الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني عشر: ما ورد في النهي عن بيع رباع مكة
59 -
(1) عن علقمة بن نضلة قال: "كانت رباع مكة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر وعمر تسمى السوائب، من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن".
رواه ابن أبي شيبة1 وهذا لفظه، ومن طريقه ابن ماجه2، وابن زنجويه3، والأزرقي4، والطحاوي5، وابن أبي حاتم6، والفاكهي7، والطبراني8، والدارقطني9، والبيهقي10. كلهم من طرق عن عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن عثمان بن أبي سليمان عنه به. وزاد الأزرقي والطحاوي والفاكهي والدارقطني بعد قوله "وعمر": "وعثمان".
وزاد معاوية بن هشام في الإسناد نافع بن جبير بن مطعم. فقد رواه الدارقطني11 بإسناده عن معاوية بن هشام، عن سفيان الثوري، عن
1 المصنف (4/419) .
2 سنن ابن ماجه [كتاب المناسك (2/1037) ] .
3 الأموال (1/205) .
4 أخبار مكة (2/162-163) .
5 شرح معاني الآثار (4/48-49) .
6 العلل (1/292-293) .
7 أخبار مكة (3/243) .
8 المعجم الكبير (18/8) .
9 سنن الدارقطني (3/58-59) .
10 السنن الكبرى (6/35) .
11 سنن الدارقطني (3/58-59) .
عمر بن سعيد، عن عثمان بن أبي سليمان، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن علقمة بن نضلة به.
ومعاوية بن هشام متكلم فيه، ولا سيما في حديثه عن الثوري. فقد قال فيه يحيى بن معين لما سئل عن حديث معاوية بن هشام - قال:"صالح وليس بذاك"1.
وقال ابن عدي: قد أغرب عن الثوري بأشياء2.
وقد خالفه في هذا الحديث الأحوص بن جوَّاب، فرواه عن الثوري عن عمر بن سعيد، عن عثمان بن أبي سليمان، عن علقمة بن نضلة به. رواه البيهقي3.
والأحوص بن جواب صدوق يهم4، إلا أن روايته عن سفيان الثوري عن عمر بن سعيد هي الموافقة للروايات الأخرى عن عمر بن سعيد، وفي رواية يحيى بن سليم عن عمر بن سعيد التصريح بسماع عثمان بن أبي سليمان من علقمة بن نضلة5.
فبذلك تكون رواية معاوية بن هشام من باب المزيد في متصل الأسانيد. والله أعلم.
وعلقمة بن نضلة ذكره ابن حبان في الثقات ضمن أتباع التابعين. وقال ابن منده: "ذكر في الصحابة وهو من التابعين".
وممن ذكره في الصحابة ابن البرقي والعسكري وأبو نعيم وغيرهم6.
1 تهذيب التهذيب (10/218) .
2 الكامل (6/407-408) .
3 السنن الكبرى (6/35) .
4 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (289) .
5 سنن الدارقطني (3/58) .
6 تهذيب التهذيب (7/279) .
وقال المزي: وقد ظن بعضهم أن له صحبة، وليس ذلك بشيء1.
وقال ابن حجر: تابعي صغير، أخطأ من عده في الصحابة2.
فمما سبق يتبين أن الراجح في علقمة بن نضلة أن ليس له صحبة، وبذلك يعلم أن قول ابن التركماني3 والبوصيري4 عن هذا الإسناد:"على شرط مسلم" لا يصح، لأنه مرسل.
وأما عمر بن سعيد، وعثمان بن أبي سليمان فثقتان5.
وقال الحافظ ابن حجر: "في إسناده انقطاع وإرسال"6.
وفي قول الحافظ أن في إسناده انقطاعًا نظر، بل هو متصل إلى علقمة. وقد سبق أن عثمان بن أبي سليمان قد صرح بالسماع من علقمة بن نضلة، وأن من زاد نافع بن جبير بينهما فقد وهم.
فمما سبق يتبين أن الحديث رجاله ثقات، إلا أنه مرسل. والله أعلم.
والرباع: جمع ربع، وهو المنزل ودار الإقامة7.
والسوائب: جمع سائبة. مأخوذ من سيب الشيء إذا تركه8.
وأوله البيهقي بقوله: "فيه إخبار عن عادتهم الكريمة في إسكانهم ما استغنوا عنه من بيوتهم"9.
1 تهذيب الكمال (20/311) .
2 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (4683) .
3 الجوهر النقي (6/35) .
4 مصباح الزجاجة (3/42-43) .
5 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (4476،4905) .
6 فتح الباري (3/526) .
7 النهاية (2/189) .
8 انظر: لسان العرب (1/478) ، مادة (سيب) .
9 السنن الكبرى (6/35) .
60 -
(2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة حرام، وحرام بيع رباعها، وحرام أجر بيوتها".
رواه الدارقطني1، والحاكم2 واللفظ لهما. كلاهما بإسنادهما عن أبي حنيفة عن عبيد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح عنه به.
ورواه الدارقطني أيضًا بإسناده عن أبي حنيفة به، إلا أنه قال:"عن عبيد الله بن أبي يزيد". ولفظه: "إن الله حرم مكة، فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها"، وقال:"من أكل من أجر بيوت من مكة شيئًا فإنما يأكل نارًا".
قال الدارقطني: "كذا رواه أبو حنيفة مرفوعًا، ووهم أيضًا في قوله: عبيد الله بن أبي يزيد، وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح موقوف".
وذكر ابن القطان احتمالاً آخر في أن الوهم في تسمية عبيد الله بن أبي زياد ليس من قبل أبي حنيفة، وإنما هو من الراوي عنه، وهو محمد بن الحسن، بدليل أن غير محمد بن الحسن رواه عن أبي حنيفة على الصواب3. والله أعلم.
وقد رواه عيسى بن يونس، ومحمد بن ربيعة وغيرهما عن عبيد الله بن أبي زياد موقوفًا.
1 سنن الدارقطني (3/57) .
2 مستدرك الحاكم (2/53) .
3 نصب الراية (4/265) .
أما رواية عيسى بن يونس التي فيها وقف الحديث على عبد الله بن عمرو فقد رواها ابن أبي شيبة1، وابن زنجويه2، والدارقطني3، والبيهقي4.
وأما رواية محمد بن ربيعة، فقد رواها الدارقطني5 أيضًا. وتابعهما على الوقف أيضًا وكيع بن الجراح فيما رواه أبو عبيد6 عنه عن عبيد الله بن أبي زياد به موقوفًا بلفظ:"من أكل من أجور بيوت مكة فإنما يأكل في بطنه نار جهنم". وتابعهم على الوقف أيضًا مسلم بن خالد الزنجي، رواه عنه الأزرقي7.
لكن قد تابع أبا حنيفة على رواية الرفع أيمن بن نابل8 عن عبيد الله بن أبي زياد به مرفوعًا بلفظ: "من أكل كرا بيوت مكة أكل نارًا". رواه الدارقطني9. وفي إسناده محمد بن المتوكل المعروف بابن السري العسقلاني، تقدم الكلام فيه10، وأنه صدوق له أوهام كثيرة.
1 المصنف (4/418) .
2 الأموال (1/205) .
3 سنن الدارقطني (3/57) .
4 السنن الكبرى (6/35) .
5 سنن الدارقطني (3/57) .
6 الأموال (ص67) .
7 أخبار مكة (2/163) .
8 في سنن الدارقطني المطبوع "ابن إسرائيل" وهو خطأ. والتصويب من المخطوط (2/19-أ) .
9 سنن الدارقطني (2/299) .
10 تقدم الكلام فيه عند حديث رقم (39) عند الطريق التاسعة منه.
وقد خالفه في هذا الحديث حسين بن حسن السلمي، وهو صدوق1، فرواه عن المعتمر بن سليمان عن أيمن بن نابل به موقوفًا. رواه الفاكهي2.
ورواه عبد الرزاق3 بإسناد آخر موقوفًا أيضًا على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
فالراجح في هذا الطريق الوقف على عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. والله أعلم.
وللحديث طريق أخرى، فقد رواه الفاكهي4، والعقيلي5، والدارقطني6، والحاكم7، والبيهقي8، وابن الجوزي9، كلهم من طرق عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن أبيه، عن عبد الله بن باباه، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما به مرفوعًا، ولفظ الدارقطني ومن بعده:"مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها".
وقال العقيلي: "لا يتابع عليه - يعني إسماعيل بن إبراهيم".
وقال الدارقطني: "إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف لم يروه غيره".
1 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (1315) .
2 أخبار مكة (3/246) .
3 المصنف (5/148) .
4 أخبار مكة (3/243) .
5 الضعفاء (1/73) .
6 سنن الدارقطني (3/58) .
7 مستدرك الحاكم (2/53) .
8 السنن الكبرى (6/35) .
9 التحقيق (2/186) .
وأما الحاكم فتساهل في تصحيحه فقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ولذا تعقبه الذهبي بأن إسماعيل قد ضعفوه.
وقال البيهقي: "إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ضعيف، وأبوه غير قوي. واختلف عليه، فروي عنه هكذا، وروي عنه عن أبيه، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا ببعض معناه".
ويشير البيهقي في قوله: "واختلف عليه
…
" إلى ما رواه الطحاوي1، وابن عدي2 بإسنادهما عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر قال: سمعت أبي يذكر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها" هذا لفظ الطحاوي.
وإسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر تقدم تضعيف الدارقطني والبيهقي له. وضعفه أيضًا ابن معين، وأبو داود، والنسائي. وقال البخاري: في حديثه نظر. وقال أبو حاتم: ليس بقوي يكتب حديثه. وقال ابن حبان: فاحش الخطأ3.
وجعله ابن حجر في مرتبة: ضعيف4.
وفي هذه الطريق علة أخرى، وهي أن شريك بن عبد الله القاضي رواه عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال:"بيوت مكة لا تحل إجارتها ولا بيع رباعها". رواه ابن أبي شيبة5، والطحاوي6، فجعله
1 شرح معاني الآثار (4/48) .
2 الكامل (1/288) .
3 تهذيب التهذيب (1/279) .
4 تقريب التهذيب: رقم الترجمة (417) .
5 المصنف (4/418-419) .
6 شرح معاني الآثار (4/49) .
من قول مجاهد ولم يرفعه. وشريك أوثق من إسماعيل بن إبراهيم1، وتابعه على ذلك متابعة قاصرة شعبة عن الأعمش، عن مجاهد قوله. رواه الفاكهي2. ورواه غير شعبة عن العمش عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو عبيد3، وابن أبي شيبة4، وابن زنجويه5، والأزرقي6، والفاكهي7، وابن الجوزي8، كلهم من طرق عن الأعمش عن مجاهد به مرسلاً.
فمما تقدم يتبين أن هذا الحديث لا يصح مرفوعًا عن النبي صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.
1 قال ابن حجر عن شريك بن عبد الله: "صدوق يخطئ كثيرًا، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة". تقريب التهذيب: رقم الترجمة (2787) .
2 أخبار مكة (3/247) .
3 الأموال (ص67) .
4 المصنف (4/417،419) .
5 الأموال (1/204) . رواه من طريق أبي عبيد.
6 أخبار مكة (2/163) .
7 أخبار مكة (3/246-247) .
8 التحقيق (2/187) .
دلالة الأحاديث السابقة:
تدل هذه الأحاديث على النهي عن بيع رباع مكة، إلا أن هذه الأحاديث ضعيفة كما سبق.
وقد اختلف العلماء في بيع رباع مكة، فقال أبو حنيفة: لا بأس ببيع بيوت مكة، ويكره بيع أراضيها. وفي رواية عن أبي حنيفة: لا يكره، وهو قول صاحبيه1. وهو أيضًا مذهب الشافعي2، ومالك في رواية3 وأحمد في رواية اختارها ابن قدامة4.
والمشهور عند المالكية المنع من بيع رباعها5. وعندهم رواية أخرى بالكراهة، ولا سيما في أيام الموسم؛ لكثرة الناس واحتياجهم إلى الوقف.
وعند الحنابلة رواية أخرى بالمنع من بيع رباعها6، وعندهم رواية أخرى بجواز البيع دون الإجارة، وهذه الرواية اختارها ابن تيمية7، وابن القيم8.
وقد ذكر النووي أن سبب الخلاف بين العلماء في حكم بيعها مَبْنِيٌّ على أن مكة فتحت عنوة أم صلحًا9؟ فمن رأى أنها فتحت صلحًا أجاز بيعها، وإلا منع. ورد ابن القيم ما ذكره النووي10.
1 البناية في شرح الهداية (11/254) .
2 المجموع (9/297) .
3 انظر: مقدمات ابن رشد (2/218-219) ، تهذيب الفروق (4/11) .
4 المغني (4/330) .
5 تهذيب الفروق (4/11) .
6 المغني (4/330) .
7 الإنصاف (4/289) .
8 زاد المعاد (3/437-438) .
9 المجموع (9/297) .
10 زاد المعاد (3/339) .
وبالنظر إلى الأدلة يتبين أن الأحاديث الواردة في النهي عن البيع ضعيفة كما سبق، وأن دلائل الكتاب والسنة وعمل الخلفاء الراشدين تدل على الجواز.
فمن الكتاب قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} 1، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 2، فأضاف الدور إليهم، وهذه إضافة تمليك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل له: أين تنزل غدًا بدارك بمكة؟ فقال: "وهل ترك عقيل من رباع أو دور" 3، ولم يقل إنه لا دار لي، بل أقرهم على الإضافة، وأخبر أن عقيلاً استولى عليها، ولم ينزعها من يده.
وأما إضافة دورهم إليهم في الأحاديث، فأكثر من أن تذكر؛ كدار أم هانئ، ودار خديجة، وغير ذلك4.
وأما من عمل الخلفاء الراشدين والصحابة، فقد باع صفوان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعة آلاف درهم، فاتخذها سجنًا5.
1 سورة الحشر، آية (8) .
2 سورة الممتحنة، آية (9) .
3 صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب الحج (3/رقم 1588) ] . عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
4 زاد المعاد (3/436-437) . وانظر: فتح الباري (3/527) .
5 روى نحوه البخاري تعليقًا. صحيح البخاري - مع الفتح -[كتاب الخصومات (5/ باب: الربط والحبس في الحرم) ] ، رواه موصولاً عبد الرزاق (5/148) ، وابن أبي شيبة (5/392) ، والبيهقي (6/34) ، وغيره.
وفي إسناده عبد الرحمن بن فروخ، مولى عمر بن الخطاب، لم يوثقه غير ابن حبان (تهذيب التهذيب 6/252)، ولذا جعله ابن حجر في مرتبة "مقبول". تقريب التهذيب: رقم الترجمة (3979) .
والقول بجواز بيع رباع مكة لا يدخل فيه الحرم ومشاعره؛ كالصفا والمروة، والمسعى، ومنى، وعرفة، ومزدلفة، فهي لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين المسلمين؛ إذ هي محل نسكهم ومتعبد هم1. والله أعلم.
1 زاد المعاد (3/435) .