا إلى أول، وزوال الأزل ليس موقوفاً على تجدد أمر من الأمور، فإن المتجدد هو من الحوادث، فتكون الحركة ممتنعة، ثم صارت ممكنة من غير تجدد أمر من الأمور.

فإن قيل: المتجدد هو عدم الأزل أو انقضاء الأزل أو نحو ذلك.

قيل: عدم الأزل ليس شيئاً كان موجوداً فعدم ولا معدوماً فوجد، إذ معنى الأزل في الماضي كمعنى الأبد في المستقبل، فما ليس بأزلي فهو متجدد حادث، فإذا قيل (يشترط في جواز المتجدد الحادث تجدد المتجدد الحادث) كان المعنى أنه يشترط في إمكان الشيء ثبوته، ومن المعلوم أن ثبوته كاف في إمكانه.

ص: 395

يوضح هذا: أن القائل إذا قال: كل ما يسمى متجدداً حادثاً إما أن يكون ممكناً في الأزل وإما أن لا يكون، فإن كان ممكناً بطل القول بامتناعه في الأزل، وإن كان ممتنعاً ثم صار ممكناً لزم انقلاب الشيء من كونه ممكناً إلى كونه ممتنعاً من غير تجدد شيء أصلاً، وإذا كان القول بحدوث الحوادث بلا سبب ممتنعاً لاستلزامه ترجيح أحد طرفي الممكن بلا مرجح، فالقول بتجدد الإمكان والجواز أو حدوث الإمكان والجواز بلا سبب حادث أولى بالامتناع، إذا كانت الحقيقة المحكوم عليها بالجواز والإمتناع هي هي بالنسبة إلى كل ما يقدر في كل وقت وقت، وإذا كانت نسبة الحقيقة إلى كل ما يقدر من الأوقات كنسبتها إلى الوقت الآخر امتنع اختصاص أحد الوقتين بجواز الحقيقة فيه دون الوقت الآخر، وإذا امتنع الاختصاص إلا بمخصص، ولا مخصص، لزم: إما الامتناع في جميع الأوقات، وهو باطل بالحس والإجماع، فلزم الإمكان والجواز في جميع الأوقات وهو المطلوب.

وعلى هذا التقدير: فيمكن أن ينظم ما ذكروه من المعارضة بعبارة لا يرد عليها ما ذكر بأن يقال: إن قيل إن الحركة لم تزل ممكنة

ص: 396

ثبت المطلوب، وإن قيل إنها كانت ممتنعة ثم صارت ممكنة فالامتناع إما لذاتها وإما لموجب واجب بذاته، وعلى التقديرين فيلزم دوام الامتناع، وإن كان لا لذاتها ولا لموجب بذاته فلا بد أن يكون الامتناع لأمر واجب بغيره، وحيئنذ فالكلام في ذلك المانع في غيره، ويلزم التسلسل، ثم يقال: تسلسل الموانع إن كان ممكناً ثبت جواز التسلسل، وأمكن القول بتسلسل الحوادث، وإن كان تسلسل الموانع ممتنعاً بطل كون الامتناع متسلسلاً، وقد بطل كونه واجباً بنفسه أو بغيره، فلا يكون الامتناع ثابتاً في الأزل، فيثبت نقيضه، وهو الإمكان.

وإيضاح ذلك بعبارة أخرى أن يقال: مسمى الحركة إما أن يكون ممتنعاً في الأزل، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن ممتنعاً في الأزل ثبت إمكانه، فيكون مسمى الحركة ممكناً في الأزل، وإن كان ممتنعاً في الأزل فامتناع إما لنفسه، وإما لموجب واجب بنفسه، أو لازم للواجب، وحينئذ فلا يزول الامتناع، وإن كان لمعنى متسلسل لزم جواز التسلسل، وهو يستلزم بطلان الأصل الذي بنى عليه امتناع تسلسل الحوادث.

وسر هذا الدليل: أن الأزل ليس هو شيئاً معيناً محدوداً، ولكن ما من وقت يقدر إلا وقبله شيء آخر، وهلم جراً.

وهذا هو التسلسل، فيلزم من تحقق الأزل التسلسل.

ص: 397

لكن قد يقال: تسلسل العدميات ليس كتسلسل الوجوديات، بل تسلسل العدميات ممكن، بخلاف تسلسل الوجوديات، ويكون حدوث حدوث الحوادث موقوفاً علىتسلسل العدميات، فيقال: إن لم يكن تسلسل العدميات أمراً محققاً فلا حقيقة له، فيكون إمكان حدوث الحوادث موقوفاً على ما لا حقيقة له.

وهذا باطل، وإن كان تسلسلها أمراً محققاً فقد ثبت أن تسلسل الأمور المحققة جائز، وأنه أزلي، مع أن كل واحد من تلك التسلسلات ليس بأزلي، وهذا ينقض ما ذكروه في امتناع تسلسل الحوادث، فهم بين أمرين: إما أن يقولون بالترجيح بلا مرجح، وإما أن يقولون بجواز التسلسل، وهذا بعينها هو الذي يلزمهم في قولهم: إنه لا بد للحوادث من ابتداء، فكما أنهم في هذا يلزمهم إما الترجيح بلا مرجح وإما التسلسل، فكذلك في قولهم (إنه لا بد لإمكانها من ابتداء) يلزمهم إما هذا وإما هذا، والقول بالترجيح بلا مرجح تام ممتنع، وهم متفقون على أن الترجيح بلا فاعل مرجح ممتنع، لكن لا يشترطون تمام ما به يكون مرجحاً، بل يقولون: يحصل الترجيح التام من غير حصول الرجحان، ويحصل الرجحان بدون المرجح التام، بناء على أن القادر يرجح أحد مقدوريه بلا مرجح، إذ أن الإرادة القديمة ترجح أحد المثلين بلا مرجح والقول بجواز التسلسل

ص: 398

يبطل القول بامتناع التسلسل.

فثبت بطلان قولهم على التقديرين.

ص: 399