الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمه
إن الحمد لله، نحمده، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
أمّا بعد: فهذا هو الإصدار السادس من سلسلة: "دراسات في المنهج" وقد جاء بعنوان: "الأخلاق الفاضلة، قواعدُ ومنطلقاتٌ لاكتسابها"، وهو موضوعٌ قد اتّجهتُ إلى كتابته منذ عام 1403هـ تقريباً، وانشغلتُ به طوال هذه السنوات، وأنا في تفاعلٍ معه، وعلى قناعة به وبالكتابة فيه، وقناعةٍ بالتربية عليه التربيةَ الأخلاقية النظرية والعملية.
وقد اتّجه الرأيُ الآن إلى نشْر ما نَجَزَ من أوراقه، بدلاً من إرجائه حتى يكتمل؛ ولا سيما أن من العسير أن يوفَّى هذا الموضوع حقه، أو أن يَكْتبَ شخصٌ عن موضوعاته كلها كتابةً وافيةً.
ولئن بقيتْ للموضوع بواقٍ جديرةٌ بالتأمل والنظر والبحث والكتابة، فالأمل أن تتواصل متابعة ذلك واستكماله في إصدار آخر أو أكثر.
أهميّة الأخلاق:
إن للأخلاق الفاضلة أهمّيةً عظمى في حياة الإنسان سواءٌ بالنسبة له، أو بالنسبة للمجتمع الذي يعيش فيه، أهميةً تفوق الحاجة إلى الطعام والشراب، ذلك أنه بهذه الأخلاق يعيش حياته السعيدة في الدنيا، ويصير
إلى حياة أسعد في الآخرة. وإن الإنسان بدون مكارم الأخلاق يصبح عديمَ الخير والفائدة كثيرَ الشرّ والضرر ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
ولمحاسن الأخلاق في الإسلام مكانةٌ فريدة لم تكن في دين من الأديان، أو منهج من المناهج، وقد بلغ بها الإسلام من المكانة أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن مِن خياركم أحسنَكم أخلاقاً" 1 وقال أيضاً: "إنّ مِن أحبِّكم إليّ أحسنَكم أخلاقاً" 2 وقال أيضاً: "اتّقوا النار ولو بِشِقّ تَمْرَة، فإن لم تجد، فبكلمة طيِّبة"3.?
ونظراً لهذه الأهمية، ونظراً لطبيعة الأخلاق، فإن الكتابة فيها تبقى متجددة على الرغم مما كُتب فيها؛ فطالما أن موضوع الأخلاق متشعبٌ بتشعّب الحياة، متجدد بتجددها، فإن الحاجة إلى الكتابة في هذا الموضوع تبقى متشعبة متجددة أيضاً، رغم وجود عدد من الدراسات السابقة.
خطأ شائع:
وأودّ أن أشير في هذه المقدمة إلى خطأ يقع فيه بعض الناس حول فطرية الأخلاق، فقد زعم بعض الناس أن أخلاق الإنسان فطرية فقط، ولا يمكن اكتسابها، وهذا ادّعاء يردُّه الواقع، فلو كانت الأخلاق لا تَقْبل
1 أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، برقم3366. ومسلم، في الفضائل، برقم682321.
2 أخرجه البخاري، في فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه رقم3549.
3 صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب الصدقة قبل الرد. برقم1347، و1351، ومواضع أُخر. وأخرجه مسلم، في كتاب الزكاة، برقم66-681016.
التغيير لم يكن للمواعظ والوصايا معنى، ولم يكن للتربية والتهذيب والأمر بهما معنى، ولم يكن للحدود والزواجر الشرعية عن اقتراف الآثام إذَنْ معنى. والواقع المشاهَد يدل على فائدة ذلك وإمكانه في الحيوان فضلاً عن الإنسان؛ يَسْتأنس الصيد الوحشي، ويعلّم الكلب عاداتٍ، وتُدرَّب الفرس.
لكن ينبغي أن يُعْلم أن المقصود بالتربية تهذيب الطباع والأخلاق النفسية لا اقتلاعها وقمعها بالكلّية لأن ذلك غير ممكن وليس مراداً شرعاً، بل هو خروجٌ عن الفطرة والشرع.
والمراد بتهذيبها أن تكون مستخدمة في أداء التكاليف الشرعية على اختلاف درجاتها، وفي المباحات في حد الاعتدال -دون إفراط أو تفريط-1.
وبهذا يتضح المراد في كثير من صفات الإنسان النفسية وأخلاقه التي تلازم -غالباً- غرائزه الجسدية النفسية، وذلك مثل:
غريزة الجنس، وغريزة الغضب، وغريزة الأكل، وغريزة حب البقاء، وغريزة حب التملّك.
ويُفهَم ذلك في ضوء حديث الثلاثة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني"2.
1 يُنظَر: في مجمل هذه الأفكار مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة ص165-168.
2 أخرجه البخاري، برقم 4776، ومسلم في النكاح، برقم5 1401.
وبهذا يُدرَك خطأ أنماطٍ من السلوك والمناهج التربوية عند بعض المربين الذين يخرجون عن هذا المنهاج الشرعيّ وعن هذه الغاية من التربية، حينما يُفْرطون أو يُفَرِّطون، أو يتّجهون إلى قلْع الخُلُق كلّيّاً، أو إهمال الجسد، أو المتطلبات الفطرية في الإنسان: الجسدية أو النفسية.
هدف هذا الموضوع:
إنّ الذي يأمُلُه، والذي قَصَده، كاتب هذه الأوراق المتواضعة هو:
- أن تكون محاولَةً عملية لنقْل الإنسان نحو الخُلُق الفاضل، والبعد عن مساوئ الأخلاق.
- وأن تكون هذه جزءاً من صيغةٍ تربوية أخلاقية لإصلاح الراعي والرعية1 -أيّاً كان مَوقِعهما- والكبير والصغير، والمثقف والمتعلم، والرجل والمرأة، والشاب والشابة؛ فإنّ هؤلاء جميعاً محتاجون في تعاملهم إلى مكارم الأخلاق، سواء أكان تعاملاً مع الله تعالى، أم مع الناس، أم مع النفس.
وإنّ جميع أولئك يبحثون عن فهْم طبيعة الأخلاق، وطريقة اكتسابها، والطريق إلى التحلّي بالفضائل والبعد عن الرذائل، ما داموا أُناساً أسوياء على الفطرة. أما غيرهم فليسوا مخاطبين إلا إذا بقيتْ لهم بقيةٌ من عقلٍ غيرِ مأسورٍ عن فهمِ الواجب، واكتساب الخُلُق الأفضل، والتحلّي بالحلة الأجمل، أعني بها الحلّة التي ينسجها الإنسان لنفسه بنفسه، ويَلبسها
1 وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيّته".
بنفسه، وتكون لُحْمتها وسَداها آياتِ الله البيّنات، وحديثَ مَن لا يَنطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وفطرةَ الله الخالق التي فَطر الناس عليها، إنها مكارم الأخلاق!
فدونَكَ أيها الأخ، وأيتها الأُخت، حلّةً دُونها كل حُلَلِ الدنيا، وسِتراً لا يُغني عنه أيُّ سِتْر!
والثقةُ يَقينٌ بأنّ الجميع يبحثون عن هذا المطلب وهذه الأُمنية!
ويقينٌ لا شك معه أيضاً في أنه لا يستطيع أحدٌ من الناس أن يحول بينك أيها الإنسان وبين لُبْس هذه الحلّة إذا تَحققتْ رغبتك الصادقة فيها، ولم تكنْ أسيراً لأحدٍ ممن ضل الطريق وسار في طريق التخلّي أو تَخلَّى عن هذه الحلّة الجميلة السابغة الساترة في الدنيا وفي الآخرة!.
ودُونَك أيها الأخ، وأيتها الأخت، قَدْراً ليس بالقليل من عُمُرِ أخيكما وأوقاته الغالية عنده، وجهده1 المضني -عملاً وتفكيراً- يُهديه إليكما، ولا يبتغي من ذلك إلا هدايةً يرجوها للجميع وتوفيقاً وتسديداً!.
أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الكلمات، وأن لا يجعلها حُجّة على قائلها، وأن يتجاوز عما فيها من قصور وتقصير.
وإنّ من الواجب عليّ أن أشكر الله تعالى، فله الحمد والشكر كله سبحانه على صرْفه إياي إلى هذا الموضوع، وعلى تفضّله عليّ بكل ما فيه من توفيق، وعلى سائر نِعَمِهِ عليّ وعلى الناس.
ثم أشكر جزيل الشكر كل من أسهم معي فيه برأي أو مشورة
1 قد أوضحتُ بداية كتابة هذه الأوراق وأحوالها في موضوع قصتي مع الموضوع.
أو جهد، وكل من أفادني فيه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، شَعَرَ بذلك أو لم يشعر، وهُم فضلاءُ كثيرون، ولئن لم تحتفظ ذاكرة كاتب هذه السطور أو مذكّرته بأسماء أولئك الأفاضل، فإنّ ملائكة الرحمن جل جلاله قد سجلتْ أسماءهم وأعمالهم؛ فإنه:{مَا يَلْفِظُ مِن قَولٍٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتيدٌ} 1. وهذا يَصْدُق على أعمال الإنسان كلها، خيرها وشرها! {فَمَن يَّعْمَل مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَّرَه} 2.
والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل.?
والحمد لله رب العالمين أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، سراً وجهراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه
عبد الله بن ضيف الله الرحيلي
المدينة المنورة
محرّم 1416هـ
1 18: ق: 50.
2 7: الزلزلة: 99.